تحولات الصورة الشعرية في قصيدة مابعد الحداثة

أماني فؤاد

                                                       

-      مدخل.

-      تحولات الصورة الشعرية حتى تيار الحداثة "عرض تاريخى".

-      السمات الفنية العامة لتيار ما بعد الحداثة.

-      جماليات التناقض والجوار والفوضى.

-      الصورة الشعرية فى قصيدة ما بعد الحداثة.

-      السمات العامة للصورة الشعرية ما بعد الحداثية.


بسم الله الرحمن الرحيم

" تحولات الصورة الشعرية فى قصيدة ما بعد الحداثة "

 

مدخل :

ينشغل هذا البحث بقضية محورية جوهرها طبيعة التحولات التى طرأت على الصورة الشعرية فى قصيدة ما بعد الحداثة، وتركز الدراسة على التحولات بمعنى التغيرات، وبدائل التقنيات الفنية بالشكل الذى آلت إليه الصورة الفنية ولا أقول التطورات لأن الأمر غير خاضع للتطور بقدر ما هو خاضع لتغيرات وبدائل فنية فى تكوين الصورة الشعرية فى قصيدة ما بعد الحداثة والتى أرتبطت بتغيرات المجتمع الثقافية العامة والخاصة وتغير مفهوم الشعر والصورة الشعرية، وتغير الذات المبدعة، ومفهوم اللغة وعلاقة الشعر بالمجتمع.

يركز البحث على هذه التحولات "السمات" التى أصبحت تميز الصورة الشعرية ما بعد الحداثية ، ويعرض عرضا نقدياً سريعاً لسمات الصورة الشعرية قبل تيار ما بعد الحداثة.

والدراسة وصفية تحليلية ، وقد اخترت ثلاثة مبدعين معاصرين نموذجاً للإبداع ما بعد الحداثى وهم عاطف عبد العزيز، إبراهيم داود، محمود قرنى.

والدراسة تتناول الصورة الشعرية ما بعد الحداثية فى سماتها وتحولاتها الجديدة من خلال كونها تقنية فنية أساسية ضمن منظومة جمالية شاملة متغيرة ومختلفة عن سابقتها وهى جماليات التناقض والجوار والفوضى وهذا ما أتناوله بشئ من الإسهاب: تشكيل الصورة الشعرية فى ظل هذه الجماليات التى أقترحها لتعبر عن المنهج الفنى ما بعد الحداثى.

وهذه الدراسة قدر ما تعتمد وتستكمل طرحاً سبق أن طرحته فى دراسة سابقة لى وهى جماليات التناقض والجوار والفوضى، إلا انها أكثر تحديداً وتنظيماً للفروق والاختلافات بين تيارى الحداثة وما بعد الحداثة وما اعترى الشعر وأخص منه الصورة الفنية فى ظلهما من تجاوزات.

 

تحولات الصورة الشعرية حتى تيار الحداثة :

الصورة هى أهم العلامات الفارقة بين القول المرسل والقول الفنى، وهى المقياس الذى تتبلور فيه أدبية الأدب وشعرية الشعر وخصوصية النثر. ويكاد يجمع كل مبدعى الفن الشعرى على ذلك حتى وصولنا إلى تيار الحداثة مروراً بالمدرسة الكلاسيكية والرومانسية والواقعية، متضمناً ذلك الشعر العمودى وشعر التفعيلة وقصيدة النثر الحداثية، وحتى هذه اللحظة التى أتوقف عندها وهى القصيدة المتأخرة التى تشكل ما يسمى بتيار ما بعد الحداثة تحدث تغيرات متعددة فى الصورة الشعرية، تتبلور يوماً بعد آخر، ويكاد عرشها أن تتغير ملامحه بصورة جذرية، مع ملاحظة عدم نفى الصورة القديمة ولكنها تقصى إلى الأطراف.

الصورة الشعرية فى رحلتها عبر المدارس الفنية المتعاقبة خضعت أيضاً لمجموعة من التحولات التى تدرجت بها من الوضوح والمباشرة وقرب المأخذ حتى وصلت بها إلى درجة من التعقيد والغموض المتناهى، أو مجافاة الصورة المجازية بعناصرها المختلفة، لكن تلك المتغيرات قد أثرتها وأنضجت فلسفتها الجمالية، ووسعت من مجالاتها ومكوناتها وتشعبت بها لتستقى من روافد متعددة ومتباينة.

هذه الرحلة التى خاضتها الصورة الفنية أعرض لها فى سرد سريع يركز على وقفات دالة وحيوية فى تحولات الصورة الشعرية.

أولاً : تتكون الصورة الشعرية من اختيار عناصر متباينة وضمها إلى بعض لتنصهر فى شكل يقول شيئاً ومجموعة انصهار هذه العناصر له مضمونة وله جماله.

وهى مجال "خصب" لموهبة المبدع: من خلالها يصول ويجول، يخرج من أسر الألفاظ إلى آفاق من العلاقات الجديدة بين الأِشياء، إلى معانٍ غير مستهلكة، بغية عرض القضايا الإنسانية وهمومها على طاولة الشعرية الفنية.

والصورة فى القرآن والسنة تعنى الخلق، كما تعنى الهيئة والشكل والأمرو الصفة، كما تفيد معنى التزيين والتجميل، ومن التصور القرآنى تسلل المصطلح إلى التراث الأدبى.

والصورة الشعرية مصطلح عريق فى القدم منذ محاكاة أرسطو، منذ إثارة مشكلة اللفظ والمعنى، المدلول والدلالة، ثم مروراً بالمدارس الفكرية الأوربية من كلاسيكية ورومانسية وطبيعية وسريالية وغيرها، فالمصطلح IMAGE عندهم يدور فى فلك : توسيع الآفاق المحدودة للكلمة بحيث تكون أقوى وأعظم آلة فى يد "ملكة التصور" كما أشار إلى ذلك الناقد "جون مدلتون مرى".

وينتقل المصطلح من الحضارة اليونانية إلى العربية ويطالعنا "الجاحظ" بالحديث عن "المعانى المطروحة فى الطريق"، وأن " الشعر صناعة وضرب من النسج وجنس من التصوير". ويستمر توظيف مصطلح التصوير والصورة بمعنى تقديم الواقع فى شكل جميل معتمد على الخيال غير خارج عن المعقول والممكن والبعيد عن المحال.

وتتسع النظرة النقدية إلى المصطلح وتضم إليه أدوات التصوير من لفظ وصياغة، وتتلقف البلاغة كرة التصوير وتشير إلى أن ركائز التصوير هى التشبيه والمجاز والكناية والتعريض. وبالرغم من هذا الثراء الذى أحاط تناول المصطلح إلا أنه تعرض لتحولات خضع لها الفكر العربى، ونستطيع الجزم بأن مبادئ الإسلام أثرت تأثيراً مباشراً فى مكونات الصورة ولكنها لم تغير ارتباطها بالواقع ولا بالمبادئ الأخلاقية ولا بالانشغال بالممكن والمعقول.

كما أحدث العصر العباسى - وعلى وجه الخصوص على يد شعراء البديع من ابن هرمة إلى ابن المعتز- أحدث تأثيراً حضارياً لافتاً فى فهم الواقع وتصويره، وفى توظيف الخيال وإنطلاقه تصويراً ممتزجاً بعطاء الحضارة الإسلامية التى هى رحيق الحضارات السابقة عليها بالإضافة إلى مبادئ الإسلام.

لكن تظل العلاقات بين عناصر الصورة القديمة على قدر من الوضوح وقرب التناول وكانت أنواع التشبيه والاستعارة هى محور اهتمام المبدع والناقد، وكانوا بهذا الصنيع يخنقون ما فى مثل هذه الصور من طاقات تعبيرية ويطفئون إشعاعاتها الإيحائية النافذة بحثاً عن علاقة حسية قد لا يكون لها وجود.

لكننا أيضاً لا نعدم بعض الإشارات لإدراك ناقد فذ هو عبد القاهر الجرجانى، (471هـ) حين يتحدث عن جانب التشخيص فى الصور الفنية، والوظائف الفنية للاستعارة والتفاته إلى قضية التناقض والتضاد، ودورهما فى خلق صور مبتكرة فى قوله: "الأشياء المشتركة فى الجنس، المتفقة فى النوع، تستغنى بثبوت الشبه بينها، وقيام الاتفاق فيها، عن تَعمّل وتأمل فى إيجاب ذلك لها، وتثبيته فيها، وإنها لصنعةُُ تستدعى جودة القريحة والحذق الذى يلطف ويدق فى أن يجمع أعناق جميع المتنافرات المتباينات فى ربقة، ويعقد بين الأجنبيات معاقد نسب وشبُكه..، وما شرفت صنعة، ولا ذكر بالفضيلة عمل، إلا لأنهما يحتاجان من دقة الفكر ولطف النظر ونفاذ الخاطر إلى مالا يحتاج إليه غيرهما، ويحتكمان على من زاولهما والطالب لهما فى هذا المعنى مالا يحتكم ما عداهما، ولا يقتضيان ذلك إلا من جهة إيجاد الائتلاف فى المختلفات، وذلك بّين لك فى ما تراه من الصناعات وسائر الأعمال التى تنسب إلى الدقة فإنك تجد الصورة المعمولة فيها كلما كانت أجزاؤها أشد اختلافاً فى الشكل والهيئة، ثم كان التلاؤم بينها مع ذلك أتم، والائتلاف أبين، كان شأنها أعجب والحذق لمصورها أوجب"([1]).

- وتتابع الصورة الشعرية تطورها على المستوى الإبداعى والنقدى، ومن ثم لا ترتبط بالإدراك الحسى فقط عند أكثر النقاد فىالمذاهب الفنية الحديثة، على اعتبار أن لها دلالات متعددة، أهمها : الصورة الذهنية، والصورة بوصفها مجازاً، ثم الصورة بوصفها أنماطاً تجسد رؤية رمزية أو حقيقية أو حدسية([2]).

يقول س.داى لويس فى تعريفه للصورة الشعرية أنه "رسم قِوامُه الكلمات"([3]). ويرى لويس أن الصفة الحسية لازمة فى أية صورة، حتى فى أكثر الصور عاطفية أو عقلية. لقد تجاوزت الدراسات النقدية فى الغرب المفهوم البصرى للصورة، تأسيساً على أن هناك اختلافاً شديداً فى درجة التبصر أو الاستبصار بين البشر، وباعتبار أن "المخيلة  ليست بصرية فقط".

ومن هنا حدد مفهوم جديد للصورة ينأى بها عن كونها شيئاً مادياً فقط، ويركز على أنها محتوى لفكر، يتركز فيه الانتباه على خاصية حسية نوعاً ما، وتأكيداً لهذا هناك من يرى أن الصورة لا تقتصر على الدلالة البصرية بحسبان الحاسة المفردة "ليست سوى آلة راصدة، سرعان ما تلتقى فى عملية الإدراك والتلقى"([4]).

وحين ارتبطت الصورة الشعرية بالحواس تستقى منها إحدى عناصرها، كانت محددة ونستطيع أن نلمس فيها أو منها معنى أو تصوراً محدداً، ويمثل هذا فى تاريخ الصورة مرحلة أولية.

تدخل الصورة مرحلة أخرى أكثر رحابة وإنطلاقاً منذ بداية المد الرومانسى، فما عادت إحساساً أو إدراكاً حسياً فحسب، بل، أصبحت تنوب أو تشير إلى شىء غير مرئى، شئ داخلى، ويمكن أن تكون تقديماً وتمثيلاً فى وقت واحد.([5])

والمبدع حين يتعامل مع لغة الصورة "عليه أن يجسدها ويترك فيها ثغرات للتخيل اللامرئى حتى لا يحرمها من ثراء الإيحاء، عليه أن يعثر على فقر الأشياء وصمتها، ويعيد شحنها بالدلالات المتراكمة فى طبقات اللغات الإنسانية ومتخليها العريق، عليه أن يستقطر فى عمل فنى واحد خلاصة تجربته الجمالية فى فنون الكلام والرسم والتشكيل والموسيقى والتعبير الجسدى الراقص كى يبرز شعر الحياة دفعة واحدة مكتملة"([6]).

ولقد كان الأثر الحضارى الغربى قوياً فى تناول الصورة والخيال وطريقة التعامل مع أدواتها البلاغية وأهدافها، وإضافة إلى التشخيص، تراسل الحواس، مزج المتناقضات([7])، تزلزل الارتباط بالواقع الذى ترك عرشه للواقع الموازى وانفتحت الآفاق أمام الخيال والإبداع الخلاق والثقافة العريضة والحضارات المتعددة وتسللت الصوفية وعلم النفس والمدارس الفلسفية إلى الشعر تغذيه وتغذى صوره المجازية بمعين لا ينضب من التنويعات التشكيلية.

وهنا تُكتشف العلاقات الفنية فى الصورة عند الشاعر بالروح والخيال والحلم وتنوع الثقافات ويزيح "الإيحاء" الذى أصبح ينشد من الصورة الشعرية عرش التحديد والارتباط بالحسية فى صناعة التصوير. ووظيفة الصورة - وفق هذا المفهوم - : هى تجسيد الحقائق النفسية والشعورية والذهنية التى يريد الشاعر أن يطرحها، ورؤية الأشياء على نحو مغاير عما اعتادته الأذهان أن تراها عليه، ووسيلة المبدع إلى ذلك لا تكتفى بمجرد التشابه الحسى الملموس وإنما تتخطاه إلى العلاقات الدقيقة العميقة المتمثلة فى تشابه الوقع النفسى والشعورى للطرفين المتشابهين.

يحدث هذا التغير فى مفهوم الصورة لتغير مفهوم الشعر، وتغير ثقافة المبدع وتصوراته تجاه الخيال والوجدان، وتشكيل رؤية ما نحو الكون من حوله، كما يتطلب ذلك نوعاً من التقصى الواعى بهذه المتغيرات، وما تتابع من مذاهب فنية مثل الرمزية، والتصويرية والسريالية، وغيرها.

سمات الصورة الحداثية :

فى تحول آخر لمفهوم الشعر والصورة فى الشعر الحداثى وركائز التصوير من تشبيه ومجاز وكناية وتعريض ورمز، وتغير فى مفهوم اللغة ومعانى الألفاظ، بل تغير فى الهدف من الشعر وتحول فى فلسفة الإبداع ذاتها، يتحول مفهوم المتعة فى الفن من متعة سهلة إلى صعبة ومن تناول متداول إلى تناول عزيز المنال.

فالصورة الشعرية الحداثية توسيع لأفق اللغة وتوسيع للكون الشعرى فى محاولة لأسر الوجدان، وعلى الصورة أن تكون باتساع الكون الوجدانى لكى تستطيع أسره، الوجدان مركب شديد التماسك لا يمكن تحليله إلى عناصره الأولى من حزن وفرح، وتوتر وهدوء وحب وكراهية .. دون الإخلال به.

ويقول أحد مبدعى ومنظرى الصورة الشعرية الحداثية "اعتدنا الصورة التى تعبر عن عنصر وجدانى واحد، نريد صورة تتوغل فى الكون الوجدانى وتمسك به، ولأن المركَّب يختلف عن مجموع عناصره، لا نريد صوراً تمسك بآحاد العناصر وحدها، الصورة الإيحائية يمكنها أن تأسر الوجدان، الصورة التى تقول، تحاول أن تصف الوجدان دون أن تقترب منه، لا نريد منها أن تصف نريد أن تأسر، الوصف هو نثر الحياة، أسر الوجدان بالصورة هو الشعر، الوصف محدود، والإيحاء عالم مزدجم بالدلالات، الوصف رصد سطحى للزمان والمكان، والإيحاء إيغال فى الكون الوجدانى عبر الزمان والمكان، لا نريد أن نثبت عند لحظة خارجية، نريد أن نوغل فى الكون الوجدانى، إن كل وصف يخضع للدلالة العقلية المنظمة، والصورة فيه وصفية محددة، لا تقترب من الوجدان وتكتفى برصده من بعيد ليس هو مطلب الحداثيين، هم يريدون المفاجئ لا المألوف، المتفجر لا الساكن"([8]).

فى الشعرالحداثى لم يعد وجه الشبه بين طرفى الصورة منطقياً أو واضحاً "المقابلة فى التشبيه"، لم تعد هناك مناسبة بين المستعار منه والمستعار إليه، لم نعد نبحث عن علاقات الوحدة أو الانسجام الظاهرة أو التقارب.

لقد تغيرت العلاقات السائدة، علاقة الإنسان بنفسه ومجتمعه وعالمه الذى حوله، بالكون كله، وتزعزعت المسلمات، وامتحنت البديهيات، وصار الشعر للنخبة متعة لها، متعة الباحث عن الجمال المجرد، الجمال الذى نلهث وراءه خلف المتجاورات، خلف المتناقضات، فى داخل الفوضى ذاتها.

إنها نوعية أخرى من الجماليات، فيها تشكل الصورة الشعرية فى القصيدة الحداثية على أساس من الخيال الذى يتناول لبنتها من الواقع ليخضعها لواقع آخر موازٍ من صنع الفن، إن الصورة فى شعر الحداثة العربية المعاصرة صارت وحدة وكياناً مستقلاً ومطية فكرية تتغيا خلق دلالات جديدة، من خلال علاقات جديدة، وأداتها توسيع طاقات اللغة وإمكاناتها التعبيرية.

وفى ظل مفهوم الحداثة، الذى يقوم على أساس الصراع والتناقض بين الأفكار والثقافات والفلسفات المتعارضة والجمع بينها فى ذات الوقت فى المحيط الثقافى العالمى يبقى التجريد ومعايشته الهم الأكبر الذى يشغل المبدع، والمنظور إليه تُجَسَّداً ومُحَسَّاً، وتبقى النزعة المضادة للطبيعة والحنين المتعاظم للطبيعة المضيعة، من أبرز أشكال الصراع التى يحياها الإنسان الحديث.

إنه موقف يتأسس على الحدس الفنى الميتافيزيقى، وللشعر فى هذه المرحلة مفهوم يتغيا المعرفة الإشراقية والشاعر فيه كان نبياً أو رائياً أو عرافاً أو ساحراً، يأتيه الإلهام من عالم مفارق، لا يأبه الواقع، الواقع الذى شهد هزيمة 1967م وانهيار المشروع القومى، وذهاب اليقين إلى غير رجعة، والشك فى كل منجزات الماضى بحسبانها ركائز لتلك الهزيمة، هنا التجأ "نموذج جماعة شعر" إلى الميتافيزيقيا، وتبعهم بعد ذلك تيار الحداثة متمثلاً فى نتاج جماعتى "إضاءة 77"، و"أصوات" وغيرهم.

هذا التيار أكد على مفاهيم أثرت على الشعرية السبعينية منها مفهوم الرؤيا بديلاً عن الرؤية، والتجريد بديلاً عن ظلال الواقع داخل القصيدة، والحدس الصوفى بديلاً عن الحدس الانطباعى، ونفى الذات بديلاً للغنائية، وتعالت دعوى أن "الشعر ليس جماهيريا" وبذلك حلت النخبة بديلاً عن المجتمع.

كل هذه المفاهيم متضافرة أوجدت إبداعاً مجاوزاً وغير مألوف، وكانت الصورة الشعرية من أبرز عناصر الشعرية التى اعترتها تغيرات جذرية، لقد أصبحت العلاقات بين عناصر الصورة الشعرية غرائبية ومتباعدة إلى حدود قصوى، فهى صور جزئية تخلق "حالة" تكون شبيهة بالحالة الصوفية، والصور هنا أقرب لمفهوم الإشارات عند المتصوفة، ويتعمد المبدع فيها حالة من الخفاء والغموض.

والمبدع مع هذه الصور المتباعدة العلاقات الظاهرية، يفرغ الألفاظ من دلالاتها، ثم يقوم بشحنها بدلالات جديدة فالخيال لديهم سبيل للكشف والفيض، ووسيلة لإدراك الحقائق المترفعة عن عالم الماديات والمنافع.

وتستهدف الصورة الشعرية هنا خلق "إيحاء" فهى لا تشير إلى الأشياء لكنها تخلق جوها. وبذلك فإن الأشياء وكذا العلاقات فيما بينها لا تحضر إلا من خلال الظلال، هذا لا ينفى وجود الأشياء لكن يزيحه إلى ضرب من مجرد الجوار، أو وجود يتسم بالفوضى العارمة، التى يبقى فيها التلقى مبعثراً، وفى حالة من التيه الذى قد يصل إلى حالة من الغياب التام عن النص. إن العلاقات الجمالية التى شكلت الصورة فى هذا التيار لم تعد علاقات وحدة أو تشابه أو علاقات إشارية محددة، لم تعد علاقات قائمة على المنطق أو التقارب أو توالد إحداها من الأخرى، لكنها علاقات فرضت نفسها ووجودها نظراً للظرف السياسى والاجتماعى والثقافى والنفسى الذى انغمس فيه المبدعون وعبروا من خلاله عن ذواتهم التى لم تتحقق، التى فاضت بالآمال ولم تجد سوى الهزائم والانكفاء على نفسها تجتر آلامها.

ولقد قدم الحلم أيضاً مادة خام ثرية قدمت للصورة الشعرية معينا لا تكف دواماته وأمواجه عن الحراك والتشكل، فالحلم يتجاوز حدود الأبعاد النفسية والفلسفية وتأثيراتها المتنوعة، بانفتاحه على طاقة تغذى العمل الفنى بعناصر عمل وظيفية لا تنضب، وتتصل بأعمق مناطق الإبداع غموضاً وإثارة، إذ إنه – حَسَبَ أرسطو – وظيفة للتخيل يزداد عمق تأثيرها كلما جاءت مزودة بالقوة والعمق والثراء، وكلما كانت ذات قابلية أكبر على التشويش على القيود التى يفرضها العقل أو الوعى الإنسانى.

فالحلم يشكل فضاءً عاماً تجرى فى مساحاته الحيوات الإبداعية متحررة من ضرورة أن تقدم تبريراً أو منطقاً تنتظم على نحوه الأشياء أو العلاقات.

إن العلاقات بين التكوينات الشعرية والأشياء التى تحويها القصيدة قائمة بالقوة لا بالفعل، الوجود الشعرى فقط هو ما يكشف عن وحدة الباطن بين الأشياء، ما يكشف عن انتظام الفوضى الظاهرية، ما يكشف عن وحدة الوجود فى علاقات التناقض، هناك دائماً انسجام خفى وتجانس بين مفردات الوجود وهو ما يصفه الصوفيون "بوحدة الوجود".

فالحقائق من وجهة نظر الشعر نوعان، حقائق ظاهرة يمكن إدراكها بالعقل، وأخرى باطنة يمكن التماسها بالبصيرة، الحقيقة الشعرية فى الحداثة كانت تُلْتَمس من خلال الصورة التى تؤلف بين أبعد المتناقضات ، وبين العلاقات التى يحكمها فقط التجاور، بين المفردات الفوضوية التى لا يبدو فى واجهتها نظام ما، وكانت الصورة فى هذا الصنيع صورة  لا يمكن التماس أبعادها أو معرفة وجه الشبه بين عناصرها المتباعدة إلى حدود النفى ذاته.

الحقائق الشعرية فى الحداثة كانت مجردة، وتتغيا الاتصال بالميتافيزيقى، والسباحة فى العالم المتعالى، والارتفاع عن كل ما هو أرضى ويومى ومتداول، وأصبحت هناك مناطق مفضلة ومحببة للمبدع الحداثى، كما كانت هناك وسائل فنية لجأ إليها مبدعى تيار الحداثة مثل:

1-    اللجوء إلى مناطق التوتر والحواف بين المتناقضات ومحاولة الحديث عنها.

2-    اللجوء إلى ظلال الألوان التى يلتقى فيها الواضح بالمبهم.

3-  الاعتماد على خيال وثقافة القارئ فى إبداع أو تكملة أو فهم أجزاء من الصورة لينال لذة الاكتشاف "تأثراً بنظرية التلقى".

4-  الغموض الكثيف الذى يتحول إلى عوالم منغلقة عليهم، فلا نكاد نمسك بخط حتى يتلاشى ليتحول إلى آخر لا يكتمل ثم ثالث وهكذا، ولا يبقى إلا نتف من إحساسات ومشاعر مبعثرة لا يربطها رابط ولا يجمعها نظام، فالشاعر هنا عَرَّاف: وظيفته الوصول إلى المجهول برؤية مالا يرى وسماع ما لا يسمع.

5-  التداعى الحر التلقائى لمعطيات الشعور، فى طابع حلمى مدهش فى غياب أية مراقبة من العقل أو المنطق، وذلك اعتماداً على ما روج له السرياليون وبعض الرمزيين وفرويد وحديثه عن الوعى واللاوعى البشرى، فاتسعت مساحات الإبداع، ولم يعد هناك مناطق محظور الاقتراب منها أو الحديث عنها مثل الجنس أوالدين أو السياسة، ففى الأحلام تتبدل الصور وتصبح الأزمنة مكثفة والأماكن  براحاً لا ضابط هناك.

6-  اختراع الفعل الشعرى، لم يعد الشاعر يخلق مظهراً جديداً للأشياء فحسب بل يقوم بخلق عالم جديد، كائنات كاملة غير متوقعة، لا تخضع لتجارب، والذاكرة هنا والإحساس ليسا سوى غذاء للدوافع الخلاقة، وذلك بتجميع أشتات الواقع المحطم وإعادة بنائها بناءً جديداً مجاوزاً العقبات، جامعاً بين التناقضات والمتنافرات مما قد يؤدى إلى الفوضى فى بعض الأوقات.

7-  تجريد الظواهر والأشياء من النسق المألوف فى الزمان والمكان، وذلك على أساس أن ثمَّ عالماً مجهولاً وراء الواجهات المحسَّة فى الواقع الخارجى رجوعاً إلى النظريات الفلسفية التى قالت بقَبْليَّة العالم المثالى. إن التخلى عن المكان والزمان الذى تنتمى إليه يهدف إلى إبداع صورٍ مجردة لا تخضع لمنطق الواقع الخارجى، وإن كانت بثاً للعقد النفسية والإحساس بالعجز أمام حقائق هذا الواقع.([9])

إن هذا النوع من الممارسة التى يتبعها الشاعر وفيه يعقد بين الأشياء، الأفكار، المشاعر، والشطحات زواجاً وطلاقاً غير شرعيين هو ما يضفى على الأشياء لذة الخروج على المنطق العقلى، ويؤدى إلى نوع من المباغتة الذهنية، هذه الفوضى التى تبدو على السطح تخفى فى عمقها فلسفة وتعبيراً عن الحياة فى تناقضاتها وتداخلاتها وهى ما تحررنا من فتور العادة وألفة المنطق.

تيار ما بعد الحداثة :

ومع بداية الثمانينيات تزداد الظروف السياسية والاجتماعية والثقافية عبثاً وظلماً وتشتتاً، وتحت دعاوى العولمة، ونظام رأسمالى عالمى قاسٍ فرض نفسه علينا قهراً تزداد رغبة المبدعين فى التمرد والإنفلات من كل قيد أو سلطة سابقة.

ويواجه المبدع قصيدته متسائلاً : ماذا صنع التعالى الميتافيزيقى والنخبوية الفنية؟

لقد ازدادت الهوة اتساعاً بين المبدع وذاته فلم يجد ملاذاً مستقراً يركن إليه، وازداد عزلة ولم يعبر عن حياته الرافعية بكل متناقضاتها وفوضاها، ولم تكتمل دائرة الإبداع بالتلقى الواعى، وتحت أستار من الغموض، أصبحت هناك قطيعة بين القصيدة والجمهور.

كما طرأ العديد من التحولات على المبدع، انتقلت به من المتن إلى الهامش، وانهارت الرؤى المركزية، التى حولته من كائن ميتافيزيقى إلى كيان واقعى مهمش. المبدع الما بعد الحداثى يتفاعل مع الحس الصوفى ومع الحقيقة الشعرية من منظور مخالف لما قبله من مبدعى الحداثة، فهو يشحذ الوعى بمفردات العالم الذى يحياه، ليس عن طريق الارتفاع فوقه أو تغييبه لكن لتعرُّف العالم بكونه  وسيلةً وعلى أشيائه، لا غاية له فهو لا يبحث عن عالم آخر أو عن غيبيات أو ما شاكل ذلك. إنه يحاول رؤية شعرية الأشياء، فالحس الصوفى فيما بعد الحداثى يحاول الوصول لحالة من الكشف والرؤى المختلفة للأشياء التى تحيط بنا فى الحياة لكننا لا نراها على هذا النحو الذى يراها عليه المبدع، المنطق والعادة والتواتر ترينا الأشياء على شكل ما، فيأتى المبدع ويرى - من خلال علاقات مغايرة ودون الخضوع لهذا المنطق والمتواتر- الأشياء فى تناغمها أو تنافرها أو فوضاها ليرينا العالم كما هو فى حقيقته التى قد تطمسها العادة.

إن عملية القبض تلك لا تتأسس على الرؤية، أو حتى الرؤيا بمفهومها النبوى الملهم، لكنها تنتج عن حالة استبصار ترتبط بحالة قوية من الوعى، بمعنى أنها ليست ابتعاداً عن الواقع لتأسيس علاقات خارجة عنه، لكنها غوص فيه لاكتشاف علاقات جديدة خافية بين مفرداته. وبالتالى فإن الشعر فى هذه الحالة – يتنازل عن النزعة الميتافيزيقية، لأنه يدخل بنا إلى عالم الأشياء لا لنراها ولكن لكى نعاينها، أى أنه يجعلنا نتحقق منها، أكثر مما نتعرَّفها. عكس التصور الميتافيزيقى عند "وردزورث"، والذى يفترض أن أهم شروط الشعرية هو تجاوز الواقع.

مفهوم الإبداع فيما بعد الحداثى يزيح الإنسان عن محور الكون، فليس هو الكيان الذى تقاس به الأشياء والموجودات، بل الأشياء والموجودات هى الأبطال الجديرة بالفن، وعلينا تناولها بحواسِ بكر، طازجة وليس على المنوال الذى اعتدنا عليه فى إدراكنا وتصورنا العقلى المخزون عن الأشياء، يجب إعادة اكتشاف الواقع والأرضيات الجديدة للحياة، استنطاق الأشياء والألوان والأصوات بالمكتنز فيها والذى لم يلتقطه الأخرون ولم يسمعو به، ولم يلمسوه. إنها الأشياء من خلال الأنسان.

ولتيار ما بعد الحداثة سمات فنية عامة مثل :

1-         تخبط المعايير أو عبثها بعد انهيار الحكايات الكبرى الإنسانية السابقة كما يقول "ليوتار".

2-         الاستسلام لحالة افتقاد المعايير الناتجة من افتقاد اليقين بوجود أسس ثابتة.

3-         لذا تستسلم للقيمة الاستعمالية لكل الأمور. سلعية الفن، وفنية السلعة.

4-         لا تعترف ما بعد الحداثة بالعمق فما يوجد بالفعل سطح موضوعى ولا ضرورة لمسألة المعنى والدلالة.

5-         الدال لا يلتزم بمدلول ولا يدعو المتلقى لاكتشافه بل ليواجهه كما يواجه الواقع المشتت نفسه، وفيها تدمر سلطة المدلول.

6-   العمل الفنى ليس رسالة من مبدع إلى متذوق، بل هو تصوير لمدرك حسى دون إضفاء قداسة أو سمو عليه، فيستمد الفن عناصره من الواقع الموضوعى المُحَسّ بكل خصائصه، إن الفن يغمر نفسه فى الواقع الذى يتسم بالفوضى والتناقض والجوار.

7-         فن ما بعد الحداثة لا يستهدف الخلود.

التحول الأخير فى الصورة الشعرية يتجلى فى صدارة المشهد، وهو تحول يعيد إنتاج عناصر الشعرية السابقة ليعيد ترتيبها طبقاً لاحتياجات النموذج الصاعد، وغالباً ما يفرض النموذج الجديد عناصر شعرية جديدة تختلف وتتوافق فى ذات الوقت عن النماذج السابقة، إن عمليات التحليل وإعادة التركيب وفقاً لمقتضيات مفاهيم شعرية جديدة تتماشى مع معطيات المعاصرة الكائنة فى هذه اللحظة الزمنية تبدو طبيعية للغاية ولا تحتاج لكل هذا التشكك الذى يتجلى فى قصيدة نثر ما بعد الحداثة.

إن التعامل مع الأفكار، من خلال الإدراك الحسى، هو صلب إشكالية القصيدة الجديدة التى تحاول إنتاج ذاكرة إبداعية مفارقة، ليس من خلال نفى الذاكرة السلفية، بل من خلال نفى الجانب غير الحتمى منها.. جانب التصورات والتجريد اللذين يتخفيان عادة خلف أقنعة بلاغية، وإذا كانت النماذج الشعرية السابقة تستدعى تصور الشىء إلى الذهن، إذ تتحدث عنه، فإن القصيدة الجديدة أصبحت تطمح إلى تحقيق الشىء، تحققاً يكاد أن يكون فعلياً، ليس من خلال الذاكرة وإنما عبر الحواس.([10])

إنها الصورة البصرية التى تعلى من عرش الحواس، الحواس التى تعد الطريق الذهبى للمعرفة والسخرية من مفارقات هذا العالم الذى نحياه.

إن هذه المعرفة تتميز بأنها انطباع شخصى ومباشر عن الواقع، دون الاستناد إلى وسائط مفهومية وذلك عن طريق استخدام الحواس الطبيعية وحدها، فالانطباع والمعرفة النسبية هما عمادا التجربة الحية ورفض السطوة المرجعية سابقة الوجود على النص.

المجاز الذى هو العلة الأولى فى الإبداع كما كان معتقداً فيما قبل ما بعد الحداثة أصبح مرفوضاً والارتطام به فى القصيدة عملً يقلق منه المبدع. ومن أجل هذا الاختيار المغاير لنوع الشعرية غير التقليدى يلجأ المبدع إلى وقائع حياته اليومية، وأشيائه الخصوصية والعابرة، من منطلق أنها الأشياء التى تحمل نبضاً ودماء فى حياته التى تتسم بالحياد والعدمية فى هذا العالم، لذلك فهو يبحث عن ألفة بينه وبين الأشياء، ألفة لا يجدها مع العالم والأشخاص من حوله، إنه يلملم الوجود فى هذا العالم من خلال حسية عارمة.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

جماليات التناقض والجوار والفوضى

 

بالرغم من تغير التقنيات بينَّاً وجوهرياً فى مفهوم الشعر بين الحداثة وما بعد الحداثة، وبالرغم من أن الاختلاف البيّن والجوهرى بين القصيدة الحداثية وما بعد الحداثية، إلا أن التداخل والاختلاط بين السمات الفنية لكلا التيارين فى مصر والوطن العربى على المستوى الفنى التطبيقى لا يزالان يطلان برأسهما على الإبداعات الفنية باختلاف أنواعهما، فنحن كثيراً ما نرى اختلاط المفاهيم والتقنيات لتيار الحداثة وما بعد الحداثة فى الديوان الواحد، ولا نعدم أن نجد بعض الصور المجازية القائمة على الخيال الاستعارى، وقد نجد فى الإبداع محتوى فكرياً ينشد المبدع فيه رسالة ما([11]) وهذا ما يحتمله دائماً المستوى التطبيقى الفنى، بينما لا نرى هذا التداخل بين سمات تيارى الحداثة وما بعد الحداثة على المستوى النظرى الذى يتسّم بالتحديد والصرامة.

وأستطيع أن أقول – على المستوى النظرى نفسه – : إن جماليات التناقض والجوار والفوضى كما عبرت عن قصيدة تيار الحداثة اعتمادًا على التناقضات في بنية الواقع أو الوعي الإنساني نفسه ، عبرت أيضاً عن قصيدة تيار ما بعد الحداثة في بنية الواقع و بنية العمل الفني ، فهذه الجماليات ظهرت مع تيار الحداثة حين انهارت المسلَّمات، وتشظت المقولات القائمة على الوحدة، ابتداء بالهيجلية وانتهاء بالصوفيات المعاصرة ، وبالرغم من أن الحداثة تعترف بأسس أصلية تحاول استعاتها وتخليصها من ترهلات المتواتر والمستقر الذى أوجدته الثقافة الكابحة. وإنها عادة ما تقدم بديلا آخر، وفكراً مختلفاً، قد يصل فى بعض نزعاتها إلى البيان الصريح يتضمن ذلك الرؤيا والآداء الفنى، إلا أن نوعية الجماليات التى عبرت عن القصيدة الحديثة كانت جماليات الجوار والتناقض والفوضى كما ذكرت([12]) فقد كانت هناك أبعاد ثقافية ومعرفية عميقة ملتبسة ومتداخلة كوَّنت مجالاً لإبداع قصيدة الحداثة. هذه الأبعادة أوجزتها فى أربعة هى:

1-     البعد الفكرى والفلسفى.

2-     البعد الميتافيزيقى.

3-     البعد الصوفى.

4-     البعد الأسطورى.

كما كانت هناك المذاهب الفنية المختلفة، بدعواتها المختلفة والمتعايشة مثل السريالية والدادية والتكعيبية والرمزية وغيرها، كما انفتح علم النفس بنظريات فرويد الخاصة باللاوعى وعالم الاحلام وما عاداها.

كل هذه الاتجاهات التى تحتمل التعدد والتداخل والانطلاقات التأويلية – من المنطلق الفنى الإبداعى – أوجدت هذا النوع من الجماليات التى بها نستطيع التعامل مع القصيدة الحداثية، أوجدت اتساعاً لا حد له فى المجاز التصويرى، وابتكرت صوراً شعرية غريبة وغير مألوفة، بل ضمت فى صورة واحدة شتيتاً من مفردات عوالم متباينة إلى أقصى الحدود يقول د.صلاح قنصوه:

"لقد كانت الحداثة رفضاً لدور الفن كعاكس، أو مسجل، أو مترجم لنظام خالد ثابت مطلق، ومن ثم كانت إنكاراً للإيهام المزدوج، الإيهام بثبات النظام فى العالم، والإيهام بوظيفة أزلية للفن، فالفن فاعلية تحويل وتشكيل، وليس تقنية تمثيل وتسجيل".([13])

لذا كان لزاماً أن تتغير فلسفة الجمال التى على نحوها يتشكل العمل الفنى باختلاف أنواعه، وإذا كنا بصدد قصيدة الشعر التى هى عالم من اللغة، عالم من الانفعالات والمشاعر المتداخلة والمختلف إحداها عن الأخرى، عالم من البحث عن التشكيلات والتحولات المتعددة، فنحن إذاً بصدد تداخلات غير منتهية، التداعيات فرضها الواقع على هذا النحو، تناقضات فرضت وجودها نظراً لأن الحداثة ذاتها لم تكن لتظهر لو لم يكن هناك نقد ومراجعة لكل المنظومات الفكرية والثقافية منذ أواخر القرن التاسع عشر.

لقد كانت الحداثة وليدة إعادة النظر والشك فى كل المسلمات التى رسخت لطول الممارسة والتكرار، لقد بحثت الحداثة وراء إزاحة الأستار التى كونتها العادة والألفة مع الأشياء والأفكار وعملت على تجلية وإظهار الأشياء والأسس فى أصولها ونكهتها الأولية، فى بكارتها دون فرض تكلسات السنين فوق مسامنا وكل حواسنا ورؤيتنا لكل العالم من حولنا، إن عملية البحث هذه تخوض فى متاهات لا تنتهى، افتراضات، تصورات، مواجهات، ونضيف إلى هذا إنها ليست من منظور عقلى بلى هى من منظور فنى، لذا كان منطق الشعر الذى له طبيعه خاصة قدره على أن يتسع بدوائر الفن لعوالم أرحب.

الحداثة ضد استقرار المرجع أو المشار إليه، ولذا فهى تعول على شفرات التواصل بين المتلقى والمبدع عبر إعادة إنتاج مفردات المعجم لتفريغ الألفاظ من دلالاتها ثم شحنها بدلالات جديدة، الحداثة ترفض الواقع وتتمرد على كل قيم الثقافة القامعة، وتسبح فى عالمٍ من المجاز والخيال والأحلام والشطحات وغيرها. كل هذه التغيرات أزاحت جماليات الوحدة والتناسق وفرضت أو صنعت طبيعة أخرى على نحوها ينسج فنون تيار الحداثة ، وهى بالقطع تحتمل التعدد والمواجهات المستمرة تحتمل أن تسودها فوضى عامة وتداخل شديد بين غزارة وتعددية وجهات النظر تجاه القضايا المختلفة. وإن امتلكت القصيدة برؤى وؤية فى الحياة.

لقد تغير مفهوم الشعر، وتغيرت الذات المبدعة فى تيار ما بعد الحداثة، وانسحبت الذات من عوالم الفكر، سخرت من كل الحقائق والمعايير والحكايات الكبرى التى ضج بها العالم لفترات طويلة، لم تبحث عن أصول، ولم تسع إلى التغيير، بل غرقت فى اليومى، تعيش مجتمعاً استهلاكياً سلعياً، وودعت الآمال الكبار ورصدت فى وعى سافر للمعيش والمتاح وشكلت العالم من حولها مشاهد، مشاهد خاضعة للمفارقات والصدفة والسخرية من كل شىء، جسدت العالم فى لقطات تضج بالتناقضات والفوضى والعلاقات التجاورية، كما عبرت عن نوع سلبى من الرفض الموشَّى باللامبالاة الظاهرة، واهتمت بالمهمش من الأشخاص والأشياء والأفكار، وأعادت النظر حتى فى التقنيات الفنية، تناولتها من زوايا أخرى وكانت منها بالطبع الصورة الشعرية.

لقد تحولت الصورة من نتاج المخيلة التى كان يملكها الشاعر الملهم، "النبى" إلى المشهدية التى هى نتاج الشاعر الرائى وحدسه الحسى، الذى يتأسس على الانطباع المباشر تجاه الأشياء، ولذا تراجعت الصور الجزئية وسادت الصورة الكلية، وساد السرد الذى تمثله اللغة التداولية بديلاً عن اللغة المتعالية.

و الصورة المشهدية هنا تعتمد خلق مشهد شعرى يتسم بالاضطراد والاكتمال، وهذا الاكتمال لا يتحقق إلا عند الوصول إلى الكلمة الأخيرة من المقطع أو القصيدة وهى عادة تعبر عن مفارقة ساخرة، والعلاقات الفنية تنزع إلى الصدام والاختلاف بين التفكير العقلي والرؤية البصرية للعلاقات بين الأشياء.

علاقات الإدراك الحسى تتأسس على نظرة واقعية مادية تعبر عن الوجود المادى لصور المحسوسات كما هي فى الواقع وارتساماتها فى المخيلة، أما الأخرى الذهنية العقلية تعبر عن الدلالات المتصورة للعلاقة المتصورة بين المحسوسات.([14])

المجاز البصرى يؤكد كثيراً على النظرة الأولى التى تصبح أساساً لقصيدة النثر فيما بعد الحداثية، وإن ظلت العلاقات الذهنية العقلية تلوح ما بين الحين والآخر فى ثنايا القصيدة، ولغة المشهدية لغة تقريرية توحى باكتشاف عوالم شعرية غنية فى لغة الحواس، لغة الواقع اليومى.

يمتلك المبدع تجاه بناء الصور المشهدية خيارات متعددة عن طريق تناول المَحَّسات السمعية والبصرية والتذوقية واللمسية وغيرها، ويعتمد المبدع فى ذلك الوصف المباشر، أو طرق التشبية على طريق تبادل المدركات، أو إعطاء صفات الماديات للمعنويات، أو صفات المعنويات للماديات، بالتجسيد أو التجريد.

أبطال الصورة البصرية المجملة فى قصيدة النثر فيما بعد الحداثية هم :

1-     الأشياء ، السلع ، الصور

2-     المشاهد، وما تحويه من مفردات تكوَّن هذه اللقطات أو اللفتات.

3-     الأشخاص المهمشون فى الحياة والعاديون.

4-     اللغة التداولية واليومية واللغة التقريرية المحايدة.

5-     المفارقات التى يضج بها هذا العالم الذى لم تعد تحكمه سوى مقدرات القوة؛ اقتصادية وعسكرية وثقافية.

6-     السخرية التى قد تصل إلى حد العنف المترسب فى كيان المبدعين.

7-     السرد وما يحويه من تفاصيل وحَكْى وبَوْح واستطرادات.

8-     التقاط ما خلف الأشياء والتى هى بالضرورة تحتمل تعدد الكنايات والقراءات والتأويل.

9-  أفكار كبرى قُوضت، لا شىء يحتمل اليقين، تخبط فى المعايير، اختلاف وتعدد لا نهائى فى المذاهب الفنية أو الفكرية.

كل هذه الأشياء مجتمعة حين تتلاقى فى قصيدة شعرية فى هذا العالم الذى تحكمه الكيانات الكبرى والتى لا تأبه إلا لمصالحها السياسية والاقتصادية، فى عالم يفتقر إلى العدل ويعانى سوء توزيع الثروات، يفتقر إلى الحرية والعقل وما يفرضه من منطق، فى عالم مادى لغته القوة.

ترى ما نوع الجماليات التى على نحوها تنتظم قصيدة ما بعد الحداثة؟ أستطيع أن أزعم أنها جماليات تعبر عن هذا الشتات، عن هذا التهميش، عن هذه المفارقات التى قد تصل إلى حد السخرية والألم، إنها جماليات مجرد الجوار، ضرورة التناقض، حتمية الفوضى، لكن ما يجب أن أشير إليه إنها جماليات تعبر عن واقع راهن، عن رؤية واقعية لهذا العالم، عن فلسفة ترى العالم على هذا النحو، ترى العالم رغم هذه المتجاورات والتناقضات والفوضى يعبر هكذا عن إتساق كونى، الاتساق هنا فى الاختلاف مع التجاور، فى التناقض، فى الفوضى، فأنا لا أتصور أن القصيدة فيما بعد الحداثة لا تحمل رسالة، لكنى أرى أنها تعنى أن تصور هذا الشتات والتشظى، لذا فهى فنياً تأتى على النهج الفكرى الذى تعبر عنه، وهذا بعد رصدٍ نقدى للعديد من الدواوين المعاصرة، وشاهدى على ذلك تلك الدواوين المعاصرة التى رُحْت أسألها اليقين.


التناقض " وَحْدَةُ التناقض "

 

يموج فى المشهد الثقافى العالمى مع ظهور تيار الحداثة العديد من الأيدولوجيات وتتفرع المذاهب النقدية والأدبية وتظهر العديد من الاتجاهات الفنية التى تتأسس كل منها على مذاهب فلسفية مختلفة، وتتعدد النظريات العلمية، ونظريات علم النفس، وتتعدد الأساطير بتفسيراتها، وتبدو المتناقضات واضحة ولنا أن نفسر ذلك بقول "هيجل" "إن الحقيقة فى الكل، وصفة الكل لا توجد إلا فى العقل، إذ إننا فى ميدان لا نجد الوَحْدة إلا إذا تناولنا الحياة على أسس رُوحية، أى نقلناها إلى مدار العقل".([15])

إن فكرة الكثير فى الواحد، وَوَحْدة التناقض فلسفة تعبر عنها مشاهد القصيدة الحداثية وما بعد الحداثية، فالمشهد أو المشاهد التى تحويها القصيدة وما تحمله من أفكار مستشفه تحتمل دائماً المتناقضات التى بات المبدع ما بعد الحداثى يؤمن بأن العالم مفطور على هذا النحو، ولا تعنى المعقولية اٍلاستناد إلى المنطق أو الإهابة بالوضوح، بل تشير إلى قابلية الأمور لجمعها، وربطها معاً بَوثَاقٍ واحد.

ونحن إذا افترضنا قطبين مثل الخير والشر، هل نستطيع أن نزعم أن بينهما فراغاً دائماً مليئاً بحركة التضاد والتنافر؟

تجيب الفلسفة حينئذ بأننا وقتها نكون واهمين، إن الطاقة أو الطاقات فيما بين أية قطبين لم تكن قط فراغاً أو طاقة تنافر محض، بل إننا فى بعض الأحيان نقف حائرين لنميز القيمة وأبعادها وأيها كان سلبا وأيها كان إيجاباً؟ ولأى الأطراف تنتمى؟ وفى أى مكان وزمان؟ وسيلتنا فى ذلك العقل والحواس.

كلنا بات يعرف أن أعظم اللحظات فى التاريخ الفكرى لأى إنسان حينما يكتشف خداع حواسه. بل أكثر من هذا حينما يكتشف خداع الأفكار وتناقضها.([16])

ولقد بحثت المادية الجدلية عن الفن فى الواقع وليس عن الواقع فى الفن، وراوحت بين الفردية والجماعية فى عملية الإدراك، وبين الإدراك القائم على الحواس المتلقية والقوى المدركة المستدعية، بين ما هو روحانى وما هو عقلانى، ما هو عفوى وما هو قصدى، ما هو ماثل من الخبرة وما هو سابق لها وبذلك قد أوسعت المجال لجماليات جديدة قوامها التناقض.([17])

ويقول "فورد" الذى يدعو إلى جماليات التشتت أن على "الفن أن يتواءم مع التنافر وذبذبة الحياة الغامضة".

لقد اتسع العالم بكل مناحيه مع ظهور الحداثة، وتميزت الحداثة بأنها وإن خرجت عن الموروثات كانت لها مرجعية أو أصل تعود إليه، ومنذ اتسع العالم وانفلت عنان الأشياء فلا سبيل للوحدة خاصة مع ظهور ما بعد الحداثة ولا مرجعية فيها أو أصل لأى شئ، الصورة الكلية للمشهد فى القصيدة ما بعد الحداثية تحكمه علاقات لغوية تعبر عن فلسفة القصيدة التى تعبر عن التناقضات التى تضج بها الحياة، وهى لغة شبه تقريرية، جمل تامة تواجه نقائضها فى نفس المشهد، أساليب استفهام تعبر عن افتقاد اليقين والحقائق، التساؤل المستمر داخل المبدع، أماكن وأزمنة متنوعة ومتداخلة، الأسلوب الحركى السينمائى الذى يسمح بالحركة فى اتجاهات متعددة، أسلوب التهكم والتعجب والسخرية المريرة، المفارقات المستمرة، أساليب الشرط المنفية والعبثية فى بعض الأوقات، فجواب الشرط غالباً مالا يتناسب منطقياً مع فعل الشرط، الأساليب الوصفية، المضاف والمضاف إليه، تنوع الضمائر المفاجئ المعبر عن انتقالات مستمرة عبر المشاهد المختلفة، المعبر أيضاً عن تعدد الأصوات فى القصيدة الواحدة هى أصوات لا تتلاقى، تتداخل فى المشهد الواحد لتعبر عن تناقضات أو فوضى الحياة.

يقول عاطف عبد العزيز فى قصيدته "سريرة لاثنين":([18])

".. فمن غيرك الآن يقدر على فض اشتباك المسارات فى ذهنى، ذهنى الذى أنهكته السنة الأخيرة، مَنْ غيرك يمكنه إقامة العلاقة فى ذاكرتى، بين الهوس الجنسىِِّ عند الإناث – حين يبلغن الثامنة والثلاثين – وبين طرائق تلقين الرياضة فى مدارس الراهبات، بين تدنى أحاسيس الأمومة وبين شوارع العباسية فى الخمس الأخير من القرن، بين الذُهان وبين مواليد برج العذراء. مَنْ غيرك .. يمكنه التقاط السياق الذى يجمع البظراوات بالقصائد المكتوبة عن بغداد بعد إانهيار الحزب. اسمع كلامى! خذ واحدة إلى مخدعك، وكُفَّ عن معاداةِ الغموض."

العلاقات التى يقدمها المبدع وتشكل جسد قصيدته علاقات فوضوية لا تحتمل وصفاً سوى المراوغة والتحايل وهى بالرغم من ذلك قائمة، لأنها قائمة فى هذا العالم الذى نحياه وتنداح منه الأشياء فى مزيج غير عقلانى، لقد أصبحنا لا نعدم أن نجد مبررات حين نريد لأبعد المتنافرات والعلاقة متاحة فى ساحة العرض الفلسفية والفكرية، السرد قائم فى هذا المقطع من القصيدة من خلال جمل تقريرية لا مسحة للخيال المجازى بها، ونلمس الحياد الذى يعبر عن العبثية، نلاحظ أيضاً التكرار لصيغة "مَنْ غَيْرُك" وهى طريقة من طرق التأكيد الساخر فى القصيدة، والسرد يعتمد السؤال الدائم، السؤال الذى لا ينتظر إجابة والذى لا يملك سوى القدرة على صياغة السؤال بطريقة غير مألوفة.

أيضاً قفل القصيدة هو مفارقة واضحة بين ما تقدم من عرض لعلاقات غير منطقية بين أطراف متنافرة وبين تلك النهاية النكوصية: القصيدة كاملة([19]) تعتمد على الأسلوب الحركى السينمائى وهى تبدأ بمشهد يتميز بالإثارة ويدعو للتعجب، وتصوير يعتمد على  الحواس، ومقطع تالِ للقطات مألوف أن تحدث فى هذا الظرف، ثم ينتقل إلى محاولة إيجاد مبررات خيانة صديقة له، وفى مشهد فلسفى تالٍ يتحدث عن مسافة ما بين الصديقين، ووقع هذه المسافة فى حياة الأثنين، وإنها أوسعت مكاناً للغربة والخيانة غير المتعمدة وجعلت هذه العلاقة ملتبسة وغير واضحة فى منطقة من المناطق الضبابية المحببة إلى فن ما بعد الحداثى، ثم ينعى المبدع الوضوح ويذكر أنه رآه فى المقابر حين ودعوا صديقاً آخر لهم، ثم يتحدث عن أزمة منتصف العمر .. وهكذا تستمر القصيدة كأنها فيلم سينمائى تتحرك فيه المشاهد فى اتجاهات متعددة ودائماً ما تحمل كنايات عميقة على ما آلت إليه العلاقات الإنسانية فى هذا الزمان.

الملاحظ فى هذه القصيدة أن المبدع وهو يكتبها يدرك أنه يعيش صوراً، لقطات، إنه يفترض قصة ويصنع لها سيناريو ومشاهد ويدخل نفسه والشخصية الأخرى فى صراعات مصنوعة، ويعرف ما المفترض أن تكون عليه أحاسيسه، عالم من الصور وشاشات العرض، طريقة السرد توحى بهذة التصورات "لك أن تستدرج واحدة من عشيقاتى"، وفيما أنت منهمك فى ......... يمكنك مهاتفتىّ " ، كأنه يقص اللقطات لصديقه ليعيشاها معاً. "سأحزن، أعدك سوف أحزن، سوف أحزن دون أن أكرهك".

وهكذا يصنع مأساة ويحركها ليروى لنا لا مبالاته وحياده تجاه هذا العالم بأشخاصه وأحداثه.


جماليات التجاور

 

يظل الصدام قائماً بين الأوجه المختلفة للحقائق – هذا إن عدت حقائق – كما تتجاور الفلسفات المتعددة، ويختفى التطور ليبقى التغير فحسب، ويفتقد السرد الدرامى الذى يتنامى وتتلاقى فيه الخطوط المتصارعة، ليظل التجاور والتوازى قائمين من خلال الوصف الخارجى الحسى الذى قد يولد الغموض، ذلك الناتج الطبيعى للتعدد والنسبية فى ذلك المشهد الفنى المعاصر.

إن الذي صنع جماليات الجوارهو تعدد الثقافات ، والنظريات العلمية المتلاحقة بالإضافة إلى الفلسفات وتفرعاتها المتعددة ، و صنعتها أيضًا رؤية خاصة للكون نجمت عن هذه التعددية الثقافية التي جعلت المتناقضات تتعايش ، ولا تملك الذوات البشرية تجاه ذلك إلا التسليم خاصة بعد انهيار القيم والأخلاق والنظريات التى طالما آمن بها الإنسان. لقد صنعها يأس الذات المعاصرة من خوض الصراعات، إذ لم تعد قادرة على الاشتباك مع الواقع فاكتفت برصد مشاهده فحسب.

والجوار بين هذا التباين استتبع التناقض، وهو تناقض حتمى هذه المتنافرات المجتمعة خلقت ذوات حيادية مستسلمة مهمشة لم يعد يعنيها الرؤى المكتملة وتفسير العالم أو القدرة على السيطرة عليه. ويصف د.كمال أبوديب ذلك بكونه "وجهاً من وجوه سقوط الأيدولوجيا لأن كل تفسير فى النهاية تعبير عن تملك أيديولوجى للمفسر، الكناية الآن تنأى عن التفسير لأنها تشعر أنها لا تمتلك العالم إيديولوجياً، وترى العالم مغلقاً غير قابل للإدراك"([20]). ولذا يقتنص المبدع اللقطات الشعرية المهمشة، ويتعمد أن يغير الطريقة السائدة فى رؤية الحياة، والتى عبر تغييرها مجازياً تنشأ صور وطاقات لتغير العالم مادياً، حلم، ما زال المبدع حالماً وإن كان ما بعد حداثياً فالإنسان يبغى هدفاً وإن أنكره.

إن هذه اللقطات المختلفة تتجمع فى نمط من التناول الشعرى تتضخم فيه العين وتحل محل ذات الشاعر، وتعد اللقطة البصرية هى بؤرة الشعرية، وهى التكوين الجمالى الذى يتجاور مع آخر وآخر مكتفين بالتجاور وفى غنى عن إدخال الذات المحللة أو المعلقة أو المنفعلة إلا فى لمحات كنائية مركزة ودالة - ذات الفنان أعنى -، المبدع ينقل ما يراه، لكنه لا ينقل ما يفكر أو يعتقد فيه، لأن الأفكار خديعة وهو لا يمارس مع العالم هذه اللعبة الحقيرة.

ويبقى النص فى حاجة لإدخال ذات القارئ، ليضع هو علاقات ما بين هذه المتجاورات، ويسد فجوات تترك له عمداً، ليكمل المتلقى الانطباع كما يحلو له، أو يتركه لحياده كما وجده فتبقى النفس قلقة موزعة غير مكتملة كحال المبدع وحال العالم من حوله.

لماذا تكتمل؟ وكل شىء مصيره الضياع، فبعد أن نسف "نيتشة" جميع أسس ميتافيزيقا الحضور، لم يعد هناك أولية لسبب ثم نتيجة، بل أصبحت هناك نتائج ثم يقوم العقل بعدها بتأويل واقتراح أسبابها وبعد أن قال النقاد : "إن كل تفكيرنا ليس أكثر من صناعة أكاذيب، حيث نقوم بِحَبْك مجازات تحل محل أى معنى روحى، عالم يقاوم فى نهاية الأمر أن يترجم إلى أفكار أو مثل عليا، كالعدل أو الحقيقة أو الخطيئة أو الخلاص، إن فيلسوف، فنان "نيتشة" النموذجى يتعلم تقبل الأمور على علاتها، ويرفض تحديد معنى للأشياء، ويتحاشى التقسيمات ويتقبل افتقار طرائفنا فى التفسير إلى أسس تقوم عليها، ويفضل أن يلقى بنفسه فى لعب العالم، يرقص معه".([21])

ولذا نلاحظ أن هناك تركيبات نصية منفصلة لا رابط بينها، فهى تخلو من أساليب الشرط المنطقية أو المقدمة، ثم النتيجة، أو أية أنواع من العلاقات، سوى أدوات العطف.

اللغة هنا مجال تجريبى تتوالد فيه عوالم ترسمها مجاورات الأحداث والكلمات المدهشة لا الجمل المترابطة.

يقول عاطف عبد العزيز فى قصيدته "المقهى":([22])

" لم يكن لدى الشيخ وقت يوازن بين كَفَلِ الراقصة وعقود العمل التى ينتظرها الأصدقاء. ولأنّ الخيال أبرز أمراض المهنة، لم يهتم أحد منهم بالحفاظ على شعرة معاوية بينه وبين ربة البيت، عسى أن تتسع السكة لأيام العزوبة المرتقبة، فى بلاد يعرق فيها البلح.

راح الفتيان يجهزون الحقائب بالتفاصيل التى لا يدرك خطورتها سوى أمثالهم المبدعين الأقحاح، لكن ما حدث بعد ذلك لم يشذ عما يحدث عادة فى مثل هذه الأحوال، إذ تضخم كَفَلُ المرأة فى الفندق، حتى أن النزلاء المجاورين كانوا يلاقون صعوبة فى اجتياز الردهة الفاصلة، بينما صارت رقعة الشطرنج فى المقهى مسرحاً لصراع ما تبقى من إرادات، المقهى الذى لا يرى صاحبه نفعاً للمبسم البلاستيكى باعتباره عازلاً طبياً يعطل الشهوة".

على افتراض أن هذا النص قصيدة نثر، وأنه يخضع لأى مفهوم من مفاهيم الشعرية المتعددة، أدى أنه لا توجد فى هذا النص سوى علاقات تجاورية، وقد يفرض عنوان النص "المقهى" هذا البناء التجاورى دون تفاعل حقيقى بين شخوص النص المختلفة أو أحداثه، فحين تحل العين محل الأنا تمثل انعداماً لامتلاك العالم وفقدانا للرغبة بالتفسير أو القدرة عليه، وإذا وجدت تفسيرات فى هذا النص لأى شىء فهى تفسيرات أو نتائج لا تمت إلى المقدمات السابقة.

يستخدم المبدع أسلوب الشرط "ولأن الخيال.." بطريقة عبثية، فجواب الشرط "لم يهتم أحد...." لا علاقة له بفعل الشرط ولا أسلوب الرجاء التالى له "عسى أن تتسع.."، إنها قطيعة واعية مع كل العلاقات العقلية الواضحة.

مبدع فيما بعد الحداثى لم يقع فى فخ الاستلاب، وقاطع كل الموروثات الفنية والثقافية التى فقدت نكهتها مع الزمن، لكن هل أوجد البديل لأبنية جمالية لها القدرة على استيعاب أشواق الإنسان؟ هل استطاع أن يفتح سماوات الحرية لمعانٍ أو أحاسيس مبدعة مع نص كهذا ؟ أم هى دوائر متداخلة تسلم بعضها إلى بعض فى تيه كبير.


جماليات الفوضى

 

الحرب العالمية الثانية، لحظة تاريخية متفردة يتعذر إدراجها فى نسق أو جعلها حادثاً مطرداً فى مسار تاريخى معلوم. لا سبيل أمام الإنسان تجاهها إلا إعادة النظر فى كل المسلمات وليس إلى الاختيار من بينها، فالكل سواء فى الإخفاق. ولقد تركت الحرب ردة فعل فنية قوية تمثلت فى "الدادية" فى سويسرا، وكانت الوصفة العشوائية لصنع قصيدة غير منطقية، طابعها الأساسى الفوضوية، وانتهاكها للنظام، وهدفها تحرير الشعر من رقابة الحس السليم، والتحرر من كل رقابة على الذات، وتحطيم وسائل الاتصال، وتفريغ اللغة من المعنى باستخدامها فى أجزاء غير محبوكة ولا مترابطة.([23])

ومثلها كانت السريالية ويعرفها "برتيون" بأنها "آلية نفسانية صافية بواسطتها يقترح التعبير إما شفهياً، أو كتابياً، أو بأية وسيلة أخرى بعيداً عن عمل الذهنى، إملاء الذهن بغياب أية مراقبة يمارسها العقل وخارج أى اهتمام جمالى أو أخلاقى".([24])

لم يجد المبدعون سوى هذا النهج الفنى الفوضوى ليعبروا من خلاله عن عالم أكثر فوضى، فجاءت البنى الأفقية للفنون ما بعد الحداثية متشظية مشتتة، خليط من كل الاتجاهات والأشكال المتباينة، وكان هذا تعبيراً عن الرفض والحياد تجاه هذا العالم، لكنَّ هذا الاختيار الفنى يحمل على المستوى العميق طبيعة دلالية فلسفية تتمثل فى عدم الثقة فى أية حقيقة، وعدَّ هذه الحياة زيفاً وخداعاً، عالم من المشاهد نحياه ونعيش به فوق كراسى عرض متحركة، ذوات منفصلة عن نفسها وعالمها.

" ويُسقط الأدب ما بعد الحداثى كل الأطر المرجعية التى توحد المنظور أو المرصد، ويبدأ من نقطة الصفر المعرفية كتجريب مستمر مقياسه وأدواته الحواس، وموضوعه: الظاهر الخارجى المتعدد، والنسبى، وغير المنطقى أو الحتمى، فليس ثمة يقين أو إجابات مسبقة، بل تخبط واكتشاف، وإثارة للدهشة".([25])

ما الطبيعة الجمالية التى يستطيع الناقد أن يرصدها لهذه الأعمال؟ وما الكيفية التى توصف بها؟  أهى جماليات الوحدة والتناغم والتناسق والائتلاف وما عاداها من ألفاظ سهلة ومرنة ومريحة للعقل؟ أراه سؤالاً يفرض المنطق النقدى المعاصر.

أتصور أنها نكهة مختلفة ولكنها تحوى جمالاً لمن يفهم دواعى وجودها على السطح الإبداعى، إنها جماليات الفوضى الإنسانية إزاء تقبل إدراك هذا العالم.

إن النص فيما بعد الحداثى عمل جمالى وهو أيضاً عمل معرفى، كيف كان ذلك ؟ هى ليست المعرفة اليقينية، بل هى معرفة الذى لا يملك سوى قدرته على صياغة السؤال بطريقة صحيحة وحسية تنتمى إلى واقعه ويحمل معه الدهشة.

المعرفة هنا معرفة من يثير التساؤل؟ من يرصد المواجهات بين أشياء وأفكار العالم، من يرى كل شىء حوله يتجاور، ربما دون داعٍ أو هناك داع عميق هو لا يدرك مغزاه.

لذا فالجمالية هنا تعبر عن نوعية المعرفة، معرفة الرصد واللايقين.

يقول عاطف عبد العزيز فى قصيدته "باتجاه مرثية جديدة"([26]):

هذه المرة،

سأبُقى الميدان هناك،

فى مكانه الأصلىّ،

لكن الحديقة أدفعها إلى اليمين،

بعض الشئ،

لتصير فى عمق المشهد على نحو معقول.

سيليق،

أن أوسَّع النهر بضعة أمتار،

إضافية،

وأَدَعَ المصابيح على كوبرى الجامعة،

تخبو قليلاً،

فقط .. لتخبو قليلاً،

واليوم،

سأجعله مساءً متصلاً،

ومضبوطاً على الثامنة،

أما أصدقائى،

فسوف أغدر بهم واحداً فآخر،

كى ....

لا يخونونى.

ليس لنا أن نتسائل ما العلاقة بين عنوان هذا النص "باتجاه مرثية جديدة" وهذا المشهد الذى يتخيل فيه الشاعر قدرته على تغير الأماكن "لكن الحديقة أدفعها، إلى اليمين بعض الشىء" أو "سيليق أن أوسَّع النهر بضعة أمتار إضافية"، أو قدرته على اللعب بالأزمنة والتحكم بها حين يقول "واليوم سأجعله مساء متصلا، ومضبوطاً على الثامنة".

وما علاقة هذا التشكيل المشهدى بأصدقائه الذين سوف يغدر بهم واحداً فآخر كى لا يخونوه.

على المستوى الأفقى النص يوحى بالفوضى، فوضى إحساسه بالقدرة على التحكم بالأماكن والأزمنة، فوضى العلاقة بين أصدقائه وتشكيل هذه المشهد المكانى الزمانى، فوضى علاقة النص بالعنوان.

يدرك الشاعر هنا أنه يصنع مشهداً، وأن قدرته على التغيير تقتصر على تشكيل المشاهد فحسب، القدرة على الفعل والتغيير فى الحياة حلم الإنسان، لكن الإنسان المعاصر تقتصر أحلامه على التغيير فى عالم مصنوع من المشاهد وليس العالم الواقعى.

الجميل عند المبدع أنه فى صياغة لكيفية صناعة هذا المشهد يُشعر المتلقى أن تكوين هذا المشهد يتم فى لحظة الإبداع ذاتها، ولهذا يشعر المتلقى كأنه يشارك فى صناعة هذا النموذج "الماكيت" الذى يحيا بداخله ويتجاور مع أشيائه، ويتم له ذلك بصياغة لغوية تقريرية لكنها موحية بذلك حين يقول " وأَدَع المصابيح على كوبرى الجامعة، تخبو قليلاً، فقط .. لتخبو قليلاً ".

فقط لتخبو قليلاً وكأنه نوع من التفكير المعاصر الذى يتكون فى لحظة الإبداع ذاتها بما يشوبها من تردد وتفكير متجدد، أو قوله عند حديثه عن دفعه للحديقة " لتصير فى عمق المشهد على نحو معقول" ، على نحو معقول هذه توحى بحواره مع نفسه فى حالة تخليقه للمشهد، وحواره مع الأشياء بداخل المشهد ذاته.

ومحاولته المستترة من خلال هذا الأسلوب الأدائى ليدفع بالقارئ إلى التشكيل ليشاركه من خلال حكيه هذا لعملية الوصف التلقائى الذى يصرح به عند صناعته لمشهده.

نعود لمحاولة إدراك العلاقات فى النص وتفسير هذه الفوضى، ولماذا اختارها المبدع؟.

يرثى المبدع فى نصه قدرته على الفعل الواقعى الحقيقى، واقتصار بطولاته على صناعة المشاهد فقط "الماكيتات" ويبدو أنه معتاد على هذا الإخفاق حين يقول "هذه المرة" يوحى هذا بتعدد المرات التى يصنع بها المشاهد، كأنه يرثى أيضاً حتمية غدره بأصدقائه، لأنه يعلم أنه فى هذا العالم الذى لا تسوده قيم أخلاقية، سيخونونه، لذا فليكن له شرف السبق، وليكن هو البادئ، هذا السلوك تعبير عن سلوك مجتمع يسوده سياسة الخطف حتى وإن يكن لقيمة سلبية.

هذا العجز عن الفعل، هذا الانحدار أو الاضطراب الأخلاقى، ألا يدعو للرثاء، جماليات تشكيل هذا النص تبدو فوضوية العلاقات لكنها تعبير عن فوضى العالم ولا منطقيته، ولذا فالشكل الجمالى يتلبس المحتوى الفكرى.

ويجب أن أشير إلى أن جماليات التناقض والجوار والفوضى كلُّ لا يتجزأ، لقد اخترت هذا التقسيم لتوضيح تداخلات فنية وفكرية متعددة، وهو تقسيم ضرورى لتوضيح الدراسة، لكنها جماليات متداخلة وتؤدى بعضها إلى الآخر.

 

 

 

سمات الصورة الشعرية لقصيدة ما بعد الحداثة

 

قصيدة ما بعد الحداثة ليست دعوة إلى شىء أو تمرداً على شىء، أو هى موقفً محددً إزاء شىء، هى حالة من السيولة والتضارب والفوضى لأنها رفضت العيش فى أوهام أن هناك عالماً موحداً متسقاً منسجماً، لأنه لا معايير، لا يقين، لا أسس.

يقول محمود قرنى فى قصيدته إبراهيم الصحارى" :

خلف إبراهيم

يجلس الموت

وسوف أكتب قصيدة جديدة

عن صراعهما غير المتكافئ

يالهول ما أفعل

هو هناك لا يخاف يد الله

وأنا هنا أغنى لأرانبى

أغنية النوم

أنا رجل طيب

إلى حد بعيد

لذلك لست فى حاجة

لظهر إبراهيم ولا حتى تروتسكى

علىّ أن أظل مستمسكاً بجهلى

وإذا سألنى المحقق

عن أى شىء من هذا القبيل

فسوف أذكَّره

بأن الشيطان يكمن فى التفاصيل([27])

كيف يصنع المبدع مشهده البصرى الذى هو بديلُُُ عن التصوير المجازى، المبدع يَعبد طريقاًَ مباشراً ومن خلاله ينسج شعرية نص ما بعد الحداثى، يحاول تشخيص المجردات والحقائق " يجلس الموت"، وهو لا يتعمد تعميق هذه الفكرة بل يتحدث عن صراع غير متكافئ بين إبراهيم والموت ثم يتبعه مباشرة بالشك فى الحقائق الأبدية والتى منها أننا نخاف لحظة المواجهة مع الله، ثم يضع المتناقضات أمام المتلقى فى مواجهة حادة حين يذكر أنه جالس يغنى لأرنبه وإبراهيم لا يخاف يد الله، فهى حالات إنسانية منفصلة ظاهرياً ومعبرة عن فلسفة التناقض والفوضى فى هذا العالم، عن فلسفة تعايش المتجاورات المتصادمة. ثم يعود ليوالى تكديس التفاصيل، فثمة تعتيم دون إحاطة بأى سر، يسجل ما أمكنه من استخلاص نتائج خاصة به مما تمكن من رؤيته والتقاط ما به من روح ساخرة ورافضة. ما العلاقة بين ظهر إبراهيم أو تروتسكى وتمسكه بجهله، وما الدواعى التى من أجلها يظهر المحقق وما علاقته بالشيطان الذى يكمن فى التفاصيل.

يرى بعض نقاد نص ما بعد الحداثى أنه لا عمق، وليس هناك شىء خلف هذه الأسطح الباردة فى قصيدة ما بعد الحداثة، وهذا ما قد يحمل غلوًا ، أتصور أن هذه الأسطح على برودتها تحمل أسفل منها مباشرة فلسفة أشد قسوة على مبدعيها، إنها فلسفة عدم الجدوى واللامبالاة بل السخرية المرة من هذه الحياة، ولذا هى تشكيل متعمد على هذا النحو، كما أنها تعبير جمالىُُّ مقصورُ ليحمل فلسفته.

فن ما بعد الحداثة لا يستهدف الخلود، لذا فالقصيدة تخلو من الموسيقى التقليدية، وإن كانت لها موسيقاها الخاصة، لكنها لا يمكن أن تظل عالقة بالذاكرة، كما أنها لا تحتوى صورة خيالية مبدعة اتسقت فيها الأشتات فى مبنى مبدع غريب، كما أنها لا تحمل أفكاراً بقدر ما هى شك ونقض لكل الأفكار، والقصيدة تعتمد انطباعات عامة، مجرد ممارسات مؤقته، فهناك من النقاد من يسمونها "الفن الفقير" أو "فن الحد الأدنى" ذلك حين يتم قياسها على الفن السابق عليها "الحداثة"، على أساس أنها كانت ترفض المتعارف عليه والذى استقر؛ لأنها تستعيد أصلاً ورؤى خاصة تصلح للبناء عليها. لكننى أرى أنه - استناداً على فلسفة ما بعد الحداثة – يجب عدم قياسها على غيرها، وطبقاً لمفهوم شعريتها فهى ما يلتقط من الحواس، من حضور العالم بأشيائه داخل النص، من مواجهة عالم الأشياء بأنسنتها بالاحتفاء بالإنسان العادى الذى لا تستعبده أوهام أو معايير سقطت مع المحكات التاريخية، تحتفى بأشيائه الصغيرة التى هى بواباته إلى التفكير فى الكون وأسئلته الكبرى، الشعرية التى تعد مصالحة جديدة للشعر مع الإنسان العادى.

يقول إبراهيم داود فى قصيدته "يحدث كثيراً":

يحدث كثيراً

أن تجد نفسك خائفاً من الاقتراب منه

الشباك الذى ينبغى أن يغلق..

فتزحف على الأرض خمسة أمتار

متذكرا طوال الرحلة مقولة أمك :

"رأسك أثقل من جسدك"

فتحبو فى المتر الأخير

شابكاً رجليك بشىء ثقيل

فى أى طابق كنت؟

فى أى شارع؟

فقط كانت الإضاءة خانقة

وموتك أكيد إذا اقتربت واقفاً. ([28])

هل الشباك هنا هو هذا الجماد الذى نعرفه، أو الجماد الذى هو بوابة نحو العالم المفتوح من أفكار وصراعات وملذات ومحرمات وغيرها، هل الرأس هنا هى هذا الجزء الأعلى من الجسد أو هو العقل الدافع للمغامرة والباحث عن المجهول والذى قد تكون قدراته وآماله أكبر من طاقة الجسد على تحملها.

هل الحبو حين يشبك الإنسان رجليه بشىء ثقيل هو هذا الحدث أو هو المعبَّر عن القيود والتراخى بل النكوص الذى يحمله الإنسان دوماً عند إقدامه على شىء مّا يمثل المجهول له.

هذا ما أعنيه عندما أتصور أن وراء الأشياء العادية والسطحية فى هذا النص الجيد عمق يعبر عن كون هذه الأشياء معبراً إلى أشياء أعمق فى فهم هذا العالم على واقعيته وفلسفته التى لها نكهتها الخاصة، الأسطح الباردة والتى تبدو عادية ومباشرة تحمل عمقاً فى بعض الأحيان وقد توجد خلف المباشرة والتقريرية رؤية وفلسفة تجاه الأحداث العابرة فى حياة الإنسان.

افتقاد الحقائق لا يطال الحاضر فقط بل يطال التاريخ ذاته بأبطاله وأشخاصه الذين صنعوه، ترنو ما بعد الحداثة إلى إعادة قراءة حقائق التاريخ من خلال معاييرها الخاصة. يقول عاطف عبد العزيز فى قصيدته "على سفحٍ مشمس":

"ليكن مجدك خلف هذا الماء"

أربع عشرة مرة تتكرر هذه العبارة فى أوراق شاعر الحملة، الذى سأسميه فرنادوه أربع عشرة مرة رغم خدمته العسكرية القصيرة.

كراهيته لقائده ليست الآن محلَّ شك، إذ أمكننا – بعد فوات الأوان – قراءة الأحداث على ضوء الأحداث، ورأينا كيف ساعد الشعراءُ الربَّ فى أوقات كثيرة على التخلص من منافسيه. جوزفين نفسها لم تكن سوى شذرة من خيال فرناندو وهذا اصطنعها كى يتستر على خيبة سيده: مد لها فراشاً واسعاً يشبه ميدان حرب، مفروشاً بعلم الجمهورية. دبر لها غنجاً لم تعرفه شراميط الأزبكية، حين كن يتسللن إلى مسكنه لقاء قالب من جبن، ثم فى النهاية دوّن بالنيابة عنها مذكرات غرامية من لحم ودم، كادت أن تنطلى على الكسالى".([29])

القصيدة إلى نهايتها شك فى مفهوم البطولات الزائفة، وفى شخصيات التاريخ التى عدَّت قادة غيروا مسار الأحداث، وصنعوا مجداً لا يضاهيه مجد، كيف أن هذه الشخصيات يتحكم فى مسارها مجد زائف كاذب يصنعه ما حولها من مثقفين وفنانين لهم تصورات خاصة ومغايرة، وكيف أن هؤلاء الأشخاص الذين وضعوا فى هالات من العظمة لهم نقاط ضعف بشرى وأطماع لم يلتفت لها المؤرخون، قد أثرت فى صياغة هذا التاريخ، وكيف أننا أسيرو وهم وكذب وبطولات صنعها المروجون – الشاعر المختلق فرناندو- للمفوضين عن الربَّ "الحكام الذين يتوالون على البشر".

جماليات الفوضى هى المؤهلة للتعبير عن هذا الشك واللايقين، تتمثل فى البداية بهذا الدعاء ثم ثَبَتُُ إحصائى "أربع عشرة مرة" بتكرار الدعاء، ثم تصريح المبدع بتوهمه أو خلقه لهذا الشاعر فرناندو، ثم توالى الجمل التقريرية من خلال السرد شبه الخالى من المجاز ومن خلال لغة جافة يتخللها حسية عارمة يتخللها بعض الألفاظ التداولية الصادمة.

الدوال فى هذا النص مباشرة ولا تحتمل التأويل، فالمبدع يستحث المتلقى لإنتاج المدلول الذى يتطابق مع الدال لتكتمل العلاقة فى العمل الفنى. القصيدة هنا لا تتعالى على الجمهور ولا غموض فيها، هى مواجهة مع زيف التاريخ وفوضاه وتَشَتَّية كما أنها مواجهة مع الواقع لإبراز فوضاه . هى حرية المبدع فى أن يستخلص ما يشاء، فى أن يخلق ما يشاء ليستنتج ما يشاء وليسقط ما يشاء، فيتحرر هنا الدال وتدمر سلطة للمدلول فكل شيء صالح كما يقول "فايارانبت" :

أحياناً يتعمد مبدع ما بعد الحداثى استخدام دوال سوقية ومبتذلة "شراميط"، تحمل فى طياتها مخزون حسى شعبى متداول، اعتماداً على أنها - دون غيرها- هى ما يحمل المعنى الذى يريد أن ينقله الشاعر سواء صدمت هذه الألفاظ الذوق الشعرى أم لم تصدمه، فالمبدع لا يعترف بهذا، فليست هناك ألفاظ شعرية أو غير شعرية، بل هو فى بعض الأحيان يتعمد هذه الصدمة التى تصنعها دواله.

كيف لمبدعى قصيدة نثر ما بعد الحداثة القدرة على تجسيد الأفكار التى تشكل الحياة والعالم من حولنا إلى وقائع ومشاهد، ذلك من خلال أداة مجردة "اللغة" ودفق الدماء فيها، الصوت واللمس، التذوق والحس حتى تصبح امتداداً لحواسنا.

إن ما يفجر شعرية الخطاب ليس الاعتماد على الخيال المجازى، لكنه الاستخدام المتوالى للجمل التقريرية التى تتشكل عبر علاقات نصية تهدف إلى التقاط الشعرية الكامنة فى أشياء الوجود من حولنا وتعتمد شعرية الكل وليس الأجزاء فهو تناول بصرى مشهدى لعالم القصيدة ويتكئ على تجسيد وتشخيص المجردات.

يقول عاطف عبد العزيز فى قصيدته "غيمة فى هليوبوليس":([30])

العائش فى تغريبته

سيفكك فى الصباح غيماتٍ

لا لزوم لها

يترك المدنية الصغيرة

مستسلمة لفكرتها الخاطئة عن

تواتر الفصول

وممعنة فى الشرود

كأنما

لا حسَّ لها .. لا خبر

أيمكن أن تفكك الغيمات، هل للمدينة الصغيرة فكر خاطئ، ألها أن تتشرد، إنها محاولة لبث روح الحياة فى المشاهد أمام المبدع من خلال التجسيد، أو التشخيص أو التجسيم عوضاً عن الجفاف المجازى لكنه الاختيار الذى يباعد بينهما وبين مفهوم الشعرية السابق عليهما والذى لم يعد له مبرر فى الوجود على حد تعبيرهم .

مبدع قصيدة نثر ما بعد الحداثة فى تعامله مع المشهد أو الوقائع اليومية كأنه عين فحص نيابية، ومسرح الجريمة هو المشهد أو اللقطة أو اللفتة وتتجلى براعة المبدع حين يستطيع أن يلتقط الشعرية فى طوفان التشيؤ الذى يجتاح حياة الإنسان، وأن يجعل الأشياء فى علاقاتها تعترف بشعريتها، البراعة حين يلتقط من المشهد شعريته التى لن يراها غيره. يحدث هذا ليس بالفرار إلى عالم المطلقات، لكن بالانغماس فى الواقع وتتجلى براعة المبدع فى التقاطه العلاقات الكونية والإنسانية والحياتية البسيطة، فى الأشياء الصغيرة، وهذا الصنيع قد يؤدى إلى مصالحة الإنسان العادى مع الشعر وتقبله له، ذلك لأن المبدع حين يعلى من شأن الحواس يعترف بحضور العالم بداخل النص حتى وإن كان عالماً فوضوياً والشعرية الحقة تفرض حميميتها، تفرض دفئها الذى يمتد بين المبدع ومشهده الذى نسج إبداعه فيه، وحين ينجح المشهد فى أن يجعل المتلقى يرى الحياة على نحو مختلف، يلتقط بروق الأشياء العادية، وقتها تتحقق نجاح شعرية المشهد.

الشعرية الصادقة لا تبدو القصيدة فيها عالماً بارداً وأسطح مصقولة ملساء لكنها للنظرة الفاحصة دائماً ما تحمل اتصالاً ما، لكنها لا تهب نفسها دفعة واحدة.

يقول إبراهيم داود فى ديوانه "يبدو أننى جئت متأخراً":([31])

والنساء الجميلات ..

والنيل بين الأصابع ...

والله ..............

وأمى التى نسقت فرحتى ثم ماتت ...

ورحمتها ..........،

وأحلام ...........

أكاد أمسك طرفها .........،

ورائحة الحوائط ..........،

وسقف لا يصد الماء ....

والذى بيننا من حدائق :

أحبك."

القسم بكل هذه الأشياء البكر التى ليس من المتعارف عليه ثقافياً أنها تستخدم فى مقام تأكيد الحب يعد سعياً حثيثاً إلى التجديد.

المبدع لما بعد الحداثى لا يسعى إلى تدوير قمامات الآخرين، هو يسعى لابتكار معانٍ قلقة، معانٍ لا توحى بالتأكيد المطلق، فكل ما أقسم به يحتمل المراوغة، يحتمل التلاشى والذوبان، يحتمل أنها أشياء لا يمكن القبض عليها "النساء الجميلات، النيل بين الأصابع، الأم التى ماتت، الأحلام التى يكاد الإنسان أن يمسك أطرافها، ثم رائحة الحوائط، وسقف لا يصد الماء، والذى بيننا من حدائق". كلها أشياء متغيرة فى ذواتها أو متغيرة فى تقبلنا نحن لها، الصياغة البلاغية ذاتها من خلال أسلوب إنشائى بسيط ومبدع وهو القسم باستخدام "الواو" تتوافق مع هذه المراوغة الفكرية والشعورية، هذه المنطقة المراوغة التى يلتقطها الشاعر حين يقسم بأنه يحب، أو حين يصف نوع حبه، هل تعبر عنها جمالية معهودة ومتداولة، هذ المراوغة تستدعى جمالية مراوغة، جمالية تحتمل أن ينضوى تحتها "ورائحة الحوائط وسقف لا يصد الماءً، مع كل هذه المعانى الأخرى فى المقطع، ولا نجد غضاضة فى ذلك فهى مجرد جوار يحتمل التناقض المباشر أو غير المباشر، تظلها كلها فوضى الأشياء.

يقول عاطف عبد العزيز فى قصيدته "عطر امرأة":([32])

موت الرئيس نفسه

لم يلغ موعدنا

ظلَّت الساعة فى سعيها البارد إلى

الثامنة والربع،

وظل الكورنيش فى مكانه،

برج الكنيسة منوراً بلمبته الواحدة،

والمصنع المهجور ذو الأسوار الرمادية

بقيت مدخنته كما عرفناها

غير موجودة

ومن أوراق كراسة خطها ردىء،

أكلنا البطاطا ساخنة،

فيما انصرف الحديث بنا إلى تقييم باتشينو،

مقارنة،

باستاذية مارلون براندو

الأب الروحىْ

الأشياء ، الأشياء ، ما نراه ، نلمسه، نتذوقه، نشمه، ما نسمعه هى ما تشكل هذا المشهد، هذا الالتقاط لهذه الأشياء وهذا التشكل المتعمد ليس سطحاً بارداً، خاصة لو أتممنا قراءة القصيدة كاملة، أتصور أنها تعبر عن انفصال تام بين بطل القصيدة، الشخص المهمش فى بلد لا يعترف بحقه فى المشاركة فى سياسة بلده، لا يعنيه فى هذه اللحظة الساخنة "موت الرئيس" سوى موعده الغرامى، الوقت البارد الذى يمر، تفاصيل مكان اللقاء وكلها رمادية يائسة، الحد الأدنى من الحياة الذى يحياه فى تعبيره "ومن أوراق كراسة خطها ردىء، أكلنا البطاطا ساخنة" ، والحديث القائم بين الحبيبين حوار منفصل عن الحياة التى يحياها، تغريب فى بلده وقضاياه، وتفاصيل حياته، هى مجرد صور وشاشات، العالم كله نموذج مصنوع ، يسوده اليأس والمفارقة والتناقض، هيمنة النسبى على الكلى، أى الشخص على الذات الجمعية.

الأشياء هنا تعد أبواباً منها ينفذ المبدع ليصور العالم المصنوع الذى نحياه والذى تضيع فيه الذات تصبح هى الأخرى شيئاً مجرد شىء، تافه لا جذور له، لا هوية، لا مشاركة فى صنع توجه أو اختيار مصير.

وجود الذات ينحصر فى تردد الأنفاس، فى أنها تمتلك عينين ترصد الأشياء حولها ليس فى علاقتها، لكن فى مجرد وجودها الذى تلتقطه الحواس، هل للذات هنا عقل ذو توجه أو رؤية شاملة للمجتمع، بالفعل هى لا تريد أن تملك هذا وإن ملكته، لأنه لا جدوى وهنا تبرز الفوضى والمرارة من هذه الحياة.

يقول محمود قرنى فى قصيدة الكلاب من ديوانه "الشيطان فى حقل التوت":

سأكون من الآن فصاعداً

ضدَّ نفسى

لن آكل خبز أمى

لن أتحدث فى أشياء ملغزة

ولن أفكر مرة واحدة فى العواء

ليس لأن المدينة التى أبكيها

تخلت عن قبحها

لكن لأنها باتت لا تعنينى

وسوف أستطيع تقديم مبررات مقبولة

لزوجتى وأولادى

وأصدقائى القليلين جداً

حول مغزى التغيير

الذى سيحدث فى حياتى

وثمة احتمال واردُ

ألا يسألونى أصلاً عن أى شىء

من هذا القبيل

لأننى أيضاً

قد لا أعينهم" ([33])

نلاحظ هنا اعتماد شعرية الخاطرة التى هى متأثرة بأسباب كبرى هَمَّشَتْ وضع الإنسان فى هذا العالم، سلبية المبدع تجاه العالم والأشخاص والأشياء.

والقضايا من حوله بعد صراع غير ذى جدوى أدى إلى انسحاب تام من فاعليات الإنسان فى الحياة، إحساس المبدع بتفاهة وجوده فى الحياة وعدم إحساس أحد به، بل إنه فى بعض الأوقات قد تصل المرارة إلى العنف تجاه هذا العالم.

يقول إبراهيم دواد فى قصيدته "المرأة":

قالت المرأة للرجل

كيف أعطيك هلالاً

فابتسم:

صاحت المرأة :

كيف أعطيك هلالاً، يا رجل

فمضى

عاشت المرأة

ترعى وحشة

وتشذب الكون وتبكى!!." ([34])

إن كانت المرأة أو الحياة تريد أن تعطى هلالاً قد يكون نوراً، حياة، امتداداً، دفئاً، أملاً ، خيراً، فهى لا تجد من الذات المعاصرة سوى المضى، الانسحاب الانكفاء على الذات الفرد، عيش اللحظة فقط.

كيف لهذه المرأة أن تعيش دون آخر؟ لها أن ترعى الوحشة وتبكى، إنها المرارة التى تعبر عن العدم.

يقول عاطف عبد العزيز فى قصيدته "الغروب فى إشبيلية":([35])

صديقته الإسبانية دارسة الأدب

عادت إلى الوطن

ما الذى

يقوده إذن إلى هذا الشارع العريض!

إلى

تلك البناية ذات الطوابق الخمسة

والحديقة الضامرة!

لماذا

يتجنب رفع وجهه إلى الشرفة المطفأة!

الحب!!

أين سمع الكلمة من قبل

سيقول فى نفسه أشياء عن السأم،

أو أشياء عن العادة،

وهو جالس على مقعد حجرى

يرسم بحذائه الأشكال فى التراب

.......

يمكننا

أن نلقى فى طريقه ورقةً مطوية،

بها طائفة من الاقتراحات:

1- إصبع من الروج،

    كى يلعقه كلما أدركه الليل.

2- زجاجة أورجانزا،

    للإفاقة حين تدهمة الأزمة.

3- لوحة من الكانافاه،

    تصور مصارعاً للثيران فى قميصه الأبيض

أخيراً – دمية ،

دمية من الكاوتشوك،

تكون كفيلة بإعادة الإدرينالين إلى

مستواه الطبيعى.

هل اقتربنا من الحل.

السرد فى التقنية التى اختارها المبدع لقصيدته، النثر هو حاجة إلى الكلام والشعر شفرة، وحين يختار المبدع أن تكون تقنيته للشعرية "السرد" فهو حتماً يختار أن يبوح، أن يصنع صورة كلية، ليست صور جزئية لشخصيات القصيدة وأشيائها وفكرتها، وهو سرد وصفى يتعامل مع صيغ البرهان، صيغة السؤال والإجابة، الصيغ الافتراضية والاختيارية التى تحتمل التعدد، "أن تلقى فى طريقه ورقة مطوية، بها طائفة من الاقتراحات" : وكأن العالم أصبح مجموعة من الأشياء التى تعد بدائل ومهدئات لهذه الذوات الضائعة، اللامبالاة وعدم الاكتراث بالأفراد، الأفراد ذاتهم غير فاعلين فى الحياة، وغير قادرين على توجيه المسار الذى يريدونه فى حياتهم، وقدرة الأفراد على الفعل تنحصر فى "يرسم بحذائه الأشكال فى التراب" تعبيراً عن منتهى العجز، لا ثقة فى المعايير الثابتة لا حقيقة مؤكدة "الحب!! أين سمع الكلمة من قبل"، الحل الذى يقترحه المبدع لبطل قصيدته لكى يتغلب على فقده لحبيبته أشياء، الأشياء المصنوعة هى ما تشكل البدائل لزخم الواقع الفعلى "قلم روج، زجاجة أورجانزا، لوحة من الكانافاه، دمية من الكاتوتشوك" التذوق، الشم، البصر، اللمس للكاوتشوك بديل لممارسة الحب الفعلى، لا حقيقة، عالم مصنوع من صور، بدائل للحقائق، صور تعويضية لواقع وحياة لا تعاش، ولا يمكن أن تعاش لأنها لا تكترث بالإنسان البسيط العادى. إنها الدراما التى تصنعها الأشياء بحيادها، لكن الذى يحرك خيوط الصراع هو المتلقى حين تتجدد حياة الأشياء فيه.

الصورة الكلية تبدو سطحيه لأنها تسطح المشاعر العميقة لبدائل مادية تسكن مشاعر البطل، لكنها تحوى سخرية من الحياة وأقدارها، وكيفية تعاملها مع الإنسان اللغة تقريرية تشارك فى هذه الحيادية فى هذا البرود تجاه الإنسان وحياته تشارك فى السخرية المريرة.

يقول محمود قرنى فى قصيدته "الشيطان فى حقل التوت":([36])

كنت تلميذا فى كلية القانون

لا أومن بشىء على الإطلاق

أبى يأتى بالمشايخ يقرءون

على رأسى

فأهرب إلى ظهر الدولاب

أتوسل بالدساتير

وأتجاهل ثغاء النعاج

لم يكن حلماً

كان حفلاً من السكاكين والحراب

كان الشيخ يعاود تلاوة أوراده على رأسى

ويأمرنى أن أشرب طاسة من الحبر الأزرق

لم أكن أخاف من شىء

كنت أخاف من نفسى أكثر مما يتصور الآخرون ".

نفسى ذات التقنية "السرد"، السرد الذى يستعير من الفنون الأخرى، يستفيد من فنون النحت والتصوير والموسيقى والسينما، تلك الفنون التى طالما وظفت الشعر عبر تقنياتها.

السرد هنا من خلال تصوير المشاهد والأشخاص المتحركة بالنص "أنا ، أبى، المشايخ"، والأماكن "الدولاب، البيت، الحقل" الأشياء والأحداث ذاتها، "لا أومن بشىء: يأتى أبى بالمشايخ يقرءون، أهرب ، أتوسل بالدساتير، لم يكن حلماً، حفلاً من السكاكين والحراب، معاودة التلاوة للأوراد، يأمر بالشرب من طاسة الحبر، لم أكن أخاف من شىء، أخاف من نفسى أكثر مما يتصور الأخرون".

كأن المشهد فيلم تسجيلى يحمل فعل التصوير والعرض والسرد، دون أن يكون هناك تصاعداً درامىُّ، دون أن يكون هناك عمقً أو تطويرُ للأحداث، دون أن تكون الشخصيات ذات طوابق أو دائرية، كما تتوافر لهذا الفيلم التسجيلى خلفية من الموسيقى التصويرية المتمثلة فى "ثغاء النعاج" بما لها من صوت رفيع حاد مزعج يتسق مع تلك التسجيلية التى لا تصاعد بها.

يقول إبراهيم داود فى قصيدته "للمرة العشرين":([37])

كنت أعلم أننى لن ألحق به

ولكن

شيئاً ما كان يدفعنى

لأسرع..

لمحت العربات الأخيرة منه

ترددت فى الجرى

أستطيع الآن أن أستريح

وأسند ظهرى

سيأتى آخر

ربما بعد ساعة أو ساعتين

.. سيأتى

ما دام موعد الواحدة .... مر من هنا "

إنه سرد يصور مشهداً، أو نهج حياة، سرد يجسد أسلوب تناول فرد لأمانيه ، الطريف فى هذا المشهد السردى المفارق التى تختم بها القصيدة مفارقة غائمة تعتمد العديد من التأويلات التى تأول كلها لعدمية هذه الحياة. "ما دام موعد الواحدة  مر من هنا".

ترى لماذا سينتظر قطاراً آخر، وكيف جسد موعد الواحدة هذا وجعله يمر من هنا من أمامه وكأن الوقت غادر المكان الذى فيه المبدع.

خاتمة قصيدة ما بعد الحداثة التى تعتمد المشهدية والسرد لابد لها من قُفْل أو طريقة لوقف السرد، وغالباً ما يستخدم مبدعوها خاتمة مشوقة تعبر عن المفارقة فى هذا العالم، وتجعل القصيدة فى ذات الوقت قد فتحت أبوابها وأثارت أسئلة أخرى فى نفس لحظة نهايتها.

لغة تشكل القصيدة ما بعد الحداثية لغة غير معقدة، واضحة وبسيطة، تعبر عن عناصر المشهد الشعرى دون تعالٍ، لغة تجسد التكوين البصرى، والشعرية فيها تستشف من العلاقات فيما بينها لتعبر عن المشهد الشعرى، لا من اللغة ونشاطها الذاتى عبر أنساق مجازية مجردة.

يقول إبراهيم داود فى قصيدته "حنين":([38])

المقهى الذى اكتشفه إبراهيم فهمى

وأوصانى ألا يعرفه أحد

تغير نادله الشاب

وتغير جدرانه

ويسهر حتى الصباح

.. أصبح شيئاً آخر

وأتمنى – الآن – أن يعرفه الجميع"

إنها الشعرية التى تنتج من التقريرية، من تلقى النص كاملاً، لا الارتكان على صور جزئية، فى شعرية الكل لا شعرية الأجزاء.

حين لم يعد للمقهى هذه الخصوصية التى جعلته مقرباً للمبدع تمنى أن يصبح مشاعاً، وأن يعرفه الجميع، المعنى هنا محدد ولا يحتمل التأويل ولا تعدد القراءات ويرى بعض مبدعى الحداثة أن لحظة التعدد لحظة عدم اتزان، لذا تتسم موضوعاتهم بأنها مباشرة يومية طازجة ودالة، لكنها دائماً ما تنطوي على معنى عميق فى إنسانيته إنها مشاهد تعتمد الكناية طريقاً إلى الشاعرية.

اللغة فى القصيدة ما بعد الحداثية لغة حكى، لكنه الحكى المكثف والذى يبدو حيادياً، يقول عاطف عبد العزيز فى قصيدته "آخر الليل": ([39])

قرب نافذة مفتوحة

دخن،

أنامله هل ذكرتها بشىء؟

ماذا أعمل

ماذا أعمل يا زوجته!..

قال ،

وتنقل فى الحفل بين المقاعد والصحاب،

علَّه...

يقطع الطريق على حيادِها،

أو

يقود ابتسامتها إلى ندبة فى عنقه،

فكر لو يحملها،

لتلامس زر الإضاءة القديم.؟

فكر لو فك شريطتها،

ثم اختباً.

لكنه

دخن.. قرب نافذة

كأننا أمام قصة قصيرة مكثفة شاعرية إلى حدٍ بعيد، علاقة ثلاثية "ماذا أعمل يا زوجته"، رجل يقابل زوجة آخر، ويتعرف فيها طفلة كان يعرفها ذات يوم، لكنها لم تتذكره فظلت على حيادها، فكر أن يأتى بأى فعل ليأخذها إلى الذكرى، لكنه اكتفى بالتدخين قرب نافذة، نفس النافذة التى دخن عندها وتمنى أن تذكرَّها أنامله بشىء كان بينهما.

المشهد الكنائى هو ما تعتمده القصيدة ما بعد الحداثية، وغالباً ما تحتمل الكناية معنى محدداً ثرى وعميق، بقدر ثراء شعرية القصيدة، والنص هنا يتلاعب بالضمائر فى تقنية ماكرة ليصنع تكثيفاً عالياً فى الحكى، ولتبدو المواجهة مستمرة بين الرغبة وحميمية الذكرى وبين الحياد واللامبالاة. كما أن اللعب بالضمائر هنا يجعل المتلقى مفتوح المسام للمباغتة، وتتقد رغبته فى استكمال دائرية النص الذى يبدأ بنافذة مفتوحة لينتهى بقفل للقصيدة ذو نافذة مغلقة، أغلقها عدم قدرة بطل النص على الفعل شأن ذوات تيار ما بعد الحداثة.

علاقات اللغة فى النص هى ما تصنع شعريته فى نسج ذكى رومانسى، "يقود ابتسامتها إلى ندبة فى عنقه"، علاقة تجسيدية ناعمة وحانية ليس ما يصنعها مجاز بلاغى، لكن شعريتها تأتى من تركيب الألفاظ على هذا النحو التشخيصى. "فكر لو يحملها لتلامس زرَّ الإضاءة القديم، فكر لو فك شريطتها، ثم اختبأ" علاقات لغوية نصية طفولية تبعث على إحياء الذكرى بصورٍ كنائية دافئة تدل على شفافية الرغبة التى تحدو بنص المبدع.

النص هنا يتعامل مع تقنيات عبر النوعية ويستفيد من فنون القص ليصنع شاعرية المشهد وهى من التقنيات الفنية المستخدمة فى تيار ما بعد الحداثة.

لتعامل المبدع ما بعد الحداثى مع الصورة الشعرية طبيعة خاصة، فكأنه يحصر إبداعه فى المشاهد التى تعطيه صوراً كنائية ويتخذ موقفاً شبه دوجماتى مع الصورة المجازية، على افتراض أن بداخله هاجساً قوياً بأن المجاز صار لغواً مكرراً غير ذى لون أو نكهة، لم يعد المجاز تثير الدهشة، أو أن صناعة صورة مجازية تضم أطرافاً متباعدة وتأتى صادقة وممثلاً جيداً لما يريد تصويره أو الإيحاء به تقنية مملة، عفا عليها الزمن لكثرة ما استخدمت. وكأن كل الصور المجازية أطعمة معلبة، للمبدع ما بعد الحداثى أن يعيد تقييمه لهذه التقنية، وله أن يستفيد من البراح الخيالى الذى تتيحه العلاقات المجازية بين الأِشياء، وتبرز الموهبة الشعرية الثرية حين تتكامل لدى المبدع جميع الأدوات والوسائل لإنتاج شعرية حقيقية وصادقة وتتجلى لها البكارة فى الاستخدام والدهشة عند التلقى والغنى الحسى.

القصيدة ما بعد الحداثية تتميز بالتراكيب اللغوية التى تحوى علاقات تجعلها تمحو ذاتها، فهناك حدث، هناك أشياء، هناك فكرة، لكن نظراً لطبيعة الشك فى كل شئ لطبيعة عدم تحقق الأمال والأحلام، هناك حدث ينفى ذاته يتآكل مع بنية القصيدة، هناك أشياء مع استمرار تلقينا للقصيدة تكتشف أنها تتبخر داخل كيان العلاقات اللغوية، هناك فكرة غالباً ما يتم تلاشيها أو يثبت المبدع نقيضها، أو المفارقة فى وجودها فى الحياة، يبقى فقط فى القصيدة إحساسنا أننا كنا نقبض بأصابعنا على حفنة ماء، لغة هلامية وتقنية فنية أكثر استجابة إلى اللاتشكل، إلى السراب الذى لا تلبث أن تعدو نحوه فيتلاشى.

يقول إبراهيم داود فى قصيدته "العالم" : ([40])

شرفة وحيدة

فى شارع طويل

وشاعر يركل الحصى

ويفتش فى دفتر العمر..

عن بشر يطلون على البحر

ويغنى آخر الليل

تحت شرفة بعيدة

فى شارع آخر"

 

ويقول فى قصيدة أخرى تسمى "بمكان عام":([41])

تبدو الإضاءة أعلى قليلاً

ويبدو أننى جئت متأخراً

كلهم فى أماكنهم

وربما يواصلون ما اتفقوا عليه

منذ أمس

حيث كنت غائباً كعادتى

وفاتنى كل شىء"

اللغة فى النصين السابقين تقريرية لا تحتمل مجازاً خيالياً، لكنه من خلال العلاقات بين الدوال التقريرية، كيفية بناء الجمل ذاتها، نشعر كأننا نقرأ وهماً ما يلبث أن ينقشع عن لا شىء.

وإذْ تعمد "إبراهيم داود" صنع هذا التلاشى السرابى فى قصيدتية السابقتين، يحدثنا "محمود قرنى" عن منطقة غائمة ضبابية، يحيك هو رموزها بتقنيات فنية مختلفة عن التقريرية، لكنها مناطق محببة لدى مبدعى ما بعد الحداثة مناطق اللاتحدد، يقول فى مقطع من قصيدته "الخديعة":([42])

بينى وبينها مقعدان

سنجلس عليهما معاً

عندما تتشابك الأنهار

وعندما تعبر من مسامها

كلمات السرَّ

وشفرات الجنود

فالألغاز دائماً هكذا

ناعمة وملساءُ

وفتاكة أحياناً

لكنها ستترك لنا طريقة

نعود بها إلى خطايانا

بينى وبينها نصف رجل

بينهما وبينى نصف أنثى

وهذا ما أبقته لنا الخديعة

والأهل .. والدماء التى تطفر

من أنوف الأشقاء"

الرمز والصورة المجازية هما طريقا المبدع هنا لتصوير هذه المنطقة القلقة الضبابية، الواقع الشعرى المعاصر يحتمل تعدد المفاهيم تجاه شعرية القصيدة وهى مفاهيم تتعايش ولا تلغى أحدها الآخر شأن كل نشاط إنسانى إبداعى يحتمل وجود الآخر بفلسفته ورؤاه المتعددة.

ويقول محمود قرنى أيضاً فى قصيدته "الكنز" ساخراً من كل الحكايات الكبرى، ومن كل الأوهام التى غيبت بها الأذان والعقول لسنين طويلة فى مقاطع مختلفة:([43])

1- أوهام الكفاية والاشتراكية والعدل فى توزيع الثروات:

كما أن أمى رحلت بلا أنف،

كانت دائماً ما تلعق الأطباق

خلف أبنائها الأربعة

حتى تأكل أنفها

من جرَّاء هذه العادة

2- أوهام القومية العربية والثورة العربية والتخلص من الاستعمار بأشكاله المتعددة:

سنكون ملاذاً للثورة العربية

قبل أن تبول على نفسها

سَتُحَلىَّ صورنا ملابسها

3- أوهام العدل وسيادة القانون يقول:

يمكننا أن نضع قوس النصر

تحت المخدة

ونضع القُبُْقاب

فى فم العدالة

ويقول أيضاً :

 أم هى العدالة،

تلك الشرموطة

التى يتغنى بها الحكماء

4- أوهام البطولة والقادة العظماء :

وأعدك بأن أجعلك السيدة الأولى

يمكنك ساعتها

أن تَبولى على رأس الأسكندر

وتصبح صورتك الفاضلة

مِلءَ الجداريات

5- أوهام أن الشعب هو مصدر السلطات :

أرجوك لا تأتى وحيدةً

فالشعب كله فى المقابر

6- أوهام الفضيلة والشرف والزعامة دون أطماع :

والخطيئة سوف تتحلَّلُ

-       كالزعماء –

فى حامض الكبريتيك

لقد أعددت كل شىء

الوطن على المنضدة

والعساكر فى الحانة"

نص القصيدة كاملاً يعبر عن الإنهيارات المتتابعة لكل الحكايات الإنسانية الكبرى التى عُدَّت أحلاماً للشعوب فى فترات زمنية سابقة، النص يعبر عن ضياع المعايير والحقائق فى هذا العالم المعاصر الذى تسوده الفوضى فى كل المعتقدات.

لكن لى ملاحظة يجب أن أشير إليها، إنه على المستوى التنظيرى النص بأفكاره وبعض تقنياته خاضعاً لسمات النص ما بعد الحداثى، لكنه استناداً إلى المستوى التطبيقى فهو خاضع للتداخلات المستمرة بين تقنيات الحداثة وما بعد الحداثة، سواء الفكرية أو الفنية، وهذا يعبر عن حالة التداخل والاختلاط البين بين الحداثة وما بعدها فى مصر، هناك تداخل إبداعى ونقدى ونادراُ ما نجد فصل يحدد ملامح كل تيار على حدة، ولكن تبقى حرية المبدع فى اختيار الشكل الذى يناسب إبداعه ويتفق مع قناعاته الخاصة، ما يتبقى لنا أن تتوافر الشعرية الحقيقية فى النص والتى تجد صدى لدى المتلقى.


السمات الفنية للغة المشهد الشعرى

 فى قصيدة ما بعد الحداثة

 

تحت هذه الجماليات "التناقض، الجوار ، الفوضى" التى على نحوها شكل المشهد الشعرى للقصيدة ما بعد الحداثية لى أن أطرح سؤالاً يتطلبه هذا الموقف النقدى المعاصر هل يكفى الآن أن نقول إن لغة المشهد الشعرى ما بعد الحداثى لغة تقريرية، أو هى لغة التداول اليومى؟ أم أننا فى حاجة لرصد ملامح دقيقة لتلك اللغة التى دأب النقاد على وضع السمتين عنواناً رئيسياً لها دون البحث الدقيق عن فنياتها المتشابكة.

أتصور أن سكوت النقد الفنى عند هذه الدعاوى الكبيرة يعوزه استكمالاً أستطيع تقديم إسهاماً متواضعاً فيه، لكنه يحقق السمات العامة للغة التى التقطتها ورصدتها للنصوص التى عرضتها سابقاً وغيرها من النصوص.

 

السمات الفنية للغة المشهد الشعرى فى قصيدة ما بعد الحداثة:

1- لغة تعايش الأضداد :

كيف نفسر هذا العنوان المبهم؟ اللغة لها مواصفات غير مستقرة أو منتهية ويرجع هذا لطبيعة الجماليات التى فرضتها القصيدة والمشهد ما بعد الحداثى وللبحث النقدى الفنى أن يتعامل مع تلك المتغيرات التى ليس لها قواعد محددة وفى مناطق ضبابية.

أ ) لغة السؤال :

-   اللغة هنا صيغة سؤال كامل لا ينطلق من قاعدة ولا يأمل أن يصل إلى قاعدة إيمانية، بل هو تساؤل اللجاج والتأرجح بين طرفى معادلة الجدلية المستمرة القائمة بين توازنات الأضداد وفى مناطق حائرة وقلقة بين حدود الأشياء والمعانى والأفكار فالمشهد قد تبدو لغته تقريرية، لكنه السؤال الكامن خلف التقريرية، السؤال الصريح، والسؤال الذى يستشف من الكنايات التى يتغياها المشهد الشعرى، والسؤال من التراكيب البلاغية التى لا تحسم موقفاً دلالياً ويعد نموذجاً لفوضى القصيدة .

 

ب) لغة النفى أو المحو :

-   يبدو أن التصادم الملاحظ فى أبنية المفارقة فى الديوان الحداثى أكد غواية المشهد الشعرى لهذه الأبنية بوصفها أداة لرؤية العالم من خلال الدراما ما بعد الحداثية، وهى التى تعبر عن تصادم الرؤى والمواقف و تصادم الحضور بالغياب وتصادم الملفوظ بالمفهوم والحياة بالموت، تصادم البوح الإبداعى باليأس من البوح، تشكيل المفردة هنا هادئ ولكنه قاتل، مفردة تميت مفردة بكاتم الصوت فليس هناك مواجهات ساخنة أو معارك ضارية، فبعد قراءة المشهد ينسرب إليك شعور بالعدم، اللغة تمحو ذاتها لأنها ذات ممحوة.

ج) لغة التداخل :

-   وهى تعبر عن حالة من التحولات المستمرة التى يفرضها منطق العالم المادى المتصارع، واللغة المعبرة عن هذا التداخل، لغة ناتئة الضلوع، ثاقبة ذات حواف قاطعة، لكنها متداخلة كالتروس الدوارة، فهناك فوضى عامة، لكنها منتظمة فى العمل الإبداعى على هذا النحو المتداخل، وفىعين مبدعه ومشاهده التى تجتمع فيها الأشياء ومفردات المشهد من متجاورات.

2- لغة الجسد :

-   اللغة فى هذه المشاهد تعد بوتقة يمتزج فيها العشق والحياة والحواس وتتجلى فيها لحظات النشوة فى إستحضار حياة حقيقية تحتفى بالجسد وحواسه واللغة معاً، فيصبح تجلياً حارقاً لحرية الإنسان، وفعلية وجوده وهو يخترق سقف المجتمع وحصار لغته، يصبح وجوداً فى الحياة بمقدار ما هو تحرر من القولبة الفنية السابقة.

-   لغة تجعل ما هو معيش فى لحظة مستمر فى دفق دمائه ووجوده حين يصير إبداعاً مفرداته لغة تقطر من حواس الأنسان.

-   واللغة هنا تمثيلاً صادقاً لأسرار الحياة الداخلية وخبايا الشهوات الكامنة ومباهج الإنسان العادى غير الطامح فى مباهج المتيافيزيقى.

-   الجسد – اللغة هنا – كان أداة من خلاله يتحدث المبدع فى موضوعات شتى عن طريق بلاغة الكناية سواء فى السياسة أو الدين أو الجنس فالتركيب المشهدى الصاعد على أطراف الحواس الخمس عادة ما يحمل كناية تجريدية عقلية غير موثوق بها.

3- اللغة الآحادية التى تحتضن الثنائية والتعددية:

-   من خلال التراكيب اللغوية فى النص نلتمس تلك الثنائيات الضدية بين كيانين مختلفين بالضرورة، وشاغل المبدع ما بعد الحداثى أن يلتقط هذا الاختلاف فى المناطق المتوترة وأن يعبر عنها بإستخدام اللغة البسيطة والمتداولة، لكنها ممتنعة عن البوح الأولى والمباشر. هو إدراك متعدد لمستويات من العالم على نحو له خصوصيته وآلياته، إنه البحث عن الجديد والمغامر فى الأشياء.

4- لغة متشيئة أو متحولة متكونة صاعدة ثم مرتدة :

-   كيف للمبدع أن يلتقط معنى مراوغ مبتكر، إلا بلغة تخلق المعنى فى نفس لحظة تكونه فهو معنى مراوغ لا يلتقط أو يصبح شئ إلا فى النص، إنما لغة صاعدة ومرتدة، رأسية وأفقية، لغة متحركة وفاعلة، لغة متأثرة بتقنيات مشاهد السينما، متحركة على الدوام، حركة ممتدة أو مرتدة إلى الوراء لترصد التحولات الدقيقة فى الأشياء.

-   إن تلك المشاهد وزواياها التى يلتقطها المبدع ليضعها تحت مجهر الإبداع تلك الفروق التى تعبر عن المعانى المتغيرة والمتنامية والمتشكلة حتى فى النص وداخل أروقته، وإن فارقتها تصير معانى أخرى تخص هذا النص المبدع بالضرورة.

5- لغة الذات الجديدة :

-   هى اللغة المهمشة التى لا تأبه بالألفاظ الجزلة  ولا البلاغة المتعالية، لغة يائسة، مهزومة، الانتصار الوحيد فى المقهى، فى الجنس، فى الخمر الرخيص، ذات تسرد ما بالحياة من مفردات عادية، مبتذلة، متعالية أو مجازية نادراً.

6- لغة الصوفية الجديدة :

-   وهى اللغة الحسية التى تتعامل مع الأِشياء بشحذ الوعى بها، الوعى بمفردات العالم، لا تغييبه أو التعالى عليه، الإنصات إلى الأشياء لتصبح أبواباً لعوالم أكثر رحابة و برؤى أكثر تحرراً وغير مألوف التعامل معها على هذا النحو.([44])

 

نتائج البحث

 

1-  الصورة الشعرية تستشف من شبكة العلاقات التى تشكل وجهة النظر الكلية التى تلتقط تلك التفاصيل، سواء بجوارها أو تناقضها أو فوضاها وتحولها إلى عناصر دالة تضئ مشهد الواقع ومعنى التجربة الإنسانية، ما أتصوره أن شعرية الواقع أو المشهد ليست سطحية أو باردة كما تبدو عند القرأة الأولى، إن القراءة الواعية المتسلحة بالمذاهب النقدية والفلسفية المختلفة ستدرك أن هذه المشاهد التى تبدو فوضوية يقصد منها التعبير عن رؤية ما لهذا العالم، هى رؤية جمالية خاصة صنعت تقنيتها التى تعبر عنها، صنعت التجاوز الذى يعتمد الكناية.

2-  تغيَّر مفهوم الشعرية ومفهوم الصورة، وقوضت الصورة القائمة على الخيال والعلاقات الاستعارية إلا نادراً ولم تعد الشعرية قائمة على المتعة بل على الاستهلاك "متعة تاك أوى" أى أن المتعة بقدر استهلاكى للعمل المبدع.

3-  الصورة تعتمد على زاوية الالتقاط التى يختارها أو يركز عليها المبدع وتعتمد التكثيف والاختزال، ولم يعد المجاز التصويرى ولا التناص الأسطورى أو التراثى أو الثقافى هدفاً أو أدوات – إلا عرضاً – لصنع تفاصيل الصورة الشعرية.

4-     التركيز على هيمنة النسبى على الكلى أى الشخصى على الذات الجمعية.

5-     التركيز على الغنى المدهش الذى تنطوى عليه الأشياء العادية.

6-     اعتمادها شعرية الخاطرة وليس هناك خاطرة معزولة أو غير متأثرة بأسباب كبرى، بتجربة أشمل.

7-  الصورة دائماً ما تسجل الواقع، تسخر من مفارقاته غير المنطقية، بل يشوبها عنف يملأ ذات المبدع تجاه الأحداث والأشياء التى تحيط به.

8-     الصورة صورة كشف وليست خلقاً فالمبدع له فضل الالتقاط والكشف لكنها ليست صناعة وتراكيب خيالية.

9-     الأشياء هى أبطال الصورة وليس الأشخاص أو المعانى ومن خلال الأشياء تستبين ملامح الذات.

10-  إن عملية إبداع الصورة تعتمد تقنية السرد التى غالباً ما تستند إلى أسلوب الصدمة والسخرية ووسيلتها اللعب مع الأزمنة والمراوحة بين الماضى والحاضر والمستقبل وما بينهم من أزمنة مركبة، ويبرز التعدد والكثرة فيه من شبه الحوار الحقيقى بين ذات المبدع والأشياء على أوضاعها الفعلية وليس من المجاز وتعدد رؤاه، ويرى مبدعى ما بعد الحداثة أن لحظة التعدد هى لحظة عدم إتزان، ويعرض هؤلاء إلى موضوعات يوميه طازجة دالة.

11-      لغة تشكَّل الصورة ما بعد الحداثة، لغة واضحة وغير معقدة، يجب أن تكون بسيطة حيث الوعى لا النشوة، المحايثة لا التعالى، التجسيد لا التجريد، الرفض للمتشكل المسبق والمنتهى، هى التعبير عن الشئ كما فى حياده الأول، فى شبقيته وفداحته ونكهته الخاصة، فاللغة شبه تقريرية وأقول "شبه" لأنها يشوبها أيضاً بعض الخيال فى صور طفيفة وأكثر هذه الصور أسلوب التشبية المباشر، المفردات مكتنزة بالعبق الحياتىى والديناميكية وهو الوجود البديهى.

12-  صورة تقبض بقوة على لحظة حقيقية غير قابلة للتأويل، من مرجعية أن تأويل العمل الأدبى يعنى التخلى عنه فى صورته المتحققة.

 


المصادر والمراجع

 

1-     إبراهيم داود: يبدو أننى جئت متأخراً، دار ميريت، 2000م.

2-  أمانى فؤاد : المجاوزة فى تيار الحداثة فى مصر بعد السبعينيات، رسالة دكتوراه، مخطوط، بنات عين شمس، 2006م.

3-  أنطوان كمبانيون : مفارقات الحداثة الخمس، ترجمة محمد عضيمة، دار المواقف للنشر والتوزيع، اللاذقية، ط1، 1993م.

4-     أوستين وارين ورنينه ويلك : نظرية الأدب، ترجمة محى الدين صبحى، ط3، 1962م.

5-     بشرى صالح : الصورة الشعرية فى النقد الأدبى الحديث، المركز الثقافى العربى، بيروت، 1994م.

6-     جابر عصفور : "نورمان فريدمان – الصورة الفنية" ، مجلة الأديب المعاصر،  ع16  ، 1976م.

7-     صلاح فضل : قراءة الصورة ، مكتبة الأسرة، 2003م.

8-     صلاح قنصوه : نظريتى فى فلسفة الفن، أكاديمية الفنون، ع11 ، 2005م.

9-     عاطف عبد العزيز : 1- سياسة النسيان، نسخة خطية، 2005م

                            2- كائنات تتهيأ للنوم، دار ميريت، القاهرة، 2001م

                            3- مخيال الأمكنة، دار هامش، ط1، 2005م      

10-          عبد العزيز حموده :  1- الخروج من التيـة، دراسـة فى سلطة النص، عالم

                                 المعرفة،ع 289  ، 2003م.

                            2- علـم الجمـال والنقد الحديث، الهيئة المصرية العامة

                                 للكتاب، 1999م.

11-            عبد العزيز موافى : قصيدة النثر من التأسيس إلى المرجعية، مكتبة الأسرة، 2006م.

12-            عبد القاهر الجرجانى : أسرار البلاغة، تحقيق الشيخين محمد عبده ومحمد الشنقيطى، دار المنار، ط2

13-            عبد المقصود عبد الكريم : الحلم والإبداع، الجراد، ع1 ، 1994م.

14-            عبد المنعم تليمـة : الشعر ينبئ ويتنبأ (2)، مجلد إضاءة 77.

15-            عدنان حسن قاسم: الإبداع ومصادره الثقافية عند أدونيس، الدار العربية للنشر والتوزيع، 2000م.

16-            على عشرى زايد : عن بناء القصيدة الحديثة، مكتبة دار العلوم، ط1، القاهرة، 1987م.

17-            كمال أبو ديب  : اللحظة الراهنة، فصول، مج 15، ع3، 1996م.

18-            مجموعة فولفين : الشعرية الأوربية وديكتاتورية الروح، ترجمة ظبية خميس،

                          أتحاد كتاب وأدباء الإمارات، الشارقة، 1993م.

19-            محمود قرنى : 1- الشيطان فى حقل التوت، دار ميريت، القاهرة، 2003م

                       2- قصائد مثل الخديعة، الكنز، نسخ خطية.

                       3- هواء لشجيرات العام، كتابات جديدة، الهيئة المصرية العامة

                           للكتاب، 1998م.

 

                

 

 



[1] - عبد القاهر الجرجانى : أسرار البلاغة، تحقيق الشيخين محمد عبده ومحمد الشنقيطى، دار المنار ط2، ص33

[2] - جابر عصفور : "نورمان فريدمان – الصورة الفنية" ، مجلة الأدب المعاصر، ع16، 1976م، ص31

[3] - السابق : ص33

[4] - بشرى صالح موسى : الصورة الشعرية فى النقد الأدبى الحديث، المركز الثقافى العربى، بيروت، 1994م، ص3.

[5] - أوستن وارين ورينه ويلك : نظرية الأدب، ترجمة محيى الدين صبحى، ط3، 1962م، ص240.

[6] - صلاح فضل : قراءة الصورة، مكتبة الأسرة، 2003م ، ص14

[7] - على عشرى زايد : عن بناء القصيدة الحديثة، مكتبة دار العلوم، ط1، القاهرة، 1987م، ص74 ، 86

[8] - أنظر عبد المقصود عبد الكريم : الجراد ، الحلم والإبداع، ع1، 1994م، ص13 ، 180

[9] - انظر عدنان حسين قاسم : الإبداع ومصادره الثقافية عند أدونيس ، الدار العربية للنشر والتوزيع ، 2000م، ص79 - 206

[10] - عبد العزيز موافى : قصيدة النثر من التأسيس إلى المرجعية، مكتبة الأسرة، 2006م ، ص234

[11] -  انظر على سبيل المثال دواوين محمود قرنى : "الشيطان فى حقل التوت، هواء الشجرات العامة ، والنسخ الخطية لقصائدى الأخرى"

[12] - انظر  أمانى فؤاد : المجاوزة فى تيار الحداثة فى مصر بعد السبعينيات، رسالة دكتوراه ، مخطوط، بنات عين شمس، 2006م، ص216 : 219

[13] - صلاح قنصوه : نظريتى فى فلسفة الفن، أكاديمية الفنون، ع11، 2005م ، ص96

[14] - بشرى صالح موسى : الصورة الشعرية فى النقد الأدبى الحديث، المركز الثقافى العربى، بيروت، 1994، ص56

[15] - عبد العزيز حمودة : علم الجمال والنقد الحديث، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1999م ص150 : 173

[16] - أنظر عبد العزيز حمودة : علم الجمال والنقد الحديث، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1999م ص163

[17] - أنظر عبد المنعم تليمة : الشعر ينبئ ويتنبأ (2)، مجلد إضاءة 77، ص89 : 94

[18] - عاطف عبد العزيز : مخيال الأمكنة، ص56 : 58

[19] - عاطف عبد العزيز : مخيال الأمكنة، القصيدة "سريرة لاثنين" ص54 : 85

[20] - كمال أو ديب : اللحظة الراهنة، فصول ، مج 15 ، ع3 ، 1996م ، ص16

[21] - عبد العزيز حمودة : الخروج من التيه، دراسة فى سلطة النص، عالم المعرفة، ع 89 ، 2003م ، ص107

[22] - عاطف عبد العزيز : مخيال الأمكنة، ص32

[23] - انظر مجموعة نولفين: الشعرية الأوربية وديكتاتورية الروح، ترجمة ظبية خميس، اتحاد كناب وأدباء الإمارات، الشارقة، ط1993م

[24] - إنطوان كمبانيون : مفارقات الحداثة الخمس، ترجمة : محمد عظيمة ، دار المواقف للنشر والتوزيع، اللاذقية، ط1، 1993م، ص70

[25] - صلاح قنصوه : نظريتى فى فلسفة الفن، ص101

[26] -  عاطف عبد العزيز : كائنات تتهيأ للنوم، دار ميريت، 2001م، ص33 ، 34.

[27] - محمود قرنى : الشيطان فى حقل التوت، ص102 ، 103

[28] - إبراهيم داود : يبدو أننى جئت متأخراً، ص88

[29] - عاطف عبد العزيز : مخيال الأمكنة، ص66 ، 67

[30] - عاطف عبد العزيز : سياسة النسيان، غيمة فى هليوبوليس، 2003 م، نسخة خطية.

[31] - إبراهيم داود : يبدو أننى جئت متأخراً، دار ميريت، 2000م ، ص98

[32] - عادف عبد العزيز : سياسة النسيان، قصيدة عطر امرأة، 2007م نسخة خطية.

[33] - محمود قرنى : الشيطان فى حقل التوت ، قصيدة الكلاب، ص15 ، 16

[34] - إبراهيم داود : يبدو أننى جئت متأخراً، ص17

[35] - عاطف عبد العزيز : سياسة النسيان، قصيدة الغروب فى إشبيلية، نسخة خطية

[36] - محمود قرنى : الشيطان فى حقل التوت، ص56 ، 57

[37] - إبراهيم داود : يبدو أننى جئت متأخراً، ص84

[38] - إبراهيم داود : يبدو أننى جئت متأخراً، ص69

[39] - عاطف عبد العزيز : سياسة النسيان، آخر الليل، 2001م، نسخة خطية

[40] - إبراهيم داود : يبدو أننى جئت متأخراً، ص42

[41] - السابق ص60

[42] - محمود قرنى : الخديعة، نسخة خطية

[43] -محمود قرنى : قصيدة الكنز، نسخة خطية.