مقالة في رواية (إجازة تفرغ)

بحر الإشارات

السيد فاروق رزق

"أي نوع من الخاطئين أنا، وأي نوع من الاعتراف أستطيع. أمام مينوس الذي أعترف أمامه. وما هي الحلقة التي سيحددها لي بالضبط بعدد مرات التفات ذيله. إن وعي واعترافي بالخطية يجعلني في الآن نفسه مينوس، وحلقة الجحيم نفسها، وهذا التكرار المستمر المضني الموجع للخطيئة نفسها، ومع هذا فها أنا أريد أن أنسكب فلا أدع شيئاً يقال..." [ص178 ] من رواية "أجازة تفرغ" لبدر الديب
  
أنواع الخاطئين
أي نوع الخاطئين أنت؟
تبدأ "إجازة تفرغ" بأتباع الخط الوهمي بين الهو وبقية الضمائر، فالهو. فنان مبدع. صانع، نعرف فيما بعد أنه كان كاتب الأوراق أو المذكرات، أي أنه بينما كان يدون تجربته في محاولة الخروج من الحصار، ومجاهدته في إنجاز عمل فني في النحت، أبدع فنا اخر بكتابة هذه المذكرات. يفصل الخط بين الفنان و "العابرين المارين"، و "الناس" في حركتهم الدائبة وعجزهم عن الفعل أو الصمت والإنصات "لطبول الليل عندما يحضر".

إننا نتعرف علي الفنان من خلال المكان "البيت" ثم نعيش معه تجربة خلق وإبداع لعمل فني يشار إليه بأنه الكتلة، هذه التجربة لا نعيشها كحلقات زمانية او بترتيب كرونولوجي انما، إنما يبدو أن لتعاقب أوقات النهار قيمة تشكيلية وذلك بتغير الإضاءة المسلطة علي الكتلة، أننا لا ننتظر ساعة محددة يتم فيها العمل، وإنما تلك اللحظة التي يرغمه فيها العمل الفني "علي أن يجلس إلي جانبه وهو صامت.." هكذا فقط ندرك ويدرك هو ـ الفنان ـ أن العمل قد "انتهي". هذه النهاية تعني اكتمال العمل الفني، أي تحقيق الكمال لوجود ناقص بطبيعته، وإضفاء القيمة عليه، وهو ما يعني تحقق فعلي للأخلاق. إذ يكتب الفنان "أعتقد أن أقصي ما يتطلع إليه الإنسان وأرقى ما يمكن أن يصل إليه هو أن يصنع. أي أن يضع شيئا أخر أمامه قد صنعه هو. بهذا تتحقق الأخلاق فعلاً".

إلا أن لحظة الكمال هذه تعني السكون والصمت، أي الوصول إلي حالة نفي لكل حركة خارج الكتلة، ولكل صوت خارج دائرة الصمت الإبداعية (صمت الكتلة/ الكتابة). الإبداع الفني في النحت كالكتابة وجود آخر يختلف ـ (هل بالضرورة؟)عن وجود الصوت (أو الكلام الذي يرتبط بآخرين متكلمين أو مستمعين، ويخلو من الحركة [ما أسرع الناس للحركة..])، والحركة نقص وتشويه للمكان لأنها تتضمن أبعادا زمانية (ماضي ـ مستقبل) أما المكان فهو الحاضر "الحاضر الذي هو فن يسيطر علي الماضي والمستقبل. كل ماضي إذا دخله المرء لا يخرج منه وكل مستقبل إذا تطلعت إليه الروح لا تعود ترجع. في الحاضر وحده تصنع القيمة إذا صنعت في العمل. والفن حاضر دائم" لكن الحاضر الدائم في الفن ـ أو للفن ـ و"الحركة الدائبة الثابتة" للكتلة و "طبول الليل" و "الحركة الخفية" التي يصنعا السحر كلها وجود خارج الزمن او جزء من ذلك المستحيل الواسع اللا وجود. أما مفردات اللغة/ الكلام وأنواع الحركة الخارجية وكل الأشياء التي تدور في إطار الزمن فمقضي عليها جميعاً بالزوال إذ ما يكاد وجودها يعبر الحاضر حتى يبتلعها ذلك الماضي: اللوسيفر أو الشيطان الضخم الذي يرقد في قاع الجحيم/ قلب الوجود(1) .

أي نوع من الماضوية ذلك الذي يخشاه الراوية؟
إن خطر الزمانية لا يمكن أن يكون متعلقاً أبداً بفن النحت، فالفنان هنا إما أنه يعمل وينتج فنا هو بالضرورة غير مرتبط بأي زمانية، أو أنه لا يعمل وبالتالي فهو خارج إطار الفن ويعيش زمانه الفردي الخاص. ومن ثم فان مخاوف الفنان من الزمن، وتعليقاته المتعددة على الزمانية، تتعلق في الغالب بدورة كراوية، أو ككاتب للمذكرات، فالكتابة هي التي تعرف ذلك الانتقال أو ربما التعثر بين الأزمنة

فالكتابة عن "زمن" ليس هي بالفعل ذلك "الزمن" نحن نكتب عن شيء حدث أو يحدث، أو قد لا يحدث أبدا. نكتب عنه ـ لا نكتبه هو نفسه ـ بل إننا نضيف إليه علاقة/ علاقات زمانية أخري، علاقته بزمن الكتابة وأزمنة القراءة/ إعادة الكتابة وعلاقته بأزمنة الكلمات: التاريخ الخاص لكل كلمة والصور والأساطير وتقاليد الأجناس الأدبية، وكل ما كان حاضرا بالغياب في النصوص اللاحقة به/ السابقة عليه. كل هذه الأزمنة تظل كامنة في العمل الفني حتى تفجرها جميعا لحظة التلقي، حين يتحول ما كنا نظنه "سكون الكمال" إلي حركة الاكتمال و"صمت الليل" إلى "طبول الليل" وطبول السحرة إلى عزائم تصنع "الحركة الخفية".

لكن بينما تبدو محاولة الملتقي لتحقيق الاكتمال ممكنة دائماً، بإعادة صياغة ما أبدعه الآخرون يصعب على الفنان أن يستمر فيإدعاء تحقيق الكمال ومعرفة المستحيل بما أنجزه. إنه لا يستطيع أن يستمتع طويلاً بما قد تم أو اكتمل، فهو يعرف أن ما ينتهي منه قد صار له وجود مستقل منفصل عنه، وأن عليه أن يبدع شيئاً آخر، فيتكرر الألم نفسه ويطارده الخوف الدائم من السقوط في فوهة الماضي الحركة/ الكلام.

"فليصمت. ليصمت لأن هناك نوعاً آخر من الغروب والليل يقدم عليه، إنه غروب في البدن وليل في القدرة".

"إنها قضية العودة والاستسلام لحفر المراقد والطلب من الزمن أن يرفع قبضته عنه، وعند ذلك تصمت كتلته حتى لا تتنفس، ويتمني أقصى ما يتمنى أن يرسم في الحلم"

ليس الغروب هنا هو الغروب الذي أتم فيه كتلته، ولا الليل هو ليل السحر، الذي تحيلنا طبوله لذكرى "الأقسام والعزائم" فألوان هذا الغروب تبدو وكأنها "فساتين ملونة لامرأة في حي شعبي" وسكون هذا الليل استسلام وسقوط أمام الزمن، إن ألوان الغروب تهدد الفنان لأنها مألوفة ومغرية إلى حد التبذل كما أن مفردات اللغة/ الكلام تهدد الفنان/ الكتابة بالتكرار والألفة ومحاكاة الوجود الإكليشيه.

لكن الصراع هنا يبدو محسوماً في أغلب الأحيان لصالح الفن ـ الكتابة، ولذا يبدو "غروب" قدرة الفنان وتعثر الحكاية قيمة تشكيلية في النص.

"بدأت هذه الليلة بالغروب وكأن الغروب لا يحدث كل يوم".

"إنه يعرف أن هذه الكتلة إذا كانت تنتمي إليه، فإنها تجعله شيئاً آخر أقوى من الغروب ومن الليل ومن النجم أو النجوم العالية، ليس أقوى ولكنه مغاير".

"كيف أدرك الطفل كل هذا الحجم من العلاقات وكل هذا الحد من تاريخ والمعرفة، لم يحدث في لحظة ولم يتكامل في لحظة، بل لقد يكون حتى الآن..".

كأن العبارة الأخيرة في كل واحدة من هذه الاقتباسات الثلاثة استدراكاً(2) جاء ليخرجنا من طقس الحكي ووهم الحضور ويعيدنا لحاضر السرد وحقيقة الغياب/ الكتابة. فبينما تبدو العبارة الأولي "بدأت هذه الليلة بالغروب" افتتاحية تناسب إطار الحكاية، وتدفع بنا إلي السقوط في وهم الزمانية، تقوم عبارة الاستدراك بتحطيم هذا الوهم، وتفجير البنية الدلالية المألوفة إذ تضع تراث القول/ الحضور الذي تستدعيه (الافتتاحية) موضع تساؤل وشك، ولكن دون أن تحيله للعدم.

إن بقاء القول ـ الذي تصارعه الكتابة ـ ضروري لأنه يستدعي لغة أخري ومستويات مغايرة في الكتابة، إذ أن العبارة اللاحقة/ الاستدراكية تعيد موضعة اللغة/ القول وتحصرها بين قوسين، لكي تشير بقوة ـ لا بوضوح ـ إلي كونها كتابة أخري أو نص مغاير.

إن كل استدراك يدفع بنا إلي الشك فيما قد قيل، ويضع ما تم استيعابه في دائرة الالتباس، ويبدو الاستدراك نفسه متعدد الدلالات محطماً لغة الحضور ـ كلام الكاتب أو الرواية في زمان الحكاية ومفجراً للغة الغياب (صمت الكتلة أو إيحاء اللغة/ الكتابة) "لم يحدث في لحظة، ولم يتكامل في لحظة بل قد يكون حتى الآن.."

أي زمن هذا الذي تشير إليه لفظة "الآن" قد تشير هذه "الآن" للحظة معينة في الحكاية، أو للحظة في الكتابة، أو للحظة القراءة (التي تظل حاضراً دائماً ومفتوحاً لعدد لا نهائي من الاحتمالات). كأن هذه "الآن" هي زمن الوجود الداخلي أو لا زمانيته. "هل هذا ما يعنيه بأنه لا يعيش في زمن أو بزمن.. الابن زمن والزوج زمن، والمواطن زمن، والسياسي المذهبي زمن، ومدعو الرسالات زمن، والقوال للمعاني والوضاع للقيم زمن، فقط الفنان مكان، وفارق كبير بين أن يكون المرء في مكان وبين أن يمر عليه زمان ـ شروط المكان متمثلة داخله في الذات... أما شروط الزمان فكلها خارجة عن الذات..."

أليس في الاعتراف "بالخطيئة" والولوج في الذاكرة، خضوعاً "لشروط الزمان" أو اعترافا ضمنيا باستحالة الخلاص دون التعرف علي خطيئة الذات وماضيها الذي كان "قبل الخطيئة"؟.

"لست أدري كيف تبقى في ذاكرتي من ذاكرة الطفل هذا الإحساس والمعرفة بالقصر إلي جانب هذا القوام الطويل الممشوق في الجلباب الأبيض.." إنها ذاكرة مشغولة باللون والحجم أو الكتلة، ذلك لأن "التذكر هو في جوهره تكرار الاختيار القديم للرؤية. مرة أخرى ترى ما كنت ترى وما اخترت أن تراه، لهذا لا أري كل شيء".

كأن الذاكرة تحوي صوراً فقط، لا علاقة بينهما، لا تعاقب أو ارتباطا من أي نوع، صوراً تمثل كل واحده منها حاضراً قائماً بذاته ومنفصلاً عما سواه.

هل يمكن أن يكون أي واحد منها "تكرارا للاختيار القديم" أم أن التكرار نفسه مستحيل؟ لأنه يتضمن وعياً بالاختيار القديم قائماً في الذاكرة كامتداد ماضوى له.

"انك لا تستطيع أن تمارس التذكر إلامع الصور، أما إذا بدأت تحاول أن تحكي فأنت تصنع شيئاً مفتعلاً لا وجود له في لحظة محددة لأنه مصنوع في العقل، وليس في العين" ص 6..

لماذا هذا التحديد وتلك القسوة في رفض كل ما هو خارج حدود الرؤية ـ الصور؟ هل لأن العين هي الشرفة التي يطل منها الإنسان علي العالم، ويعتقد أن ما يراه بالفعل الوجود، أم لأن العين قادرة علي الفعل بطبيعتها، العين هي الراعية المحبة والحاسدة المدمرة، هي أداة الرؤية ـ القراءة ـ المعرفة، وهي أكثر الحواس قدرة علي الخداع، في العين تتراقص الأوهام والهلاوس ويتشكل الحرف كما يتكون السراب، العين هي مواطن الغواية، فاتحة الهوى وقداحة الشبق. "وأنا صغير جداً رسمت بأصبعي من كحل أمي.. أنني أتذكر هذه اللحظة كما أتذكر لحظات استكشافي لجسمي وللسائل الذي يخرج مني، واللحظات التي ضبطتني أمي فيها أصطدم بوعورة وعنف مع البدن" ص 15.

هي البداية في الفن كما في الجنس، الأصابع والعين، تتحرك الأصابع في اتجاه المادة/ الجسد، ولا تتوقف العين عند حد تلقي ما هو مرئي، بل تختار وتصنع مما حولها رؤاها الخاصة فيصبح "المتخيل" مشاركاً للمرئي، بل قد يغدو المرشد والدليل وربما الغاية أيضاً.

وفي الفن كما في الجنس، يبدو وجود الآخر أمراً ثانوياً، بل الوجود كله مسألة ثانوية، لأن الأساس هو المتخيل، أي اللاوجود أو "الوجود المقابل"، "مقابل ليس بمعني مشابه أو مساير أو محاكي ولكن بمعني وجود آخر، وليس بالضرورة مغاير بل أنة أقرب لأنه يكون امتداداً من ناحية للوجود نفسه ومن ناحية أخري هو وجود آخر تتجسد فيه القيمة التي لا يعرفها الوجود إلا من الوعي أو الاستعمال".

لكن هل الفن "امتداد للوجود من أية ناحية"؟

أيمكن أن نعتبر الفن بعد كل هذا ـ فرع من أصل، استثناء من قاعدة أو شذوذا من سياق الوجود الطبيعي. إننا لا يمكن أن نعتبر الحركة الخفية التي يصنعها السحر شذوذاً عن قوانين الوجود، أو استثناء منها إلا بإغفالنا إمكانية أن يكون (الوجود) نفسه استثناء من اللاوجود. (الوجود دالة غير محددة، إحدى الدوال الطافية، حتى إذا قلنا إنه "الجوهر وراء كل عنصر". فإننا نحيله إلي دالة أخري، كما أننا يمكن أن نفعل الشيء نفسه مع الفن، المهم هو المنظور، موطن الرؤية هو الذي يشكل/ يعيد تشكيل القاعدة والاستثناء، الطبيعي والشاذ، الأصل والامتداد.

مرة أخري المرئي/ المتخيل هو الذي يصنع التجربة (الفن/ الوجود المقابل)، كانت المادة الأولي لصناعته "الكحل" (عين + أنثي) وكانت لحظة الإبداع الأولي مرتبطة بلحظات المعرفة الجنسية الأولي (عين+ كتلة "جسم ـ سائل ـ بدن") وفي المرتين كانت المرأة الأم/ الإله هي التي ترى، في المرة الأولي "ضحكت" وفي الثانية "ضبطتني" ولنا أن نتخيل الغائب وراء كلتا اللفظتين.

ألم يكن رد فعل المؤسسة/ السلطة تجاه "لعب" الفنان موزعاً بين هذين الاتجاهين ـ لقد كان مقبولاً منه أن يرسم "إسكتشات" وأن يمارس الفن في حدود هذا اللعب. أما حين يمارس الشذوذ ـ هل هو بالفعل الفن الحقيقي؟ -في "عودة الفجر" أو في علاقته بحسنية، أو في الكتابة ـ كإنشاء سردي لا "كحكي دون فن" ـ هنا علي المؤسسة أن تضبطه. هنا كان على ممثل السلطة رئيس التحرير/ وردان/ زوج حسنيه أن يتدخل، لأن الوجود/ الإكليشيه/ الواقع قد أصبح مهدداً.

كالأم ورئيس التحرير كان وردان خطراً علي الفن/ الكتابة.

"فعلي الرغم من أنه الرؤية والعين التي أبصرت، فإنه اللعنة التي تحيل الفن حكاية والتي تجعل من الشكل معنى، ومن اللون والحركة مغزى، إنه العدم الذي يأكل الوجود، وهو الدلالة التي تنتهي عندما الكينونة".

مرة أخري نجد أنفسنا أمامالعين، العين التي تبصر وتثبت وتدين. أطلق وردان اللعنة وأصدر حكم الإدانة الذي أصدرته الأم من قبل "سميحة بتموت يا حسن وأنت السبب"، ونفذ زوج حسنية الحكم أو ربما أعاد تنفيذه، لكن هل كان الأمر مقدراً، أو كأي عمل فني جاء "حصيلة" مجموعة من المصادفات "أم هو اختيار واع ومحدد؟".

إن الفنان عندما يتمسك بمبدأ الضرورة في الفن بشكل يذكرنا بالضرورة التي تحكم إله سبينوزا، فكما أن الإله عنده لا يمارس أي فعل حر خارج إطار الضرورة التي فرضها على نفسه، فإن الفنان أيضاً يمارس الإبداع صراعاً ومجابهة مع ضرورة ـ ليست مطلقة أو مسبقة ـ وإنما هي ضرورة حية ومتجددة لا تولد فقط مع كل عمل فني جديد، لكنها تولد وتتجدد مع كل تجربة تلقي لنفس العمل الفني، أو لأي عمل فني آخر. لم تأت هذه الضرورة كما لم يظهر العمل الفني نفسه من العدم، لكنها (كانت) مضمرة في كل النصوص السابقة واللاحقة. و"كانت" هنا لفظة زائدة تفرضها ضرورات اللغة/ الكلام، إذا لا محل للزمانية في تناول أي عمل فني، إذ كل عمل فني، هو في حال من اللاوجود حتى تأتيه لحظة التلقي، فيدخل هو وكل الوجود في جدلية الحضور/ الغياب. 

قبل/ بعد الخطيئة
ليس هناك نص أصلي، فالنص بتعبير جوليا كريستيفا: "عبارة عن فسيفساء (موازيك) من الاقتباسات" كل نواة في العمل الفني هي جزء من نص آخر، نص غائب يكتبه العمل الفني الحاضر في اللحظة نفسها التي يتخلق فيها أو في لحظة تلقيه.

ضمن الأقنعة العديدة التي يرتديها الراوية يلفت انتباهنا إيحاءات تلك الأقنعة الثلاث ميدوزا ومينوس وتشابنيوس(3).

إن "عينه مسحورة أو ملعونة تجمد الناس وتثبت الأشياء وتجعله ينظر وينتظر"

كيف يحجب عن الخارج وعن البشر لعنة عينية التي تسخط كل شيء وتجمده؟، إن عيني الفنان توقفان الحركة، او ما اصطلحنا في لغة الكلام علي تسميته بتدفق الحياة. تلك الحركة التي تندفع فيها الذات بسرعة فتتحول ـ كما يحدث عند دوران أي جسم بسرعة هائلة ـ إلي مجرد تموجات متلاحقة ومشابهة للمجموع الذي يتحرك الحركة نفسها، حتى يتحول (الكل) إلي مجرد أمواج، قد تكون عينا الفنان هما عينا ميدوزا ـ البشعة ـ التي (تجمد) كل كائن حي/ كل حياة، لكن ألا تبدو عيون الآخرين أيضاً ميدوزا التي (تسخط) الفنون جميعاً إلي تموجات متشابهة أو سلع للاستهلاك اليومي... أو بعض من "حياة"، "مسخوطة"، "بالمحاكاة".

ألم تكن تماثيل الفراعنة ـ وإلي وقت قريب ـ تدعي بـ "المساخيط"؟ بل أليست الميثولوجيا الشعبية حافلة بحكايات أناس مارسوا الشذوذ، أو انغمسوا في الخطيئة حتى غضب الله عليهم "فسخطهم"؟ أليس "المسخوط" هو ذلك النتوء الشاذ الذي ترفضه الجماعة/ الإله ويخشي كل أفرادها أن يكونوه؟

ميدوزا النص، ليست قناعا يرتديه الراوي وحده، بل إنها علامة طافية في النص، الأم ولويزا وحسنية هن الجورجونات الثلاث، أو ربما الفيوريز، لكن كل واحدة تلعب في سياق خاص ـ دور ميدوزا، أنها تهدد بالرؤية ـ بعينيها ـ أن "تسخط" الفنان.الراوي. النص، كأن كل واحدة منهن كالحياة.. كالذاكرة.. كالنكسة تهدد بوضع دلالة محددة للنص، كل عين/ أنثي لها لعنة كالتي للفيوريز، وقدرة كقدرة مينوس على الإدانة وتحديد العقاب. "ألم تطلق الأم حكمها بالإدانة".. "أنت السبب".

".. بقيت الكلمة ولم تنته حتى بعد أن رحلت سميحة وانتهت أمي أيضاً". كأنها حلقة الجحيم التي اختارتها له أن يظل دائماً "السبب" وأن يبقي السؤال الحائر في كتابته طافياً دون اجابة ـ ودون أمل في واحدة ـ "في ماذا؟".

"فهل أنا شرير معاق لأنني أعوق نفسي وأرتكب الشر واصطنع الإعاقة، أم أنا أريد الشر والإعاقة بطبعي لأنني في الأصل والبداية شرير معاق لا أريد للوجود أن يتحقق"، ص111.

أهذا العذاب هو الجحيم الذي اختارته له الأم فقط، أم أنه إدانة لويزا أيضاً وراءه (كذاب.. كلب). وهل جاء العقاب/ الحصر من كل هذه الإدانات، أم أنه قد سعي كي يدان ويستحق بإدانته هذا العقاب قالت حسنية: "ده أنت راسم حكاية". فهل جاءت إدانة حسنيه مفاجأة" لم أكن أتوقع أبدا أن اسمع كلمة حكاية منها. "أم أنه كان يريد هذا الحكم أو ربما يريد تأكيد الحكم السابق".. أنت السبب "وهل الحكم مقصور علي تلك اللوحة، أم أنه متصل بحكايا أخري في" إجازة تفرغ "حكايا لم تصبح" فعلاً مستقلاً له وجوده الخاص "وإنما ظللت تشير أو تحيل إلي التاريخ، كأنها هي نفسها حالة من حالات الحصر، يعجز فيها النص ـ رغم امتلاك القدرة ـ عن ابتلاع الواقع".

هل نرتدي نحن أيضاً قناع مينوس؟

التأويل هو خطيئتنا جميعاً، والعقاب هو تكرار الفعل، تأويل التأويل، دون توقف أو انقطاع، وبلا أمل في الخلاص أو الغفران ـ أهو مصير تشابينوس أيضاً الذي نتعرف فيه علي أنفسنا، ويتوحد به الفنان ـ الراوية ونتساءل معه: أي تجديف ارتكبتاه؟ هل يكمن التجديف في محاولتنا تجاوز الكتابة بحثاً عن "الخفي والضروري والجوهري" أي عبور الفن نحو "الوجود" أو لأننا نشارك الراوية بحثه في "صور" الذاكرة فتضيع منا صورة الخلق في اكتماله وتفرده تبتلعها متاهة الأحداث، الشخصيات والخلفيات التاريخية.. الخ، ووهم مشابهة الواقع، ويتبدد الحضور الحقيقي للكتلة في "الكلام" عن الفكرة الغائبة و "أصوات" ضربات الأزاميل في الحجر. أم أن الخطيئة في أن هذا كله لا يحدث. في أن التجديف يتم في حق الآلة "الوجود"؟ في أننا نشارك الفنان في تصوره لضرورة العزلة، سواء كانت "العزلة عن الناس" أو "عزلة لهم" فالعزلة كالانتحار.. أو لم تكن نهاية الفنان نوعاً من الانتحار؟

إنها حكم ضمني علي الوجود كله بالعدم حتى لو كانت وسيلة تنفيذ هذا الحكم هي إعدام الذات ـ فهي الانتحار نفي للوعي الذي بدونه يستحيل الوجود إلي مجرد عدم محض غير أن العزلة متعددة الأبعاد. فهي لا تحل التناقض بين الذات والوجود، لكنها كالعادة السرية، تتيح للذات أن تمارس حريتها مع آخر متخيل، آخر لا يوجد في الوجود، إنما تصوغه هي وتعيد تشكيله، الاعتزال يتضمن قدراً من التكبر قد لا يعرفه فعل إنساني آخر، كالانغماس في ممارسة جنسية مع الذات فهل "كبرياء" الفنان أو تكبره هو الهوبريس ـ أو العيب التراجيدي ـ الذي فرض ضرورة أن يلقي تلك النهاية المأساوية؟ أنه خطأ إبليس أو شيطان ميلتون وفاوست جوته ويوليوس قيصر... والرواية يشارك كل واحد من هؤلاء جانباً من مأساته، أو قناعاً من أقنعته، فهو مثلهم جميعاً. أو هو هم أنفسهم ـ ولكن ليس كأحد منهم.

فحسن عبد السلام لا يمثل بطلاً مأساوياً ـ أو حتى بطلاً من أي نوع ـ في هذا النص لان البطولة الحقيقية هنا مقصورة هنا علي الفن، لكن الرواية ـ يتوحد بمأساة الفن الذي يعيشه (أي الفن الذي يعيشه الراوية أو الفن الذي يعيش الراوية).

* * *

هل الفن شيطان يأبى السجود للواقع؟
هل يظل الفنان عند هذه الحلقة من الجحيم ـ منقسماً علي نفسه، يعيد نفس الاختيار، ومع ذلكيظل عاجزاً عن تحقيق انتماء تام لطرف دون الآخر، وعن تحديد اختيار نهائي يحيل به أحد طرفي التناقض للعدم.

يقول له الصوت الآخر الكامن فيه المتمرد عليه "أنت مغرور جداً ومنقطع عن الناس ومبتوت الصلة بالجماهير وكل أحكامك عليهم هي نتيجة عجز عن الدخول إلي الواقع. أنت تريد أن تحيا مستريحاً تنحت وترسم وتقرأ وتحب في الخفاء".

هذا الصمت يردد نفس الكلمات الإكليشيه عن "الناس" و "الجماهير" و "الدخول إلي الواقع" وكأن الفنان بإعادة كتابته لهذه الاتهامات، أراد أن يوحد بين الادعاء الموجه ضده، والإدانة علي الفن/ الوجود المقابل.. "نوع الفن الذي أرتكبه وأحاول أن أصنعه، ولا أكاد أستطيع أن أحاول أو أن أصنع غيره". ومن ثم تبدو لغة الإدانة في الفقرة السابقة بارودي parody، أو محاكاة لغوية ساخرة للغة الإكليشيه التي سادت حياتنا الثقافية في حقبة ما، وما زالت بقاياها كامنة في رؤوس الكثيرين وبينما اعتاد تراث "الواقعيين" علي تصوير الحالة الفردية انعكاساً لحالة جماعية، أو لحالة المجتمع ككل، نجد الراوية يقدم العكس، فيرى حالة الجنود علي الجبهة وربما حالة مصر كلها في فترة الاستنزاف "حالة من الحصرجعلتني أري نفسي علي نطاق أوسع وكأنني صورة مكبرة "لما حدث علي الجبهة".

لقد قامت نفسه لتفصل بينه وبين كل ما حوله، فلم يعد يرى صوراً لتلك الذات، حتى الفن بدأ يختفي تحت طبقات الخطيئة ـ لم تعد ضرورات العمل الفني هي التي ترسم له المسار، بل لقد أصبح أشبه بالإله المستبد ـ المطلق الحرية ـ الذي يختار دون قانون أو ضرورة ويقرر بشكل سافر .. "ها أنا أحكي دون فن.. ما حدث".

هل يكمن هنا السبب (الحقيقي) للشعور بالخطيئة، هل هو ذلك الشغف الإنساني والولع النيتشوي بأداء دور الإله؟ أهي خطيئة الفنان وحده.. أم هي خطيئة الفن أيضاً؟ ألا تكمن الخطيئة في نوع الوجود الذي يحاول الفن أن يبتلعه أو يقتات عليه، بينما يعمد هذا الوجود نفسه للتطفل علي الفن وامتصاصه.  

".. أين قرأت عن هذا النوع من السمك الذي يأكل أنواعاً أخرى من السمك فيصبح في شكلها.فهو هي وليس نفسه. موصول متصل بما حوله وبواقعه ولكنه منفصل منعزل خفي عنه فيه".

إن النص يجتاز ـ بل يبتلع ـ الحصر بينما تتعثر الحكاية فيه، أو ربما نتعثر نحن فيها، ونظن أننا بنهايتها نحيط بالنص، ونلم بأطرافه ـ كما يقولون ـ فما هي تلك النهاية التي وصلنا إليها أو وصل إليها الفنان مع حسنيه/ بياتريس، أو بها. هل هي ما يرفع عنه الخطيئة، أم أنها هي نفسها أو وجوده معها جزء من عقابه المستمر المتصل؟ "استطيع أن احل نفسي من الصمت ومن الخطيئة وأن أحمل نفسي لأخرج وحدي لأغرق روحي وبدني في حسنية حتى ولو كان (عليها الدم)".

أهي بياتريس التي ستصحبه إلي البراديزيو (الفردوس)، أم هي فرانشسكا التي سيبقى بجانبها، يسبحان في الدم ويتعذب كل منهما بوجود الآخر جانبه، بوجودهما مثبتين في اللوحة/ الحكاية، أهو الحكم الأخير الذي يصدره مينوس/ الراوية والحلقة التي اختارها لنفسه من بين حلقات الجحيم، أم هو صعود الفنان كي يصبح هو نفسه الأب/ الإله حتى لو لم ير أحداً غيره ذلك. هذه النهاية كالقرص الذي صنعه الفنان من الجبس وتركه غير مكتمل، بينما ظل يراه "مكتملاً ومصنوعاً من البرونز المذهب". "إن عملي الكامل سيظل غير كامل إلا في عيني".

إن الـ "عين" وحدها هي التي تصنع الكمال، الجمال في عين الرائي، الاكتمال(الحقيقي) فمعناه النهاية.. موت الأنثى/ الفن.

"عندما تتم المرأة كما يتم العمل تغادرها الروح ويغادرها الفنان لأنها قد كملت"، أما الكمال الحي، فهو حاضر دائم لا لحظة تمر بك وتعبرها إلي غيرها، إنه اكتمال يتحقق باستمرار، لا كمال تم وانتهى.ولعل التذييل الأخير للناشر هو النهاية التي تفرض عدم الاكتمال إذ تدعوك بأكاذيبها التي يبذلها الناشر باعتذاره إلى إعادة النظر في التجربة كلها بغرض تفجير الصراع بين الفن والوجود. الكتابة والكلام. النص والكتاب.

هل هي مذكرات أم تأملات في الفن. رواية وعمل كامل مستقل، أم نص عصي علي أن يؤطر أو يختصر أو يقتل بدلالة محددة؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ـ الوجود: كلمة شديدة الالتباس، فعلاوة علي أننا نستخدم نفس الكلمة في اللغة العربية لترجمة كلمتين مختلفتين في اللغات الغربية نجد أن كل كلمة ـ منهما لها تاريخ دلالي خاص ومعان مختلفة (إن لم تكن متعارضة) في التراث الإنساني، هل تجدي محاولة ترجمة Being بالكينونة أو محاولة ربط (الوجود) في كل سياق بمعني محدد؟ إننا لا نستطيع أن ندعي هنا حل التعارض القائم بين مفهومنا للوجود والمفاهيم المختلفة التي يطرحها النص نفسه، هذا فضلاً عن المفهوم المسبق لدي القارئ والدلالات التي قد تنتج عن تلاقي ـ أو تصادم ـ هذه المفاهيم مجتمعة، لكن هل ينبغي الوضوح والتحديد أم أن الالتباس نفسه جزء من الحقل الدلالي الذي تستدعيه ـ أو هكذا أظن ـ هذه الكلمة.
2ـ أغلب الظن أن ما تعنيه لفظة (استدراك) في هذا السياق يتجاوز الاستخدام المألوف لها والمعتاد لغوياً،إذ إن العبارة الأخيرة في كل واحدة من هذه الاقتباسات تضع ما سبقها بين قوسين/ ربما لتعيد صياغته أو لتضع شرطاً/ شروطاً علي مصداقيته أو تقوم بإدخال تعديل قد يصل أحياناً إلي نفي ما سبق كتابته، هل يمكن تسميتها إذن باللاحقة الإنشائية، حيث أنها تعيد إلي النص حضور الكتابة وتذكرنا بأن ما يكتب/ يقرأ خطاب، يتعلق بلحظة كتابته، وبشروط تلك اللحظة.
3ـ مرة أخري تحيرنا اللغة، كيف نجد لفظة واحدة تدل علي القناع والوجه المختفي وراءه، فكأن الوجه أحد تجليات القناع أو كان القناع هو نفسه الوجه، وان لم يكن هو، فوراءه (أقنعه أخرى تمتد بلا نهاية) يكاد كل واحد منها أن يكونالوجه أو يوشك الوجه أن يكونه/ يكونها جميعاً، ممثل هو نفسه كل شخصية لعبها أو يلعبها أو سوف يلعبها، أو قشرة هي اللحاء ولب الشجرة، وقد تكون هي نفسها الشجرة كلها أو بعض من غبار علق بها.