يتعرف هذا المقال على مسيرة حسن سليمان الوظيفية، وعلاقته الثقافية الخاصة بالكاتب الكبير يحيى حقي، ويتوقف عن كتاباته المختلفة، وعند بعض أعماله التي شكلت علامات مضيئة في مسيرة الفن التشكيلي المصري.

مضى مطمئنا إلى الخلود

حسن سليمان تلميذ يحيي حقي المتمرد

شبلي شميل

لم يحظ موت الفنان التشكيلي حسن سليمان بالاهتمام الواجب من الصحافة الثقافية في مصر، ربما لأن الفنان قضى سنواته الأخيرة في "عزلة مختارة" لم يقطعها إلا مشاركته الخجول في إقامة معارض لأعماله وهي المعارض التي احتكرتها قاعة مركز الهناجر للفنون التي احتفت دائما بأعمال الفنان الراحل الذي لعب دورا استثنائيا في حياتنا الثقافية والفنية. فهو لم يكن مجرد مصور تشكيلي بارع، فرض نفسه على الأوساط الفنية منذ خمسينيات القرن الماضي، وحتى رحيله وإنما هو أيضا مفكر متميز انشغل بقضايا تجاوزت حدود تخصصه، وامتدت لتشمل قضايا أخرى ترتبط ارتباطا وثيقا بثقافتنا الوطنية التي كان أحد منظريها الكبار. والحاصل أن هذا الجهد كان نتاجا لمعرفة معمقة بدأها الراحل منذ سنوات تحصيله الاكاديمي وبعد أن نال بكالوريوس كلية الفنون الجميلة 1951 (تصوير)، وتواصل بعد أن حصل على دراسات عليا فى سيكولوجية البعد الرابع من أكاديمية بريرا في ميلانو 1966. لكن في تقديري أن ارتباط الراحل بالكاتب المؤسس يحيي حقي مثل نقطة تحول في حياته، ودفعه إلى التعمق في التعامل مع مفرادات الفن الشعبي في مصر عبر التاريخ، إلى جانب اعتزاز خاص بمنجز الفنان المصري القديم، ومعرفة بتاريخ مصر الفرعونية كان مصدرها خاله الدكتور أحمد فخري عالم الآثار المصرية المعروف.

على أن حقي ساهم بوضوح في إيقاظ رغبه سليمان في الوصول إلى تصور جامع يربط بين تلك المفرادات البيئية وتجلياتها في العمارة، وعلى وجه خاص العمارة الاسلامية، لذلك أجرى الراحل جملة من الدراسات حول أسس التصميم و قدم محاضرات حول مساجد القاهرة، لا سيما مسجد ومدرسة السلطان حسن. وحتى وفاته لم يفقد الفنان الراحل شيء من حماسه وإعجابه بيحيى حقي، الذي كتب عنه في حرية الفنان مؤكدا "أنه فنان كبير، يشدني إلى آفاق أدباء عالميين في عمق نظرته، وارتباطه بالحياة ومصر "وفي فقرة أخرى يشير إلى ظروف التعرف لأول مرة على قصة البوسطجي التي كتبها حقي والتي مثلت نقلة نوعية في تصور حسن سليمان وأقرانه على الدور الجمالي والاجتماعي في الفن، لافتا الى أن حقي نموذج سليم من نماذج فناني جيله يحترق تحت الرماد، احتراق ناضج وهادىء، احتراق يدفىء ليساعد على الاستمتاع بدفء الحياة. 

المسار الوظيفي
ومن المؤكد إن إعجاب سليمان بخيارات حقي الفنية فرض نفسه على خياراته هو نفسه، سواء على مستوى الوظائف التي عمل فيها، أو على صعيد المسارات الفنية والحياتية التي اختطتها لنفسه. فقد بدأ حياته الوظيفية مدرسا للرسم بالجامعة الشعبية للهواه التي تطورت لتصبح جهاز "الثقافة الجماهيرية" ولا شك أن التحاق سليمان بهذا الجهاز، الذي أسسه سعد كامل في سنوات تحول مهمة عاشتها وزارة الثقافة المصرية، إنما كان يدلل على إيمانه بالدور الطليعي للفنان، وبدوره في تثوير وعي الجماهير، لكن هذا الإيمان لم يكن إيمانا ايديولوجيا صرفا وانما جاء في سياق تحولات فكرية مر بها الفنان وعبر عنها في كتابه المهم: (حرية الفنان) وهو كتاب يتضمن جملة من التنظيرات والتأملات النقدية التي وجهها الفنان بقسوة إلى الفنانين المزيفيين الذين روجوا لشعارات لم يؤمنوا بها، ومع بداية تأسيس اكاديمية الفنون، خلال فترة تولى ثروت عكاشة لوزارة الثقافة، عمل حسن سليمان مدرسا بمعهد السينما وكلية الفنون الجميلة، وبالتحديد خلال الفترة من 64 ـ 1972. وقد اقترب في هذه الفترة من معلم ورائد آخر هو مهندس الديكور ولي الدين سامح، الذي يعد الأب الروحي لمنجز شادي عبد السلام الفني.

وفي مسيرته الفنية أقام سليمان ما يزيد عن 30 معرضا بدأها بمعرضه الأول بقاعة إخناتون بمجمع الفنون بالزمالك 1952 وأنهاها بمعرض الأخير "أزقة القاهرة" بقاعة مركز الهناجر بأرض الاوبرا 2008. ويصعب اليوم تأمل دور حسن سليمان في حياتنا الثقافية من دون التوقف أمام دوره الرائد في صناعة المجلات الثقافية التي ظهرت في ستينيات القرن الماضي إذ وقف برسومه المتميزة وخطوطه الراقية وتصميماته وراء ظهور مجلة (المجلة) التي عمل مخرجا فنيا لها إلى جوار يحيي حقي، كما أدى نفس الدور في مجلة (الكاتب) التي رأسها الراحل أحمد عباس صالح، وكانت احد ابرز المنابر اليسارية. وتكرر هذا الدور عبر دعمه اللا محدود لتجربة المجلة الطليعية (جاليري 68) التي ظهرت نهاية الستينيات، وبشرت بتغيير الذائقة الادبية والفنية في مصر، ووقفت وراء تقديم معظم كتاب وفناني جيل الستينيات. 

كتاباته
ويحسن بالقارىء ان يتوقف لقراءة مؤلفات سليمان الكثيرة، ليخرج منها بخلاصة عن تجاربه في الفن والحياة. إذ كانت كل تلك المؤلفات أقرب إلى نص طويل من نصوص السيرة الذاتية التي تجمع بين الخاطرة الذاتية التي ترتبط بيوميات عاشها الفنان، وبين رؤى نقدية معمقة كتبها بغرض النظر في أعمال الفنانين الرواد، لاسيما الفنانيين العالميين أمثال بيكاسو وسيزان ومونيه وغيرهم، بهدف الوصول ربما الى صياغة نظرية محلية عن الفن، تضع موضوعة الجمال كأساس لها دون ان تفصله عن القضايا المصيرية التي يعيشها الفنان كأنسان. وقد تجلى هذا الهم في مؤلفاته كلها ومنها كتاب (حرية الفنان) 1980، (الحركة فى الفن والحياة)، (كيف تقرأ صورة)، المكتبة الثقافية رقم 213، (سيكلوجية الخطوط)، المكتبة الثقافية رقم 175، (كتابات فى الفن الشعبى) 1976، (سيكولوجية الحركة)، (الملمس) وكتاب (ذلك الجانب الآخر) الذي يعتبر محاولة متقدمة لفهم الموسيقى الباطنية للشعر والفن. وقد نشرت طبعته الأولى في بيروت، قبل ان يبادر الكاتب محمد البساطي في إصدار طبعة شعبية منه في سلسلة أصوات، التي كان يشرف على تحريرها في هيئة قصور الثقافة.

والمؤكد أن تلك المؤلفات كانت من جهة أخرى محاولة لبث خلاصة تجربته كمعلم رائد. كما تتضمنت الكثير من المفاتيح التي يمكن من خلالها التعامل مع لوحاته التشكيلية التي اتسمت ببناء تجريدى لافت، رغم مظهرها الواقعى، مع سيطرة واضحة للرماديات، وفي مؤلفاته سعى الى تفسير هذا الحضور الطاغي للون الرمادي بقوله: «الرماديات في لوحاتي نتيجة الاضطرام الحاد في حياتي»، كذلك لم تخل لوحاته من تعبيرية واضحة في الأداء المراوغ الذي لا يخلو من تمرد وعنفوان. وفي تللك اللواحات سيطرت جملة من المفرادات في مقدمتها: مناظر القاهرة الفاطمية بحاراتها وشوارعها وانماط الحركة فيها، الى جانب تجاورات مدهشة للظل واللون. وفي اعماله الاولى التي نالت شهرة وارتبطت ارتباطا وثيقا برغبة الفنان في التعبير عن التحولات التي قامته بها ثورة يوليو، نذكر لوحته الشهيرة «النورج» ـ متحف الفن الحديث. وهي صورة لقوة التعبير، بحسب رأي صلاح بيصار، فقد توهجت بالمسطحات اللونية خاصة تلك الحلقة الدائرية والتى تمثل جرن القمح.

وفى تلخيص واختزال شديد ومن فرط الضوء الأبيض هذا مع تنوع السطوح الأفقية متمثلة فى انبساط الأرض واتصالها بالأفق.. وفى تحليله للحيوان المتمثل فى زوج الثيران، واللذين يجران النورج. اتجه إلى الأسلوب التكعيبى حتى يتناغم مع الهندسيات فى الخلفية. ثم جاءت لوحته الثانية "العمل" 1970 الأكثر تأكيدا على قيمة عنصرى الضوء والظل فى تحديد الشكل والكتلة. وتصور عاملا يقف على ماكينة خياطة. يتوحد معها. ومن فرط التوحد تنساب الظلال بينهما، فلا يبقى إلا مسطحات يشكلها الضوء الباهر. ورغم أن حسن سليمان قدم أعمالا عديدة فى هذا الاتجاه الذى واكب الثورة، إلا أنه لم يسقط فى دائرة المباشرة، أو الدعائية. ويمكن للقارىء المهتم ان يتابع هذه المسيرة في الفيلم الذي أخرجه المخرج داوود عبد السيد في بداياته عن "لوحة العمل في الحقل". 

الولع بالنساء
ولا شك ان ذروة أعمال الراحل تجلت في معرضه `نساء القاهرة` والذى أقيم بقاعة الهناجر بأرض الأوبرا فى أكثر من 50 لوحة فى فن البورترية، جاءت معاكسة لتقاليد الصورة الشخصية، وكل الصور المنمقة. فصور نساء العطوف والجمالية وباب النصر.. مع نساء وسط البلد والأحياء الراقية.. بنت البلد مع الهانم.. فى جنة من الصمت والسكون، جعل فيها حواء مسكونة بالظلال، مغموسة فى الأسود الأبنوسى وجسارة الرماديات.. جالسة.. واقفة.. متشابكة الأيدى. وصورها تعطى ظهرها للمشاهد.. ومع شحناته الإنسانية.. أضاءت بالفرح والدهشة والألم والأسى والنشوة والحزن والغموض والنور الداخلى والشجن الصوفى.

وعلى نحو ما يمكن اعتبار تصور الفنان للمرأة أحد المفاتيح المهمة للتعامل مع أعماله ففي كتاب (ذلك الجانب الآخر)، وهو أخر كتابات الفنان النظرية، الكثير الذي يمكن التوقف أمامه للتدليل على ولعه الرومانتيكي أو لتفسير ذاتيته التي كانت تزعج الكثيرين ممن حاولوا الاقتراب منه، وفشلوا بسبب طبيعته التي كانت أميل إلى العزلة في سنواته الأخيرة. فهو يقول: «بين الأنثى والفنان صراع أزلي مدى الحياة، أن يمتلكها العدم، وقبض الريح، أفضل من أن يمتلكها الفنان» ثم يشير الى أن الفنان «لو خير بين الحياة واندفاعه الجنوني إلى الفن سيختار الفن: إنه احتياج لا يمكن مقاومته، فالفن هو الشيء الوحيد الذي يقاوم به الموت في أعماقه، يتجاوز به الحياة ـ بما فيها المرأة ـ إلى ما هو أبعد من الحياة. وهنا تتجلى ثورة المرأة ورفضها ومتاعبها مع الفنان، فالمرأة تريد كل شيء في حدود الزمن والمسافة، والفنان لا يريد سوى أن يتجاوزهما، المرأة تنشد الثبات، والفنان بطبيعته حركة متجددة» كان الراحل يؤمن «أن على الفنان أن يكون إلها بلا وعي، افضل من ان يكون بطلا يتأرجح بين الرغبة والفعل، الفنان يتارجح دائما بين المطلق والمجرد». في مؤلفاته ايضا ثمة تأملات ساحرة بشأن تجربة الحب والصوفية والحياة فهو يقول: «المحاولات التي يمر بها الفنان كي يتم عملا، هي محاولات بحث عن الصنعة، قد تكون مضنية أكثر من بحثه عن الإثارة».