لايكتفي هذا المقال بالحديث عن علاقة كاتبه الشخصية بالفنان الراحل وعمله الكبير، ولا بتأملاته حول كتابه الشهير (حرية الفنان)، ولكنه يقدم لنا قراءة مستبصرة في لوحته الأخيرة «العشاء الأخير» التي يراها اهجية مرة لواقع أليم يرحل الفنان عنه غير آسف.

بعشاء حسن سليمان الأخير

هشام نوار

فى يوم الخميس الموافق الرابع عشر من أغسطس، كنت عائدًا مع زوجتى إلى بيتنا، وقتلاً للوقت ومشقة الطريق الصاعد كالطرق الجبلية، كنا نتبادل بعض أحاديث يتخللها بالطبع لهاث أنفاسنا المتقطعة تعبًا. وقادنى الحديث إلى تذكر كلمات قالها الفنان الكبير "حسن سليمان" فى كتابه (حرية الفنان)، وبمجرد أن ذكرت اسمه لزوجتى حتى دعت له بالرحمة كالمعتاد عند ذكر الموتى، هالنى ذلك وقلت لها: ماذا تقولين؟ حسن سليمان لم يمت. واختلفنا، هى تؤكد أنه مات منذ فترة قريبة، وأنا مُصِِّر على أنه لم يمت، وكانت الصاعقة عندما علمنا أنه مات فى اليوم التالى لحديثنا هذا. تُرى أكانت تلك زيارة قامت بها لنا روحه تودعنا، وكان وداعها هذا ما أسقط فى نفس زوجتى وفاته.

لم تكن بيننا علاقة مباشرة، سوى أنى زرته فى مرسمه مرة واحدة، وصافحته بضع مرات فى معارض له، غير أنى أظن أن هناك شيئًا روحيًا ما كان يصل بيننا. ربما كان هذا الشئ نتاج تراكمات نمت على مر سنوات طويلة. كانت البداية فى منتصف الثمانينيات تقريبًا، وكان قد أقام معرضًا "بالمعهد الثقافى الإيطالى"، وبهرنى ذلك المعرض الذى شاهدته أكثر من مرة، إذ كيف أنه بمجموعة لونية محدودة جدًا لاتتعدى الرماديات مع بزوغ قليل للون الوردى، استطاع أن يقدم هذا الكم من اللوحات. بل ويزيد فى التحدى أن الموضوع فى كل لوحات المعرض ليس سوى وردتين فى كوب زجاجى. أية جسارة هذه؟ كان هذا المعرض بمثابة درسا هاما فى أهمية الدأب والصدق فى العمل مهما كانت بساطة الموضوع، وأن البحث فى أبسط الأشياء من الممكن أن يؤدى إلى أعظم الأعمال.

أما زيارتى الوحيدة لمرسمه فكانت فى صيف 1991 حيث اقترح عليّ صديق ذات يوم زيارته، أبديت له وقتها حرج موقفنا من أن نزوره دون موعد مسبق، فنفى الصديق أن يكون فى ذلك أدنى إزعاج له، إذ أنه يرحب دائمًا بأى زائر، بل ويسعد بذلك جدًا. كانت معرفتى السابقة به نتاج صداقتى للعديد ممن يداومون على زيارته، وقراءتى لكتابه (حرية الفنان) عدة مرات رغم أن أحد أصدقائى قال لى ذات مرة: أن (حرية الفنان) ليس أفضل ما كتب "حسن سليمان". لكنى لم أكن أصنفه على أنه من كتاباته، بل كنت أراه حديثا مع النفس، قرر صاحبه يومًا أن يعلنه على الملأ، فكان هذا الكتاب الحالة الذى أعتقد أنه لا يمكن قراءة هذا الكتاب بنفس المنطق الذى نقرأ به كتابا آخر، ولكن يجب أن ندرك قبل أن نقدم على قراءته أننا لن نقرأ كتابًا، بل سوف نستمع إلى فنان صاحب تجربة ثرية وثقافة عريضة، هذا الفنان وقف أمام المرآة وأخذ يهمس لنفسه بما لم يستطع قوله لأحد، وما لم يجادله فيه أحد.

استقبلنا بلا اندهاش من ذلك الغريب الذى يراه للمرة الأولى زائرًا بلا موعد، كان يبدو هادئًا، هدوءًا يقترب من اللامبالاة، أدركت بعد لحظات أن ذلك ليس إلا قناعًا يرتديه كوسيلة دفاعية. كنت مترددًا فى البداية من أن أحدثه عن طبيعة أعمالى، لم أكن أضمن أن يستسيغ ذلك وهو الفنان الذى ما زال مخلصًا للألوان الزيتية، لكننى وجدته عكس ذلك إذ أبدى انحيازه للقيمة أكثرمن الوسيط، وأسعدنى ذلك، واسترسل يتحدث بآراء حول أشخاص وأعمال فنية وأحداث، لم أوافقه فى البعض، ولم أعلن له ذلك احترامًا لقيمته ومراعاة لكونى ضيفًا عنده، كما لم أبد له موافقتى على البعض الآخر حرصًا على ألا يبدو ذلك مداهنة. وأخذ بعد ذلك يتحدث عن مشاريع فنية قادمة له، أذكر منها الآن لوحاته لمنطقة "حوش قدم"، وحدثنا أيضًا عن أنه يريد أن يرسم "مصارعة الديوك". كان الجو فى مرسمه يشى بالحميمية والدفء اللذين يشعان من كل شئ حوله، اللوحات المنتشرة فى كل مكان، الكتب، المقاعد، مقتنياته الكثيرة الذى يبدو أن الكثير منها أثري. مضى الوقت سريعًا وعندما قررنا الانصراف قال لنا أنه سوف ينزل ليتمشى معنا فى وسط البلد، كان يمشى فى هدوء وهو يتكلم وفجأة يتوقف ويستدير إلينا ويخرج يديه من جيبى بنطاله ويشير بهما موضحًا مايريد قوله، وانتهى اللقاء بدعوته لنا لتناول "الآيس كريم" من أحد المحلات الشهيرة بوسط البلد، وهكذا انتهت زيارتى الوحيدة له، ولا أجد تفسيرًا منطقيًا لعدم رغبتى فى تكرار تلك الزيارة، لا أدرى لماذا أردت أن تكون زيارتى له واحدة فقط، وأن تبقى فى ذاكرتى فى منطقة ما بين الحقيقة والحلم.

يقول الفنان "حسن سليمان" فى فقرة من كتابه (حرية الفنان) ص 77: "تذكرنى بعض الكتابات التى نشرت عن "بيكاسو" بعد موته، بحادث مررت به فى طفولتى... كان لدينا مأتم... وكنا نلهو، لا علاقة لنا بالأحزان، صبية فى فناء المنزل... وفجأة أقبلت امرأة عجوز تولول وتصيح... وما أن قاربت الدار حتى علا عويلها وصراخها، بلوعة شديدة... حتى إذا أدركتنا، صمتت ثم سألت: من هو الميت؟... ومع مثل تلك الكتابات، بكل لوعتها وكافة النعوت التى أعطيت للمتوفى، دون فهم أو إدراك...".

تُرى هل كان "حسن سليمان" يتوقع أن يتكرر نفس الموقف معه بعد وفاته؟ الجميع كانوا موضع سره، من هو ذلك "السوبرمان" الذى كان صديقًا حميمًا لكل فنانى ومثقفى مصر رغم عزلته؟ أظن لو كان ذلك حقيقيًا لما وجد هذا "السوبرمان" وقتًا ليرسم لوحة واحدة، أو يقرأ كتابًا واحدًا فى حياته. وقد روعتنى تلك اللوحة التى تصدرت غلاف عدد "أخبار الأدب" الصادر فى يوم 24 أغسطس يضم ملفًا خاصًا بمناسبة رحيله، وقد كتب تحتها:("العشاء الأخير" آخر لوحات "حسن سليمان").

كانت اللوحة تمثل ذلك الموضوع الدينى الشهير الذى تناوله كثير من الفنانين منذ انتشار المسيحية وحتى الآن، نظرا لما فيه من دراما وانفعالات تغرى أى فنان أن يتناوله، إن لم يكن من منظور دينى، فإنه يكون من وجهة نظر رمزية، وهذا ما فعله الفنان "حسن سليمان" فى تناوله لهذا العمل، فلم يكن ذلك الشخص الذى يتوسط اللوحة هو "المسيح"، وإنما فى أغلب الظن هو الفنان نفسه، إذ لم يكن فى شباب "المسيح" بل كان عجوزا متغضن الوجه يرفع رأسه لأعلى بينما هو مغمض العينين، ذراعاه ممدودتان على المائدة يفتح كفيه لنرى أنه كما يقال ليس بيده شئ حيال ما هو فيه، فهو يسأل ربه الخلاص مما هو فيه وليس أمامه سوى رغيف واحد. ويبدو حوله حواريوه الإثنا عشر وقد بدوا فى الظلام المحيط بهم أكثر عددًا من حقيقتهم، وعلى وجوههم جميعًا أقنعة، والقناع كما هو معروف رمز للزيف والادعاء بما ينافى الحقيقة، لأنهم يخفون عنه وجوههم الحقيقية.

فى اللوحات الدينية نجد "المسيح" فى "العشاء الأخير" يطلب الخلاص لأنه يعلم أن بين حوارييه خائنا واحدا، بينما فى لوحة "حسن سليمان" يسأل ربه الخلاص من الجميع، لم يعد يحتمل كم الادعاء الذى يحيط به من كل جانب، لذلك أعتقد أن "حسن سليمان" لم يمت بفعل المرض، كما لم يمت بفعل الشيخوخة، وإنما مات بفعل هذه اللوحة. هذه اللوحة التى كانت بمثابة حزام من "الديناميت" مثل الذى يستخدمه الانتحاريون، وقد فجر هذه اللوحة لينهى حياته معترضًا، رافضًا لكل الزيف الذى يملأ العالم، فرحل غير آسف عليه، لم يكن يعلم أن من كانوا فى لوحته ومن كانوا خارجها سيأسفون عليه.

وداعًا "حسن سليمان" غير آسف علينا، لكننا جميعا آسفون عليك. 

أكتوبر 2008م