لا يحمل هذا المقال الوداعي للفنان الكبير عواطف الصداقة وأريج الرفقة فحسب، ولكنه يقدم لنا في الوقت نفسه قراءة حساسة لمنهج الرسام المصري وبعض ملامح مسيرته الفنية، ويتوقف عن المحطات الأخيرة في رحلته الإبداعية الخصبة.

وداعًا حسن سليمان!

محمد حمزة

في هذه الأيام يتكرر علي نحو ما.غياب. إحدي الأشجار الباسقة الواقفة من عمالقة أهل الثقافة والفنون فمنذ برهة وجيزة توفي رجاء النقاش، سعد أردش، يوسف شاهين، محمود درويش علي التوالي وفي صباح يوم الجمعة الماضي توفي الفنان القدير حسن سليمان عن عمر يناهز الثمانين. وكأن القدر علي موعد مع هؤلاء الكبار الذين تركوا بصمات واضحة علي حياتنا الثقافية والفنية. يعد الفنان حسن سليمان من نجوم الخمسينيات، مع سمير رافع، عبدالهادي الجزار، وحامد ندا، لما يمتلكه من موهبة فذة، ورصيد فني راسخ نسجه عبر سنوات عمره الفني. بالإضافة إلى ثقافته الموسوعية مع تحكمه في أدواته وابتكاراته الذكية الخلاقة. كان هدفه الرئيسي من الرسم والتلوين هو أن يجعل الآخرين يحسون بما يحسه هو، ويحسون بما دفعه ليرسم هكذا، ليمثل الأشياء في حد ذاتها كما هي متمثلة في مشاعره، والابتعاد عن النسخ الآلي المطابق للطبيعة.

فالطبيعة دائمًا هي ما هي عليه، ولكن لا شيء يتبقي فيها.. لا شيء مما نراه، وبالتالي منح الطبيعة في فنه معني الاستمرار المثير، إلي جانب مظهر كل تغيراتها التي ساعدته علي الإحساس بالطبيعة كشيء أبدي. كان هذا الاعتقاد في عرف حسن سليمان بأن خلف المظاهر المرئية تكمن الحقيقة الباقية، وأن وظيفته أن يكتشف تلك الحقيقة. وهكذا سار علي هذا النهج منذ تخرجه في كلية الفنون الجميلة عام 1951 حتي آخر يوم في حياته. و لم يترك الفرشاة إلا إذا كان مريضًا. وكان الذهاب إلي مرسمه كل صباح عملاً مقدسًا كفنان محترف. فعندما نشاهد بعض لوحاته المتكررة في الطبيعة الصامتة نجد لكل لوحة مذاقها الخاص، ولكنها جميعًا مسكونة بالنور، وأفق التاريخ، بنظرة حادة، ربما لهذا تكاد تكون لوحاته الملونة منحصرة بين الأسود والأبيض ودرجاتهما إذا جاز التعبير. ربما إفصاحًا عن رغبته في تركيز الرؤية ومحاورة المشاهد داخل العمل الفني. وفي تعميق القدرة علي اختراق السطح إلي العمق. لنجد في هذا ما يفسر ندرة ألوانه الزاهية كالأحمر والأصفر والأخضر. لأن زهو الألوان ـ علي ما أعتقد ـ من وجهة نظره. تجذب النظر إلي السطح لا إلي العمق.

لقد أخذ حسن سليمان من الواقع كل أحاسيسه وأطيافه. انبثاقًا من الطبيعة التي نشاهدها من حولنا كل يوم لنري في الأواني الفخارية، والأباريق النحاسية التي ترجع بنا إلي ما تحت التاريخ. قد أخذت طريقها في لوحاته لتبدو وكأنها آنية ما قبل التاريخ في أبعادها الرمزية والأسطورية. كما أن ثمار البرتقال والتفاح والفواكه الكروية الأخرى لم يرسمها لذاتها كأشياء طبيعية طازجة، بل لما فيها من استدارة أنثوية، بعيدة المنال يقاربها من بعضها تارة، تتحاور بصراحة لا يعلوها احمرار الخجل، أو مرارة الحرمان التي في مقدورها أن تعزف له ترنيمة تجدد قوته ليستمر. وتؤكد وجوده. أما زهور عباد الشمس، والورود البلدي، المتسلقة أعلي لوحاته، فنشاهد فيها وحدة الفنان المكبوتة، والتي يقف فيها بوهن شديد داخل ظلمة غامضة. فلا يكون من بد أمامه سوي أن يقف بلا قناع نازعًا عن نفسه كل تردد. متفجرًا بالصياح العالي.

وبالرغم من الصداقة الطويلة كرفيق درب في كلية الفنون الجميلة، وتخرجي بعده بأربع سنوات. وكأحد القاطنين في نفس الحي مع صلاح عبدالكريم.. وسمير.. وسامي رافع.. ومحمود فوزي.. وتقابلنا كل صباح لنركب معا الترام الذي يوصلنا إلي الكلية بالزمالك، لم أداوم على الذهاب إلى معارضه الشخصية في حفل الافتتاح. أما في الآونة الأخيرة فلم يفتني معرض يقيمه حسن سليمان سنويًا منذ عام 1980 إلا وأكون أول المشاهدين له. ففي معرضه عن «فتيات ـ الشاطئ» والذي بدأ في هذا الموضوع منذ أوائل السبعينيات. ورسومه السريعة لهم بأقلام الفحم. تلك الفتيات المتمايلات بقدودهن الرهيفة أثناء السير بدلال، أو وهن بملابس السباحة، أو ساعة تجفف أجسادهن بالمناشف الناعمة، وكأنه يسترق السمع لأ حاديثهن الهامسة لنجد في تلك اللوحات عالماً داخليا تجريديا بناه الفنان بإحساس مرهف في لحظات الاندفاع والالهام. أما عالمه الخارجي، فكان يغلفه بالرقة المتناهية، والحساسية المفرطة.

في الحقيقة نجح حسن سليمان في التعبير عن رؤاه البصرية في أغلب أعماله، سواء استعان بعدسة الكاميرا الدقيقة جدًا أو بدونها. وهذا لا يدل اطلاقًا على ضعف فني فآلة التصوير الضوئي.. أصبحت من مستلزمات الفنان منذ استخدامها الفنان الفرنسي «ديجا» في أواخر القرن التاسع عشر. ولماذا لا نستغل تقنية عالية لصالح الفن ما دامت متوفرة في الأسواق؟ وقد اتهمه بعض أنصاف الفنانين بذلك! وعلي العموم استطاع حسن سليمان اقناعنا بسهولة بطبيعة الشكل وأحاسيسه. وبصياغة طاقاته الانفعالية في قالب تشكيلي رائع، مع مقدرته علي التوفيق بين المشهد وخبرة الصنعة، والحرفة العالية، والإحساس المرهف. وهذا ما شاهدناه في لوحاته التي عرضها في قاعة اكسترا.. بالزمالك. عندما رسم أزقة القاهرة الفاطمية الأثرية، وعلي وجه الخصوص «حوش قدم» في الوقت الذي كان يجول في الأحياء المجاورة لوكالة الغوري حيث كان يوجد مرسمه قديمًا.

يقول الفنان: «إنه الزقاق الذي يبزغ من ظلمته إنسان، يؤكد ضوء الشمس رأسه.. وتنتصب أمامك جدران كظل موت، خلفها سماء ناصعة. أرى الزقاق بمدينتي.. ظلمة يتحداها سقوط الضوء. إنه جزء من قاهرتي بكل ضجيجها وتلوثها. إنه حب لا خلاص منه». وفي عام 1998 أقام معرضًا في قاعة الهناجر تحت عنوان «طبيعة صامتة» حيث وضع أربعة أوان مختلفة الشكل والارتفاع، والحجم، والملمس، والخامة،علي منضدة مغطاة بمفرش. وأخذ يرسم تلك الطبيعة الصامتة من زوايا عدة بأسلوب الرسم السريع. بينما تتفرق أو تتجمع مع بعضها، مسلطًا عليها بعض الأضواء ومتتبعًا سقوط الظلال مع شدتها وضعفها. إلي أن استقر في النهاية وضع ثلاثة من هذه الأواني متجمعة. وأخذ يرسم ويلون هذا المشهد الواحد نفسه أكثر من أربعين مرة بخامات الألوان الزيتية.. والباستيل.. وأفلام الفحم.

وهكذا أثار هذا المعرض عدة قضايا في الساحة الفنية: أهمها التجريب في تكرار الموضوع.. أو المشهد الواحد.. وهنا قال حسن سليمان: «مهما كرر الفنان عملاً فنيًا فسيظل الجانب المرئي هو الذي لا يمكنه التعبير عنه. ولكي يظل الفنان متجددًا عليه ألا يحصر نفسه ويحددها في تجربة واحدة تستنفده. إنها مشكلة يجب التوقف عندها. فهي لا تحتاج إلى ترويض النفس فقط؛ بل إلى ممارسة دؤوب أيضًا. فمع تكرار التجربة.. لا يعود الشيء هو الشيء ويكتشف الفنان شيئًا آخر غير المرة السابقة. وهكذا يحيا الفنان بحياة التجربة. فإذ به والحياة شيء واحد. تحدوه الرغبة للوصول إلي الكمال المطلق. وأظن أن هذا هو غاية الفن في مغزاه العميق.

وفي عام 2000 في قاعة الهناجر نفسها الذي تعود إقامة معرضه السنوي بها قدم موضوعًا آخر عن البحر.. الذي بدأه عام 1970. فماذا يعنيه بالبحر؟ هل هو هذا الهائل المجهول المتناهي في الكبر؟ ولكننا نري أن الفنان قام من جانبه بتأمل البحر في فخامته جاعلاً من هذا التأمل موقفًا خاصاً، و حالة داخلية في نفسه. وقد استنتجت من الدلالات المنهجية الخاصة بأيديولوجية الفنان الجمالية وتحليله للصورة البحرية في الامتداد والاتساع والعمق.. بأنه لم يركز على البحر في ذاته، بل ربط البحر بالسماء والأرض والفضاء المحيط. من حيث إنه جزء من الطبيعة. ونراه أيضًا خلق صورة وهمية لهذا التأثير بالإضافة إلي خدع اللون والضوء التي ساعدته علي تحقيق الامتدادات المطلوبة للأشكال. وبالرغم من أن حسن سليمان فنان تشخيصي، إلا أننا نراه في بعض لوحاته عن البحر قد مزج التشخيصية بالتجريدية التعبيرية؛ في صنيعة روحانية.

وتوالت معارض الفنان السنوية بين قاعة الهناجر ودروب والمشربية يحمل كل معرض موضوعًا مختلفًا تمامًا عن سابقه. مداعبًا بذكاء ودهاء فني جمهوره العريض الذي كونه عبر السنين. وأتحفه بتجارب فنية ومعاناة إنسانية. إن الفارس حسن سليمان نذر نفسه للفن وشحن نفسه بالقيم التي لها مقومات الدوام في وقت ندر فيه الفرسان. ولذلك تخطى كل الموانع المفروضة علينا في هذا العالم. فمتى تكرم الدولة فنانًا مرموقًا لكل لمسة من فرشاته معنى؟.. يهمس في وجداننا بفضل إدراكه الواعي وفكره الناضج وعاطفته المتاججة والمتلاحقة في عالم الإبداع؟