يقدم الفنان والناقد التشكيلي المصري هنا قراءته الخاصة لمسيرة حسن سليمان الإبداعية، ويتوقف عن بعص مراحل هذه المسيرة بالنقد والتحليل.

البطل الرومانتيكي

مصطفي الرزاز

فقد الإبداع المصري فنانا وناقدا وشاعرا عميق الفكر واسع الثقافة وهو أحد أعمدة فن التصوير المصري الحديث منذ بواكير الستينيات هو الفنان حسن سليمان الذي تتلمذ في كلية الفنون الجميلة علي يد أحمد صبري "وبيبي مارتان" من جيل الأساتذة الأوائل. كان حسن سليمان شخصية ملحمية كالبطل الرومانتيكي كما أحب أن يسمي نفسه، فهو صاحب حساسية وسجية صادقة. وسيادة علي تقنية الرسم والتصوير، وكان مشحونا بطاقة عنيفة من الغضب والازدراء مع روح ساخرة. كمصدر ورسام هو علاقة فارقة بين أجيال المصورين وأساليبهم وإن وقف الأمر عند هذا الحد، لأصبح رساما قديرا للبورتريه وللطبيعة الصامتة ولوحات الصالونات، أو أن يكون مدرسا قديرا في إحدي كليات الفنون محققا مكانة مرموقة في هذا السياق، ولكنه قد اختار بإرادته الواثقة ألا يكون هذا الرسام أو المصور القدير الواثق الرابح، ولا الأستاذ المرموق في قاعات التدريس، وقد كان لهذا الاختيار الرشيد أسبابه، أولها أن حسن سليمان كان مثقفا نهم القراءة يختار ما يقرؤه من عيون الشعر والأدب والفلسفة ومن علم الجمال والفلكلور بوعي وعمق، فلم يكن يقرأ للوجاهة والتباهي بالمعرفة في جلسات المقاهي والصالونات. إنما كان إيمانه بالقراءة مرادفا لإيمانه بالإبداع بالكتابة والرسم.

وقد كانت قدراته اللغوية علي القراءة السلسة والترجمة والكتابة والرسم عوامل حيوية في توجهه هذا. كما كانت البيئة الثقافية التي نشأ فيها، حيث جده، وخاله عالم المصريات المرموق أحمد فخري الذي كان يصحبه معه منذ طفولته المبكرة في رحلات الحفر والتنقيب عن الآثار المصرية، وأستاذه الأثير بيبي مارتان، وولي الدين سامح، ومارجو هربرت، ويوسف سبيع وألبيرقصيري والكاتب يحيي حقي. كان لذلك كله وقع مهم في طموحه الثقافي وتعطشه المعرفي. وعندما كان يحيي حقي رئيسا لتحرير مجلة "المجلة" في ذلك الوقت من الستينيات، أطلق العنان لحسن سليمان يكتب ويحلل، ويرسم كما يشاء. فظهرت رسومه الحداثية والجسورة بالحبر الأسود علي صفحات المجلة، ثم علي صفحات مجلة الكاتب، ليضع بذلك مقاما جديدا غير مسبوق للرسم المصاحب للنصوص الشعرية والأدبية والفكرية، رسوما لا تترجم النص ولا تتمسح فيه، ولكنها تضيف إلي النص طاقة موازية بصرية إبداعية.

فتح حسن سليمان بتلك الرسوم ذائقة الأوساط الأدبية لتذوق الرسوم الخطية الجسورة التي تعتمد علي الاتقان والمحاكاة والتجميل الناعم المصطنع الذي كان مسيطرا علي الرسم التوضيحي في أوائل السيتينات وقبل ذلك، انطوت هذه الرسوم علي ترجمة حية لحركة سن الريشة المعبأ بالحبر الصيني، وقطرات الحبر التي تتساقط وتنتشر علي صفحة الرسم، كانت سجيته منطلقة تسبق حرفيته، لا ضبط، لا تحسينات، لا محو، ما تتركه الريشة المعبأة بالحبر علي الورق هو انفعال اللحظة، فليبقي كما هو.من هذه الرسوم الجسورة الفورية اكتسب حسن سليمان حكمة الاختزال والزهد عن التنميق والتشطيب والزخرفة. حيث ترك للحظة الرسم ولمسة الفرشاة قدرها الذي لا يراجع، وانتقل هذا التوجه في لوحاته الزيتية التي اختار لها خارطة (ألوان بلا ألوان)، أطياف وتجليات الغامق والفاتح من درجات الرماديات الفضية إلي البنيات المحروقة. 

الطبيعة الصامتة
في أعماله التصويرية تجلت رؤيته الفوتوغرافية لعلاقة الضوء بالظل، وكان من بين الاختراعات المعاصرة لنهاية الخمسينيات تجارب قام بها مصورون فوتوغرافيون حول معطيات تقنية من بينها تقنية الكوداليث Kodalith وهي نوعية من معالجة الصورة باستخدام أفلام بهذا المسمي (أبيض وأسود) تسجل الأسود الفاحم علي الأبيض بينما تتخلص من الدرجات الظلية المتوسطة والناعمة. وقد حققت تلك القضية مبتغي حسن سليمان في الحصول علي حس تجسيمي معبر عن البعد الثالث، والتورم دون اللجوء إلي تقنية ("السوقوماتو) و (الكياروسكورو) التي توصل إليها ليوناردو دافنشي ـ وأصبحتا من مسلمات جيل مصوري عصر النهضة الفلورنسيين ـ في التعبير عن الحجوم والأبعاد والفرغات بصورة أثيرية دون تحديد أو مبالغة في تباينات الشكل والأرضية، لإعطاء العمل حسا حالما نتيجة للنقلات الناعمة والمتماهية بين الشكل وخلفيته وهي التقنية التي سماها دافنشي تصوير ولا يمكن لمسه، فهو نوع من الإيهام بذوبان الأشكال في محيطاتها.

حرقت تقنية "الكوداليث" وحرق معها حسن سليمان في لوحاته هذا الوهم الناعم لنقلات الظل والنور الخافت، واستبدلها بنبض مصادم ومتباين للأسود علي الأبيض ودرجات من الرمادي الفضي للتعبير عن التجسيم الحركي النابض حتي حينما يصور عناصر صامتة كالأواني والثمار والزهور الموضوعة علي سطحه المنضدة. لقد كان "بول سيزان" ومن بعده "فان جوخ" هما اللذان حرصا علي التعبير عن مفارقة صمت العناصر المرسومة في لوحة الطبيعة الصامتة، وإيقاعها الحركي الناتج عن ضربات الفرشاة وثراء اللون واتجاهات الخطوط. وكان "موراندي" الإيطالي هو من اتجه إلي اختزال التفاصيل والعزوف عن الألوان في رسم الطبيعة الصامتة، مغلبا المحايدات من درجات الرمادي المشرٌب بروح الألوان عن استحياء. وبينما كانت لوحات الطبيعة الصامتة عند الرواد أحمد صبري (1889 1955)، وراغب عياد (1892 1982)، وجورج صباغ (1887 1951)، وشعبان زكي (1899 1968)، ومحمد حسن (1892 1956)، وأحمد لطفي (1896 1966) واقعية وتأثيرية، فقد التزم فنانو الطبيعة الصامتة من الجيل الثاني بالنزعة السيزانية مع مسحة تعبيرية في أعمال حسين يوسف أمين (1904 1984)، والواقعية في أعمال كوكب يوسف 1909، ومصطفي الأرنأوطي (1920 1976)، والتكعيبية والتجريدية عند أدهم وانلي (1908 1956)، والرمزية عند حامد عويس 1919، والسيريالية عند سمير رافع (1926 2004)، والتعبيرية عند جاذبية سري 1925، وكمال خليفة (1926 1968)، والزخرفية عند محمد عفيفي (1920 1984)، والميتافيزيقية عند ممدوح عمار 1929، وزكريا الزيني (1932 1999)، والتأثيرية عند صبري راغب (1920 2000) فإن حسن سليمان قد اتخذ نهجا مخالفا تماما، وشق لنفسه في مضمار تصوير الطبيعة الصامتة مسارا فريدا أضحي فيما بعد ذو تأثير حاسم علي معظم مصوري الطبيعة الصامتة من المصورين المصريين. ومن ثم فإنه يمثل علامة فارقة في تاريخ التصوير الزيتي المصري الحديث في هذا المجال. 

البعد البيئي في أعماله
عودة إلي سيزان وبالنظر إلي تفسيره الفلسفي لأعماله، فإنه لم يكن يعير موضوع الرسم اهتماما كبيرا، لكنه (وهو ما أيده عليه النقاد) قد حقق هويته كفنان فرنسي يعيشي زمنا معينا من خلال أي شيء يرسمه حتي الطبيعة الصامتة. وكان حسن سليمان نادرا ما يصور موضوعا مصريا، ولكن أعماله كانت مصرية المزاج كالنحت المصري القديم الغائر علي واجهات المعابد، يستقطب حدة ضوء الشمس ويعكسها بقدر شديد من التباين بين اللون الفاتح للحجر الرملي المصقول وحرقة الظلال التي تنحي كل الدرجات الوسطي والتمهيدية في اختزال معجز. صور حسن سليمان في الستينيات لوحتان زيتيتان تعدان من روائع الفن المصري الحديث، يعبران عن موضوعات بيئية بوضوح، اللوحة الأولي تصور الثور يجره ثوران فتيان في حركة دائرية لتكسير أعواد القمح وفصلها عن الحب، وقد فاز بهذه اللوحة بجائزة معرض الفن والزراعة في النصف الأول من الستينيات نستشعر لفحة الشمس الحارقة بالرغم من غياب الأصفر والبرتقالي والأحمر، إنه فعل الضوء المبهر الذي يحرق الدرجات الظلية المتوسطة، وتقهره المساحات البنية القاتمة.

أما اللوحة الثانية وهي تمثل سرب الأوز، فتصور خمس أوزات فيستدعي عند المشاهد زاويتين من التراث المصري القديم، لوحة أوزات ميدوم الشهيرة مع اختلافها البين عن لوحة حسن سليمان من حيث كون الأولي مصنوفة زخرفية هادئة الإيقاع، بالمقارنة بحركة نابضة في لوحة حسن سليمان، حيث أوزاته الخمس مجسمة متحركة تلقي بظلالها أمامها، ويتحقق فيها وهم التجسيم بفعل تباين الظلال مع الضياء، وبالرغم من أن خلفية هذه اللوحة تبدو مسطحة، ثنائية الأبعاد إلا أن تجسيم الأوز فيها يبدو وكأنه يخرج من شاشة عرض سينمائي، تكاد تسمع إيقاع ضربات الأرجل واحتكاكها علي الأرض. وتلتحم منطقة الظل في الأوزتين الأماميتين علي اليمين ليصبحا كتلة واحدة، ويزيد من إيقاع الحركة في هذه اللوحة اصطفاف الأوزات الثلاث الأمامية في نسق محوري من اللوحة ومن ورائهم أوزتان أخريان علي نفس النسق المحوري المائل مما يؤكد الحركية في اللوحة.

أما الزاوية الثانية من التراث المصري القديم في هذه اللوحة فتكمن في علاقتها بالظلال الشديدة الموزعة إيقاعيا علي الأشكال والرموز الهيروغليفية في النحت المصري الغائر في مواجهة ضوء الشمس. إن هذه اللوحة تمثل بعثا جديدا من نوعه للفن المصري القديم من حيث موضوع الرسم (أسراب الأوز) ومن حيث معالجة الضوء والظل الذي يمثل معالجة عبقرية الفنان المصري القديم لأسر أشعة الشمس داخل محفوراته الغائرة ذات الحواف الحادة. داخل أركانها وتجاويفها شديدة الغور علي جدران الحجر الجيري المضيء بفعل وهج الشمس وانعكاسها علي الرمال البيضاء.

وصور حسن سليمان في السيتينيات أيضا عددا من لوحات عن الحارة المصرية التي كانت موضوعا رومانسيا أثيرا عند مصوري جيله. 

البورتريه والحياة اليومية
صور حسن سليمان عشرات الصور الشخصية (البورتريه) بأسلوبه المميز، كما صور الجالسات علي ماكينة الخياطة، والمطلات من النوافذ والملتفات في الملاءات والراقصات البلديات بأجسادهن الهائلة وحسيتهن الظاهرة معتمدا علي نفس المنطق التصويري في تجسيد التورم بتباين الضوء والظل، وإسقاط الخيال ممتدا لتأكيد سطوة الظلال علي التكوين ومحو التفاصيل لصالح التجسيد الكلي للنموذج. لقد اقتربت من حسن سليمان في منتصف الستينيات حيث تكررت زياراتي له بمرسمه بشارع شامبليون الذي كان مكتظا بمقتنياته العتيقة والشعبية التي تنم عن رقي ذائقته، واستمعت إلي أحاديث طويلة بعضها يعكس مشاعره نحو فنه ونحو الناس وبعضها عن قراءاته وتأملاته العميقة الواسعة. وكان آنذاك صافيا مبتسما ساخرا ومسالما بدرجة كبيرة. وكنت أحيانا ألقاه علي المقهي المجاور لمنزله، ثم عاودت الاتصال به بعد عودتي من البعثة بأمريكا حيث كانت لنا جلسات حميمة وثرية مع عدد من الأصدقاء المشتركين ومن بينهم الفنان محيي الدين حسين. 

حسن سليمان والفوتوغرافيا
وفي الستينيات نشر الفنان الراحل محمود السطوحي في جريدة الجمهورية صورة لغلاف مجلة "لايف" الأمريكية تصور ضحايا حرب فيتنام، وقارنها بلوحة لحسن سليمان استقطع في رسمها تفصيلا من صور غلاف المجلة بكل وضوح وملامح الشخوص وتوزيع الضوء والظلال. وكان هذا النشر بمثابة فضيحة تتعلق بمصداقية وأصالة الفنان الكبير، وتواتر اللغط حول هذا الموضوع. كان ذلك تعبيرا عن فهم المجتمع الفني المصري ـ والعالمي ـ الذي يعتبر الصورة الفوتوغرافية لا ترتقي لمقام فن التصوير الزيتي، وبالتالي فإن الأخذ عنها يعكس من هذه الوجهة فقر الفنان وقصور خياله. وعلي المستوي الدولي، وبالرغم من كون طليعة مصوري الفن الحديث اعتبارا من "إيوجين ديلاكروا" مرورا بـ"إدجار ديجا" و "بول جوجان" و "بيكاسو" و "ماتيس"  ضمن آخرين قد استعانوا بتقنيات وصور الفوتوغرافيا في أعمالهم، فقد كان ذلك بمثابة سر منيع عن النشر، والحقيقة أن الفوتواغرافيا ثم الصورة السينمائية المتحركة قد بدأتا من معطف فن التصوير الزيتي وظلتا في كنفه لوقت طويل، ولكن سرعان ما تطورا وأصبح لهما نفوذ وتأثير كبير في مفهوم وأسلوب الرؤية والتعبير الفني الذي أخذ به المجددون من مصوري القرن العشرين.بيد أن فن التصوير الفوتوغرافي لم يحظ بالاعتراف الرسمي في أوساط الحركة الفنية كفن تعبيري وإبداعي قبل المعرض التاريخي الذي أقامه متحف الفن الحديث بنيويورك عام 1977 الذي قدم له (الكيوراتور) باعتباره اعتذارا متأخرا عن جحود الحركة الفنية والنقاد لإبداع الفوتوغرافيين، وتدشينا لهذا الفن ضمن مصنفات الإبداع البصري المعاصر.

كان حسن سليمان كما سبقت الإشارة يعتمد علي تقنية "الكوداليث" لترجمة موضوعات رسمه إلي ما يشبه الظلال الشديدة علي سطوح فاتحة ولم يكن موضوع الرسم ذي قيمة تذكر عنده أثناء بحثه عن بلوره خصوصيته التصويرية التي طوت صفحات وفتحت صفحات جديدة في إبداع التصوير المصري المعاصر، وقد كان كالمؤسسة الفردية التي تتلمذ عليها عشرات الفنانين، ونقل عنها مثلهم. لقد كان نبعا ليس له روافد فيمن سبقوه من رواد التصوير المصري كما سبقت الإشارة. وقد أثري المكتبة الفنية في وقت جفافها بمؤلفاته في كيفية قراءة الصورة من خلال كتيبات عن سيكلوجية الخط، وسيكلوجية الحركة، وسيكلوجية الملمس. وكتاب عن حرية الفنان وآخر عن الفن الشعبي وآخر بعنوان ذلك الجانب الآخر فضلا عن عشرات المقالات النقدية والتحليلية والترجمات القيمة. 

بين الستينيات وزمن الانفتاح
كان الفنان المصري في الخمسينيات والستينيات فدائيا يعيش حياة التقشف، حيث لم يكن هناك سوق لعمله، لا أحد يشتري وقلة من يزورون المعارض التي يقيمها، وربما يبيع لوحة في العام للجنة المقتنيات الفنية بوزارة الثقافة بسعر زهيد وهو وحظه العثر في الأغلب في انتظار فرص أخري. من ناحية أخري كان هناك شح في الخامات وفي أدوات الرسم، حيث لجأ المصورون إلي محلات البويات التجارية وصنعوا خاماتهم مما تيسر فيها من خامات وأكاسيد وزيوت. وكانوا يرسمون علي لوحات من خشب (السيلوتكس) أو (الحبيبي) وهي مصنوعات من تدوير قش الأرز ونشارة الأخشاب مع مادة لاصقة تحت ضغط مناسب، أو يصنعون قماش الرسم من "الدمور" أو "التيل" وتحضيره بالغراء الحيواني المذاب مع اسبداج وقليلا من الزنك. وكان الفنان بالكاد يحصل علي ما يمكنه من شراء تلك الخامات الفقيرة. ومن ثم فإن غالبية الفنانين قد التحقوا بسلك التدريس أو بالعمل في مهنة موازية، أو في إحدي المؤسسات الرسمية أو الأهلية، أو الرسم في الصحف والمجلات لتأمين معاشهم والصرف علي فنهم، ولكن هؤلاء الفنانين في معزل عن فرص البيع والشهرة والسفر كان حليفهم الطموح والإيمان بدورهم تساندهم حركة ثقافية نهضوية فتية خصبة.

وكان حسن سليمان من ندرة الفنانين الذين انقطعوا معظم وقتهم لفن التصوير دون توقف وللتثقيف الذاتي بهمة وطموح مدهشين. وعندما دخلت مصر عهد الانفتاح الاقتصادي ـ أو هكذا سمي ـ اهتزت كثيرا مواقع المثقفين والفنانين، واحتلت معايير القيمة، وانفتحت فرص جذابة أمام الفنانين الذين أقبل عليهم الأثرياء الجدد وظهرت قاعات العرض التجارية النشطة في وقت إغلاق القاعات المهمة لعرض الفنون كقاعة باب اللوق الرائعة التي شهدت صولات وجولات في العروض والندوات الطليعية، صفيت لصالح مؤسسة مالية. تسلطت إحدي قاعات العرض في وسط المدينة علي حسن سليمان حيث باعت أعماله بنشاط ونجاح، ثم استدرجته ليرسم أشياء أو أعمالا سهلة الهضم مضمونة البيع، وفي غمرة النجاح التجاري فقد الفنان إيقاعه الداخلي وطموح المغامرة وعناد الإبداع لفترة طويلة باعدت بينه وبين الحركة الفنية فانطوي علي نفسه وصار يكتب من وقت لآخر كتابات تتسم بالازدراء والغضب والنرجسية.

بيد أن هذه الحالة القبيحة والطارئة في مشواره قد انقشعت بعد مرحلة انقطاع طويلة ليعود إلي فنه وإلي كتاباته وقراءاته ليسترد سلامه النفسي ويعاود التوافق مع ملكاته الاستثنائية في تمايزها وعمقها، ولكنه كان قد انفصل عمليا عن الحركة الفنية وأصبح أكثر سخطا وعصبية وأطاح بعلاقاته بمعظم الأصدقاء القدامي، حيث أصابته حالة من (القرف) عندما عرف نفسه (بفنان من القاهرة في سنوات عجاف). فقد شهد الأدعياء ومتوسطي المواهب "الذين لا تمزقهم الوحدة، يتحدثون عن الحب والمشاركة الوجدانية، وعن النضال الجماعي، دون أن يلمسوا هذه الأشياء. يعيشون حياتهم، يتحدثون، ويكتبون دون تجربة حقيقية. هم قاصرون عن أن تمسهم تجربة، حياتهم قاصرة، وتجاربهم قاصرة لا تمس وجدانهم ولا تقرب كيانهم. وعوا فقط سلبية الاستسلام والجانب السهل من الحياة، ألا وهو أن تأخذ ولا تعطي".

ويقول: "رقيق وزائف هو مدعي الفن، يضن علي نفسه بتجربة الحياة الأصيلة" ويقول أشعر ببلاهتي بجانب هذا النموذج، يبدو أننا نحن الفنانين قد قدر لنا إن أردنا صدقا وإخلاصا، أن نهدر تجربة حياتنا، دون شهرة، ودون مال، ودون حب.. دون سعادة.

كان دائب الشكوي من الأكاذيب والادعاءات، ومن جهل الفنانين والمثقفين ومن خيانات الرفاق. ولكنه لم يكن تلك الضحية، ولم يكن رفاقه أولئك الخونة، إنما تسلط عليه وباختياره حالة من العزوف والنفي الانفرادي عن الآخرين، وفي كتابه المدهش بعنوان ذلك الجانب الآخر الذي نشرته سلسلة أصوات أدبية بهيئة قصور الثقافة في أواخر التسعينيات شهادة مدهشة علي فيض ثقافته وعمق رؤيته اختزل فيها موقف الفنان والشاعر من الحياة ومن المجتمع ومن الفن ومن الرفاق، هي في واقع الأمر إسقاطا علي ذاته وشهادة علي حياته الملحمية وعلي فنه ومنهجه في الفكر والمعاناة والعزلة، يتحدث عن "تأرجح الفنان الدائم بين المطلق والمجرد، بين لهيب الفن وجحود الصنعة"، وعن بكارة الفنان المتجددة وعن المرسم المفتوح ما بقي حيا، ويلخص حياته كالشاعر والفنان الحديث الذي هو "استمرارية للبطل الرومانتيكي بكل انفعالاته المتباينة وتصرفاته الحادة وتصاعد عواطفه". "حيث كل شيء يضطرم في أعماق الفنان من السادية إلي الماسوشية".

ويقول: يتولد لدي الفنان شعور بأن قوي غامضة ضده، وهكذا يتولد الحس العدائي، والرغبة في أن يمتلك كل غموض.

ويقول: "لقد ألفت النظر إلي غرابة النزعة التي تصاحب البطل الرومانتيكي، أن يعذب ويتعذب، إلي حد أنها أصبحت علامة مميزة له". وإن لم يستطع أن يمارس هذه الهواية فيطبقها علي نفسه. حيث يحس بالضياع والغربة وبعداء المجتمع فينحو "للغرابة والشطط". ويفسر نرجسية البطل الرومانتيكي الجديد بأنها أصبحت جزءا من دائرة مغلقة، حيث يعيش علي مشاعره، يتمركز أكثر وأكثر حول ذاته حتي تصبح ذاته هي عالمه. تجربة لا يملك منها فكاكا أو وضع حد لها، فتبدو تصرفاته غير مقبولة من الآخرين ولكنه صادق ـ هو ـ مع نفسه. ويري في الفنان الحق أنه مغلوب علي أمره، عاجز ولا مفر، مع الحب هو فاشل لا محالة، وكذا مع الحياة. ويختزل حياته كلها بقوله: هو المنتصر المهزوم في الوقت نفسه.