تتجاوز أهمية حسن سليمان المشهد التشكيلي المصري إلى المشهد العربي الأوسع، فقد انشغل الرسام السوري يوسف عبدلكي في السنوات الأخيرة بإعداد فيلم عنه، وها هو فنان سوري مرموق آخر يقدم لنا تجربته معه.

فنان الحرية.. كاتب الحرية

منير الشعراني

كتبت منذ سنوات مقدمة للكتيب الذي تم توزيعه في المعرض التكريمي الذي اقامه المجلس الوطني للثقافة والفنون والاداب في الكويت لفناننا الباقي حسن سليمان، قلت في بدايتها، حسن سليمان واحد من قلة من الافذاذ الذين لم تصنعهم جماعات النقد ولا آلات الإعلام الأيديولوجية او السلطوية، ولا سطوة صالات العرض والترويج، ولم يغرقهم بريق الأضواء. إنه فنان صنعته موهبة أصيلة أذكتها الدراسة، واججها البحث، وأغنتها المعرفة، وعمقها الاخلاص للفن والانقطاع له بجدية قل مثالها، وبروح حرة لاتنحاز الا للحق والخير والجمال، وبذهن متوقد يوظف كل حواسه في خدمة رسالة الفنان التي حملها وانقطع لها، وبعين تري وتلمس وتسمع وتتذوق وتشم كل ما يحيط بها، بظاهره وباطنه، وجليه وخفيه، وبأنامل قادرة علي صياغة خلاصة تفاعل الظاهر والخفي مع الوعي والنبؤه. والجزء الكامل مع البصر والبصيرة في أعمال تتفق مبني "ومعني" مع حرية الفنان التي هي هاجس حسن سليمان في رسومه ولوحاته وكتاباته، بل في مجمل حياته وعطائه.

كنا فتيانا نشتعل حماسا، وثورة، نتلمس طريقنا في الفن والحياة، حين وجدنا أنفسنا بعد عام من الهزيمة، وجها لوجه امام فنان ـ كاتب كان قد حفر في اعماق نفوسنا أساسا، عميقا أثر تأثيرا كبيرا في بنائنا الفني من خلال كتاباته ورسومه في مجلة الكاتب. وجدنا انفسنا وجها لوجه مع اعمال حسن سليمان، مع شخصه وروحه الوثابه، كان في الاربعين من عمره، لكنه كان الاكثر حضورا بين المشاركين في المعرض والمؤتمر الذي عقد انذاك في دمشق، وجدناه يصعد علي الطاولة محتجا علي منطق الانشاء والمهادنة والتنفيس، واضعا الفنانين امام مسئولياتهم الفنية والوطنية، وعرفنا كيف يكون الفنان متسقا قولا وفعلا، قلبا، وقالبا، نظريا وعمليا منه وكما تعلمنا في اللقاءات القليلة التي جمعتنا آنذاك.

كان قد مضي علي لقائي بالمعلم حسن سبعة عشر عاما عندما قررت ان تصبح القاهرة منفاي الاختياري بعد سنوات من الغربة القسرية، وذهبت زائرا الي مرسمه، كنت علي قناعة انه لن يتذكرني، لكني فوجئت انه يتذكر اولئك الفتيان الذين التقاهم في دمشق بحماسهم واسئلتهم وشغفهم، وأخذت معرفتنا تتوطد لتثمر صداقة متينة مستمرة، غذتها رعايتها واهتمامه وتشجيعه ونبله، واحترام وتقدير واعتراف وتثمين مني لدوره وعطائه وشخصه وفضله وفنه ومواقفه. كما فعل مع كثيرين غيري، وقف الباقي حسن سليمان الي جانبي في القاهرة، شجعني تشجيع المعلم الناقد الامين للفن، لم يجامل، ولم يثبط، ولم يبخل بالتوجيه، وقدم نقديا لعدد من معارضيه دون محاباة أو انتقاص. عرفني علي عدد من الكبار امثال الاستاذ حسين بيكار، والاستاذ يحيي حقي، ولم يجد غضاضة في سؤالي عن رأيي في الاعمال التي كان يرسمها، ولا في الاستجابة لبعض الملحوظات البسيطة.

وعندما طلب مني مساعدته في تجهيز مطبوعات معرض البحر تناقشنا في تصميم الدعوة والملصق، وطلبت منه ان يسمح لي بالتصرف، كان قلقا في البداية، لكنه بعدما رأي النتيجة، صار يترك لي امر تصميم مطبوعات معارضه وملصقاتها، كانت صداقتنا قد بلغت درجة من التفاهم جعلته يطلب مني ترجمة كتاباته التقديمية لمعارضه التي كان يكتبها باللغة الانجليزية قائلا: إنك تكتب ما اريده بالضبط بسلاسة ولغة جميلة، بعيدا عن ركاكة الترجمة، لماذا لا تترجم؟ فأقول له: إن لغتي الانجليزية متواضعة لكن المحبة هي التي تجعلني قادرا علي ترجمتك ونقل افكارك.علي قدر وفاء المعلم الباقي حسن سليمان لمعلميه واصدقائه وفنه وقناعاته، كانت خيبته بأولئك الذين علمهم وفتح لهم مغاليق صدره وخبرته وأفكاره ينهلون منها، ثم تنكرون له، وعلي رغم ذلك لم يبخل بفنه وخبرته علي كل من اتاه ليتعلم منه، بل كان عطاؤه يتجاوز التعليم الي المساعدة المعنوية والمادية والنفسية، كان خيرا وكريما معطاء، لا ينتظر شيئا من احد.

ماذا أقول ايضا.. ثمة الكثير الكثير مما يقال دوم ان نفيه حقه، لكن غصة في الحلق تأبي ان تدعني أكمل.

رحل حسن سليمان في صمت، بعد ان نأي بنفسه في مرحلة تسيطر عليها الاصوات العالية للطبول الفارغة، واثر ان يستمر في عمله بعيدا عن الجعجعة والاعلام والاضواء الخادعة.. اثر ان ينأي بنفسه عن الفساد المتفشي في حياتنا الثقافية والفنية، وبقي حيا بعطائه وانتاجه ومثله وهو الذي لم يرض يوما ان يضع سيرة شخصية في أي كتيب من كتيبات معارضة قائلا "لوحاتي وكتاباتي هي سيرتي الشخصية".. انها حقا سيرته الشخصية، وهي كافية لتحفر اسمه عميقا في سجل الخالدين كما حفرت اسم يحيي حقي صديقه الاثير الذي أبي حسن سليمان الا ان يكون وفيا له حتي في موته الجسدي، فأوصي ان تقتصر مراسم وفاته علي الصلاة والتشييع وألا يقام له عزاء، كما كان يحيي حقي قد فعل، فلنعز انفسنا لغيابه، ولنكرم حضوره الخالد في أعماله وآثاره.