ما بعد القصيدة

بصدد «قصيدة النثر، أو القصيدة الخرساء» لعبد المعطي حجازي

صلاح بوسريف

                      " كُلَّمَا صَارَ الإيقَاعُ اجْتِمَاعِياً، كُلَّما اقْتَرَبَ مِنَ النَّظْمِ "

                                                          [هـ. ميشونيك]

                       الصوتُ " لا يُوجَدُ إلاَّ و هو في طريقه إلى الزَّوال "

                                                           [والترـ أونج]

 

قرأتُ كتابَ حجازي، باعتباره كتاباً في الشِّعر، و باعتباره، أيضاً، كتاباً يخوض في قضيةٍ شِعْرِيَةٍ، كثيراً ما كُتِبَ عنها بِنَوْعٍ من الازْدِرَاءِ و السِّلبيةِ. أعني " قصيدة النثر ". كتاب حجازي كان بَدْءاً من عنوانه، يَسِيرُ في هذا الاتِّجاهِ، و هو ليس أَمْراً غَريباً، ما دام حجازي اختارَ، منذ بداية كتابته في هذا الموضوع، أن ينتصر لما يُسَمِّيهِ بـ " قصيدة التفعيلة " أو " القصيدة الموزونة "، أي القصيدة، التي هو أحد مُزَاوِلِيها، في فترة من تاريخ المُمَارَسَة الشعرية العربية المعاصرة.

لَسْتُ مَعْنِياً، في الحقيقة، بـ " قصيدة النثر "، بهذا المفهوم الذي ناقَشْتُهُ في أكثر من مناسبة، فأنا مشغُولٌ بِالشِّعر، هكذا، بهذا المفهوم الأوسع الذي لايزالُ وَعْيُهُ عندنا ناقِصاً، أوْ لم يَتِم بالمعنى الذي جاء به في أوَّل أمْرِهِ. هذا ما يجعلُني في حِلّ من هذا المفهوم، بما يحمله من تناقُضات، وبما يكشف عنه من مرجعية، لم تستطع أن تنأى بنفسها، و لو في مستوى التَّسْمِيَةِ، عن " القصيدة "، باعتبارها ممارسة شعريـة جاءتنـا من ماضي الشعر، و باعتبارها اختياراً شِعْرِياً، سَيَتِمُّ اخْتِزالُ الشِّعر كله في أفقها.

فالقصيدة نمط شعـري، عَمِلَت مرحلة التدوين على تكريسها كاختيـار شعـري عربي، لا يمكن قبول غيره من المُقترحات التي جاءت على يَدِ شُعَرَاءَ، حاولوا أن يكتبوا خارج سياق هذا النموذج، و خارج شكله، أو نمطيته التي تَمّ حصرها في الوزن و القافية، إضافة إلى المعنى( المقصود به هنا البيان)، و ما تجُرُّهُ من تَبِعَاتٍ تفرض على الشاعر أن يلتزم بها كشرط، بدونه لا يمكن للشِّعر أن يُسمَّى شعراً. القصيدة إذن، هي اختيار شعري، و ليست كل الشِّعر، وهذا ما يجعل من تبنيها، كمفهوم، هو نوع من التبني الضمني، لظلال هذا المفهوم، ولما يَجُرُّهُ خلفه من تاريخ، و من خلفيات فكرية، لا يمكن تَجَاهُلُها، مهما حاولنا أن نجتهد، في تبرير هذا المفهوم، أو في تبرير تداوُله. أليست القصيدة، بهذا المعنى، مُفْرداً، لا يمكن أن يكون الشِّعرُ جَمْعُها.. لأنّ الشِّعر، ببساطة، هو كَثْرَة، و ليس جمعاً، أي أنه تعبير عن مُقْتَرَحَاتٍ، القصيدَةُ، هي إحدى هذه المُقْتَرَحَات، و ليست كُل" الشِّعر؟

إن في تَرْكِ الأوْسَعِ، لِتَبَنِّي مفهومات تشي باختناقاتها، في تصوُّرِنا، تعبير عن أزمة في المفهوم، و هو ما سَتترتَّبُ عنه، أيضاً أزمة في الممارسة. فحجازي، حين يُقصي هذا المُقتَرح الشِّعري، يقصيه انطلاقاً من هذا المفهوم ذاته. فهذا المفهوم، أعني " قصيدة.. "، يَجُرُّ خَلْفَهُ تداعيات تَسْمِيَتِهِ، و حجازي يحصر، بالأسف، بناء المفهوم كاملاً، في مُجَرَّد الوزن، رغم أنه حاول أن يُوهِمَنا، بمفهومه للإيقاع، كمفهوم أوسع. فإطلاق معنى " القصيدة الخرساء "، على هذه الممارسة الشعرية، هو اقتصار، في رؤية هذه الممارسة كاملة، على الوزن فقط، أي بِخُلُوِّها  من أوزان مُحَدَّدَة، أو من انتظام في توالي الأصوات، بمعنى أن الكلام في نَظَرِه، لا يجيء و لا يَحْدُثُ، إلا في " القصيدة الموزونة "، و الـوزن، هنا، هو الصوت. أما " قصيدة النثـر "، فهي إشـارات باليـد، و تَلْوِيح، أو هي نوع من البانْتُومِيم، بمعنى أنها تَفْتَقِدُ للصوت، أو الكلام.

حتى عندما يستعمل حجازي كلمة إيقاع، فهو يسعى من و رائها، إلى نَفْيِ هذه الصفة، على " قصيد النثر "، رغم أن حجازي، حين أراد تحديد هذا المفهوم، اكتفى بمعاجم، تَمَّ تجاوُزُها، و لم تعد تكفي في تحديد المفهوم، أو في بنائه. فحجازي لم يبرح تاريخاً مُحَدَّداً في النظرية الشعرية، لأنه ظل أَسِيرَ تَصَوُّرَاتٍ، تَعْتَبِرُ الإيقاعَ وزناً، أو انتظاماً لأصواتٍ ما، و لم يخرج من هذا النَّفَقِ الشعري، إلى أراضِي الشِّعْرِ الكثيرةِ، التي، ربما، كانت الشعرية المعاصرة، خصوصاً لدى هـ.ميشونيك، دون ذكر غيره، حتى لا نبقى أسيري كتاب س. برنار المُنتهية صلاحيته النظرية، استطاعت أن تُوَسِّعَ الأفق أكثر، و تُتِيح للشعر أن يخرج من ضيق المفاهيم، إلى ممارسة، فيها يَتَّسِعُ الشعر لأشكال و مقترحات، لم يسبق أن قَبِلَ بها من قبل. ففي قراءة كتابيه " نقد الإيقـاع.."، و " سياسة الإيقـاع.."، و هما غير مترجمين للعربية، ما يكفي لجعل حجازي يُعيد النظر في مفهومه للشعر، الذي لم يعد هو ما أنجزه " الرواد ".

إذا أردتُ أن أعودَ بحجازي إلى تاريخ المُمَارَسَةِ النقدية عند العرب أنفسهم، فالوزن كحَدٍّ للشِّعر، لم يَحْدُث حوله إجماعٌ، بل كانت تظهر بين الفينة و الأخرى، كتابات و آراء، تَعْتَبِرُ الشِّعرَ أوسع من هذا الحَدّ، و تذهبُ ، في تَصَوُّرِها إلى بناء الشعر وفق دَالَّيْنِ كبيرين، هما الإيقاع والخيال. لعلَّ في موقف الفلاسفة العرب، نظراً لانفتاحهم على ثقافات الآخر، و على النظريات القادمة من أُفُق مُغايِرٍ، ما جعل تَصَوُّرَاتِهم للشعر تهجس بِمَفْهُومٍ للإيقاع، كان أوسع من مفهوم حجازي ذاته. لم تبق دَوَالُّ الشِّعر عندهم، محصورةً في الوزن كدالٍّ يتيم، بل عملوا على وضع الشعر في مواجهة دوالّ أخرى، ظلت في التصور النقدي البياني، أو لدى الأصولية النقدية العربية، غير واردة في وعيهم، أو ما اعتبروه حَدّاً للشعر دون غيره.

وقد أَسْتَعِينُ هنا بموقف برزخ العروضي، الذي كان صَنَّف كتاباً في العروض، نَقَضَ فيه، كما يقول صاحب " إرشاد الأريب "، عروض الخليل، وأبطل دوائره" و الألقاب و العلل التي وضعها، و نسبها إلى قبائل لعرب "، و هو الموقف الذي سَيَتِمُّ نسيانُـه و تجاهُلُـهُ، و بقي مُجَرَّدَ خَبَر عابرٍ، في ما يرد من أخبار، في بعض المصادر الشعرية، و النقدية  القديمة. ثمة أمور كثيرة جَرَت في النظرية الشعرية عند العرب، ذهبت إلى الشعر، بغير ما عاد حجازي يَلُوكُهُ اليوم، في مواجهته " لقصيدة النثر "، دون وعيه بما يحدث من مُقْتَرَحَاتٍ في الشعر العربي المعاصر، هي اليوم أكثر تجاوزاً لمفهوم " قصيدة النثر " ذاتها، بالمفهوم الذي مازال حجازي يحصره في تَسْمِيَةِ سوزان برنار، دون غيرها.

قد أتفق مع حجازي في كون " قصيدة النثر "، و غيرها من المقترحات الشعرية المعاصرة، التي تذهب إلى الإيقاع بمفهومه المعاصر، تحتاج إلى دراسات تكشف عن بنياتها الإيقاعية، هكذا بالجمع، و هي حتماً، ينبغي أن تكون دراسات واصفـة، تُنْصِتُ لـ " أَصْوَاتِ " هذه المقترحات، و تستنبط إيقاعاتِها، لكن لن يَتِمَّ وفق ما يرغبُ فيه حجازي، أعني وضع معايير لهذه المقترحات، أي عَرُوضاً، مثلما توحي به تعابير حجازي نفسه، فالنص الشعري المعاصر، هو اليوم نصٌّ مُنْشَرِحٌ، تتداخل في بنائه جملة من المكونات، لعل الصفحة اليوم، لم تَعُد فيه مُجَرَّدَ وسيط، أو وسيلة، بل إنها صارت إحدى مكونات النص المكتوب، الذي لم تعد الأذن، و هذا هو مأزق حجازي الكبير، وحْدَها تكفي للإنصات إليه، ثمة أبعاد أخرى تتدخَّل في قراءة النص، حيث أن القراءة العمياء، كما سَمَّيْتُها في نص سابق، و أقصدُ بها قراءة السَّوَاد، أي الحِبْر وَحْدَهُ، دون بياض الصفحة، و أشكال توزيع السواد في فضاء الصفحة، أو الصفحة المزدوجة، كما يذهب إلى ذلك مالارميه، لم تعد هذه القراءة وحدها كفيلة بالإنصات إلى إيقاع النص، أي إلى أصواته. إننا اليوم بصدد ممارسة شعرية تُغَيِّرُ أوضَاعَها، و تنفلتُ باستمرار من كل أشكال التنميط، أو الأسر. فـ " التعامل مع الأشياء "، أصبح يتحدد بطبيعة " الموقف الثقافي " الذي " يتخذه الأفراد إزاءها. كما أن أولوية حَاسَّةٍ، في مقابل غيرها، أصبح مرتبطاً بطبيعة ّ الثقافة المسيطرة، في فترة تاريخية معينة، و من خلال دائرة اجتماعية مرتبطة ببيئة محددة "، و هي ما يجعل من الأحاسيس الأخرى تتراجع، لتجعل من الحاسة المهيمنة، تحظى بدور المُوَجِّهِ، أو القائد. فـ" الاستخدام الورقي في حياة المجتمعات المعاصرة، كما يقول أحد الباحثين، في هذا النوع من الوسائط الثقافية الجديدة، جزء من مظاهر ثقافته الحضارية، و أن هذا النوع من الاستخدام الورقي، في حياة هذه المجتمعات، يزداد كُلَّما ازداد تقدمها الحضاري"

إننا في الشعرية المعاصرة، بصدد الكتابة، أو الشِّعر الذي يَعِي الكتابة كشرط حضاري. لم يعد الشفاهي، أعني الصوت ضِمْنَهُ، سوى مكون من بين مكونات أخرى، هي ما يُحَدِّدُ ، في تضافُرِها، شعرية النصِّ، في وَعْيِهِ مكتوباً، و ليس مسموعاً فقط. فالصوت سيتراجع في مقابل الكتابة، أعني وْعْيَ الصفحةِ، التي لا يَحْدُثُ وَعْيُها بالصوت فقط.، بل بعمق الصفحة، ببياضاتها، و بما يرتسم فيها من توزيعات خطية، هي دالٌّ مادي، ملموس، وليس مجرد صدى، مثلما يحدث في الصوت. هذا ما يجعلنا ندعو حجازي إلى إدراك الفرق بين  " القصيدة "، باعتبارها مقترحاً شفاهياً، يمرُّ عبر السماع، و يحتكم، في وعيه، للأذن، و قد وعت نازك الملائكة هذا قبلـه بكثير، و بين الشعر، باعتباره ممارسة كتابية، لا تكتفي بالإيقاع كدال أكبر، بل تفتح النص على دوال أخرى، الأذنُ وحدها لا تستطيع التقاط ديناميتها، و انفتاحها، أو ما أسْمَيْتُهُ ، في سياق آخر، بالشعرية الدينامية المفتوحة، بعكس الشعرية المفتوحة، هكذا، دون شرط الدينامية، التي تبقى النَّبْضَ المُحَرِّكَ للانفتاح، كما هجس بذلك التصور النظري ليوري تينيانوف، في دراسته للبيت الشعري.

لن يفوتني، هنا، أن أذكِّرَ حجازي، بدعوة الشاعر الفرنسي سان ج. بيرس، لـ " الخرس " الشعري، في ما يخص هذا النوع من الممارسة الشعرية، التي لم تعد تقبل وساطة اللسان. و هو ما دفع بيرس إلى رفض الإنشاد، أو القراءة الصوتية للشعر، لأنها تتعارض مع طبيعة النص المكتوب، الذي في حالة إنشاده، تَمَّحِي دوَالُّهُ الأخرى، أو تضيع. بعكس المكتوب، كما يقول كريستيان بيت، فهو لا يحجب الصوت، أو ما يُسميه بـ " الطقس الديني الشفاهي "، بل يجعل حضوره، مكوناً من مكونات شعريته، أو هو، بالأحرى، يُخَفِّف من هيمنته، لِيُتِيحَ للدوال الأخرى أن تُظهِـرَ حُضُورَها، و أن تتمثَّل باقي الدوال ، و تُتيحَ لها أن تَتَصَادَى معه، كما لو أننا بصدد لَحْنٍ، النَّغَمُ فيه لا يحدث بوتَرٍ دون غيره، أو بمجرد آلة دون أخرى، فهو يحدث ككل، لا كعزف مُنْفَرِدٍ، لأن ثمة تصور يحكم اللحنَ كاملاً، و يجعل من كُل آلة تَصُبُّ في الأخرى، تستدعيها، و تتقاطع معها، فيما هي عَزْف له فَرَادَته، لكنها فرادة المُتَوَحِّد.

النص اليوم غَيَّر وتيرة اشتغاله، أصبحت الكتابة شرطاً من شروط وعيه، أو وعي شعريته. لم تعد الشعرية أصوات تتكرر وفق معايير محددة. اتَّسَعَ نطاق الشعر ليصير أكثر عُمْقاً مما كانت عليه القصيدة، حتى ذلك الفصل العجيب، بين لغةٍ للنثر، و لغةٍ للشعر، لم يعُد قائماً بهذه البساطة. لُغَةٌ واحدة، يَدُ الشاعر تعمل على تذويبها في سياق شِعْرِيٍّ، دَوَالٌّ كثيرةٌ تُناهِزُ ماءَهُ، و تُحيلُ النصَّ إلى احتفالٍ شِعْرِيٍّ، لا حَدَّ لاحْتِمَالاتِهِ.