الحرية والإنتاج الإبداعي

قراءة في قصيدة النثر السعودية

علي الرباعي

يؤثرُ عن شعراء الصين قولهم:

" عليك أن تصوغ القصيدة بالطريقة التي

تقص بها لؤلؤة بحيث لا تترك أثراً لأدواتك".

 

        يتصور البعض منا أنه من اليسير على الشاعر فرض شعره على المتلقي دون التفات للذائقة ،مع إغفال الشاعر لأسرار الكتابة ، والوعي بما تحتاجه من أدوات ، تسهم في تحويل النص الظاهر إلى عمق يتعذر على كل أحد الوصول إليه وهنا يمكن أن نطرح سؤالاً "هل يمكن فرض الشعر والشاعرية على المتلقي؟

       لعلنا نفرط في التفاؤل حين نظن أن جمهور الشعر بعمومه أشبه بتلاميذ في مراحل التعليم الأولى ، يغنيهم التلقين ويكفيهم ترديد عبارات لا يدركون مضامين ما تحتويه ، مع اتفاقنا أن بعض المتلقين يتجاوزون الشاعر في مستوى ثقافته ووعيه وإدراكه للأشياء ، ما يعني أن الفارغ لن ينتج سوى فراغاً أو هواء ، ولن تحدث الهمسات من ردود الفعل سوى همسات.

      من هنا نعود إلى تأصيل مفهوم الشاعرية، والقدرة على التعبير عن الأشياء بطريقة مختلفة ، فالأسبقون منذ انقسم الشعر إلى طبع نموذجه البحتري، وصنع نموذجه أبا تمام ، يرون أن الشعر مباغتة وليس طلباً ، وأنه نداء يعتمد على حالة من الوفاق والتضافر بين مزاج الشاعر وزمانه ومكانه ، ناهيك عن اللحظات العصيبة المصاحبة لمخاض النص تنعكس على المبدع  في نمط توتري ينتج عنه تشطيب ومراجعة وإعادة قراءة وعرض على الأصدقاء ، مما يعني أن هناك مواجهة قادمة من قوى متربصة تنتظر مولود الشاعر لتتولى تسميته وتصنيفه والاحتفال بمولده أو إقامة سرادق العزاء ، وتدبيج عبارات الرثاء.

      وحين أشرع في قراءة قصيدة النثر في السعودية لا بد من التأكيد على أن هذا الجنس الأدبي ظهر في أوروبا متزامنا مع عصر الانفتاح وبداية النهضة الحديثة القائمة على مفهوم الحرية وإتاحة فرص الاختيار وبروز مجتمعات منتجة غير مستهلكة فقط، فالحرية والإنتاج يشكلان خصوصية أي مجتمع ، ولعل الكثير من كتاب النص الشعري الحديث ونقاده عربياً توقعوا أن مجرد مشاكلتنا للآخر أو تقاطعنا معه كتابياً ستنقلنا إلى أحضان إبداعه فنولد نتاجاً لا يقل جودة عما قدمه الآخر ، علماً بأن مخاض التجربة في الغرب مر بمراحل منها اليسير ومنها المتعسر، وقامت في وجه هذا النوع من الكتابة حواجز وحوائط ممانعة ومقارعة حتى تبوأ موقعه المناسب بين أشقائه وشقيقاته.

 

     ولا يخفى على راصد أن تجربة قصيدة النثر في السعودية تأثرت بالتجارب العربية منذ ظهور مجلات شعر ، ومواقف ، ومن بعدهما الناقد ، وبرزت أسماء في المشهد الشعري المحلي  في حقبة الثمانينات ، متخذة من الرمز والإيغال فيه حيلة لنيل شرف التسمية أو الوصفية ، ولا يمكن أن نغفل الشاعر الكبير محمد العلي ودوره في نشر الوعي بالجديد ، علماً بأن العلي شاعر عامودي وتفعيلي ، ثم ظهرت أسماء منها علي الدميني ، وفوزية أبو خالد ، ومحمد الدميني ومحمد جبر الحربي وعبد الله الصيخان وآخرين لم يحالفهم الحظ في تبني منهجية التراكمية ، إذ أن تيارات أخرى وقفت لهذا الجيل الحداثي بالمرصاد وأغلقت أمامه المنابر وفتحت عليه نيران التكفير والتلحيد وتشويه السمعة ، ولم تكن بعض الرموز بمعزل عن تشويه أنفسها ، حين الظن أن كتابة قصيدة النثر تفتح لها باب الحرية المطلقة حد المجاهرة بأخطائها الشخصية وتجاوزاتها الفردية سلوكياً وكتابياً.

      وأحسب أن جيلاً لاحقاً كان أكثر جرأة في اقتحام النص بوعي بعد قراءة واستيعاب التراث و تلقف التجارب الوافدة وقراءتها وإنصاتهم لرأي النقاد والإفادة من منجز سابقيهم بعيداً عن الاستهلاكية مع تسليمهم بعالمية الأدب والانفتاح على عالم الدهشة من خلال النصوص الغنية بالحس الإنساني.

    وعندما أخرج من المقدمة التنظيرية إلى الجانب التطبيقي لهذه الورقة أجدني ملزماً أمامكم بتقديم ما أزعم أنه الأنضج محلياً من تجارب معبرة عن ثقافة أصحابها، دون غمط بقية التجارب حقها مكتفياً في الاستشهاد بنماذج من جيل الشباب لكل من الشاعرين علي العمري وإبراهيم زولي .

      وعلي العمري المولود عام 1966م الذي أصدر "فأس على الرأس" عام 1996، و"لا يدري أحد" عام2001، و "لا فوق لمثلك" عام 2004، و"أبناء الأرامل" عام 2006. وهو يجنح دائماًَ إلى التنفيس عن ذاته وعن المتعبين والبسطاء  وتخفيف العبء المعنوي، من خلال توظيف نصه في نقد الزائف والمراوغ ، والإمساك بومضة تعبّر عن حس إنساني مرهف خصوصاً حين نعلم أن العمري القادم إلى العاصمة من قرى في الجنوب، ألف فيها بساطة البشر وحيويتهم وصدقهم في التعامل مع بعضهم بوجه واحد، ليجد نفسه وجه لوجه أمام العاصمة/المدينة المشوهة في نظرها بتناقضاتها وتعدد مستويات المعيشة فيها حد المفارقة ، مما يجعل مفهوم المدينة يتلاشى من عين القروي القادم من الحقل ومرعى الشياه في الجبال لتحل في الذات لعنة  غربة أو اغتراب ، يقول العمري في نص "الرياض":

" هي فعل الحراسة اللامرئي يتقنه الكل ضد كلهم، فاقة قاطع طريق يخسر الرهان قدام أبيه ، فشل صياد رأى النسر يختطف الصقر والفريسة، لحظة ليست في حسبان أحد لا سيكولوجي ولا عارف بالله،ما لم يقله مؤرخ ولا حاجب ولا لص، أضراس أحلامنا منسية في أجساد نسوة يمرقن في المنام، فرح نادر لا يحرك سوى البغضاء".

     إن القرية أرملة عفيفة بحسب الشاعر لا تأكل أبناءها إن جاعت، ولا تأكل بثدييها وإن استبطنتها الحاجة، ليظل أبناؤها محلقين في قائمة انتظار الأمل دون خجل من حالة العوز والحفاء، أو شكوى من ضباب أو تراب أو غبار ، ومن نص أبناء الأرامل نذكر:

 "نحن المنتظرون تحت سماء تسهر ، متلثمين مما هو غبار وحياة لا تلمس ولا إلى صميمها باب، لسنا حفاة ولا الرعاة النافرين من البداوة ، كنا خطأ مصادفة غامضة وشغوفة بالموت"

     ونجده في توصيف حالة القروي الغني بكبريائه ،الملتحف الضباب المتعفر بالتراب ينزل إلى وجع يومي يعانيه معظم البسطاء ، ويعلي من حس الإنسان بعيداً عن الماديات الزائفة، مشكّلاً عالم حلمه من ثنايا وجعه ،ما يعيد له توازنه باستعادة مواجعه ، يقول في صخب الحوائج:

" ما نلمح خاطفاً مع التراب كلما انهال على جثة نعود معفرين في الضباب، ما كسر السهو سوى النبأ ليعود العصاة والمشردون بلا زاد من القفار" .

    ولم يتخل نص العمري من التفاعل بين الأزمنة ماضيها وحاضرها ومستقبلها في حركية تكشف عن كوامن نفسية تضج بالصراع وعدم الانسجام بين ما يراه وما يؤمل ونختتم هنا مستعيدين نموذجاً من تجربته القائمة على طرح السؤال الذي هو أبلغ أحياناً من معظم الأجوبة الجاهزة ،لتولد أسئلته أسئلة أخرى. ونذكر من نص السؤال قوله :

"من أين جئت ، تلك الساعة الغابرة بمسحاة مثلمة ،لم تركت في المحجر ما تركت ،كيف أشعلت أولئك الحشد من الحفاة، وأي هاوية أمامك ، أي نهار سيأخذ مثلك ثم إلى أي الجهات سيرميك".

 

     ولا تقل تجربة الشاعر إبراهيم زولي جمالاً وإثبات وجود عن تجربة العمري ، وزولي من مواليد جازان 1967م، وله "رويدا باتجاه الأرض" 1996، و "أول الرؤيا" 1999، و "الأجساد تسقط في البنفسج" 2006، و "تأخذه من يديه النهارات" 2008، وله تحت الطبع "ربما سوف تمطر" .

     وتتميز نصوص زولي باللغة الشعرية الفياضة بالدلالات ، والمرتكنة إلى الحلم ،والتمرد على الواقع ، ففي نص "أحمل التاج والكلمات" يقول : "هذا فتى خلّفته القبائل لم يمش هونا، ولم يتعلم بحور القصائد ، لكنه يغسل الشعر بالثلج والطلقات".

     إن صوت الشاعر لوحده قادر على المواجهة ، لتؤدي الكلمة وظيفتها من خلال صرخة تعبّر عن الإنسان مع إلغاء المسافة بينه وبين المتلقي ، يقول في نص بيروت: "كلمات المغنين بعض النداء الذي يتبقى ، انتظار المساء الذي يتعانق فيه الأحبة ، من سوف يشرح هذي القصيدة".

      ويلاحظ أن زولي يحرص على حضور الجرس الموسيقى في نصه ليكون أقرب لذائقة شريحة عريضة من المتلقين ، فهو يقول في "فؤاد الفتى":

"البنات افترشن الحنين الذي في فؤاد الفتى كطريق الجنوب ،يلوح في وسطه الغرباء،صارخاً كالمدى دون تجربة هام في اللحظة الآثمة ،حاورته الشبابيك في أي ثوب ستذهب للمرأة القادمة".

 

    وختاما يخرج المتابع لمسيرة قصيدة النثر في السعودية بأن التجربة مرّت بمراحل وفترات زمنية ،ومنها ما طاوله النضج بالتراكمية ومنها ما تاهت به خطى المستسهلين كتابة قصيدة النثر وهم كثر، وشكلوا عائقاً أمام النصوص المتفردة، وشوَّشوا عليها  ليبقى الرهان على الزمن باعتباره مسئولاً عن غربلة النتاج  واستدراك الصالح وفرز المستهلك الهش عن الجيد.