غزة وجراح في القلب

زياد جيّوسي

 

كنت في طريق العودة لأحضان رام الله، يشدني الشوق بعد غياب، أحلم بلحظات الوصول وأنا أمر وأصدقاء لي عبر حواجز الاحتلال وقرف الاحتلال، يشدني الشوق والحنين والحب لرام الله، أنتظر لحظات الوصول لألقي حقيبتي وأجوس في دروبها، أتنشق الياسمينات المتعربشة على الحيطان، أستظل دفء بركة والحور العتيق، كان يوم سبت، وكنت أعلم أن اليوم التالي عطلة رسمية، مما سيتيح لي فرصة التجوال وممارسة العشق لمدينة لا أمتلك إلا أن أعشقها بجنون. وصلنا استراحة أريحا وبدأت رحلة الانتظار لركاب جدد يملئون معنا السيارة، حين علمنا أننا نمر بيوم سبت أسود، فتدافعنا جميعا نرقب الفضائيات في قاعة الاستراحة، نتألم ونتمزق ويشدنا الغضب، فقد بدأ دمنا ينزف في غزة، أشلائنا تتناثر مزقاً، جنون المحتل وقهره وبغضه وحقده يتدفق، طائراته تهدم المباني وتقتل شعبنا المحاصر هناك، إنه الجنون الاحتلالي والحقد المطبق، فتدفق الدم شلالات تروي الأرض وتشعل زيت مشعل الحرية الآتي، فلا مشعل حرية يضيء بغير الدم الزكي.

غادرنا أريحا بصمت وألم، تبخرت الفرحة بقرب الوصول لرام الله، ولم يتبقى هناك إلا اشتعال النار في الصدور، الغضب والألم، وتأخرت المسافة للوصول، فقد استنفر الجيش الاحتلالي في الطرقات، وخرج الرجال الرجال من أطفال الحجارة يرشقونهم بحجارة الغضب والألم، وما أن وصلت حتى كان همي أن أتواصل مع أصدقائي هناك تحت النار، والذين كانوا على تواصل معي حين كانت رام الله تحت القصف والنار، وان أتابع الأخبار والفضائيات، أتصل بالأصدقاء لنرتب ما يمكن فعله، وأن أنطلق للشارع للمشاركة في أولى المسيرات بعد وصولي في المساء.

في اليوم التالي الأحد وبالكاد غمضت لي العيون كنت أشارك بمسيرة تجمعت في ميدان المنارة بعد صلاة الظهر، ولأرى الفصائل التي اتفقت في مساء الأمس على أن لا يُرفع سوى العلم الفلسطيني، تحضر جميعا براياتها ولا أحد يتذكر علم الوطن أو التزم بما تعهد به، فأصبت بالألم مضاعفاً، فلا أحد يدرك أن الوطن أهم من كل الفصائل، وأن راية الوطن أعلى وأهم من كل الرايات، فغادرت بغضب هذا العهر الذي يجري، وأنا ما زلت أحلم بالطهر الذي ترسمه الدماء في غزة. في فترة سابقة كتبت مقال أسميته "نكبتنا في قياداتنا"، وحين رأيت ما رأيت ووجدت فرسان الفضائيات يمتطون صهوة المايكروفونات مجددا، يشتمون بعضهم رغم قصف طائرات العدو ودباباته، رغم شلالات الدم التي تسيل، أيقنت أن نكبتنا في هذه القيادات ما زالت، وأعتقد أن الوقت قد حان ليحملوا عصيهم التي ألهبوا ظهورنا بها ويرحلوا، وعندها سيدرك الاحتلال أن وقت رحيله إلى الأبد قد اقترب، طالما أن هذه القيادات لم تستطيع أن تدرك أننا جميعا تحت الاحتلال، تحت الحصار، وأننا جميعا في شِعب أبي طالب بشكل أو آخر، وليس البعض كما يظنون.

قاوم شعبنا في غزة ثلاثة أسابيع، إنزرع الشهداء كالسنديان بالمئات، وانسكب دم جرحانا بالآلاف، وتحرك العالم بمسيرات الغضب، هذه المسيرات التي إن لم تتحول إلى وسائل للتغيير فستذهب الصرخات بانتهاء الحدث، واستمرت القيادات بالردح العلني، غير مدركة أن ما جرى في غزة والدماء التي سالت بها، والدماء التي تسيل في الضفة المحتلة من بين جموع الغاضبين والمقاومين بصدورهم العارية للاحتلال، ما هو إلا استهداف للوطن وقضية الوطن بأكمله، وليست مجرد مساسا بفصيل أو تنظيم، وأنه قد آن الأوان للخجل والحرص على الوطن قبل الفصيل والذات. هو الألم ما زال يعتصرني منذ اليوم الأول للمعركة، وازداد مما رأيته خلال المعركة، ويزداد مما أراه بعد المعركة، فما زلنا نختلف كالقطتين على قطعة الجبن، وما زال القرد المعادي للقطتين هو الحكم، وما زال العديد ينسون أن دم الشهداء لم يجف ويسعون للاستئثار بالغنائم، دون أن يستفيدوا من الدرس، يراجعوا الأخطاء، ودون أن يدركوا أن الاحتلال لا يفهم سوى لغة واحدة لا غير، وأنه بدون وحدة الموقف والصف والفكرة، فلن تصل الفكرة للاحتلال، وسيبقى الاحتلال يعيد شلالات الدم من جديد.

آه يا وطني، آه يا غزة، آه يا دماء الشهداء، متى سيدركون؟ متى سيتعلمون؟ أشك إن كان ذلك سيحصل، فليرحلوا عنا، حتى يكون لدماء الشهداء قدرة الإنارة لمشعل الحرية، ليوم الصباح الأجمل يوم نهتف جميعا: يا الله هذه الكلمة الحلوة.. الحرية ما أجملها. أعود أحلم برام الله بعد غياب قسري جديد، فمنذ اليوم الثاني للمعركة صرت نزيل المشفى والعلاج، حتى تقرر أن أتعالج في عمّان بعد ثمانية أيام كنت أصرخ فيها من الم الجسد المرضي، وألم الروح التي تتمزق مع غزة، تقرر سفري لانعدام وسائل العلاج المناسبة في رام الله من أجهزة لازمة، فلا أمتلك والألم ما زال يعتصرني، إلا أن أصرخ من القلب، لكم الجنة يا شهداء الوطن، لكم الشفاء يا جرحى الوطن، لكم الشكر أيها الأطباء في رام الله وعمّان، لكم الحب يا أهلي وأصدقائي وأحبتي على وقفتكم معي، فها قد عدت لأكتب عن ألمي بجرح الوطن بعد طول علاج وفراش وألم ذاتي وابتعاد قسري عن الكتابة، وألم في خاصرة الوطن غزة ليس من السهل أن يشفى إلا بالحرية.

صباحك أجمل يا وطني، صباحك أجمل يا غزة الصمود والشهداء والوطن، صباحك أجمل يا رام الله الشوق والحب وجمال أحلام لا تفارقني، صباحك الأجمل يا طيفي الحلو الشقي الذي أشتاق، أحتسي القهوة بعد غياب عنها، أنظر من شرفتي ومن بين كتبي، أستمع لفيروز تشدو: "خدني عا تلاتها الحلوة، خدني على الأرض اللي ربتنا، إنساني على حفافي العنب والتين، واشلحني عا ترابات ضيعتنا، أبواب العتيقة عم بتلوحلي، وصوت النهورة ينده الغياب وعيون عا شبابيك تشرحلي، أصحاب عم بتقول نحنا أصحاب، وأمشي عا طرقات منسية، دنيت غياب وراح يغيب الصيف، وأنطر شي أيد تسلم عليّ، وشي صوت عم بيقول مسا الخير".

صباحكم أجمل. 


عمّان 22/ 1/ 2009