شعرية التحقيل التخييلى والمعرفى

عند محمد عفيفي مطر

أيمن تعيلب

 

إن إنتاجية الشعر لدى محمد عفيفى مطر هي قدرة على الحرية والهدم وإعادة التأسيس والتنظيم من جديد، وفق وجوه جمالية ومعرفية شتى، فهى إعادة للغة المألوفة الشائعة إلى جوهرها الوجودى الأصيل، وإعادة للشعر إلى ينبوعه الصافي الخلاق، وإعادة للوعي الإنساني إلى حريته وأصالته، وإعادة للواقع الحضارى إلى نبله المفتقد، وبهذه المثابة الجمالية فإن شعرية مطر فى ديوانيه الأخيرين (المنمنمات ـ ملكوت عبد الله) تنقل حد التخييل والمجاز من فكرة العناصر المتفاعلة إلى فكرة الأنساق المتراكبة المتداخلة بما يوسع من حد التخييل والشعرية، بتحويلهما إلى فضاء تخييلى تعددى تداخلى نطلق عليه هنا فضاء «التحقيل التخييلى والمعرفى»، إن إحياء دور الشاعر المنتج معناه إعادة تأسيس وعينا بالأشياء والموجودات والأنساق وسائر ألوان العلاقات التى تكون وعينا بأشياء العالم التي بهتت ألوانها واستهلكت نتيجة إلفنا لها، ولهذا تبدأ شعرية الشعر بالخروج عن المألوف، وخلق جدل الغرابة الذي يتصاعد ليبلغ حد الصدمة والدهشة. فدور الشعر هنا دور متعدد السياقات، متداخل الأنساق، اللغة الشعرية لا تكتفى ببناء اللغة فى الشعر بعيدا عن إطارها المعيارى العام فحسب، وإنما تنبني على أنقاضه أو قل تعيد تأسيسه من جديد، فيما نطلق عليه هنا القدرة على إنجاز «مجازات الخلاء» فى مقابل «مجازات الاحتواء»، حيث يزحزح الشعر من حد الثقافة والأنساق التى تنبنى بها وعليها، ليعيد أشكلة البهيات السائدة فى النماذج المعرفية والجمالية والثقافية التى تكون بنية وعيها ولاوعيها معا، فهو يرى فى المتناهى فى المألوف متناهيا فى الغرابة، ومن ثمة يعيد الشعر كتابة الصمت بوصفه إمكانا هائلا للمعنى والدلالة، يعيد الشعر كتابة الصمت والنسيان فى مواجهة كتابة التحصيل والتذكر.

فإذا كانت اللغة بالنسبة للاستخدام اليومي المألوف وسيلة نحقق بها جملة فوائد، فإنها بالنسبة للشاعر وسيلة خلق وإبداع وتأسيس متجدد، وإذا كان استعمالنا المطرد المعتاد للغة يتم وفق أنماط وقوالب معتادة جاهزة، فإن استعمال الشعر لها إنما يهدف إلي خلق سياقات أسلوبية ووجودية واستشرافية جديدة، لا تلبث أن تتحول بدورها إلى أنماط جمالية معرفية مستهلكة، فيهيئ الإبداع لها شاعراً أصيلاً يعدل بها عن هذه الأنماط المستهلكة إلى سياقات جديدة مبتكرة تعيد الوعي الحر بالأشياء والموجودات وسائر علاقات الأنساق خارج إطار النظام اللغوي الرمزي العام. وكأنه يزحزحنا عن الوجود لنكون فى الوجود، ويخرجنا من الثقافة لنكون فى عمق الثقافة، الشعر يجعلنا فى العالم وخارجه معا، وبهذا يلتقي الشعر بالأشياء وجهاً لوجه بعيدا عن أى تغميض أو تعتيم دلالى وهمى، فالثقافة بقدر ما تمنح تمنع، وبقدر ما تكشف تعتم، وهى تؤسس للجهل بقدر تأسيها للعلم، ومن ثمة يعيد الشعر بناء حد الجهل بوصفه علما والعلم بوصفه جهلا، حتى يعود لنا وعينا الغائب، وعندما يعود للوعي الإنساني إشراقه تعود للغة حريتها وإبداعها ويتأسس نحوها وصرفها وتركيبها من جديد.

ومن هذا المنطلق الجمالى والمعرفى والتخييلى سعى محمد عفيفى مطر إلى إعادة تأسيس مجازه الشعرى فى دواوينه الأخيره فيما نطلق عليه هنا «شعرية التحقيل التخييلى والمعرفى»، فقد كان المجاز لديه سبيلا من سبل الحرية ضد عسف الضرورة، وأفقا من آفاق جدة الإدراك ضد نمطية الوعى والتوقع، وقدرة على جر بلاغة اللامعنى والصمت والمجهول والغياب إلى بلاغة المعنى والنسق التشعبى التداخلى المكون من كوثرة الأنساق الداخلية النصوصية، وكوثرة الأنساق الخارجية الواقعية والتى هى فى النهاية صورة من صور البناء النصى والبناء الثقافى بوجه عام، ومن ثمة استطاع الشعر السكران بالتخييل أن يرى فى شطح الدمع ويسمع، يقول مطر فى قصيدة «يرى السكران فى شطح الدمع ويسمع»:

ما ثم من صوت ولا من نأمة للغو
أنت قبيل إشهاد الكلام
وقبيل فجر النحو والإيقاع
..........................
أنت على أرائك عريك انكشفت بك الآفاق واندلع الذهول
سرحت من نمل الجنون أوابد الصبوات:
نمل ينتشى بشروده المهتاج مابين الذرا وطراوة العشب المبلل بالحرير
فيرتقى ليجرب العشق انتحارا
أو يذوق فينتشى ويدب فى سكر الجنون إلى مغاور جمرك المكنون
يوغل بين تعتعة وبين تطوح فى شطحة الغرق الجميل
من عنبر الخفين يندلع الحريق
ويمور فى مرآة عريك، والدخان أمم من الفوضى العفية
لانظير وليس من ضد
وجمر ذائب فى الماء.
ذرو من هباء الشعر يعصف دونما نطق
وأشباح القصائد والهيولى من عبيد الشعر
من مرآة عريك ينسلون
بشراك أن دخانك الأعلى سينفخ فيهم الأسماء والأشكال فى أفق اللغات إذ
تقادحت اشتقاقات الكلام
شقى إذن أثواب ليلك أو نهارك
وامنحى مزقا لمن يقفون فى أعتاب عريك
إنهم أبواق صوتك فانفخى فيها
وهو ألواح نطقك فانثرى الشرر المعلق فى الدخان حتى يكونوا
(ديوان المنمنمات، ص11/ 12)

فانظر معى كيف تحل الشعرية هنا منطق الظل محل منطق المركز، ومنطق العبور التخييلى والمعرفى، والنشاط الجدلى المتعدد محل منطق التطابق الثقافى العام، ومنطق كتابة الحضور الفعلى فى حسيته الصوفية اليومية الباذخة، محل منطق الذاكرة والتحصيل، وفجاجة التراكم اللغوى والرمزى والاستعارى اليومى المكرور، حينئذ تصير الشعرية إمكانا جماليا ومعرفيا متجددا، لا مجرد إنجاز جمالي متحقق مهما كانت قدرته، فاللحظة الجمالية تمثل حضورا تخييليا ينفى ذاته حين يثبت ذاته، ففى شطحات التخييل يتجلى جدل النفى فى ذات لحظة جدل الإثبات عبر صور جمالية تعددية تدرجية احتوائية تنغل فى عمق الثقافة وخارجها معا، وكأننا أمام سلاسل تعددية تجادلية من الإخلاء التخييلى المستمر ضد مجازات الاحتواء الثقافى المهيمن، حتى ينفتح الواقع والشعر والعالم واللغة على التعددى والممكن والمحتمل بصورة جذرية، ولعل هذا يتسق مع ما اقترحناه فى دراسات آنفة لنا عن مطر وغيره من الشعراء الكبار من مصطلح جديد لهذه الشعرية التجريبية الجديدة أطلقنا عليه «الخيال المنظومى التشعبى» فى محاولة تأسيس مفهوم جديد للمجاز، وللأدبية الحديثة برمتها إنشاء وتلقيا وشيوعا. بما ينقلها من فكرة العلاقات المجازية الثنائية السائدة والقائمة على الخطية والتعاقبية السببية إلى مفهوم فكرة الفضاءات والأنساق والعلاقات المجازية الشبكية البينية المؤسسة على النسقية والتعددية والكوكبية والتداخلية، مستبدلة فكرة العلاقة فى مفهوم الأدبية، بفكرة الأنساق التخييلية التركيبية التداخلية، وفكرة البناء الفنى الواحد للنص، بفكرة الخطابات التشعبية الشبكية المتداخلة، القادرة على رصد خيال الحركة والصورة والصوت والمادة والسرعة فى بنية الشعر والمادة والواقع فى وقت واحد.

إننا هنا نعبر من العالم الواحد إلى العوالم المتعددة، ومن الأنساق الثابتة إلى النشاطات المتحولة، ولذا فقد كانت فكرة الفضاءات التعددية البينية أقرب رحما لما نحن بصدد تأصيله هنا من تحول الشعرية من فكرة العنصر أو العناصر، إلى فكرة الفضاء، أوالفضاءات، وتجليها كموسوعة تخييلية للعوالم الجمالية والمعرفية المتباينة المتناظمة، حيث يتجلى العالم والواقع والذات والتاريخ والخيال فى الشعرية التشعبية البينية بوصفه تعددية غير متناهية لا على سبيل عدمية المركز كما هو الحال فى التفكيك الغربى ـ أو كما فهم كذلك على الأقل فى أدبياتنا النقدية المعاصرة ـ ولكن على سبيل تعددية المراكز التى تتداخل فيها جدليات المتون والهوامش والصوامت والمغيبات والممكنات والمستحيلات، حتى ليتجلى الشكل الجمالى بوصفه تعددا تخييليا منظوميا متداخلا، فهو ينتقل من تشكيل النظام إلى تشكيل النظم، كما ينتقل من تشكيل النظم المتناوئة إلى تداخلها وتناظمها وتناميها، عبر أسباب تشكيلية غنية ومتعددة الأشكال والوجوه والرؤى، ولعلنا ندرك فى النص الشعرى السابق لمطر الجوامع المعرفية والجمالية والتخييلية المشتركة بين الدرويش الصوفى الجوال، ونفى فكرة الحضور التعيينى فى الزمن والشعر معا، حيث يتوازى فعل الشطح الصوفى وفكرة الشعر الجوال الشاطح فى رحم الثغرات المعرفية، والفجوات التخييلية، والصوامت التكوينية فى وعى ولاوعى الواقع والثقافة معا، يتوازى الشطح والحرية والمرونة والتجدد ضد النسق والنماذج والتعقل والتمنهج، فيزيد نمو يساق المعنى بجر بلاغة اللامعنى إليه تكون حدا تأسيسا ضمن حدوده المبتكرة.

وكأننا بصدد إعدام دلالى وجمالى ومعرفى ومنهجى مستمر بين الوعى الشعرى بوصفه لغة، والوعى بالوجود الظاهراتى اليومى بوصفه تعينا ماديا كثيفا باذخا لاحد لأشكاله وممكناته، بما يفتح باب الشعر على الحضور بوصفه حاضرا مؤجلا دوما أو حضور لاتنتهى عجائبه، ولاتنفد غرائبه، حيث تنتفى فكرة الحضور، بعد أن تغلل فى غواشى الثقافة، وزيف الأنظمة الاجتماعية والسياسية الراسخة، ولامفر هنا من تعدى التخييل حدود البعد الواحد، ودخوله فى كتلية تخييلية تعددية، إن شعرية التحقييل التخييلى لدى مطر قائمة على تحرير فكرة العلاقات الخيالية من حدودها الجمالية المعتادة فى الموروث النقدى والبلاغى العربى القديم والحديث معا، ونقلها من حدها الأدبي الخالص فى البلاغة العربية القديمة والجديدة بوصفه حدا أحادى المسار الجمالى والمعرفى مهما تعددت صوره وتفاعلاته، إلى فضاءات شعرية تجريبية جديدة تقوم على «التحقيل التخييلى والمعرفى» أى جعل الخيال تحقيلا مجازيا ومعرفيا باذخا من الترابطات والأنساق والتداخلات المنظومية البينية ضمن حقول معرفية وجمالية وعقلانية وتجريبية متعددة ومتباينة من الصوفى والمادى والمنطقى والعقلانى واللاعقلانى والكونى والفلسفى معا وفى وقت واحد، حتى ليدخل التخييل عوالم عضوية جديدة تتراكب من النمط واللانمط معا، قياسا على حيوية تراكبية ومنظومية بنية العالم والواقع بما هى ناظمة نظم لا بانية عناصر، تتحرك على هيئة كتل حسية معرفية منهجية تعددية تداخلية جدلية غير تكاملية، ففى الجدل تنفتح الحياة والنصوص وفى التكامل تنغلق الحركة موهمة ببلوغ درجة الاتساق والرضى والتسليم، وربما يحتاج هذا منا إلى دراسات متعددة حول شعرية مطر، بما يخرج بنا عن حيز هذه الدراسة المحدودة، حقا إن التخصص العلمى فى الخطاب النقدى العربى كان فضيلة أشبه بالرذيلة، لكنه على كل حال ليس فضيلة محبذة فى ذاتها، بل رذيلة علمية منهجية واجبة، تعلمنا أن التطور العلمى هو تاريخ الأخطاء المصححة كما يقول بشلار، إن التخصص يفقد قدرته إن كان مفصولا عن إدراجه فى سياق فهم وجدل واستشراف معرفى أخصب وأعم منه، من الممكن أن يشتبك جدليا معه ويندمج فيه، فيتسع به ويتدرج منه من الواحدية المعرفية المنغلقة إلى التعددية المنهجية البينية المنفتحة(1)، فالمعرفة المتخصصة لاتمدنا بخير مافيها إلا إذا أدمجت فى سياقات معرفية متعددة ومتباينة ومتداخلة توسع من حدود وعيها واستشرافها معا.

إن وعى التخييل المطرى بالأشياء والموجودات والنصوص والتاريخ والذات والثقافة يتم من خلال أنساق من التداخلات والتعالقات والامتدادات المعرفية والمنهجية، حيث يكون التخييل البنائى للنص المطرى أشبه بسجلات تخييلية متراكبة ومتداخلة ـ وليس نسقا، هو علاقة نشطة ممتدة ـ علاقات ـ وليس نظاما موضوعيا محددا، الوعى فيه بنى متعددة متداخلة متصادية، وإن أى إخلال بهذه البنى من قريب أو بعيد هو إخلال ببنية الوعى كله، و بهذه المثابة المنهجية يجب علينا أن نفهم «مصطلح التحقيل المعرفى والتخييلى» هنا فهما فلسفيا جدليا متسعا كما عرض له المفكر المغربى طه عبد الرحمن حيث «لايقتصر حقل المفهوم على التأثيل الحقلى، فالاحتقال هنا يحيل إلى معنى الحياة، أى كل ما يمد المفهوم بالحياة ولوازمها من الاتساع والحركة والنمو والتمكن والامتداد والتأثيل، والتحقل عملية يتم فيها تزويد المعنى الاصطلاحى للمفهوم بدلالات مضمرة مستمدة من المضمون اللغوى واستخداماته التداولية ودلالاته الحسية والحقلية ومقابلاته البنيوية وبهذا يتمكن المفهوم من الحياة ولك ما يمكن المفهوم من الحياة يعد تأثيلا، والتأثيل فى اللغة يحيل إلى جذور الشجرة التى تمدها بالحياة، وهذه الاستراتيجية تقوم على الاحتفاء بالمجاز والاشتباه والتعارضات التى تحملها العلامة والمفاهيم الفلسفية هى أصلا مفاهيم مشتبهة أى لاحدود مضبوطة توضع لها، حيثما توجد الاستعارة فثمة يقينا اشتباه ما، الاستعارة وحدها قول مشتبه لايضر اشتباهه ولايزول(2)».

ثمة مسافات منهجية ونظرية ومعرفية أبدية بين الإنسان وذاته، وبين النظرية والنص، وبين النص والمنهج، وبين الواقع والثقافة، ليس هذا فقط بل توجد ذات المسافات بين الواقع كما هو فى ذاته وما نتصوره على أنه الواقع، وبين النصوص فى ذواتها المتعددة الخبيئة والمعلنة، ومانتصوره منهجيا وإجرائيا عن النصوص، إن كل شىء من حولنا على مقربة ومبعدة من نفسه فى ذات الوقت، ومن هنا يبطل تصور هيجل فى تخيله الواهم بانتهاء فكرة الجدل نفسها بعد الوصول إلى مرحلة التحقق من وحدة المتناقضين، الحقيقة ليس هناك متناقضين فقط بل هناك متناقضات ومتناقضات، وتداخلات بين المتناقضات، ليس هذا فقط بل المتناقض هو متناقض بالقياس إلى غيره وبالقياس إلى ذاته فى الوقت نفسه وبنفس القوة والحيوية، إن كل ماهية ملتحمة بانقسام، وكل حضور هو صورة من صور الغياب، وكل تماسك منسجم تتخلله ثغرات وثغرات، وكل جدل أصيل يصعد إلى مزيد من الجدل، إن حركة الدلالة كما يقول ديريدا «لاتكون ممكنة إلا إذا كان كل عنصر ينعت بأنه (حاضر) يتعلق بشيء آخر غيره، محتفظا فى ذاته بالعنصر الماضي، وتاركا مجال احتفاره بعلاقته بالعنصر الآتى(3)». وهذا يعنى أن العلم والعالم والنصوص تنبنى جميعا بالفراغ والصمت والغياب مثلما تنبنى بالامتلاء والأطر والأنساق، فليس ثمة أى علاقة سببية منهجية دقيقة بين حقلين معرفين جد مختلفية بصورة جذرية، لقد انغمر الوعي اللغوي والشعري والتخييلى والمعرفى لمحمد عفيفى مطر في تركيبة بنائية معقدة السياقات والمنازع والمشارب، ومن هنا فمطر يوازى بين الشعر والجنون فى قوله: 

أعوذ بالشعر من الجنون
لولاه ما كنت ولانفتحت تحت مشارط الشمس مسالك الرؤية والعيون
لولاه ما تكورت وانبسطت جوانب المهجور والمسكون
ولاانتحرت تحت مطر الدهشة بالصمت أو الخيانة
أعوذ بالكهانة
من هذه الفضيحة التى تطردنا من جلدنا
تجعلنا نهرب فى الأشياء( شهادة 9)

إن البحث عن لغة لم تقل من قبل، لغة ضد اللغة الشائعة دفع الشعراء المحدثين إلى ابتكار صيغ تعبيرية متميزة بخصوصياتها الأسلوبية التي تصدم القارئ وتدعوه إلى مراجعة وعيه وتصوره للعالم المحيط به، والشاعر في النص السابق يصادم مجمل البنيات اللغوية الرمزية التي كونت الحقيقة السائدة في العالم المحيط به، إنه يبتكر سمته الخاص الفريد وسط ركامات القسمات الرمزية العامة الشائعة، وبالطبع كان لهذا التصور للبنية الشعرية علائق متعددة بمنظور الحداثة وطبيعة الفن الشعري لدى الشعراء، ونحن إن كنا نرى مع معظم نظريات الشعر أن الشعر لغة داخل لغة، أو هو بنية لغوية فنية فريدة يشتقها الشاعر من أعماق القوالب والأطر اللغوية العامة السائدة بما يعيد تأسيسها من جديد، فإن الشعرية لدى مطر كانت أشبه بالتحويل الثورى لبنى المعرفة والتخييل، وذلك بإخلاء نماذج مجازية ومعرفية وإحلال أخرى بديلة تقطع معها دلاليا ورمزيا ومعرفيا، لقد كان الشعر مخططا جماليا ثوريا يبتكره الغضب الخالق لدى الشاعر ضد كافة أشكال السلطة وقيود الضرورة، وكان الخلق اللغوى موازيا لخلق عالم بديل، يبتغي من ورائه تغيير جسد الواقع وشرايينه ودمائه. يقول الشاعر:

دعوا التشطير والتخميس هذا الشعر أجداث
وأوهام مخرقة وأضغاث
دعوا الخيام يشرب كأسه وحده
ويلعن ظلمة الحفرة
ويشكو قسوة الأقدار للندمان
دعوا شوقى يسبح ربه السلطان
ويلبس تاج مملكة مزيفة بلا تيجان
دعوا الموتى
فكم سفحوا محابرهم على الأعتاب
ومدوا أكفهم للرفد والخلعة
ويا أسفا مضوا .. تركوا حروفا
طرزت بالوشى والصنعة
وليس بها غير عبير تراب
وليس بها عبير الليل حين ينيره الإنسان
ببعض عذابه بالجوع بالحمى
وهذا العصر ـ رغم جفافه ـ يشتاق للكلمة
إذا سارت على قدمين
وغاصت فى رياح الأرض، والتمعت
بنظرة عين
وسارت فى الدم المشبوب جمرة نار
وشفت عن ضمير القاع
(محمد عفيفى مطر، نص الملكة واللوردات: ديوان مجمرة البدايات).

يجب علينا فى وعى هذا الشعر أن تستضىء كما كان يقول الشاعر دوما «بشمسك أنت»، بل هذا لا يكفى بل يجب أن «واحمل على كفك شمسا للقراءة» ولكن هل ستسعفنا هذه الشمس حقا فى قراءة النقاد لمطر؟؟ نحن نتصور شعرية مطر قسمة جمالية وفكرية معقدة السياقات بينه وبين قرائه، فهو يستنفر أشواقه وأشواقنا فى احتشاد كيانى معقد السياقات لنكون أكثر تواصلا مع ذواتنا، والعالم المحيط بنا، إن القدرة على الحرية كدح موصول، واحتشاد أسلوبى إنسانى كونى لا يتناهى بيننا وبين قيود الضرورة وطلاقة الحرية، من هنا كانت ضرورة بل حتمية «شمس القراءة» فى مقابلة ظلمة الإلف الثقافى العام والسائد الجمالى المتبع، يقول الدكتور سامى أدهم فى كتابه عن «تفكيك العقل اللغوى» إن اللغة تعمل «كجهاز تنظيمي» في علاقتها بالتنميط اللغوي السائد، وهو تنميط وجودي فكري في المقام الأول، ويحاول الشاعر تفكيك العقل اللغوي السلطوي ممثلا في "المؤسسة الرمزية" ليعيد للغة المبعثرة المؤدلجة حياتها الحية، بصفتها حاضنة للوجود الإنساني وليس بصفتها مغربة له، ومقولبة إياه، إذ دائما تبدأ اللغة كما يقول هيدجر علي أيدي الفنانين من جديد، فهى بيت الكينونة والهوية ومعني (تبدأ هنا) أي تنمو بحق، وتغني بحق علي يد الفنان القادر علي مساءلة مألوفاتها الشائعة بحكم الإلف والرتابة حتى صارت في رتبة الحقائق غير المختلف عليها، فما يلبث الفنان الأصيل بأن ينهض إليها ثانية ليحطم الحق الذي شاع بسلطة شيوعه فقط، معيدا الحق الذي يتأسس بسلطة الحقيقة وجوهرها العميق. إن الشعر لدى مطر يعلمناعبر بنائه الجمالى كيف نفرق بدقة بين الحرية والضرورة، هذا هو الدرس الجمالي اللغوي الدقيق لدي الشعر والشاعر، وهذا الدرس اللغوي الجمالي هو درس جمالى وأخلاقى بالمعني الفلسفي الواسع لكلمة الأخلاق فدائما الحق والجمال والخير منظومات متداخلة متجانسة متفاعلة في وقت واحد، وإذ يحاول الشعر لدى مطر أن يغامر باللغة من جديد فهو يحاول أيضا أن يكشف عن جوهر الزيف في اللغة الرسمية بصفتها عنفا رمزيا منظما، وإذ ينسحب النص الشعرى عبر بنيته الجمالية التخييلية إلى عالمه الخاص يعيد مسائلة عالم العقلاء المؤسس على الشيوع الوهمى، إلي عالم المجانيين العقلاء ومن هنا فقط نستطيع وعى دلالة الجنون لدى مطر فى نصه السابق، فالشاعر من خلال صوره وأخيلته وإيقاعاته إلي أن ذواتنا في كافة عملياتها المعرفية والنفسية والفكرية محاصرة رمزيا حيث «إن كل ما يحس ويسمع ويطرب له، ويلذ به، كل لوحة وتمثال ووقفة وموقف وحالة نفسية وفعل فكر هو حالة رمزوية فالألم والكره والحسد والتذكر والخيال والعاطفة هي رموز معاشة... وتفريغ الذات من اللغة الرمزية صعب... حتى لو خفف الذات إلي القمع والتعذيب الشديد وجعلناها تنسي وتفقد ما تعلمته (غسل الدماغ) من رموز لغوية(4)».

وتمارس شعرية مطر هذه الجدليات الأسلوبية والتخييلية والمعرفية الكونية المعقدة السياقات والتداخلات على أكثر من مستوى، فعلى مستوى الشعر كما فى النص السابق يكدح الشعر ضد قيود الضرورة اللغوية الرمزية السائدة، لتحقيق حريته الخيالية وطلاقته التصويرية، حيث يتحول الشعر من عبودية التشطير والتخميس واللعب الشكلى العقيم، إلى حرية الخيال والقدرة على قنص الوجود فى قفص الشكل الجمالى الممكن. إن المجاز السابق الذى يصف الشعر الخاوى بالجدث العفن، وبالأوهام المخرقة المهلهلة، والأضغاث المفرقة فاقدة القوام والتماسك، كل ذلك يذكرنا بشعرية الانحطاط فى جميع عصور الأدب العربى قديمه وحديثه: عصور التخميس والتشطير الشعرى عندما يفر الشعر إلى طقوس الشكل العقيم بعدما أعطى ظهره للحياة، ووقع أسير عبودية الشكل العبثى الجامد الذى يوهم بالحدثة الشكلية العقيمة، الموازى اللغوى لعبودية الفكر والوجدان والتصورات، وانتفاء الممارسة الجمالية والحياتية الطليقة، والشاعر إذ يعي ذلك ينظر إلى لغة الإبداع بوصفها لغة منزاحة عن جميع الآفاق السابقة، وإن انطلقت منها فى ذات الوقت، لأن الإبداع وفق الصور الشعرية السابقة يتلهى بالذاكرة الصماء التى تعبث بخلايا الروح ـ يصير صيرورة متحولة لا ذاكرة جامدة، حيث يرتحل من مقام السكون إلى مقام التحول، مسجلا سبق الوعى على الوجود، والهوية على الماهية، أي سبق الوعي الجمالي على الوعي الواقعي، حتى يتم الارتقاء بالواقعى إلى الحقيقى، هذا من جهة المهمة الشعرية، أما من جهة الطبيعة النوعية للشعرية فالنص السابق يمارس حرية أخرى على مستوى الجدل الحى الخلاق ضد الموروثات الشعرية والأسلوبية السابقة عليه، وذلك فى أثناء خلقه لنصه الشعرى، فإن رفض الشكل العقيم يعنى إرادة الشكل الحى الخلاق القادر على إجراء ضروب من التغير والتحول والحرية فى البنية الجمالية السائدة والساكنة بغية خلق بنية جمالية تجريبية مستشرفة، فمن المعروف أن الشعر والشاعر يمارسون ضروبا من التحول والتحور لاتنتهى فى أثناء عملية الخلق الشعرى والتصرف فى المادة اللغوية حتى تستوى رخاما جماليا مشعا فى صورته النهائية، فمطر يرى الشعر كما توحى الصور السابقة فى نصه الشعرى «يشتاق للكلمة إذا سارت على قدمين ـ وغاصت فى رياح الأرض ـ والتمعت بنظرة عين ـ وسارت فى الدم المشبوب جمرة نار ـ وشفت عن ضمير القاع» هذا الخلق اللغوى الوجودى لا يتحقق إلا إذا نحت الشعر تمثاله الجمالى المنشود من المفردات والتراكيب والنغمات والصور والألوان، حتى تتحول المادة اللغوية الحسية الغفل من ركام لغوى أليف إلى نشاط جمالى فعال. إن هذا الجهاد اللغوى الفادح ضد ضرورة المادة اللغوية السائدة هو القادر وحده على خلق حرية النص الشعرى من جهة، وحرية المتلقى من جهة ثانية، وحرية الواقع الحضارى من جهة ثالثة، أما من جهة جدل المتلقى بين الحرية والضرورة فى تلقيه النص الشعرى فهو إذ يتلقى النص يستنفر طاقاته الجمالية والمعرفية والخيالية حتى يضع النص الشعرى حيث تكمن رسالته الفنية المبتغاة، وهو إذ يتصارع مع النص فى أثناء وعيه به قد يجلب إليه ما ليس فيه، أو قد يخرج منه ما فيه، أو قد يحوم حول حماه دون أن يقع فيه، وفى جميع هذه الأحوال يمارس القارئ لمطر حريته فى حدودها القصوى الممكنة، لقد قلنا فى دراسة سابقة لنا عن شعرية مطر بأنها شعرية، «السياقات الجمالية التعددية التداخلية المتجاوزة»، ويجب أن نعى مصطلح السياق هنا بمعناه المتعدد المعقد المتداخل، فثمة تكوثر تكوينى داخلى وخارجى لمفهوم السياق، فثمة سياقات داخلية جمالية تربط بين نص عفيفى ومجمل التقاليد الجمالية التراثية السابقة عليه فى ثراثه وتراث الآخرين، وثمة سياقات خارجية معرفية تربط شعر الشاعر بموروثه المعرفى والنقدى العربى والموروث الغربى أيضا، وثمة سياقات استشرافية تربط الشعرية بقدرتها على المناوئة والصدام والتجاوز، ولا يتم تحقيق كوثرة السياقات السابقة كلها بغير السياق الجمالى والمعرفى والتخييلى لقارئ عفيفى مطر فهو شاعر مغروس فى طين حضارته وواقعه المحيط به، مندغم بقرائه عبر وجداناتهم المحلية والجمعية الواعية واللاواعية والمستشرفة معا، ومن واقع التصورات السابقة نستطيع أن نعى السياقات الفكرية والجمالية المعقدة واللازمة للوعى النقدى بالنص لدى عفيفى مطر، هذا الوعى الذى يقرن بين اللغة والخيال والأيديولوجيا والحرية والعالم عبر وسائط جمالية حسية معقدة، توازى تعقيد العالم المحيط بها من جهة، وتعقد الوعى الجمالى والوجودى للشاعر من جهة ثانية. وإذا كان عالم الخطاب الشعرى لدى مطر يتجاوز الإمكانات المعرفية والجمالية للمصطلح النقدى الآنى، فعلينا أن نكرر مع «جون كرو رانسوم» «بأن ثمة فجوة تفصل عادة بين الناقد وعلم الجمال ن وسلطة النقد إنما تعتمد على تصالحه مع علم الجمال، وسلطة الجمال إنما تعتمد على تصالحه مع النقد، أما وظيفة النقد فينبغي أن تتجاوز معرفة الأدوات التقنية للأدب، لأن هذه يعرفها الجميع، وإن أشهر شعرائنا غالباً ما يخرجون عن استخدام هذه الأدوات التقليدية، فالابتكارات الشعرية قد تدفع بالناقد العادي إلى القنوط حين يحاول حصرها في حدودها المنطقية، ولكنها تحث الناقد الجيد على مراجعته الأصول الجمالية . وامتحان القصيدة على محك مفهوم فلسفي يدل على الطابع المنفرد المطلوب توفره في أي قصيدة(5)». فالشعر الشكل الجمالى الصارم للروح الساري في أنساق العلاقات والتصورات المادية والروحية للواقع المرئى واللامرئى، فالواقع الثقافى الرمزى لعام يكشف عن مكونات بنيوية دون مكونات، وأنساق داخلية دون أنساق، بما يخدم تماسكا تشكيليا جماليا ما ضمن نسق ثقافي معرفي ما، ومن وجهة نظر ما، لكن الشعرية بوصفها إمكانا تعدديا مفتوحا على المعلوم والمجهول، والغياب والصمت والعدم تكشف أنساقا خبيئة، وأزهارا واقعية تنسج نسغها الخفى فى جسدية الواقع ولم تتكمم بعد. يقول مطر على لسان عبد الله في طردياته صوب أبو الطيور:

كان عبد الله لم يقرأ كتابا بعد
لما استدرجته من صباه رحبة الكتاب
واستدرجه اللوح إلى أول أشكال الحروف
كان يستغويه ذلك اللوح فالأحرف طير طائش
والسطر يغويه فيلتم جناحا بجناح
كل سرب ينفخ المعنى بسرب بعده أو قبله
والأفق متن قلبته الريح من فوضى إلى
شكل ومن معنى إلى معنى نقيض

ففى ديوان، (ملكوت عبد الله) نرى عفيفي مطر يصاعد ذرى مجازية شامخة ومبتكرة فى طرديات الشعرية او قل طراده التخييلى التشعبى، حيث تتحول شعرية مطر الجسورة من قراءة البني الرمزية والأنساق العلائقية التي تدشن جسد الواقع والثقافة بوصفها عمى ثقافيا عاما، إلى قراءة حدود الأشياء والموجودات والأحياء فى ذاتها قراءة وجودية لاقراءة ثقافية، فهى تخييل برناسى مادى عيانى تحل فى الوجود انحلال وجود لاانحلال تمثل رمزى ما، تتملى روح الواقع والذات والتاريخ والثقافة والحضارة فهى قراءة تخييلية وصفية تأويلية تجريبة فى آن حيث تنسرب الشعرية في كوامن طردياته ناشرة أقواس خياله الحسي الفينمولوجى البرناسي، متوليا روح هذه الكائنات الوجودية محولا لها إلى تشكيلات استاطيقية ومعرفية كاشفا عن البهاء والثراء الدلالي الهائل الكامن في طواياها، متراميا إلى أسرارها الجمالية و مفتضا استشرافاتها المعرفية، عفيفي مطر في هذا الديوان يقرأ أشياء العالم في ذاتها ولذاتها، مشيحا عن كافة الأنساق الثقافية والخيالية والرمزية التي تدشن وعينا الجمالي والمعرفي الجاهز بها، إن شعرية مطر هنا تضع عوالم الغياب والصمت والنفي واللامعنى بنفس القوة الوجودية والمعرفية والجمالية إلى جوار عوالم الحضور والكلام والقريب والخصوصية والصفة المميزة والحقيقة السائدة والخبرة الشائعة، أنه يعيد تأسيس الذات والواقع والثقافة والمعيار من خلال قدرة الاصغاء الجمالي لحد الأشياء في ذاتها، مستبدلا معيارية الثوابت بثوابت تجريبية جمالية جديدة، الإنسان والطلاقة والقوة التخييلية والمعرفية في جسد طردياته هو ما يجعل الشعر يتجاوز هنا مجرد التفكير في المادة المحيطة به، ليستشف صور هذه المادة في وقع مخيلته مؤسسا لأعماق الكينونة، الكينونات والممكنات الجمالية المعرفية والمنهجية الكامنة في زوايا العالم المحيط بنا حتى ليلتقط زوايا حسية وشكلية ولونية وحركية وأسطورية متعددة لهذه المخلوقات البرية التي اختصرت تناقضات العالم وممكناته، وتغايراته واختلافاته، الطراد الجمالي لدى مطر مشحون بأظلال روحية، ومشارف فكرية وكوامن لا شعورية، وعوالم الأسطورية، وكأن هذه المخلوقات قد شبت عن سياقاتها الفعلية في الواقع التاريخي العملي إلى سياقات معجمية استاطيقية، تضرب في أعماق الذات والواقع والتاريخ والثقافة كاشفة عن مغيباتها التي لا تبين، وممكناتها التي لا تنتهي، إنها جر لبلاغة اللامعنى إلى عالم المعنى، ولعوالم الغياب الأصيل إلى عوالم الحضور الزائف، ليشتبك العالمان فى تبادل تكوينى للمعنى والقصد فى عالم لا يغني فيه حضور عن غياب ولا عدم عن وجود، ولا نفي عن إثبات، ولا هامش عن متن، إن الانفعال الشعري الأصيل في سبر غور هذه المخلوقات والموجودات دفع بالخيال لدى عفيفي مطر إلى جسارة اجتياح روح المادة وبلوغه عمقها الصافي البعيد الثاوي في طياتها الخفية وحشاشاتها اللامرئية، حتى لينحل الشعر والشاعر والثقافة والعالم في روح هذه الموجودات انحلال وجود، لا انحلال تمثل رمزي لغوى، فاللغة لا تمثل العالم، والنظريات لا تساوي الواقع، والفكر لا يطابق الأشياء، ومن هنا نفى مطر فكرة المشابهة والمطابقة واليقين والوضوح والسائد والهوية، مفككا وهم الثوابت فى هذه الكائنات الشعرية عبر جدليات الهوامش الصغيرة القادرة على تأسيس متونها الجديدة، فقد كشف مطر في طراده الجمالي والمعرفي فى ديوانه (ملكوت عبد الله) وعبر طرديات شعرية محدثة عن سياقات الدهشة والروعة والغرابة والتعدد الكائنة ضمن ممكنات أخرى في روح هذه المخلوقات المطاردة، حيث الشعر والشعرية طراد جمالي ومعرفي ومنهجي خارج أشياء العالم، ومن خلال أشياء العالم أيضا، الشعر في طراد ه الجمالى والمعرفى يفكك الاتساق القشري الزائف بين الفكرة والحادثة، الشعر يذكرنا بأن أردأ التصورات والمناهج والنظريات هي التي تطابق بين اللغة والواقع، والمنهج والحادثة، والنظريات والمادة، لقد اتخذ عفيفي مطر من مراودة ومناورة كائناته الشعرية، ومخلوقاته المجازية وسيلة جمالية حسية لزرع روح السؤال في جسد الثقافة والفكر والمناهج والإجراءات، لم يتخذ مطر من طراده الجمالي والمعرفي لمخلوقاته المجازية معادلا جماليا موضوعيا خالصا لروح الفن، بل اتخذ منها إلى جوار ذلك معادلا لاموضوعيا كمينا، وحراكا تخيليا اختلافيا، كي يرأب صدوع الوعي والروح والخيال والواقع والحضارة مؤسسا بلاغة اللامعنى إلى جوار بلاغة المعنى، ويوسق عالم اللانسق المفتوح إلى جوار عالم النسق المغلق، وانظر إلى الشعر كيف ينحت لغته من جسد أشياء الطبيعة حتى يفتح في الخيال كوي الأنساب القديمة بين الطير والبشر يقول الشاعر:

خرز من الماء مسبوك بزرقته عسل
وشمس حصاد زوبت ذهبا في خضرة غضة
في بارق من حواشيه ترقرق من ندى الفضة روح السكينة
عش من نديف حرير القش والزغب المنقوش
صوت حنين الأرض بين الطمي والسبل
يعلو خفيفا كرجع الناي في الغزل
كفكفت من حيلي
ورميت أحبولتي ونسيت مكر فخاخ كنت
أبرع في تمويه عقدتها
بين النخيل وبين القرطم الخضل
ورأيتها رفعت بين السنابل والأعواد شوشتها
بالزعفران والحناء واندلعت في القمح أغنية
مجدولة اللحن من نفس التكوين في السحب
غنت وقنبرت الموال فانفتحت في القلب
نافذة على الأخوة بين الطير والبشر

هذه السبائك اللغوية المشعشعة بطين الوجود، ودم الأشياء، وكثافة الموجودات، تنغل في روح العالم الحسي في ذاته بعيدا عن أي أنساق معرفية مسبقة، وأي تصورات منهجية جاهزة، لترى ما لا يرى، وتؤسس ما غاب عن التأسيس، فهى تقرأ الغياب الوجودى والمعرفى والجمالى الكامن فى بنية الأشياء، وتطلق الذات والواقع والتاريخ والثقافة من سجونها الرمزية واللغوية والحضارية والمنهجية السائدة، لتقف على حد بكارة الأشياء في العالم لا حد تصوراتنا الثقافية عن العالم، إن النظريات والعلوم هى عمى بقدر ماهى بصيرة، وهنا يصبح الغموض الذى يعد نقيصة لدى أدعياء متلقي الشعر الذين يقيمونه دائما بالقياس إلى الوضوح الأيديولوجى المدشن ـ يصبح الغموض قيمة معرفية وجمالية في ذاته، بوصفه قوة التفكير وأصالته الصعبة فى إعادة رؤية الأشياء والعلاقات والأنساق بوصفها عمى معرفيا منهجيا عما، وبوصف العالم والثقافة والواقع عوالم ناقصة أبدا وملتبسة دوما، فهي غير كاملة ولا واضحة أومحددة، بل تعوم جميعا على بحيرة لجية من الشواش واللاتحدد والفوضى والتداخل والصيرورة والتدشين المعرفى والأيديولوجى المسبق، يعيد الغموض الشعرى بوصفة عتمة قوة الأصالة تفكيك حدود العلم والمعرفة والواقع والجمال، وهى بسبيلها أبدا إلى التكوين والجدل والرغبة في النمو والاكتمال الذي لا ينتهي . ومن هنا كانت شعرية مطر شعرية مفهومية وجودية تخييلية، لا شعرية ثقافية استحلابية استنساخية، أي شعرية تنبع من حد الوجود، ودم الواقع، وعرق الشىء، لا أنساق الثقافة، وعلاقات الفكر، وأنماط الفهم، شعرية مطر تشتغل على توسيع حدود الإدراك والتذوق والرؤية والتخييل، لا تدشين إدراك النمط، ومشايعة سلامة التذوق، وصحة الرؤية، فهى شعرية غير حريصة بالمرة على سلامة أفكارها وتصوراتها وعلاقاتها المجازية بالقياس إلى ألأنموذج المجازى المعرفى التأسيسى العام، بقدر حرصها على رعاية ثغرات الفكر، وتخليق فجوات الوجدان، وتأسيس جسارة التخييل، واستحضار عوالم اللاتساق بوصفها بلاغات ممكنة كمينة أو مستحيلة، ضمن ممكنات آخر يستحضرها الخيال إلى عالم الواقع من عوالم الواقع، ومن ثمة يتحول الجدل الشعري المطرى إلى إمكانات للعمل والحركة والنشاط والتعدد والترامى، وليس مجرد قوالب ونماذج وتصورات على مسافة من الشعر والواقع تنتظر من يطبقها حتى تفشل فشلا ذريعا، إن قدرة الشعر لدى عفيفي مطر على خلق علاقات مجازية جديدة قرينة قدرته على خلق تصورات مفهومية مستحدثة عفيفي مطر لا يطور ذاكرة الذات والواقع والثقافة، بل يعيد فحص مكوناتها، ويبدأ في زرع أسئلة شعرية ومعرفية أخرى على امتداد رقعتها الثقافية والجمالية بين ماض وحاضر ومستقبل، وبهذه المثابة المنهجية يعيد مطر ترتيب محتويات الوجود والثقافة عبر جسارة مجازاته المبتكرة في طراده الشعري، فنراه يطارد الغراب في مراوغته الرسمية العامة التي بنيت على سلامة فطرة الغراب في دفن القتيل الإنساني الأول، لكن الشعر يقلب معادلة المعقول والواجب والسائد والتاريخ فيستدعي أقاليم اللامعقول لتكون هي عين العقل ذاته وليغتذى الوجود بعالم الممكنات الكمين في حنايا العالم ليحتقب الغراب والقاتلون ضحايا العالم فوق رؤسهم أبد الآبدين، لتأسيس شهادة التاريخ المنسي ضد زيوف التاريخ الرسمي:

ظلى على الأرض ممدود يروغني
هذا أنا فمن انحلت مفاصله
أرخي يديه على كتفي ينهدل؟!
هل كنت أحمله حتى أفر به عبر التواريخ
والغربان شاهدة أن التواريخ
مجلى القتل مجزرة في إثر مجزرة
قلت احتمله على الأكتاف واصطبر
ما ثم من سوأة تعلو معراتها
عن سوأة الدفن في النسيان والحفر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ د.أيمن تعيلب: انظر فى ذلك الاجتهاد التنظيرى: الجمالى والمعرفى الذى قدمناه بخصوص ذلك فى كتابنا (الشعرية القديمة والتلقى النقدى المعاصر: نحو تأسيس منهجى تجريبى)، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، ط، 2009. وانظر أيضا كتابنا: خطاب النظرية وخطاب التجريب: تفكيك العقل النقدى العربى، 2009.
(2) ـ د. طه عبد الرحمن، فقه اللغة، القول الفلسفى، ط1، بيروت، المركز الثقافى العربى، 1999، ص 175
(3) ـ عبد السلام بن عبد العالى، فى الانفصال، دار توبقال، المغرب، ط1، 2008.ص
(4) ـ د. سامى أدهم/ تفكيك العقل اللغوى/ دراسة ميتافيزيقية/ مجلة الفكر العربي المعاصر/ ع70/ 71 / العام/ 1989/ ص 29/ 53.
(5) ـ د. محمد عزام، المنهج الموضوعى فى النقد الأدبى، اتحاد الكتاب العرب، سوريا، دمشق، ط 1999، ص 51.