مقابلة عفيفى مطر فى منزله الشعرى

محمد عبد المطلب

(1)

لقد سكن محمد عفيفى مطر منزله الشعرى فى (رملة الأنجب) منذ مولده فى عام 1935م، لكن عقد السكنى كان فى عام 1957 عندما قدم أول مستندات الملكية فى قصيدة (فردوس بائعة المانجو)، والعنوان ذو دلالة واضحة على الواقع الاجتماعى للبيت، من حيث انتمائه إلى الطبقة الدنيا التى بدأ منها عفيفى مطر أولى إجراءاته فى تأسيس هذا البيت. ومن المؤكد أنه كانت هناك محاولات سابقة على (فردوس) لكنه ـ كما يبدو ـ أسقطها عمدا، إذ إن البدايات كانت إرهاصا مشبعا (بالهوس الشعرى) قراءة وتذوقا وحفظا، ثم إنتاجا أميل إلى الفطرة فى كتابة الأزجال والقصص وبعض الأشعار(1). وربما كان الإسقاط إشارة مبكرة إلى وعيه بالعالم ومفارقاته المأساوية الممزوجة بكثير من الزيف والخداع، ومع بكورته فى الوعى قرأ عن الدعوة إلى السلام. لكنه رآها دعوة مدفوعة الأجر، وسطوتها كانت غالبة حتى شغلت الواقع العالمى بالصوت المرتفع (لأنصار السلام)، وفى ظل هذا الصوت المرتفع جاءت قصيدة عفيفى (أريد السلام) يقول عنها: «كانت قصائدى المبكرة الأولى هراء يعيد إنتاج الهراء، كانت أولى قصائدى التفعيلية الطويلة بعنوان: (أريد السلام)... كان غليان دمى واضطراب وهيجانات أفكارى قد خنقت مراهقتى، وحاصرت خطواتى الأولى، وما كدت أسأل نفسى: السلام بين من ومن؟! ومع من ضد من؟! وأنت أيها الشاعر التافه لا تملك فى الحرب أو السلام فى العالم عيرا أو نفيرا»(2).

إن انفتاح وعى عفيفى المبكر حوله إلى متسائل دائم، بل تحول هو نفسه إلى سؤال دائم، ومن ثم كانت تصدر منه الأسئلة لتتجه إليه قبل أن تتجه إلى غيره، وكان سؤاله الأول: من الذى يقود العالم: الإنسان أم السلام؟ وعندما باع أبوه مسدسه بعشرين جنيهاً، كان سؤاله الفاجع: بكم باعت الشعوب سلاحها؟ لكن إسقاط عفيفى لشعر البدايات لم يهز ثقته فى أن المنزل الذى سوف يستقر فيه هو (منزل الشعر)، وسكنى هذا المنزل هى التى سوف تنقذ إنسانيته، وتفتح أمامه مسالك الرؤية والوعى، وتحرره من إحساس الخوف من الموت فى توافه الهموم اليومية فى القرية(3). لقد انفتحت نافذة من نوافذ البيت الشعرى ليطل منها عفيفى على مرحلة البكورة التكوينية وليقدم (كلمته النفسية) فى قصيدة من قصائد الخمسينيات يقول فيها:

أنا طفل.. وأعلم أننى طفل
وعشت بقريتى خمسا وعشرينا
أسامر كوكبا فى الغيم مسجونا
وأعلم أننى سأعيش أصغر شاعر
وأموت مجهولا ومغبونا(4).

وفى تصورنا أن نبوءة عفيفى فى هذه الأسطر صادقة فى جانب، وكاذبة فى الجانب الآخر، أما كونها صادقة: فهو أنه قد غبن فى مسيرته الحياتية وفى مسيرته الإبداعية، ومن ثم فإنى أراه مسيح عصره. وأما كونها كاذبة، ففى قوله: إنه سيعيش أصغر شاعر مجهول، فعفيفى ـ رغم الغبن ـ قد ملأ الدنيا وشغل الناس منذ أن أطل من نافذة الشعر حتى يومنا هذا، وأعتقد أن هذا الانشغال سيظل إلى ما شاء الله. لقد كانت بداياته مجمرة مليئة بالرماد والحصى وشرر الاحتمالات، وفى كهولته يسعى لالتقاط بعض ما كان يهز زمن صباه، أو يسعى ليستمد منها بصيص توقد وارتعاد، أو يسعى ليستمد بعض الإرهاصات بعد أن أخليت المجمرة من رماد كثير، ولم يبق فيها إلا بعض حصى التذكر(5).

(2)

لقد أطل عفيفى من نافذة منزله الشعرى وهو فى الثانية والعشرين من عمره، ومنذ تلك الإطلالة توالت إبداعاته حيث قدم أربعة عشر ديوانا، كل منها يمثل ـ من وجهة نظرى ـ زمنا شعريا متكاملا، أو ما يوازى غرفة فى منزله الشعرى الفسيح، وهى:

1 ـ مكابدات الصوت الأول.
2 ـ من دفتر الصمت سنة 1968.
3 ـ ملامح الوجه الأنبادوقليسى سنة 1969.
4 ـ الجوع والقمر سنة 1972.
5 ـ رسوم على قشرة الليل سنة 1972.
6 ـ كتاب الأرض والدم سنة 1972.
7 ـ شهادة البكاء فى زمن الضحك سنة 1973.
8 ـ والنهر يلبس الأقنعة سنة 1976.
9 ـ يتحدث الطمى سنة 1977.
10 ـ أنت واحدها وهى أعضاؤك انتثرت سنة 1986.
11 ـ رباعية الفرح سنة 1990.
12 ـ فاصلة إيقاعات النمل سنة 1993.
13 ـ احتفاليات المومياء المتوحشة سنة 1994.
14 ـ من مجمرة البدايات سنة 1994.

والشىء اللافت فى مجموع هذه العناوين أنها تكاد ترصد المسيرة الشعرية لعفيفى مطر، وترصد ـ فى الوقت نفسه ـ مكونات منزله الشعرى، فبداية المسيرة كانت نوعا من (مكابدات الصوت الأول) الذى سعى إلى أن يسجل فى (دفتر الصمت) شيئا من (ملامح الوجه الأنبادوقليسى) فى ظل (الجوع والقمر) وشيئاً من (رسوم على قشرة الليل)، ثم يفتح (كتاب الأرض والدم) ليقدم (شهادة البكاء فى زمن الضحك) لأنه زمن القهر حتى إن (النهر يلبس الأقنعة)، ومع القهر والصمت لابد أن (يتحدث الطمى) ليعلن المقولة الأولى: (أنت واحدها وهى أعضاؤك انتثرت) التى تبث (رباعية الفرح) وتجسدها فى (فاصلة إيقاعات النمل)، لتنتهى المسيرة إلى (احتفاليات المومياء المتوحشة) حيث العودة الدائرية إلى (مجمرة البدايات).

إن قراءة العناوين قادتنا إلى النظر فيها بوصفها نصا مكتملاً، لكنه غير مغلق، بل ينتظر الإضافة والإضافة، وهو نص متحرك للأمام حركة منضبطة، لكنها لا تخلو من المغامرة، وبرغم هذه الحركة الأمامية، فإن عفيفى كان دائم التلفت فى كل الاتجاهات حتى تظل رؤيته شاملة، تلحظ الكل فى إطار الجزء، وتلحظ الجزء فى إطار الكل، ولعل تلفته الدائم هو الذى أدخل مجموعة عناوينه فى إطار النص الواحد، حتى إننا نلحظ لكل عنوان إرهاصا فيما سبقه من دواوين، وأصداء فيما يتلوه من دواوين، فديوان مثل ديوان (كتاب الأرض والدم) سنة 1972 كانت له إرهاصات فى قصائد سابقة على الديوان، ففى قصيدة (مهر الصيف) سنة 1965، يقول عفيفى:

طفلى فى ظلمة بطنى يحلم أحلام الشهر الرابع
يتخلق منى عضوا عضوا
يتدفق فيه الماء الطافح من جنبى
ينسل إليه عبير الأرض خلال الدم(6).

ومع الإرهاصات، كانت هناك أصداء فى الشعرية التالية، يقول الشاعر فى ديوان (أنت واحدها وهى أعضاؤك انتثرت) سنة 1986:

قلت أمشى فى عروق الأرض أشهد
ساحة البدء المجلجل والختام
كيف استتمت نارها ورمادها فى
الخطوة الأولى، وكيف انشق من مهل الغمام
برق من الدم فاستضاءت تحته الأطلال
والأجداث(7)،

وتتابع الأصداء فى (فاصلة إيقاعات النمل) سنة 1993:

الآفاق والأرض على ميزان ما كنت به
أوصيت من عقد نكاحات شعوب
وانصهارات دم فى أول البهجة بالإنسان(8)،

لتأخذ الأصداء قمة تجلياتها فى (احتفاليات المومياء المتوحشة):

وكانت الصحراء تشوى ثم ترسل فى خوابى الزيت
من بلد إلى بلد
وأهلوها هم الأشباح والرمم التى
تنحل فى كيمياء زنزاناتها
خمسين عاماً.. والدم المسطور يقرأ فى كتاب الأرض(9).

إن الإرهاصات والأصداء تجعل شعرية عفيفى مطر شعرية (منجمة) مهمتها الأولى والأخيرة قراءة عالمها قراءة فريدة، هدفها الإمساك بالمادة الأولى للوجود، ثم الوقوف على تحولاتها الصاعدة والهابطة، التكوينية والتدميرية على صعيد واحد.

(3)

لقد استتمت الغرفة الأولى فى منزل الشعرية المطرية فى بناء يكاد يلتحم بالواقع الذى دخله من بوابته السوداء:

أنا طفل طرى العود سرت سنين فوق الجسر عريانا
تفوح خطاى نارنجا وليمونا
أمر خلال بواباتنا السوداء
وأسمع فى حنايا الدور صوت رثاء
يشيّع فى ضمير الأرض موتانا
وأحفظ ما يقول الناس فى الطرقات(10).

ويتجلى هذا الالتحام فى ديوان (يتحدث الطمى)، حتى إن المبدع ألحق به عنوانا إضافيا: (قصائد من الخرافة الشعبية)، ومجموعة قصائد الديوان تستغرق مساحة فى زمن الستينيات من سنة 1962 إلى سنة 1963، والقصائد ـ فى جملتها ـ محملة بروائح الخلق فى قرية الميلاد (رملة الأنجب)، ومشحونة بعالم الأسفار والخرافة والطوالع، ومشبعة برائحة الطمى، يقول عفيفى فى أولى قصائد الديوان:

لفائفهم، وتراب الظهيرة، والزيت فوق الجباه
وشىء بأوصالهم يتنفس إعياؤه، تعب، وطريق
تموت على جانبيه الظلال، يطول ويقصر حتى ارتموا بالوصيد(11).

إن المنزل الشعرى لمطر متعدد الغرف، وكل غرفة لا تنفصل عن الأخرى، ومن ثم نلحظ فى الغرفة (الواقعية) أن الذات المطرية سعت إلى تغييب قطاع من طبيعتها الفيزيائية. لتصعد إلى نوع من التجريد القادر على الرؤية الممتدة فى الزمان والمكان، بل له القدرة على التحرر من الزمان والمكان، وهذا التحرر أتاح للشعرية ديمومة إدراكية تتسلط على الكيف أكثر من انشغالها بالكم، وأتاح لها نوعا من الدهشة الممزوجة بالوعى الأسطورى الذى لا يتكئ كثيراً على منطق العقل، ولا يمتنع فيه حضور ملامح بدائية تحمل طفولة الإنسان بكل محاوراتها الذهنية المفرغة من المعقول، لكن هذا كله أوغل فى المعرفة من كل إدراك عقلى.
ولا يمكن أن نغفل ـ فى هذه الغرفة ـ بعض حضور إشارات وجدانية تعمل على الحد من خشونة المواجهة مع الواقع فى معطياته الحسية وغير الحسية:

يا زمنا قد مر علينا.. لو كنت تعود
وتذيب ثلوجا، وتعيد حكاية أهداب سود
كنا نهواها، ننظر فيها سحر الإنسان،
وحلاوة عشق سكران(12).

وفى هذه الغرفة الشعرية تبدت الذاكرة بكل اتساعها الذى يطول ثلاثية الزمن الخالدة: الماضى والحاضر والآتى. وهى ذاكرة ضمت الفيزيقى والميتافيزيقى حيث ارتفعا معا إلى أفق الرمز المزدوج الذى يشير فى جانب إلى الحاضر، وفى جانب آخر إلى الغائب، ووسيلة الذاكرة فى إنتاج هذا وذاك الإشارة اللسانية الصاعدة إلى أفق الشعرية بالابتعاد عن المباشرة، والمؤجلة لمعناها، سواء فى ذلك باعتمادها على الإطار الأسطورى، أو باعتمادها السمو الإشراقى.

ومن المهم الإشارة إلى أن اللغة ـ عند عفيفى ـ أخذت تتخلى عن مهمتها الأصيلة وهى (التوصيل) التى تمارسها فى الخطابات المألوفة عموماً، وغير الشعرية خصوصاً، حيث تتحول من وسيط إلى مستهدف فى ذاته، فالذى يتكلم فى مدونة عفيفى الجمل والتراكيب التى تقدم نفسها لمتلقيها.

(4)

يقول النفرى «كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة»(13)، وفى رأينا أن مقولة النفرى يصح أن تكون مفتاحاً لاستشراف آفاق شعرية عفيفى مطر، ذلك أن خطابه الشعرى هز معايير الإدراك، كما أن مقولة النفرى قلبت معايير إنتاج المعنى، إذ المألوف أن يؤدى اتساع الرؤية إلى اتساع العبارة التى تعبر عنها، لكن القلب الإنتاجى عكس هذا المنطق، تأسيساً على أن المهمة المركزية للعبارة الإبداعية (الستر والإخفاء) الفنى، دون إعطاء رعاية كاملة لمقولات العقل وقوانينه. إن قراءة مدونة عفيفى الشعرية تؤكد أن خطابه ينفر من الوضوح، ويعادى الإضاءة، مؤثراً العتمة المشرقة بنورها، ومؤثراً تأجيل المعنى، أو لنقل بما قال به عبد القاهر الجرجانى، الاتجاه دائما إلى المعانى الثوانى، أو معنى المعنى، فكلما أمسك المتلقى بركيزة دلالية، سعت الشعرية إلى أن يغادرها إلى سواها ليظل فى حالة دائمة إلى الارتواء.

يقول عفيفى فى (فاصلة إيقاعات النمل):

كف ظل كانت النخلة
موماة سراب فى ابيضاض الشمس
رحل، ورحى تستف وحش الظمأ المنقض بالطير،
جراد من شظايا الذهب الشفاف
ها أنت، وهذا حلم يسترجع الموتى(14).

من الواضح أن إنتاج الدلالة فى هذه الدفقة يعتمد (الموقف) العرفانى الذى يدرك أن وراء العالم الظاهر، عالم باطن يحتاج إلى الملاينة لبلوغه، كما يحتاج إلى قدر من (المشاهدة) لاكتناهه، إذ إن التوجهات العرفانية جعلت الموت هدفا تسعى إليه بديلا عن الحياة، ومن ثم لا بد أن ينظم السالك طريق الموت قبل المواجهة، لكن هذا الناتج هل يمكن اعتماده والاطمئنان إليه؟ أم أن الدفقة تؤجل دلالتها إلى تأويل قادم؟.

لا شك أن الغرفة الثانية من غرف شعرية عفيفى قد أحدثت تبديلا فى الوعى، حيث حلت (المشاهدة) بديلا عن (الرؤية) والمشاهدة تتسلط على الوجود فى مادته الأولية (الخام) فى نقائها وبراءتها.

يقول الإبداع معبرا عن هذه المشاهدة:
فى وخم الزرائب الليليلة
حلمت أنى عشبة طرية
تعبر بين الفرث والدماء(15).

لكن المشاهدة تسلطت ـ أيضاً ـ على التخريب الذى حل بهذه المادة الأولى حتى أصبحت مادة دامية، وامتدت الدماء إلى الذات المشاهدة.

يقول عفيفى فى (درعية مديح)
تركتم دمى سَبْيًا.. فليس يُجيرهُ
عدوٌ يداجى أو صديق يصاولُ
وحمٌ قضاء الليل ظلما وظلمةً
وقد حُبكت دون الفرار المخاتلُ
فبتُّ على ظنٍ دمائى تَؤُجُّهُ
وتذروه فى الريح البروقُ الصواهلُ
يقلّبنى شك ويأس مخامرٌ
وتنحتُ صلصالى الرجومُ الهواطلُ(16).
بل إن هذا الامتداد للذات أثر فيها ماديا ومعنويا:
خمسون من زنك وقصدير
أم العمر الذى ولى
أم البددُ
خمسون أم سعف يذوى
أم الجسدُ
أم رمة بالشيب ترتعدُ(17).

(5)

وفى الغرفة الثالثة من غرف منزل شعرية عفيفى مطر، تم الخلاص المرحلى من الخارج، والدخول إلى النفس، أى أن هذه الغرفة كانت (غرفة الأحاديث) النفسية التى لاحقت الآخر مطلقاً، ولاحقت السلطة فى مناطق نفوذها، ولاحقت بعض وقائع الثقافة، ثم استقرت عند محاورة اللغة بوصفها من ممتلكات الذات الحميمة. ومن الواضح أن ملاحقة الآخر بدأت مع بواكير شعرية عفيفى، وبخاصة فى أغلب قصائد ديوان (من مجمرة البدايات)، ولم تتوقف هذه الملاحقة فى كل الدواوين الشعرية. أما ملاحقة السلطة فقد بلغت ذروتها فى (احتفاليات المومياء المتوحشة) يقول عفيفى:

ها أنت تحت سياط الكهرباء وبين القيد والظلمات السود
: تعترفُ
:.. إن الكلاب ملوك، والملوك دمى
والأرض تحت جيوش الروم تنجرفُ..
فاخرج طريد بلاد كنت تحرثها
حرث العبيد(18).

الأهم فى ملاحقة الإبداع للسلطة، أن كشف سلطتها الزائفة، ففى موقف المعاناة يقول عفيفى فى تجل نفسى عرفانى بالغ المأساوية فى حواره الضمنى مع (بروجل) الأعمى:

وأشهدنى مقام الذل تحت يد الأذلاء المهانين(19).

وربما كان ديوان (رباعية الفرح) خالصا للملاحقة الثقافية فى عناصر التكوين الأولى وفرح الذات بالماء والنار والتراب والهواء.

أما ملاحقة اللغة، فقد اتجهت إلى ملاحقتها فى أفقها الصاعد إلى الشعرية، يقول عفيفى فى (طردية):

أنت ـ أيها الشاعر المنتشى بالخرائب والذكريات
..............
تعقد أحبولة من مجازات فصحاك
تنصب أفخاخ شعرك عل الطرائد تأتيك طيعة من
فجاج السموات والأرض بين انتظار وصمت
قصيدك محتدم فى حطام المنارات
والسفن المتفككة،
الوزن افعيلة من جنون الدم المستباح(20).

إن الذات المطرية لم تستقر فى غرفتها الثالثة إلا بعد مسيرة طويلة من المعاناة والاغتراب الدامى:

فكل بلاد ترتضيها إقامة
فجيعتها فيها، ومنها النوازلُ
هزائم جلادين تزهو سجونهم
وتعلو على هام العبيد المقاصلُ(21).

وهذه المسيرة لم تتوقف لتتيح للذات مساحة تستريح فيها، ومن ثم كان الخروج إلى الداخل بعد خراب الخارج:

لا الأرض أرضى ولا الأيام أيامى
يا جسمى الظامى
أشرب دماءك واحفر قبرك الدامى
فى الريح،(22).

لقد بدأت مسيرة عفيفى بسكنى غرفة (الأعراف) التى اصطحب فيها واقعه، ثم انتقل منها إلى غرفة (العرفان) التى اصطحب فيها الروح والجسد، واستقر فى غرفة (النفس) التى أدار فيها أحاديثه.

(6)

ومن صحيح هذه القراءة لمدونة عفيفى مطر الشعرية، أن تقف متأملة فى منزله الشعرى لترصد مكوناته وتأسيساته، أما التأسيسات فهذا ما يحتاج إلى قراءة مستقلة، لأنها تأسيسات تغوص فى الأعماق، وتحتاج إلى جهاد طويل، وأما التكوين فقد اعتمد لبنات لغوية ذات مواصفات مفارقة للمألوف والمحفوظ، ومباعدة للمستهلك والجاهز، فقد استهلكتها مدارس الشعر المتتابعة فى القديم والحديث، حتى أصبحت لبنات (جاهزة التركيب)، واللافت أن مفارقة لغة مطر للغة السائدة لم تعتمد الحركة الأمامية دائماً لاقتناص البكر والطارئ، بل إن هذه الحركة قد تكون للوراء مستهدفة طفولة اللغة وبراءتها من الهوامش التى لحقت بها من طول الاستخدام، واكتنازها بوقائع الخرافة والأسطورة، وامتلاءها بالأحلام البدائية.

يقول عفيفى:
استرحت الآن
هذا الحلم يأتى:
فأنا أسمع إيقاع دمى، الأرض
قباب امرأة
والحلم يأتى:
رعدة خالقة تجرف أعضائى
: ينابيع دم أم ظمأ يطلع فى
النخل ـ أنا ـ أم طينة الرعد
وحلم الطيران؟(23).

وقد تتعلق الحركة التراجعية بالأبنية الإفرادية التى نسيتها اللغة، فتعمل شعرية مطر على التذكير بها أولا، وبث الحياة فيها ثانيا خلال السياقات الجديدة التى تحتويها، وظاهرة الدوال المهجورة من الظواهر المألوفة فى مدونته، ففى ديوان (رباعية الفرح) ـ مثلاً ـ يتردد من هذه الدوال خمس وعشرون مفردة، ومثلها أو يزيد فى ديوان (فاصلة إيقاعات النمل).

يقول عفيفى فى (نوبة رجوع):
ثقلت على عباءة الدم والرماد وقضقض الزلزال
هيكل مجثمى والريح تصفر فى
بوالى العظم نفخ الصور..
هودج ناقة ويدان يقطر منهما ورد الدهان(24).

إن ملاحقة اللغة فى حركتيها الأمامية والتراجعية قد امتد إلى بناء الصور، ومن ثم جاء بعضها إحياء لصور تراثية، بوصفها واقعة ثقافية، وهذا ما نلحظه فى الاقتباس، السابق، حيث انتقال (العباءة) من طقس الملبس، إلى طقس الدماء، وانتقل الهيكل البشرى إلى عالم الحيوان فى (هيكل مجثمى)، إذ إن الملبس والعباءة على وجه الخصوص، والحيوان والجمل على وجه الخصوص من وقائع الثقافة فى التراث العربى، وقد استطاعت الشعرية استحضارها بوصفها من وقائع الحاضر الحى.

كما امتد الحوار مع اللغة إلى منتجها الدلالى فى أطره الكلية، سواء أكان هذا الحوار بالرفض أم القبول، وهذه الأطر الدلالية ـ هى الأخرى ـ تمثل وقائع تراثية تم استدعاؤها فى الخطاب الحاضر:

يقول عفيفى فى (اصطلاء النشيد):

غزل هو القطيفة والحرير المنمنم ووشى
الدراهم الذهبية وورود الصباحات الساطعة
صيد وطراد للغزالات والنسور هما ليونة
العراك الشبقى مع الأوزان وقوافى
الطبول البعيدة
وإحكام المجاز والفاصلة
وإتمام النعمة بالحكمة وسيار المثل.
مراث هى زحام الآفاق بمواكب الدم وبطائح
الشهداء وداثر الثارات المؤرثة
بكاء أطلاء هو وشم الدمع على هول
التدوير وانفراط المكان المنثور
مدائح نساجين لم يتركوا خيطا من الغيم
والأفلاك وعروق السلالات والمصائر إلا
نسجوه فى مخرمات الغامض المنكشف(25).

الشعرية هنا تراجعت إلى الذاكرة التراثية ومدونتها الشعرية لتستحضر بعضا من وقائعها الثقافية التى سجلها (ديوان العرب): الغزل، الصيد والطراد، الحكمة والمثل السائر، الرثاء، الثأر، البكاء على الطلل، المديح.

إن إحياء المفردات والصور والأغراض لم يكن عائقاً أمام القدرة الابتكارية لعفيفى مطر، إذ إن النظر إلى جملة الصور التى وظفتها شعريته يشير إلى انطلاقها الواضح من إطار الصورة الجزئية إلى أفق الصورة النصية بوصفها مشهداً تنصهر فيه العناصر المفردة لتستحيل إلى سبيكة محكمة، على الرغم من أن القراءة الأولى لها قد توهم بتمزقها على السطح، لكنها متماسكة، بل متلاحمة على مستوى العمق.

وما كان من الممكن لهذه الصور أن تدخل عملية الإحياء من ناحية، وعملية التركيب النصى من ناحية أخرى، إلا لأن عفيفى قد تحرك بشعريته ـ جملة ـ من مرحلة (التجربة) بكل ملامحها الإحيائية والوجدانية، إلى مرحلة الرؤيا، ثم مرحلة (المشاهدة) بكل أبعادها الشمولية أفقياً، وأبعادها العميقة رأسياً.

ومع اللغة والصورة والمشاهدة تحولت الصياغة ـ عنده ـ إلى جهاز توقيعى يدفع المتلقى إلى الدخول فيما يشبه (الحضرة الشعرية)، سواء أكان التوقيع باعتماد البحور الخليلية، أم كان باعتماد (التفعيلة)، فكلها أدوات للعزف تؤازرها الأبنية الصرفية والحرفية والبديعية.

من كل هذا نقول: إن شعرية عفيفى مطر هى شعرية التراكم لا القطيعة، وكأن قصائده عمرها ألف عام مع أنها بنت لحظتها، وهذا البعد الزمنى المتوهم جاء لأن الإنسانية كلها حاضرة فى هذه الشعرية، حاضرة بعقائدها وأساطيرها وخرافاتها وفلسفاتها وأحلامها وتاريخها.

ولا يمكن بحال أن نفصل هذه الشعرية الإنسانية الحضارية عن ذاتية عفيفى وهمّه الوطنى والقومى والإنسانى.

إن قارئ مدونة عفيفى الشعرية سوف يقابل العالم كله فى شخوصه المقدسة وغير المقدسة، فى فلاسفته ومفكريه، فى شعرائه وفنانيه، فى زعمائه وطغاته، فى سحرته ومخادعيه، فى مناضليه ومتخاذليه.

إن عفيفى رائد لزمن شعرى، لا لجيل من الشعراء، هو زمن البكارة والجدة، وزمن النضج والاكتمال الذى لا نسأل فيه: ماذا قال هذا الشاعر؟ وإنما سؤالنا الأول: كيف قال ما قال؟.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ انظر أوائل زيارات الدهشة ـ محمد عفيفى مطر ـ شرقيات ـ سنة 1997: 44
(2) ـ السابق: 52.
(3) ـ السابق: 125، 126.
(4) ـ من مجمرة البدايات ـ محمد عفيفى مطر ـ شرقيات سنة 1994: 41.
(5) ـ انظر: السابق: 7.
(6) ـ يتحدث الطمى ـ محمد عفيفى مطر ـ مدبولى ـ سنة 1977: 46.
(7) ـ أنت واحدها وهى أعضاؤك انتثرت ـ عفيفى مطر ـ آفاق عربية ـ بغداد ـ سنة 1986: 12.
(8) ـ فاصلة إيقاعات النمل ـ عفيفى مطر ـ شرقيات ـ سنة 1993: 38.
(9) ـ احتفاليات المومياء المتوحشة ـ عفيفى مطر ـ سينا للنشر ـ سنة 1994: 42.
(10) ـ من مجمرة البدايات: 29.
(11) ـ يتحدث الطمى: 5.
(12) ـ من مجمرة البدايات: 11.
(13) ـ المواقف والمخاطبات ـ النفرى ـ تحقيق أرثر أربرى ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ سنة 1985: 115.
(14) ـ فاصلة إيقاعات النمل: 32.
(15) ـ كتاب الأرض والدم ـ عفيفى مطر ـ الهيئة العامة لقصور الثقافة سنة 1997: 52.
(16) ـ فاصلة إيقاعات النمل: 63.
(17) ـ السابق: 8.
(18) ـ احتفاليات المومياء المتوحشة: 59.
(19) ـ السابق: 21.
(20) ـ فاصلة إيقاعات النمل: 52.
(21) ـ السابق: 63، 64.
(22) ـ رباعية الفرح: 15.
(23) ـ السابق: 25.
(24) ـ فاصلة إيقاعات النمل: 80.
(25) ـ السابق: 14، 15.