اللغة الشعرية بين خصوصية الدال وشمولية المدلول

طرح نقدي في النص المطري

مجدي محمد هديه

إن المتأمل في نص عفيفي مطر الشعري ليدرك مدى النضج الفني والجمالي والمعرفي الذي يحمله ذلك النص، حيث تقاسمته عدة مراحل من التجريب الموضوعي، واللغوي، والفلسفي، فضلا عن كونه يعكس مكوناته الثقافية التي تتبدى مشابهة لما يمكن أن نصفه بعلم طبقات الأرض. فعندما نقف أمام هذا النص فكأننا أمام جينالوجيا معرفية. وهو ما يدفع الكثيرين إلى وصف ذلك النص بالغموض، حيث أنهم لا يحاولون النفاذ من أقطاره. فالنص المطري انعكاسا حقيقيا لزمن شعري إبداعي متكامل، هذا ما ذكره الدكتور محمد عبد المطلب في لقائه مع عفيفي مطر في منزله الشعري. كما أنه أقر بان قصائد عفيفي مطر تحمل في طياتها استشرافا لمستقبله الإبداعي فقصيدته الأخيرة تنبئك بما هو قادم. ونحن إذ نقف مع لغته الشعرية، وخصوصية داله، وشمولية مدلوله، إنما ننطلق من فكرة العلامة المطلقة التي تدل على شيء آخر غيرها، بالنسبة لمن يستعملها أو يتلقاها. على نحو تنطلق معه العلامة في ذاتها لتؤلف بين دال ومدلول في علاقة تنتج دلالة. فإذا كان الدال قرين البعد الحسي الذي يصافح سمعنا عند تلفظ الكلمات، فإن المدلول هو البعد التصوري أو المفهوم الذي نعقله. وبقدر ما يفهم (دوسيسير) العلامة بأنها الكل الذي يتشكل منه الدال والمدلول، بوصفها تآلف المفهوم والصورة الصوتية، فإنه يؤكد طبيعته الاعتباطية أو الاختيارية، في الوقت الذي يؤكد فيه طابعها الخطي القائم على تعاقب النطق في الزمن(1).

إلا أننا نطرح تصورا مغايرا بما يتفق مع الدراسة التي نحن بصددها، فعلامتنا هنا هي كلية النص الشعري، ممثلاً في حضور المفردات اللغوية في حضورها السياقي داخل النص بوصفها دوالاً شعرية ـ بالطبع ـ لا معيارية، وممثلاً في مدلولات قائمة يحيل إليها الحضور النسقي للدوال، بوصفه ممثلا لبنية المعنى الكلي الذي تحققه تلك الدوال آن ارتباطها بعضها ببعض داخل سياق النص الشعري. ولعل ما يجعلنا نفرض هذه التصورات السابقة هو الطرف الثالث في العلامة الذي اقترحه بيرس على العلامة السوسيرية، ألا وهو المرجع، وهو كما نقصد إليه، وكما تتبناه الدراسة، المرتكز الذي يمكنه توجيه السياق، إما للخصوصية، وإما للشيوع. وعلى هذا فإن المرجع يقوم بدور المؤول للدلالة. وهو دور نرى أنه منوطٌ ليس بطبيعة العلامة وإنما بطبيعة التلقي وإمكانية التأويل القائمين في كل قراءةٍ ممكنة للنص.

والنص المطري الذي بين أيدينا (ألفُ قيامةٍ لموتٍ واحد "مرثية في اغتيال شامل باسييف")(2). وهي إحدى قصائده التي تمثل حصيلة النضج الفني والتجريب، والذي تعجز دراسة قصيرة مثل هذه أن تغطي مختلف جوانبه. وإنما نهدف إلى التركيز على العلاقة بين المنتج وإنتاجه، بين المبدع ونصه، بين الإنسان وعالمه. تلك العلاقة التي تعدُّ ترجمة للإبداع المطلق والقناعة بالإنسانية المطلقة بعيدا عن قيود الزمان والمكان والعنصرية، بحثاً عن الصدق الخالص. وقصيدة ألف قيامة لموت واحد تمثل نقطة فارقة بين عالمين متصارعين. في الوقت الذي تعتبر فيه منتجا فنيا إبداعيا يسعى للخروج من محدودية نوعه الأدبي دخولاً في شمولية الكتابة، والتي أطلق عليها البعض نظرية الفن الشامل(3)، إذ يتماهى النص الشعري في الحدث السردي أو القصة ليمثلا حلقات دلالية متصلة، ينطلق واحدها من آخرها وهكذا دواليك. ولعل أول ما يلفت الانتباه في تموضع هذه القصيدة داخل ديوانها سالف الذكر هو وقوعها في المنتصف بين مجموعتين: الأولى أطلق على كلِّ قصيدةٍ فيها "منمنمة..."، والمنمنمات تحيلنا عادةً إلى تشكيلٍ دقيق وعمق في الصورة. أما الثانية فأطلق على كلِّ قصيدةٍ فيها "رعوية..."، والرعويات تحيلنا إلى رحابة واتساع وانطلاق في المكان وانبساط في الزمن. وخصوصية عنوان القصيدة أنه يحمل الدلالتين معاً، فهو من ناحية يقترب من الأولى عبر دال الموت بكل ما فيه من غموض ودقة وعمق وتعقيد، ويتماس مع الثانية إذ يستحضر دال القيامة أفقاً رحبا واتساعاً وبعثاً واحتشادا.

وعلى ذلك فالقصيدة تنبني في عنوانها على طرح المفارقة بين طرفين وتجمعهما في نفس الوقت، إذ الموت: الانتهاء، والانقضاء، والسكون، كمصيرٍ لكل منمنمة، والقيامة: البدء، والحركة، والتعدد تمهيدا لكل رعوية. والشاعر هنا يطرح إيمانه الدائم بحتمية تلك الدورة من خلال عنوانه الذي يمثل فارقاً قائماً بين عالمين متصارعين متواصلين أحدهما يفرض موتاً، والآخر يفترض حياة، لكن مطر يأبى إلا الانتصار ـ ولو داخل نصه ـ لأحدهما، فهناك موتٌ واحد، بينما في المقابل هناك ألفُ قيامة، ألف لذلك الموت الوحيد. وكأنه يرغب في فرض دلالات خاصة لشخصية المرثي/ المحتفى بموته "شامل باسييف"، إذ كان موته واحداً وحيدا بينما خلف ذلك الموت ألف قيامة، وألف قضية، وألف سؤال. والقصيدة في مجملها تعتبر نقطة فارقة بين رؤيتين للشاعر تترجمان عالمين من عوالمه (عالم المنمنمات وعالم الرعويات) فرؤية الشاعر ما هي إلا حلقات متصلة ممتدة عبر الزمن، منذ بكارة حياته الأولى وحتى تعقيدات الآلة، والنظرية. فعندما يصل إلى الرعويات فإن ذلك يأتي بعد تاريخ طويل من التجريب والكتابة، وكأنه يعلن هنا الاختيار.

والقصيدة المطرية تستحضر دائما عناصر اتصال بين الفن والواقع لتنتج نصا موازيا للعالم. فها هو يقدم في قصيدته التي بين أيدينا تواصلاً مع آخر عبر مقطعٍ من رواية الحاج مراد لـ (تيلستيوي) مؤصلا للعلاقة بين ثنائية الكون (الخير والشر) في حضورها الإنساني العام، مؤكدا على حتمية تحقق الصراع (اجتمع الشيوخ في الساحة جالسين في حلقات ليناقشوا الوضع لم يتحدث أحد عن كراهيتهم للروس لأن ما كان يشعر به الشيشانيون صغارا وكبارا كان شيئا أقوى من الكراهية ليست كراهية بل اشمئزازا ونفورا وحيرة.) هكذا ينطلق النص المطري في أجواء الصراع، وكأنه يرسم لنا قاعدة تاريخية واجتماعية وسياسية يتخذها منطلقا لبداية قصيدته. وهوهنا لا يعلن فكرة استقلال نصه عن نصوص الآخرين، بل يعلن إمكانية تكامل النصوص، مؤكداً على وظيفة الأدب خصوصاً والفن عموماً وقدرتهما على إعادة قراءة العالم وصياغته.

ومع هذه الأجواء يأتي مشهد الميلاد والمهد، لتتعانق من خلاله عناصر الطبيعة والكون، وجوانب السمو والرفعة، التي يجب أن يتصف بها الإنسان النموذج الذي يطرحه مطر، وتسعى قصيدتة لتحقيقه. إنه يعلن في مشهد واحد عناصر الانفصال والاتصال الكونيين، الانفصال عن الأم/ الميلاد، والاتصال بالعالم/ الحياة، ليؤكد على حقيقة واحدة مؤداها إننا إذ نكتب أو نقرأ فإننا بذلك نبحث عن إنسان يتصل بعالمه:

رفت على وجه الصبي فراشتان
وحطتا غمازتين تشعشعان
إذا تبسم بالحليب وشقشقات الماء
تنغرسان إن غضبت ملامحه كبرعم دمعتين

أسميتك النجم الذي يعلو
يشق غياهب المنفى توقده
أسميتك النسر المحوم في سماء الروح
..................
أسميتك الحصباء والأعشاب في جبل العشيرة
..................
أسميتك النبع المزفزف بالمياه ليشرب
الطير الشريد ويصطفي عشا
..................
أسميتك الغضب المقدس

ها هو النص المطري، يحمل بين جنباته سلسلة من الحلقات المتصلة داخل وحدة الكون الفسيح، فبطله نجم، ونسر، وحصباء، ونبع، و غضب مقدس، وهي جميعها على اختلاف أصولها تنتمي إلى دائرة واحدة من الشرف والسمو، بينما تتواصل فيما بينها لترسم صورة واحدة لكونٍ يمكن اختصاره في مشهدٍ واحد طالما طمح مطر إلى تحقيقه عبر مشروعه الشعري. ولعل إلحاحه على مبدأ الحرية المطلق، والاتساع والانطلاق، يتجلى من دوال هذه القصيده من خلال: براح القلب، وانبساط السماء والأرض، وسعة الغابات، وانفساح مرامح الخيل، وامتداد الملاعب في الأرض وفي السماء، إذ يقول:

كانت أغاني المهد تصهل في براح القلب
فانبسطت سموات وأرض
..................
وانفسحت مرامح خيلها
امتدت ملاعب طيرها ونسورها بين الطباق السبع.

وكثيرا ما يذكر عمل أدبي بعمل أدبي آخر، أو موقف إنساني بموقف إنساني آخر. والرؤية المطرية تستدعي دون تصريح تلك المواقف الإنسانية المتكررة في تاريخ الإنسانية، من خلال الواقع والفن، والتي تؤكد جميعها على دلالة الإنسان الحق، عبر إبراز المواثيق الإنسانية التي اتفق عليها الإنسان أيا كان عصره، أو جنسه، أو عقيدته، ولعل ذلك كله يبرز من خلال تلك الأم الرمز التي تفتح في معصرات الغيم أبواب الكلام، فتؤكد على قوانين هي أشبه بالنواميس الطبيعية في الخلق: لا ينحني رجل لغير الله، والانتماء لأرض العشيرة والفطام، والمقارنة الفاضحة للتقارب بين قياصرة الأمس وقياصرة اليوم، والمقارنة الكاشفة عن التباعد المطلق بين الموت الشريف والموت الذليل، وصفات الوارث الحقيقي بوصف الوراثة شرفاً فمن يستحق أن يلبس قلبق جده؟ والفرق بين الشفة البغي والشفة التي تعرف شرف اللغة. هذه مجموعة من المبادئ التي دستر عفيفي على لسان أم شامل من خلالها العالم، والأم هنا دالٌ على خصوصية المنبع الأصل، والذي نبت منه صاحب المرثية/ الاحتفالية. إنها دلالات متعددة، لكن المسافة بين حضورها دالاً وتحققها مدلولاً تأتي بسعة هذا العالم الذي يلخصه عُمْرُ المجاهد شامل ويعبر عنه النص من خلال سيرةٍ شعرية.

 أمك فتحت في معصرات الغيم أبواب الكلام:

إن مستويات الصراع في قصيدة عفيفي مطر، تكاد تتمحور في مستويين فقط هما: مطلق الخير، ومطلق الشر، وهذه ثنائية أبدية أزلية تحكيها صور الزيف والقهر التي يصنعها الإنسان، فيوجِدُ من خلالها مبرراته في إنجاز مشروعاته الظالمة.

(ليس الشيشاني سوى قاتل أو... قاطع طريق أو... لص)
                                            (الجنرال باراكوف).

هكذا يصنع الزعماء مبررات جرائمهم، وهكذا ينطلق عفيفي في قصيدته من الواقع، فيحلق بنا في كل اتجاه من اتجاهات الزمن وكأنه يحكي قدر الوجود، أو كما يقول مطر:

          أمم تكشف زيف ما عاشته من رعب ومن كذب 
          تفكك عن مغازلها حبال قيودها 
          وتقيء ما اعتلفته قهرا من معالف قاهريها 
          والسماء قريبة وخناجر الشهداء 
          تنحت أو تقش ليلها 
          والفجر يبزغ من أسنتها 
          ويركض في فيافي الروح.

وتتجلى المفارقة لتؤكد في مرارة على حتمية المواجهة بين هذه الثنائيات من خلال: الصراع ـ الغرائز ـ الجروح ـ الكذب ـ الجيف ـ الردى ـ سهوب ـ القتل ـ الظلمات ـ فيض الدم. في مقابل: سيف يشرخ ـ بدءٌ مجلجل ـ نشور ـ جبال أهل ـ صدور أمهات ـ طرق رجوع. إنها تجليات المواجهة بين تلك الثنائية، والتي يضحّي فيها البطل بنفسه فداءً لهذا الكون، فلا يكون على هذا الكون إلا أن رثاء ذلك البطل/ المخلّص/ الضحية، فيهيمن مشهد من الاحتقان والتداخل يكشف صورته النص، ملقياً بظلال من المأساوية على مشهد الرحيل.

          أمك في أغاني المهد والترقيص كانت
          تنتشي وتقول:ليس على مدى الأعمار
          ألين من صدور الأمهات
          إلا جبال الأهل والحصباء في طرق الرجوع 
          فادخل عروق الصخر واصعد للذرى
          ومكامن الشهداء من وكر لوكر 
          فاصعد لتكمل دورة الأحياء في طبع النسور 
          سقط الكلام عن الكلام 
          رملا على رمل 
          وأطلالا من المعنى على معنى الركام 
          والكون منكر كأن النطق والإشهاد ما كان 
          كأن العرش منغرس القوائم في ظلام الغمر 
          تنسحب الخليقة في الأفول 
          ينحل ما اشتبكت به الأشياء في تكوين جوهره
          وتنسج جدالها المشبوب 
          كل نقيضة تفنى وتُفنى أختها.

هذا هو المشهد الكوني بكل دقائقه، وكأنه جسد واحد، يترنم ترنيمة حزن ومعاناة، ليبكي جزءا منه، والنص المطري عبر ذلك المشهد يقيم اتصالاً دائماً بين عناصر الكون جميعها وكأنها جسد واحد: الرمل، المعاني، الكون، النطق، العرش، الخليقة، الفناء، الريح، المياه، النيران، الطين. كل هذه العناصر في تضافرها تتوالى في تصوير رد فعلٍ واحدٍ ووحيد، إنه فعلُ الذهول. بينما في مقابل ذلك الذهول نلمح طرف الثنائية الآخر، وهو يتحلق ليشرب نخب الخيانة.

          كان الثمانية الذئاب تحلقوا حول القصاع 
          ثريدهم لحم الشعوب شرابهم نفط الجياع 
          كانوا وكان القيصر الشحاذ شيخ المخبرين 
          يدعوا اللصوص ليشربوا نخب اغتيالك.

هنا تقوم القيامة، ويستحضر الشاعر كل التراكيب الثقافية، والروحية والدينية، والاجتماعية، لتشارك في رسم مشهد الوداع. ولعل التكوين الإنساني لمطر يتبدى في مباشرته وتلقائيته، واستغراقه وتوحده في الحالة التي يرصدها ويصفها أو بمعنى أدق يعيشها، بعيدا عن التشدق بمعطيات الحداثة دونما تحقيقٍ فاعل لصدمتها. ففي مشهد هو أقرب للملاحم اليونانية، يجسد عفيفي مطر وداع الشهيد، يرسم التلاحم الكوني من كل بقاع الأرض، فالقضية إنسانية محضة، مكرورة في مختلف الأصقاع، وفي كل الأزمنة. هنا تتجلي المساحة الكبرى بين خصوصية الدال وشمولية المدلول. فالمشهد تتشارك فيه الأفلاك، والملكوت، وقندهار، والكرمل، والنيل، وأرض الرافدين، والبيت الحرام. ولا يفوت الشاعر أن يعرج على قضايا وهموم هذه الشعوب، إيمانا منه بأنها هم واحد، وهدف واحد، وألم واحد.

          كان رمح من دماءك يشرخ الملكوت
           فأعرج ليس من حرج على الأعرج 
          وأعرج وطف بالنقش بند 
          ارقص وطالع دورة الأفلاك 
          واخطف وردة الدم من حرائق قندهار 
          خذ عشبة نبتت بجمجمة الشهيد على ذرا الكرمل 
          خذ وردة من كف شحاذين حول النيل 
          واشرب غصة من طميه الأهطل 
          خذ سعفة من نخلة السياب 
          وامضغ تمرها المعجون بالنابالم والبارود 
          خذ طرة من كسوة البيت العتيق 
          وآية من زخرف المحمل.

وهكذا نلمح القصيدة المطرية تنبض وتهتز وتتحرك فتنفتح على فضاءات دلالية رحبة وتفيض بأبعاد مختلفة، تعبر عن أسرار الإبداع وتعكس جوهر المبدع. فتكشف معدنه وتفضح شفافيته، وتصوغ ملجأه. حيث نراه يصعد ببطله من خلال تصوير بديع يعبر عن قمة الروحانية والفداء والمجد، فيحمله إلى عوالم الرمز. ويتخذ من الصوفية (بكل ما تحمله حقيقتها من صفاء، وفناء، وتوحد، وشفافية) وسادةً يلف بها بطله، وكأنه يقول نعم إنه ارتقاءٌ إنساني يشبه الارتقاء الصوفي، فلقد بلغت المنتهى أيها الشهيد بعكازك راكباً (برق البراق)، وصوتك المحدود آن حياتك أصبح باستشهادك (رعدة الآفاق)، بينما سموك الذي كان لما يزل (وردك المورود):

          في الليلة الكبرى وساعة عرسك الموعود 
          قد تشهق الأمم الذليلة شهقة الغضب الودود 
          يا راحلا عكازه برق البراق ورعدة الآفاق 
          تحت الأشهب الأجدل 
          من ذروة الأفلاك رجع وردك المورود
          (ما في الصبابة منهل مستعذب
          إلا ولي فيه الألد الأطيب 
          أو في الوصال مكانة مخصوصة 
          إلا ونزلتي أعز وأقرب 
          أنا بلبل الأفراح أملأ دوحها 
          طربا وفي العلياء بازا أشهب).

وهكذا ينقلنا مطر في مقاربة فريدة من نوعها إلى زمن إبداعي خاص به، وإلى عوالم مطلقة متوحدة متصلة نحو تحقيق شاعريته، حيث يحملنا في تطواف رشيق من خلال نسيج متداخل بين عناصر مختلفة إلى عالمه الخاص الذي يتكئ فيه على موروثه الثقافي تارة، وعلى لغته الشعرية تارة أخرى، وعلى وجدانه الملتهب تارة ثالثة. أما ثقافته فهي كما ذكرنا آنفا تمثل أركيولوجيا معرفية بمعنى أنها قواعد متعددة فاعلة لجملة من الثقافات تشكل النص المطري. وأما اتكائه على اللغة فيأتي من خلال إيمانه بأن اللغة هي وسيلته في الاتصال بالآخر من ناحية، والتعبير عن ذاته من ناحية أخرى. الأمر الذي يدفعنا إلى التسليم بأن له شفرة لغوية ذاتية، فاللغة ما هي إلا منظومة اتصالية موزعة على عدد من المستويات مثل مستوى العلامات اللغوية ومستوى الوظائف ومستوى التأويل(4). الأمر الذي يجعلنا ننظر إلى النص المطري من خلال هذه المستويات فيكتسب بعدا خاصا ومساحة كبيرة بين خصوصية الدال وشمولية المدلول. فاللغة عند عفيفي مطر تمثل قضية من قضاياه الشعرية،حيث يحتفي بها في ذاتها. فموضوعه الشعري دائما ما يتدثر بخصوصيته اللغوية.

أما وجدان مطر الإنساني فينعكس دائما من خلال احتفاءه بالرمز الذي هو مشترك إنساني عام، يتقاسمه البشر جميعا، وأكاد أجزم أن هذا هو مشروع عفيفي الأكبر، حيث يؤكد دائما على بعده الإنساني العام الأمر الذي يدفعنا إلى القول بأن وجدانه ثائر تجاه تحقيق الإنسان لإنسانيته. ولعل ذلك يتضح من خلال استحضاره دائما لشخوصه وأبطاله من النماذج التاريخية، واستخدامه لها كأقنعة أو أصوات يلج بها الواقع ويعيد تهيئة حضوره. وإجمالا فإن عفيفي مطر شاعر إنساني من طراز فريد، إذ لم يعبأ كثيرا بأن يكون وحده فارس الحلبة، بل كان يهتم بتقديم الفن الشامل المعبر عن قضيته، منتقياً من خلال التاريخ الأدبي ما يراه جديراً بالحضور الدلالي داخل نصه الآني، ولعل ذلك يتجلى في القصيدة التي بين أيدينا إذ يختتمها مطر بأبيات الجيلاني التي تنقل النص إلى عالمٍ تأويلي جديد وكأن على القارئ أن يعيد قراءة النص من جديد مأوّلاً إياه بحضور أبيات الجيلاني في منتهاه.

ولم يقف الأمر عند ذلك التناص الشعري، بل عمد أيضا إلى طرح تناصٍ من نوعٍ آخر، إذ ضمن عمله الشعري أجناساً أدبيةً أخرى ولا سيما القصة التي كتبها توليستوي، ثم ترجمته لأغنيتين من ذلك العمل الأدبي، وهما: أغنية أم، ومنها:

          كان صدري الأبيض قد اخترقته 
          طعنة نصل لامع من الصلب 
          لكني أرقدت ابني الوضاء 
          ولدي الحبيب على الجرح 
          حتى اغتسل جسده بدمي الدفاق 
          واندمل جرحي بغير دواء 
          ..................
           ولأني لم أخش الموت 
          فإن ولدي لن يخشاه أبدا 
          وأغنية ثأر، ومنها:
           سوف تجف الأرض فوق قبري 
           وأنت يا أمي سوف تنسيني 
          ..................
          ولكنك يا أخي الأكبر لن تنساني 
          حتى تثأر لموتي
          وأنت يا أخي الثاني لن تنساني حتى ترقد إلى جواري
          وأنت أيتها الرصاصة 
          ..................
          وأنت أيتها الأرض
          ..................
          ويأيها الموت أنت بارد 
          ولكني كنت سيدك 
          ستنال الأرض وجسدي 
          أما روحي ففي السماء.

ونهايةً ربما كانت قصيدة شامل تستهدف حدثاً واقعياً بعينه، وشخصاً/ رمزاً هو شامل با ساييف، وغرضاً أصيلاً في الشعرية العربية هو الرثاء، لكنها بين كل هذه الحقيقيات تطرح رؤيةً تجريبية وشموليةً للإنسان والواقع والأحداث والوجود، فتجعل من الغرض الشعري وسيلةً لا غاية، ووعاءً يضمنه الشاعر رؤيته كيفما ووقتما يريد، وتجعل من الشخص وواقعه عالماً من الرموز والدلالات. وعفيفي مطر ليس هاهنا بل دائما يحمِّل نصوصَهُ عبء التعبير عن الإنسان في كل عصر، لا يحصره تاريخ ولا يوجهه إيهام الواقع وظواهره الطارئة، وإنما يستقرئ الواقع ويستلهم التاريخ، وتمنحه القصيدة وجهتها، فيمنحها رؤاهُ وفلسفته واحتراقه ودمه.

أستاذ مساعد البلاغة والأدب المقارن، جامعة الملك خالد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ـ (عصر البنيوية). ص 382
(2) ـ ديوان "المنمنمات" لمحمد عفيفي مطر (قيد النشر)، والقصيدة منشورة بمجلة الهلال المصرية،عدد إبريل 2007، ص 166 ـ 171.
(3) ـ (تجليات الشعرية) د فوزي عيسى منشأة المعارف بالإسكندرية 1997، ص 11.
(4) ـ (فقه الاختلاف) د محمد فكري الجزار ص 63.