هلاوس ليلة الظمأ

عندما تفقد الأشياء نُبلها

أحمد زرزور

«غبش يبلله دخول الليل،
والغيطان تسحبُ من بدايات النعاس
تنفس الإيقاع منتظماً على مد الحصيرة والمواويل،
الزمانُ كأنه فجر قديم مُستعاد».

هناك القليل من الشعر الذي يمثل أفكار الشاعر ومشاعره والظروف المحيطة بحياته، والشعر شأنه شأن العلم: فيه نوع من التجريد، والعمل الفني العظيم، مثل الحقيقة العلمية العظيمة، يقف وحيداً فريداً، ومن هنا فإن المبدع لا يبدع مهرولاً من خلف العمل الفني يشرعه، وينمقه سالكاً في ذلك مسلك الوالد القلق. هكذا الحال عند محمد عفيفي مطر، فهو الراعي المطمئن والفلاح الموقن، عرّاف هو بخرائط روحه، ومن ثم فإن جسده يتجلّى بلا مواراة، وما على الآخر سوى أن يتسلم أعضاءه التي تبدو عبر الكلمات متناثرة فيما هي وباستبصارك لنبض أشلائها ـ كيان توحيدي ضامّ لامّ، كما هو النهر يجرف أمامه كل العواسج، هادراً عبر الوادي بقوة تضامن روافده الصغيرة التي تندرج في معزوفة أوركسترالية جماعية تظل في سمع الزمن خالدة متحدية.

هل لهذا التقديم علاقة بقصيدة مطر «هلاوس ليلة الظمأ» التي كتبها في الفترة من 5/ 3/ 91 إلى 25/ 10/ 1992 ما بين المعتقل و «رملة الأنجب»؟ بل هل لهذا التقديم علاقة إطلاقية بشعره عموماً؟!.

هكذا تجيء هذه الرؤية أقرب إلى «شهادة انقرائية» منها إلى درس نقدي، مستسمحاً الشاعر أن تجيء هذه الشهادة: كتابة على كتابة.

(1)

مع المقطع الذي تصدر هذا البيان الشخصي: يسحبنا الشاعر ـ وهو يوهمنا بغيبوبة داخل زنزانة ـ إلى نشيد صحوة يبدأ هادئاً، تماماً كما هو الليل الريفي الذي ينساب عبر الأشجار والبيوت، كيف يتسنى لشاعر خلف جدران عالية أن يخترق القتلة المخنثين المتمرسين حوله، إلى الغيطان وهى تسهر، تتنفس، تراقب صيرورة الفجر الذي هو قديم أزلي مؤنس، فجر إنسان أبداً رغم الجلادين الحائمين حوله بحرابهم، كيف تم هذا كله، كيف وفى كتب الشاعر «إرهاصة هذه القصيدة، أو في المعتقل كما يسجل في خاتمتها، أم في قريته بعد عودته إلى مد الحصيرة والمواويل؟ سيلتبس عليك الأمر: لكنه في الحالتين هنا أو هناك يضعنا أمام «ابتداء دائم» للمأساة الإنسانية، إنهم لا يتركوننا أبداً نصوغ حلمنا، مطارداتهم لا تتوقف، وما علينا ـ في هذه الحالة ـ إلا أن نواصل تنفسنا لينتظم يوماً ما، كما ينتظم تنفس إيقاع الليل في قرانا، أليست هذه هي حكايتنا الأزلية التي يشهدها «الفجر القديم» متجدداً!!.

أليست هذه «حقيقة علمية عظيمة» في سجل الإنسان المصري منذ فجر التاريخ؟

يتوالى السرد الشعري بين لحظتين: لحظة أن حفرت آلة التعذيب بصمتها على أنفه ـ أنف الشاعر، ولحظة فزع ابنته من «قشرة الدم والصديد على عظام الأنف» لنهذى مع الشاعر حقاً وهو يتساءل ـ ونحن معه:

«أهذى، أم الزنزانة انفتحت على زمنين
واتسعت على هول المكان»؟

حقاً، هل صار الوطن زنزانة كبيرة تتداخل بومعالجه:، حتى أن الشاعر وهو بين رفاقه على حصيرة الليل القروي يردد غيبوبته:

«ريق وجمرة حنظل تتشقق الشفتان».

ثم يعود لإفاقة سريعة خاطفة مخاطباً صديقه ومعالجه:

«ما للتحاريق ارتعت بالجمر والنسج المهلل أعظمى
وأديم هذا الليل يا عبد العليم»؟

هكذا: فالظمأ مستمر من «محبة» إلى سمره، وهو لا يرى غير جدب كبير يحاصره ـ يحاصرنا:

«يا عبد العليم
ما للجرار ادحرجت، والقلة الفخار عفرها الرماد
والملح، والنهر القريب مشققا»؟

ويعود الشاعر ـ ونحن بصحبته ـ إلى هذيان جديد، لكأننا أمام محرقة يشعلها أكثر من مدبر: السراب والواقع وما بينهما من جنود العسل المختفين وراء كل حلم وزهرة وعشبة فرح بسيطة:

«أهذى، وألهث، أم هي البنت الصغيرة من ظلام الغيم تخرج، في يديها الكوز والإبريق، تلمع في نحاسهما الزخارف بالعناقيد المنداة».

ولكي تتعاضد اللحظتان ـ الزمنان، لتكتمل منظومة الهذيان عبر قوسين: المعتقل/ القرية، تتواصل المعزوفة الكربلائية:

«التفتت، فراعها أن القيود تعض لحم المعصمين، فيرشح الدم
فاستدارت وارتمت في عثرة الرهبوت».

هنا: تتضام كل المنثورات، لتأخذ المذبحة شكلها الكامل،بحيث لا يترك للشاعر ولنا أي مجال للهروب من طاعونها الكابوسى، هناك احتشاد طوال الوقت لتعميم المأساة، من معتقله إلى قريته إلى وطنه القومي حيث يكتشف عاقبة الكلام عن فرح مقهور وجحيم مقيم:

«قال المخنث للمخنث: إن هذا الأهبل المجنون يهرف بالكلام
فعرفت أنهما هما..
والجسر بين الصالحية والرشيد مرجع
للبلغم الدهنى في صوتيهما».

هو فلاح الأمة الفصيح إذن، وقف أمام قصر الفرعون على ضفاف النيل أو أمام قصر الفرعون على ضفاف دجلة والفرات.

(2)

ولأن، حتى الأشياء، فقدت ـ بفعل فاعل ـ نبلها التاريخي الذي عايشه الشاعر وتسرب إلى روحه، فتحولت جميعها في لحظة شريدة إلى أداة قهر، هكذا يجتاح الآثمون كل الموجودات لإفراغها من حضورها الإنساني المؤنس، ولأن الشاعر يعرف أهمية الأشياء في فضاء القرية الذي يضم كل تكويناته بمحبة تاريخية، يرى الشاعر فيما يرى ـ بمعتقله أو بقريته ـ ويسمع فيما يسمع، وبين السماع فالرؤية، أو الرؤية عبر السماع، يتجوهر شكل آخر للمأساة يمتد هذه اللحظة إلى تاريخ الأسلاف، فهم لا يقتلون الأشياء بل روحها المتجذرة بروح الناس:

«قال المخنث للمخنث: إن نوبة نومي اقتربت
فأخرس صوته بعصاك
.....................
آه يا عبد العليم
لم يترك الأهلون من نبل العصا في لعبة التحطيب ميراثاً لأوغاد الزمان
النذل
هل رجل وضربته تجيء من الوراء»؟

هنا، وببساطة آسرة، يتمترس الشاعر بجسده «الشعبي» وذلك الجسد الذي كونته تواريخ من القيم العليا وهل الشهامة إلا كبرى قيم القرية المصرية، يتمترس الشاعر بها صافعاً وجه النذل الذي ضربه من خلف، في مؤشر دال على انحطاط يحيق بوطن في أعز مكوناته الروحية.

أرأيت ـ إذن ـ إلى حقيقة عظيمة يتشارك فيها الحس والوعي، تلك هي قناعة «مطر» الدائم منذ القصيدة الأولى، شأنه في ذلك شأن المسكونين بالكون الذي يراه في باطن كفيه، كل شيء، كل رائحة، كل لمسة، كل نأمة تصدر عن جناح فراشة، كل رقصة درويشية في محفل صوفي، هكذا تتكون الرؤية الشعرية لديه، وهكذا تؤتى حضورها بما يجعلها ـ الرؤية ـ بيان نبوة عارفة متصوفة يتجول في كل الأشياء والمعتقدات، متحدا بها، وخارجا بها إلى أفق أكثر معرفية وإشراقية، إنه لا يغيب عن فعالية قصيدة ولا يتركها تغيب عنه، وما بين الهلوسة في معتقله في قريته يطوف الشاعر منشداً ذاكراً، ليس إلا النشيد الأهلي على إيقاعات عصى التحطيب وحلقات الذكر وليس إلا العصا التي تحتفل بأهلها، هكذا يواصل الشاعر استناده إلى نبل أشيائه ـ وبشره الطيبين في مقاومة شعبية تظل هي المبتدأ والمنتهى عندما تشتد الوطأة ؛ ها هم ثلاثي حفلة النبيل:

1 ـ «كان أبوك يهدر في مقام الحشد تأخذه الجلالة،
وجهه الطيني يلمع، والعصا في أصبعيه، تدور مثل مغازل الأفلاك،
يا جمل المحامل ـ إنه جمل يطمطم في ضراب الرقص في أعضائه
ـ يا أم هاشم، ثم تنكسر العصي على عصاه».

2 ـ «ثانيهمو ينشق عنه الحشد، قفطان يضيء بياضه الزهري والشال المرفرف،
بسطة الأفيون والقد النحيل
كالخيزرانة، واالأهواء، تُرى من كرها بين اليدين».

3 ـ «حتى إذا اقتربت خطا عمى معوض بالعصا، حط السكون،
هو صخرة قدت من الأهواء، والخمر الرخيص،
فأفردته العائلة
كفاه كالمذراة، ساعده عروق السنط، خطوته انصباب السيل،
كان اللاعبون أمامه لعبا تطيش عصيهم، وتطير من أيديهمو،
والكحل في عينيه يغمز للنساء».

أرأيت إلى هذا الطقس الحميم الذي يلوذ به الشاعر، يظل لصيقاً بروحه، هادراً أكثر وأكثر كلما حوصر بالكراهية والإفراد والعزل، ولكن أرأيت أيضاً إلى ذلك الحضور التاريخي للحزن في بنية الروح المصرية، ذلك الذي يتجلى في اعتبار الشاعر للموت صديقاً رابعاً لكل ثلاثة، أو خامساً لكل أربعة، وهكذا إلى أن يصل بنا هذا التداعي في متوالياته إلى أن يكون مصاحباً لكل الموجودات صغيرها وكبيرها، يصبح هكذا مصاحباً للوطن:

«ورابع الأصحاب يرقبهم
يطيف على الرءوس مرفرفا كالصقر
ينسج من تواشيح الصبابة والولاية
مدرج الكفن الحرير».
.....................
هل حقاً هلاوس ليلة الظمأ؟!.

سمها كما تحب، لكنها ـ في حقيقتها ـ إفاقات متناثرة مصاحبة لكل الغيبوبات المتعمدة، إفاقات تقاوم، وتدل على مكامن القوة المنسية في روحنا، ذلك أن ليالي ظمئنا المتواصلة تستدعى أول ما تستدعى فلسفة حزينة للمعرفة، ومن ثم نمتلك صك المعرفة المضادة لمعرفة القتل ـ إذا صح التعبير ـ وقد وصفنا الشاعر أمام «جسده الشعبي» منبهاً إيانا إلى إشارات الارتواء الخفية المتوزعة عبر روح النجوع والكفور والدساكر، حيث لا يزال وميض نبيل يرفرف على الليالي الهادئة المتفجرة، رغم تربص صاحبها الصقري حاملاً أكفاناً حريرية، تلك هي ترنيمة العمل الفني العظيم، الذي هو ـ في جوهره ـ حقيقة علمية عظيمة، وقد نجح الشاعر في دحض الجمال الكاذب للشعر، آخذاً بأيدينا إلى حيث الجمال الصادق للشعر، ونظن أن هذه هي هدية الشاعر لنا في سبعينيته التي تستمد نزقها المتجدد من حكمتها الدائمة.