شعرية القصة القصيرة جدا

نصوص سعيد منتسب وعبدالله المتّقي نموذجا

حسن المودن

1 ـ انفتاح البنيات وانفجار الأشكال:
لم تعد القصة كما كانت، هذا ما يعرفه القرّاء وأهل الأدب والاختصاص، فقد تغيّرت خصائصها وطرائقها وأشكالها، وانفجرت إلى أنماط وأنواع جديدة. ففي سياق أدبيّ يتميّز بانفجار الأشكال والبنيات، واختراق الحدود بين الأنواع والأجناس، وتغليب التجريب على التقليد، ظهرت القصة القصيرة جدا، وعرفت انطلاقة لافتة للنظر، فقد تكاثرت الإصدارات القصصية التي تؤسس هذا النوع السردي الجديد وتنتسب إليه، و أضحى الاهتمام باختياراتها السردية والفنية يتزايد في الندوات واللقاءات والمواقع الثقافية والأدبية الورقية والالكترونية. ويمكن أن نرى في القصة القصيرة جدّا الشكل الأكثر مناسبة للحياة السريعة في العصر الراهن التي تتطلّب الإيجاز والاختصار في كل شيء، وقد يرى البعض في شذريتها ومقطعيّتها قدرة خاصة على اختزال العالم وتكثيف الفهم، وقد يرى البعض في ذلك عدم قدرة القاصّ على فهم واسع وشامل للعالم.

بالنظر إلى الرواية والقصة القصيرة، نجد القصة القصيرة جدا تتميّز بخصائص كمية ونوعية، فنصوصها قصيرة جدا، ولا تتألف إلا من عدد قليل من الكلمات، ولكنها تنقل اشتغالها من المستوى الكمّي إلى المستوى النوعي، موظفة شعرية الإيجاز والتكثيف، سواء من خلال الصوغ السريع جدا للوضعية، أو من خلال التركيز على مقطوعة هامة من حياة الشخصية، أو من خلال التشديد على كيفية الكتابة وشكلها، جودتها وشعريتها. ويمكن أن تبدو القصة القصيرة جدّا شكلا بسيطا سهلة كتابته، لكنها في الواقع من الفنون الصعبة التي تقتضي كفايات ومهارات فنية خاصة في الشكل والبناء وسبك اللغة وتكثيف المحكي واختزاله. ففي القصة القصيرة جدّا قد يصل الأمر إلى حدّ استحالة سحب كلمة واحدة من النص، ذلك أنه من دونها ينهار ويتفكك كل شيء. وهكذا، فهذا الفنّ صعب جدّا، لأنه يقول الكثير في عدد قليل من الكلمات. ومن هنا يرى البعض أن القصة القصيرة جدا كثيرا ما تتشبّه بالحلم في أشياء كثيرة، من أهمها رمزيته وشعريته، فهي تستخدم آليات التكثيف والتحويل والترميز والصوغ الدرامي السريع، وتقول الذاتي والغريب واللامرئي واللاواقع، وتنتهك الحدود بين الواقع والمتخيّل.

يتعلق الأمر إذا بنوع سردي جديد استطاع أن يحدث تحولات وتغييرات في الكتابة القصصية بالمغرب، وخاصة في السنوات القليلة الأخيرة. ومن بين النصوص العديدة والهامة، نقترح مقاربة نصوص سعيد منتسب من خلال مجموعته: جزيرة زرقاء (2003)، ونصوص عبد الله المتّقي من خلال مجموعته: الكرسيّ الأزرق(2005).

2 ـ بلاغة الايجاز:
تتألف كل واحدة من هاتين المجموعتين القصصيتين من عدد من النصوص يتجاوز الخمسين نصا، واللافت للنظر أن النص الواحد لا يتجاوز الصفحة الواحدة، ولا يتركب أحيانا إلا من بضعة أسطر قليلة جدا، ثلاثة إلى أربعة، كما في هذين النصين، الأول لسعيد منتسب والثاني لعبد الله المتقي:

               جريمة
ينتظرها في المقهى. ساعة. ساعتان. لم تأت. ينتظرها في البيت. ساعة. ساعتان. ليلتان. لم تأت. نام. وجدها في حلمه جثة جامدة.
        أفاق. السكين في يده. وبقايا عتاب ودم (1)
               فوطوكوبي
أمّـه تقبع في ركن من أركان الغرفة، تخيط بالإبرة محفظته الجلدية، أخته تلعب بدمية مبتورة الذراعين، نظر إلى تقاسيمه في المرآة:
        كان صورة منهما، فقيرا، هزيلا، شاحبا ...جائعا (2)

لا تتألف القصة القصيرة جدا إلا من عدد قليل من الألفاظ، ومن هذا العدد القليل تتشكل لتؤلف نصا، أي ما يؤلّف كلا يقول شيئا ما، عاملة بمبدأ بلاغي قديم: ما قلّ ودلّ، ومستخدمة آلية بلاغية قديمة: الإيجاز. والإيجاز هو الاختزال والاقتصاد والتخفيف والإشارة واللمحة وجوامع الكلم، وهو ضدّ الإطالة والإسهاب والثرثرة. ويعتبر الإيجاز من الخصائص الجوهرية في اللغة العربية وبلاغتها، ويحدده البلاغيون بأنه البلاغة نفسها، فالبلاغة هي اللمحة الدالة والكلمة التي تكشف البقية، وهي إجاعة اللفظ وإشباع المعنى بالوحي والتلميح والإشارة.

3 ـ شعرية التكثيف:
يستخدم الشعريون والنقاد المعاصرون مصطلحا آخر هو: التكثيف La condensation ، ويمكن أن نراه أكثر ملاءمة لوصف إحدى أهمّ الآليات والخصائص الجوهرية في القصة القصيرة جدا. وهو مصطلح استقدمه هؤلاء من التحليل النفسي للأحلام، فمؤسس التحليل النفسي هو الذي لاحظ أن التكثيف آلية شعرية أساس في بناء الحلم. والتكثيف قد يشمل معنى الإيجاز، فالحلم يتميّز بقوة دالّـه وكثافته، ويكون هناك تكثيف في كل مرة يقودنا دالّ واحد إلى معرفة أكثر من مدلول، أو بكل بساطة في كل مرة يكون فيها المدلول أكثر انفلاتا من الدال. وبهذا المعنى اعتبر اللسانيّ والشعريّ رومان جاكبسون والمحلّل النفسي جاك لاكان أن التكثيف في التحليل النفسي هو الاستعارة في البلاغة القديمة. وخالفهما آخرون رأوا في التكثيف معنى أوسع، فالتكثيف لا يشمل الاستعارة فقط، بل قد يضمّ ما يستخدمه الحلم من الصور والرموز، وقد يعني كلّ هذا الاشتغال على مكونات الدالّ ومستوياته الصوتية والتركيبية والبلاغية والدلالية. والأهمّ من ذلك أن قوة الدّال وكثافته في الحلم ترتبطان بشيء آخر كذلك: يأتي نصّ الحلم مصبوغا بالمشاعر والأحاسيس والانفعالات، فهو نابع من الداخل، ومن مناطق غامضة مجهولة وغريبة، وهذا ما يمنح نص الحلم كثافة شعرية ورمزية، تجعل منه بنية نصية ملغزة مفتوحة على التأويل. والنص القصصي القصير جدّا بدوره، ومثل الحلم، يأتي مصبوغا باللذة أو الألم، فهو يريد أن يكون شيئا حيويا حسّاسا، يقول ويعني، ويحسّ ويشعر أيضا، ولا ينتظر من متلقّيه أن يفهم فقط، بل أن يدرك ويحسّ ويشعر. وهو بهذا شكل أدبي أوسع من الكتابة في معناها المادي الطباعي، وأقرب من اللغة الحيّة، أي أقرب من الكلام والخطاب الشفاهي في حيويتهما وحساسيتهما. ومن خلال نص: سعال لعبد الله المتقي، يظهر واضحا أن النص لا ينتظر من متلقّيه أن يعرف أو يفهم، فالسعال شيء معروف، ولكنه ينتظر منه أن يشاركه إحساسه وشعوره، فالنصّ نفسه يحاول أن يتحسّس معنى الألم، وأن يحسّ ويشعر ويدرك ما معنى أن يصاب الإنسان بالسعال:

       سعال
يسعل ثم يتوقف، ويتواصل السعال.
يمدّ يده إلى قارورة الدواء، كادت تنفلت من بين يديه،
و...احتسى بالكاد ملعقتين.
يضع يديه على قفصه الصدري، يلتقط أنفاسه بصوت مسموع شهيقا وزفيرا حتى تنتظم، ثم يتمدّد مهدودا على السرير.. يتأمل السقف في انتظار السعال (3)

وقد تفرض هذه الحيوية والحساسية الاستعانة بالرموز والصور، فالتشبيهات والاستعارات والكنايات تلعب دورا فعالا في تأليف شيء دلاليّ وحسّاس في آن واحد، والنص القصصي القصير جدّا يشتغل بواسطة التشبيهات والاستعارات والرموز من أجل صوغ حسّي للمشاعر والأحاسيس، كالإحساس بالفقدان: فقدان الرغبة وغياب الدفء والحرارة في العلاقة بالآخر، كما في قصة سعيد منتسب: جبل من الثلج، التي تقودنا عبر تشبيهاتها واستعاراتها من أجل أن نستشعر معنى أن يكون ما بين المرأة والرجل والزوج والزوجة شيء مثل جبل من الثلج، وأن ندرك ما معنى أن يكون الإنسان في زمن مضى كالبركان، ثم ينطفئ في زمن الحاضر:

       جبل من الثلج
ينامان فوق نفس السرير. بينهما جبل من الثلج. كان كالبركان. كانت كالبركان. أنجبت جوقة أطفال. أدمن الحشيش واللعنات. لم تنفع المداعبات. لم تنفع الهمسات. انطفأ. انطفأت. الأطفال يكبرون، يتراكمون.
جبل من الثلج يكبر، يتكاثر. تنام فوق السرير. ينام تحت السرير. ينامون في كل الجهات (4)

قد تتأسس القصة القصيرة جدّا عند سعيد منتسب على تشبيه يرمي من خلاله إلى تلمّس شعور ما وإدراك معنى ما، وبذلك نجد في النص صورة أساسا تتلاحم حولها الصور الثانوية وتنتظم، وتقوم هذه الصورة الأساس بتغطية المجموع الشامل للنص. فقصة: تمثال تقوم أساسا على هذا التشبيه: مثل تمثال يستغرق في نومه، به تبدأ القصة وبه تنتهي. وهذا التشبيه هو كلام الزوجة النابع من شعورها الداخلي، ويختزل نظرتها إلى زوجها، ويكشف شعورها الأليم بفقدان آخرها، ويحمل الإحساس العميق بالألم، الألم من تحول الأحلام بين امرأة ورجل إلى ملل وأطفال ومطبخ وكلام، ويصور هذا الشرخ الذي يصيب الحياة الزوجية، فيحولها من الاشتعال إلى الانطفاء، ومن الحياة إلى ما يشبه الموت:

        تمثال
مثل تمثال يستغرق في نومه. ملامحه الصلبة ترعبها، تجعلها تتسلّق الألم الموغل في عمقه. حين التقته، لأول مرّة، على الشاطئ قرأت عينيه. قرأ عينيها. قرأت عليه أشعارا. الحروف تخرج من فمها كخيول فزعة. في البيت قرأوا الفاتحة. أقاموا عرسا. زيّنوا دنياهم بالأحلام. انتهت الأحلام، مزقّوا وجهها بالملل والأطفال والكلام. لم يعد يتكلّم، لا يتحرّك، يقف أمامها حجرا. تحولت إلى أشعارها، تكتب تلك اللمعة التي كانت في عينيه. تحول إلى تمثال بألم عميق. يستغرق في النوم، لا يهتمّ بعينيها. يهتمّ فقط بالمطبخ (5)

وقد يكون النص أشدّ تكثيفا ورمزية عند هذين القاصّين، عندما تكون شخصيات النصوص القصصية جمادا أو حيوانا أو لونا، كأن أشياء العالم وعناصر الطبيعة وكائناتها قابلة كلها لتكون من شخوص القصة القصيرة جدا وأبطالها: الكرسي الأزرق، المطر، قوارير زرقاء، كرز، قصة، قصيدة، توم وجيري،...عند عبد الله المتقي، وجزيرة زرقاء، برتقالة، الدمى، الحديقة، جبل الثلج، تمثال،ضفدعة، القطط، الكلاب، خيول، الفراشة، ... عند سعيد منتسب. واللافت للنظر في القصص القصيرة جدّا أن السارد ينظر إلى هذه الأشياء الخارجية من داخل عالمه الشعوري والنفسي، فصياغة المشهد القصصي تأتي صياغة باطنية حلمية، لا تقف عند حدود النسخ والوصف، بل تحاول استحضار الإيحاء الغائب والشعور المنفلت. ولهذا يتمّ التركيز في هذا الصوغ الداخلي الاستعاري على دالات شعرية تمتحّ من الطبيعة والطفولة والحلم والألوان المنفتحة. ومن خلال هذه الدالات تحضر الأنا الساردة بخصائصها الحميمة وإحساساتها اللطيفة ومشاعرها السرية. ذلك أن الأشياء الخارجية تتحول إلى استعارات داخلية، والاستعارة الداخلية تقول الأشياء وفق منطق العالم النفسي الداخلي، فهي تنبعث من شعور داخلي لشخصية ما، شوقا إلى شيء ما أو تدمّرا منه.

ففي قصة: حديقة، ليس غرض النص أن يصف الحديقة، وينقل واقعها، بل نلمس هنا شعورا بالتذمّر من المصير المأساوي الذي آل إليه هذا الفضاء الطبيعي الذي يشكّـل شيئا ثمينا بالنسبة إلى النفس، فهذا العنصر الخارجي يشكّل شيئا خاصّا بالنسبة إلى الأنا الساردة: الحديقة هي فضاء الحبّ والحرية. وبعبارة واحدة، حديقة: هي عنوان النص، وهي استعارته الكبرى، التي من خلالها تقول الأنا الساردة ما تفتقده في حياتها، وتعبّر عن شعورها بالوحشة، وتصور بالكثير من الإحساس رغبتها الممنوعة وحديقتها الغائبة التي تبقى حيّة في الحلم والخيال:

       حــديــقــة
الحديقة بائسة مثل جنّة، خالية من الأنفاس والأطياف. الأجساد لا تغازل الأجساد. الفتيان يائسون. الفتيات يائسات. يحرسها العسس، يطاردون القبل، ويصطادون العشاق.
هجرها العشاق. أحسّت الحديقة بالوحشة. أهملت نفسها. الأشجار شاخت. الأزهار ذبلت. العصافير هجرت الأعشاش.
أمست كالمزبلة. غضب الحب، صنع من دفئه وردة..أهداها للحديقة..تعب الحراس، أكلتهم كلابهم..تسلل عاشقان الى الحديقة. أعطتهم الوردة أهدابها، نصبوا تحتها خيمة وناموا متعانقين (6)

إن الشيء المحكيّ أو الموصوف في القصة القصيرة جدّا ليس مقصودا في ذاته، فهو عنصر خارجي يمرّ عبر القنوات الباطنية للأنا الساردة أو للشخصية، فيتحوّل هذا الشيء إلى شيء آخر، ويحيل على أشياء أخرى هي داخلية أكثر ممّا هي خارجية. وهذا الصوغ الاستعاري النفسي للأشياء الخارجية هو ما يمنح النص القصصي القصير جدّا كثافة شعرية متميّزة. ذلك أن المحكي في قصص منتسب إذ يعمل على اقتناص لحظة من حياة الشخصية في محيطها العائلي والاجتماعي، فانه يركز على صورة هذا المحيط الخارجي كما تنعكس داخل وعي الشخصية، ويقدم الأشياء الخارجية كما تتراءى داخل فكر الشخصية وشعورها ووجدانها. وهو بهذا يقول العالم الداخلي النفسي أكثر مما يقول العالم الخارجي الاجتماعي، ويتقدم محكيا داخليا استعاريا ينقل نظرة الذات إلى ذاتها والى العالم والآخرين، وبطريقة خاطفة شديدة الدلالة برموزها ومجازاتها.

وتزداد أهمية هذا الصوغ الاستعاري النفسي عندما تكون القصة القصيرة جدّا في مجموعها حلما، أي على شكل هذا المحكي الداخلي الذي يشاهده النائم، ويكون صادرا عن اللاشعور، ويأتي مصبوغا بالمشاعر والأحاسيس المتدفّـقة والمتباينة، ويتموقع بين الواقع واللاواقع، وقد يقول في الظاهر شيئا غريبا ومرعبا، ويسرد أحداثا قد تبدو من دون معنى، ويكشف المخاوف والرغائب الدفينة، ويجعلنا نسمع صراخ/ مواء اللاشعور. ونجد القصة/ الحلم، بهذا المعنى، عند عبد الله المتّقي في قصته:

       مواااء
استيقظ فجأة وبعنف، ووجد نفسه جالسا فوق السرير، يتصبّب عرقا، يلهث في تنفّس سريع ومضطرب، ويمسك بين يديه سكينا يتصبّب دما. لم يصدّق، ولم يكن يصدّق أنه سيرتكب تلك الجريمة، أجهد ذاكرته المتعبة ليتذكّر صورة الضحية دون جدوى. فقط تذكّر ظلاما أعمى، زقاقا ضيقا، ولحية تتدلى من ذقنه، وطعنة من الخلف، تردي الرجل النحيف قتيلا.
كان مضطربا ومتعبا، وكان مواء القطة يتردد في أذنيه، القطة التي عنف على ذيلها حين كان متسللا من مكان الجريمة بسرعة الضوء (7)

وإجمالا، فمن خلال الحلم والياته في التكثيف يقدم المحكي للقارئ لحظات للرؤية والنظر، وما يراه القارئ هو تلك الرّجات السرية والتخيّلات الخاطفة التي تمرّ غير ملحوظة في أعماق الذهن، وما يراه هو تلك الحياة الدقيقة للأفكار والمشاعر الغير قابلة للإدراك، وما يلمسه هو هذا الترنّح الشعوري المقلق بين الماضي والحاضر، بين المتخيّل والمعيش، وما يراه هو هذه الأنا التي تحضر بطرق متواشجة ومتشابكة من خلال الأحداث التي تسردها، أو من خلال الأشياء الخارجية التي تصفها. وهذا ما يسمح للقصة القصيرة جدّا بأن تقدّم العالم مذوّتـا والذات موضّعة، فتأتي الصورة مثقلة بالدلالات، وتنبثق الحالات الشعرية وتتوالد. والقصة القصيرة جدّا، بهذا الشكل، تمزج بين السرد والشعر، وتحقق بطريقتها الخاصة ما يسمّى المحكي الشعري، فهي بتشبيهاتها واستعاراتها ورموزها تحول الانتباه عن جريان المحكيّ، وتخلق انزياحا، وتدعو إلى الانشغال بهذه الصور والرموز، فيتضاعف النص بنوع من المحكي المضاد الذي لا ييسر القراءة ولا يجعلها تتمّ بالطريقة السهلة المألوفة.

4 ـ الشذرية مشروعا للكتابة:
الشّذر في اللغة قطع من الذهب، أو صغار اللؤلؤ، أو هو اللؤلؤ الصغير واحدته شذرة. والشذرية من المصطلحات التي يستعملها نقاد السرد والشعر في العصر الراهن. وباعتبار الدور الفعّال للإيجاز والتكثيف في بناء القصة القصيرة جدّا، يمكن أن نعتبر القصة شذرة، والشذرية مشروعا للكتابة لدى كتّاب هذا الشكل القصصي الجديد. ورأينا أعلاه أن القصص القصيرة جدّا توظف الشعري والشعوري من أجل تقديم صورة/ شذرة تتلألأ مثقلة بالدلالات، وتغور في أعماق لا سبيل إلى سبرها دون التسلّح بأدوات الشعر. وهذا اختيار يكشف أن الكاتب لا يريد أن يكتب نصا طويلا يحكي من خلاله ويكتب كل ما يريد قوله، لأنه كاتب لا ينظر إلى العالم من منظور كلّيّ شمولي، بل من منظور جزئي، فهو ينطلق من الجزء إلى الكلّ، وقد يستهدف الكلّ من خلال الجزء. وبعبارة أخرى، يمكن اعتبار نصوص الكاتب في مجموعها نصّا استحال عليه أن يأتي واحدا موحّدا، فاختار أن يأتي واحدا متعددا في شكل شذرات.

والشذرة لا تقول كلّ شيء، بل هي تفضّل أن توحي وترمز، تاركة فراغات وصموتات حافزة على التخييل. فهي تكره الثرثرة والتفصيل، وتكتفي بالتلميح والإشارة، وتترك مساحات فارغة لرغبة القارئ واستيهامه وتأويله.
والشذرية هي التي تسمح للقصة القصيرة جدّا بأن تلتقط ما لا تستطيع الأشكال السردية الطويلة إدراكه، وأن تجعل من العالم في انسراباته وانفلاتاته شيئا أدبيا. فالشذرية تستتبع أن تأخذ القصة القصيرة جدّا بعين الاعتبار ما هو غير قابل للإدراك في الحياة، وأن تكتب المنفلت واللانهائي، وأن تشتغل على الحيّ والحسّاس، وأن تنقل اضطرابات الشعور وفلتات اللاشعور، وأن تقول الطبيعة المقطعية الشذرية للحياة نفسها. ونمثّل للشذرية بهذا المعنى بنص لسعيد منتسب، بعنوان:

       جريمة
ينتظرها في المقهى. ساعة. ساعتان. لم تأت. ينتظرها في البيت. ساعة. ساعتان. ليلتان. لم تأت. نام. وجدها في حلمه جثة جامدة.
أفاق. السكين في يده. وبقايا عتاب ودم. (8)

وقد تقتضي الشذرية أن لا تكون الكتابة خاضعة للخطية والسطرية، بل العمل على تكسيرها بالاشتغال على الكلمة المطبوعة أو على بياض الورقة، بما يسمح بالانتباه إلى رمزية الكتابة في بعدها الطباعي المادي، فالكلمة قد تتفكك، وقد تحذف، وقد يمتدّ صوت من أصواتها، والجمل تتركب بطريقة من الطرق، والنص قد يبدو كإحدى قصائد التفعيلة أو قصائد النثر . وهذان نموذجان تمثيليان، الأول لعبد الله المتقي، والثاني لسعيد منتسب:

       مدونة
هو
كان مستلقيا فوق السرير، يلاعب لحيته المشتعلة شيبا.
هي
كانت في المطبخ تغسل مخلاته من بقايا العلف.
هو
يتنصّل من ملابسه و...يكحّ ليذكرها بالسرير.
هي
توغّلت الكحّة فيها كما السكين، وتحركت صوب الغرفة بكثيييير من القرف. (9)

       اشتعال
أشعل المذياع. أشعل التلفزيون. أشعل المسجل، ألقمه شريطا ضوضائيا. أشعل الغسالة الكهربائية. أشعل الفرن. أشعل الأضواء. أشعل النيران. أطفأ العالم في عينيه. (10)

وتقتضي الشذرية أن يؤخذ البعد الصوتي الموسيقي بعين الاعتبار، فالقصة القصيرة جدّا هي تلك الكتابة التي تسعى إلى كثافة عالية، ولا يتعلق الأمر بتكثيف المعنى فقط، بل وبتكثيف الموسيقى، فالقصة/ الشذرة هي شيء من الملفوظ والمغنّى، كما هو واضح في هذا النموذج :

        كرز
أنا أحب الكرز .. أنا أتلمّظ الكرز..
وكانت طامو تحكي لي كثيرا عن الكرز..
حتى صرت أراها كرزا..
لذيذة طرية..
في عينيها كرز..
في فمها كرز..
فوق نهديها كرز..
وأحيانا كنت أتذوق الكرز.. (11)

تتحول الصفحة المكتوبة إلى تخطيط وتشكيل، إلى صوت ومعنى، فالتركيب الطباعي للنص يستدعي التقسيم والتناغم السريع بين الكتابة والموسيقى. فالملفوظ تخطيط إيقاعي على الصفحة، والنص يسعى إلى الامتلاء، فهو كلمة مكتوبة وكلمة منطوقة، هو كتابة وكلام، هو نثر ونظم، هو رؤية وسماع، هو كلام وصمت(نقط الحذف) وصورة وصوت ومعنى وشعور وأشياء أخرى بلاشكّ. كأن النقص الذي تشكو منه الشذرة على المستوى الكمي، إذ تكون ألفاظها قليلة جدّا، يتمّ تعويضه بهذا التركيز أو التمركز حول لفظ واحد( الكرز)، وهو تمركز يسمح بامتلاء نوعي: يأتي اللفظ الواحد( الكرز) صوتا وموسيقى وطباعة وصورة وتخييلا ومعنى. وإجمالا، فالقصة القصيرة جدّا شكل أدبي جديد يأتي في شكل شذرات شديدة الإيجاز والتكثيف، تتقدّم كأنها همسات نابعة من الروح، أو كأنها صور انفلتت من بواطن النفس.

انطلاقا من نصوص منتسب والمتقي يبدو أن هذا الشكل الأدبي الجديد يسمح للكاتب بأن يكتب، وبكثافة عالية، ما بين الذات والعالم، ما بين الداخل والخارج، ما بين الحلم واليقظة، ما بين المتخيّل والمعيش. وأكثر ما يثير في هذا المابين هو هذا العابر المنفلت، اللانهائي واللامحدود ، الذي يصعب إدراكه ولا نوليه كبير اهتمام في حياتنا اليومية كما في حياتنا الأدبية، وخاصة في الأشكال الأدبية التي تعتمد على التطويل والاسترسال والخطية والنظرة الشمولية. والقصة القصيرة جدا تكتب كل ذلك بطريقة تمزج بين السرد والشعر، بين الفكر والشعور، بين الوضوح والغموض، منفتحة على لغات الشعر والموسيقى والحلم واللون، فاتحة الطريق أمام انفراج المعاني وتعددها، وانبثاق لذة القراءة وقلقها.

ليس صدفة أن تكون للون مكانة خاصة في نصوص الكاتبين، منتسب والمتقي، فقد اختار كل واحد منهما أن يكون اللون حاضرا داخل نصوصه، بل وفي عنوان مجموعته: جزيرة زرقاء، الكرسي الأزرق ، لأن اللون هو هذا الذي يصعب حصره في معنى محدد، و هو هذا الذي يستدعي انفعال الإنسان وحساسيته. وليس صدفة أن يكون اللون المفضل في عنواني المجموعتين هو الأزرق، ذلك لأن لهذا اللون رمزية خاصة، إذ يتمّ النظر إليه Kandanski,1964، على أنه أكثر الألوان انفتاحا و جاذبية، وهو لون الملوك والأباطرة، وهو لون السماء الذي له مفعول خارق على الأرض .


1 ـ سعيد منتسب: جزيرة زرقاء،منشورات مجموعة البحث في القصة القصيرة بالمغرب،2003، ص 11.
2 ـ عبد الله المتقي: الكرسي الأزرق،منشورات مجموعة البحث في القصة القصيرة بالمغرب، 2005، ص 57.
3 ـ نفسه، ص 56.
4 ـ سعيد منتسب: جزيرة زرقاء، ص 10.
5 ـ نفسه، ص 9.
6 ـ نفسه، ص 12.
7 ـ عبد الله المتقي: الكرسيّ الأزرق، ص 62.
8 ـ سعيد منتسب: جزيرة زرقاء، ص 11.
9 ـ عبد الله المتقي: الكرسيّ الأزرق، ص 48.
10 ـ سعيد منتسب: جزيرة زرقاء، ص 14.
11 ـ عبد الله المتقي: الكرسيّ الأزرق، ص 31.