شعرية القصة القصيرة جدا عند عز الدين الماعزي

جميل حمداوي

 يعد عزالدين الماعزي من أهم رواد القصة القصيرة جدا في المغرب إلى جانب قيدومها الكبير حسن برطال ، وكتابها البارزين المتميزين كفاطمة بوزيان، وسعيد منتسب في مجموعته القصصية"جزيرة زرقاء"، وعبد الله المتقي في مجموعته" الكرسي الأزرق"، ومحمد فاهي، ومصطفى لغتيري وآخرين... ويتميز عزالدين الماعزي في قصصه القصيرة جدا بخاصية السخرية والروح الكاريكاتورية والواقعية الانتقادية. كما في مجموعته الجديدة "حب على طريقة الكبار". إذاً، ما خصائصها المناصية؟ وما هي مميزاتها الشكلية والدلالية؟ وما أبعادها المرجعية والإحالية؟

الإطار المناصي:
أخرج الكاتب القصصي المغربي المتميز عزالدين الماعزي أول مجموعته الإبداعية في جنس القصة القصيرة جدا تحت عنوان "حب على طريقة الكبار" سنة 2006م عن مطبعة وليلي بمراكش. وقد تولى الفنان حلمي التوني رسم غلاف المجموعة وتصميمها تشكيلا وتجريدا. وتعبر الألوان المتداخلة التي تزينت بها اللوحة الأيقونية عن التناقضات القيمية التي يعيش علي إيقاعها الإنسان العربي بصفة عامة، والإنسان المغربي بصفة خاصة. وتوحي اللوحة التشكيلية كذلك بانهيار الإنسان المعاصر وجدب المكان وموت القيم الأصيلة، وتصوير الأمل الطفولي في الخصوبة والانعتاق نحو حياة الصفاء والسلام، واستشراف غد أفضل يتطلع إليه الجميع بقلوبهم الحالمة وعيونهم الواسعة. وقد كتبت نصوص هذه المجموعة القصصية القصيرة جدا ما بين 2002 و2004 م ، وقد نشرت سابقا في الكثير من المنابر الرقمية والورقية. ويشتم من خلال إهداء الكاتب أنه بقابل بين عالمين: عالم الكبار وعالم الصغار، أو بين عالم القسوة والشراسة والعنف والشر والسواد، وعالم البراءة والحرية والسلام والخير والبياض.

وإذا استعملنا تقنية التواصل كما عند رومان جاكبسون فإننا نجد أن المرسل هو المبدع عزالدين الماعزي، والمرسل إليهم هم: الأبناء والتلاميذ والأصدقاء وأحمد وبسمة وكل أطفال العالم. أما الإرسالية فتتمثل في تحريض كل البشر على الاتحاد والتآزر للقضاء على الشر وزرع ورود الخير والأمل والحب والمودة كما تشير إلى ذلك كلمات الغلاف الخارجي. ولن يخلق هذا العالم الطوباوي اليوتوبي والمثالي إلا عبر الكتابة والأحلام وترجيح قيم الأطفال على قيم الكبار.

ويضم كتاب عزالدين الماعزي ستا وثلاثين قصة قصيرة جدا، وتتراوح هذه القصص بين أربعة أسطر كما في لوحة "إسماعين" وقصة "La vache qui rit" وستة عشر سطرا كما في قصة "الحجلة". وعلى العموم إن قصص الكاتب عزالدين الماعزي لا تتعدى الصفحة الواحدة من الحجم المتوسط بمقاس( 21سم/ 13 سم). هذا، وتتميز العناوين الداخلية بهيمنة التركيب الاسمي والمزاوجة بين الجمل البسيطة والجمل المركبة (البائع الذي يسقط الخبز في الطريق)، كما يتكون العنوان الداخلي من لفظة واحدة إلى ست كلمات، والمؤالفة بين الفصحى والعامية واللغة الأجنبية لتشكيل حبكة المجموعة وعقدتها الدرامية والقصصية.

شكلنـــة المضمون السردي:
تتميز مجموعة عز الدين الماعزي "حب على طريقة الكبار" بعدة سمات فنية وخصائص سردية تميز كتابته عن باقي الكتابات الأخرى لدى المبدعين المغاربة. و سنجمل هذه المميزات في الخاصيات الجمالية التالية:
السخرية اللاذعـة:
يوظف الكاتب السخرية الكاريكاتورية لانتقاد عالم الكبار والأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتربوية. ويستخدم في ذلك التنكيت والتلغيز والإضمار والحذف وتهجين اللغة وخلط الفصحى بالعامية كما في (قصص طويلة جدا):" كلمته ابنته عبر الهاتف عن سر غيابه الطويل عن البيت... قال..
إنه في ندوة ثقافية يشارك بقراءات قصصية قصيرة سيعود بعد ثلاثة أيام...
قالت: كل هذه الأيام وأنت تقرأ القصص القصيرة جدا...؟؟(ص:34).

ويسخر الكاتب من القيم التي يدعيها الإنسان المسلم والتي يكذبها الواقع وميدان المعاملات. وتتجسد هذه السخرية القاتمة بواسطة لغة المفارقة وروح التهكم والتقابل بين ماهو دنيوي وأخروي كما في هذا المقطع السردي الجميل الذي يستقطر فيه الكاتب ابتسامة القارئ وضحكه الذي يشبه البكاء:" دخل المسجد للصلاة، وضع حذاءه في المكان المخصص للأحذية، اندفع بين الصفوف وجد مكانا ضيقا وجلس...استمع إلى خطبتي الإمام وهما تتحدثان عن المصير وعذاب جهنم والسعير وجزاء النعيم. صلى مع المصلين دعا مع الباقين.. بحث عن حذائه لم يجده." (ص: 59).

التهجين اللغـوي:
ويتكئ الكاتب على الأسلبة والتهجين والمحاكاة الساخرة والباروديا في صياغة قصصه مستعملا في ذلك الفصحى والعامية واللغة الأجنبية واللهجة المغربية التي تحمل في طياتها سخرية انتقادية ، كما يولد الكاتب لغة خاصة في التعبير والتعيير والتلميح والإيحاء كما في قصته الرائعة( بالثلثين) :" تسلم كرسي الجماعة باع اشترى مزق خربق طوق الكرسي بالحنين. قال نبدل السوق القديم، نبني سورا حول المقبرة نهدم دار الشباب نحرث الملعب ونزرع الفول ونضع علامات في الطريق نبتت تجزئات وبنايات في رمشة عين. أغمض هدم ناقش راسل دوزن حول صرف وظف حاصر جادل فوت. في الجمع العام أسقطوه بالثلثين"( 63).

وتظهر المفارقة اللغوية لتشكل ظاهرة الباروديا وتجلي خاصية الامتساخ والتحول الفانطاستيكي ، وخاصة عندما ينطق الطبيعة ليشخص قسوة الإنسان وتصوير مدى شراسته وعنفه ضد الطبيعة والبيئة الخضراء:"
نزع البتلة الأولى...قال...تحبني
نزع البتلة الثانية... قال... لا تحبني
نزع البتلة الثالثة والرابعة ... و
أكمل البتلات، أسقط الوردة غاضبا
بكت الوردة، أحست بالبرد وهي عارية
قالت...أنت لا تحبني"( صفحة الغلاف الخارجي).

وتشكل قصة الكاتب" نقطة على نقاط" مثالا حيا ساخرا على المفارقة اللغوية وتهجين الفصحى بالعامية والتوليد اللغوي كما في قصته السياسية التي تنتقد زيف السلطة والتلاعب بالمسؤولية والتفريط في أمانة الحكم واللامبالاة في تسييس الرعية والتلاعب بالانتخابات وشرعية الشورى والديمقراطية:" وسط القاعة كان الرئيس قابعا كالرئيس وحوله رجل السلطة والأعداء، أمامهم جدول الأعمال اللغط ونقاط نظام وتوزيع المهام وعن اللجان النائمة بينما الرئيس يصرخ..
ماعندي م نعطيكم، أحسن لي وليكم نمشيو نقابلو بهايمنا...
يحتدم النقاش وتكثر التدخلات ينسحب عضو يتبعه آخرون..
من 17 عضوا بقي أربعة يتابعون جدول الأعمال المكون من 13 نقطة"(ص:74).

شاعرية الإيحاء والتصوير:
ويستند الكاتب في صياغة قصصه الجميلة إلى شاعرية الإيحاء والتضمين والوصف واستعمال التشابيه والنعوت والأحوال والأفعال الوصفية والصور البلاغية المجازية القائمة على المشابهة والمجاورة والترميز والإحالة. وغالبا ما توظف هذه الخاصية أثناء المقابلة بين عالم الكبار الذي يتسم بالشر والنفاق والكذب والزيف والكراهية وعالم الصغار الذي يتسم بالبراءة والطهارة والفطرة والحب. كما تبرز هذه الخاصية أثناء تصوير أحوال الطفولة بين شقائها في البادية وعذاباتها في المدينة، وتألمها بآثار ويلات حروب الكبار وصراعاتهم الدونكشوتية المريرة:" أسفل الساقية رأيتها تحمل جرة ماء،خطوها وئيد تمشي كالنمل طول الطريق...العربة البطيئة تمر قربها لا تنتبه إليها، هي تئن حين تحضر الماء من الساقية إلى البيت والعربة تمد عنقها الخشبي الطويل تتمدد وهي لا تتعب، لا تتعب من نقل الماء في الجرة من الساقية إلى البيت وأنابيب الماء الصالح للشرب تتمدد كلسان يبتلع الطريق تحت أرجل المرأة المثقلة بالجرة، أسفل الساقية والعربة المثقلة ببرميل وجرات الماء الذي...لم يعد صالحا للشرب"( ص:8).

وتعبر قصة (الحجلة) أيضا عن الصراع الطفولي البريء الذي يلتئم شمله بسرعة في مقابل صراع الكبار الذي لا ينتهي إلا بالعنف وإسالة الدماء وقطع صلة الرحم والجوار والأخوة. كما يتجسد هذا أيضا في قصة( جسد من الحجارة ) التي تصور مدى فظاعة عالم الكبار وتوحش العدو وتآكل الجسد الطفولي وعجزه عن الاحتمال:"يرمي الولد الحجارة...يرمي...أمام جنزرة.. ركام من الحجارة، يرمي جسده بمقلاع...الجنود خلف دبابتهم خلف قبعاتهم يحتمون، والأطفال يرمون...بالحجارة...

يسقط الأول والثاني...ويرمي الطفل الحجر من اليد إلى اليد، تظهر سيارة الإسعاف تحملهما... اليد على الحجر والحجر في اليد. الطفل الذي يشاهد ذلك على الشاشة يأكل، يرمي الخبز والملعقة من يده...يرفض الأكل...يقف ... يرفض الذهاب إلى المدرسة يخرج إلى الشارع يجمع الحجر ويستعد.."(ص:18).

خاصية الحذف والإضمار:
يشغل عزالدين الماعزي كثيرا تقنية الإضمار والحذف عن طريق تغييب علامات الترقيم التي لا تظهر إلا في حالات قليلة. أما أهم علامة تحضر بشكل لافت للانتباه هي علامة الحذف بنقطها الثلاث. وهذه الخاصية الترقيمية إن دلت على شيء فإنما تدل على الإيحاء والتلميح والإخفاء وإسكات لغة البوح والاعتراف و الامتناع عن توضيح الواضح وفضح الفاضح. ويحرك الإضمار مخيلة القارئ ويحفزه على التفكير والتخييل والإجابة عن الألغاز المطروحة في سياقاتها المرجعية وأبعادها الانتقادية. وهذا ما يجعل كثيرا من قصص الماعزي ألغازا وقصصا للتنكيت والسخرية المثيرة التي تخاطب العقل والوجدان معا. وخير مثال على خاصية الحذف والإضمار قصة ( شكون) التي تبين سياسة العنف التي يستخدمها الرجل في تعامله مع زوجته والاستهتار يقيم الأسرة ومواثيق المساكنة الشرعية:" خرج من بيته على دقات الساعة العاشرة صباحا، طلبت منه الزوجة أن يوصل الخبز إلى الفران، رفع كتفه، فتل شاربه ومضى...
التصقت بساقه الصغرى دفعها خلفه وصفق الباب بعنف،،

في العاشرة ليلا عاد ثملا، فتش في سترته، أدخل يده في جيب سرواله، عن حزمة المفاتيح التي.. بدل عاود دون جدوى، طويلا بحث...على إيقاع الضجيج الذي أحدثه أطلت الزوجة من كوة النافذة..وقالت..."(ص:12).

تسريع الإيقاع الســـردي:
ويستند الكاتب في تحبيك قصصه القصيرة جدا إلى توظيف إيقاع سردي يتميز بالسرعة والإيجاز وكثرة التعاقب في تسلسل الأحداث وتتابع الأحوال والحالات. ومن الأدلة على ذلك الإتباع الفعلي وكثرة الاسترسال في الجمل والأفعال التي تصور حركية الأحداث وسرعتها الانسيابية مثل اللقطات السينمائية السريعة والوجيزة. ومن ثم، يمكن إدراج قصص الماعزي ضمن القصص اللقطات أو القصص الألغاز والتنكيت على غرار نوادر جحا وأخبار الحمقى والمغفلين الموجودة في سردنا العربي القديم. ومن الأمثلة القصصية المعبرة عن خاصية تسريع الإيقاع السردي قصة ( بدون) :" دخل الحمام بقفته الفوطة الملابس الداخلية صابونة مشطا محكا وشامبوان...
نزع كلابسه ثوبا ثوبا ودخل للاستحمام.

جاء الكسال دعك أطرافه جره جذبه ثناه طواه حمله وضعه أسنده كتم أنفاسه أفرغ عليه الماء وخرج التفت وجد نفسه بدون..."(ص:48). ويظهر هذا أيضا واضحا في آخر قصة (بالثلثين): " أغمض هدم ناقش راسل دوزن حول وظف حاصر جادل فوت."(ص:64).

التبئير السردي الموضوعي:
يستعمل الكاتب على مستوى السرد الرؤية من الخلف وضمير الغياب بكثرة والوصف الخارجي ورصد ماهو نفسي داخلي. وهذه الرؤية السردية يسميها جيرار جنيت درجة الصفر في الكتابة. وهنا ينزل الكاتب منزلة الحياد الموضوعي وعدم التدخل داخل عالم القصة، بل يكتفي بالوصف ونقل الأحداث والتعليق والتقويم من خلال فعل السخرية، والتقبيح الكاريكاتوري كما في قصة(عماد الطابوزي)، والتنكيت الملغز. ومن الأمثلة الدالة على هذا المنظور السردي الذي يعتمد على المعرفة المطلقة قصة (درجة الصفر في الكتابة):" في غرفته وجد نفسه وحيدا ...باردا...
كانت الطفلة تعزف على بيانو...
أسند ظهره للحائط وبدأ يستمع، رأسه يدور...
كان واضحا أن الموسيقى حركت وجدانه،ذكرياته، هي دائما هكذا تسمعه جديد الأنغام الشجية، أحس بذاته تمتلئ إلى درجة أنه فكر في كتابة مواضيع...,طرح أسئلة...بهدوء تام وحذر أخذ القلم وبدأ يكتب..."(ص: 20).

الطابع الفانطاستيكي والتحول الامتساخي:
تتميز قصص عز الدين الماعزي بخاصية التغريب والتعجيب الفانطاستيكي بسبب تداخل الواقع مع الخيال والعقل مع اللاعقل وذلك من أجل التنديد بالامتساخ البشري وتحول الإنسان إلى كائن غريب لا يتميز عن عالم الأشياء والحيوانات قسوة وشراسة وقبحا وتشيؤا. ومن أمثلة هذا التعجيب الفانطاستيكي قصة (La vache qui rit): " جانب الطريق مدت الأستاذة يدها للسيارات التي تمر ذابلة كأوراق الخريف. وقف السائق...سألها إلى أين...؟ حددت له الوجهة فتح لها الباب الخلفي، ركبت..وجدت نفسها بجانب بقرة ضاحكة"(ص:62).

التكثيــف الوصفي:
وتمتاز قصص الماعزي بخاصية التكثيف الوصفي والإيجاز في التصوير والاقتصاد في التشخيص وتفادي الوقفات الوصفية المملة كما في الروايات الطويلة. ويرتكز الوصف في قصص الكاتب على الإيحاء والتضمين الشاعري والتقليل من استعمال الأوصاف والنعوت والصور التشخيصية والمجازية والاجتناب قدر الإمكان خطاب الإطناب و لغة الإسهاب و إيقاع التطويل والتكرار المجاني . كما يبتعد عن الترادف الوصفي والتتابع النعتي قصد خلق قصص رمزية موجزة يتخيل فيها القارئ نهايتها وصيغتها التركيبية. وإليكم مثالا يصور وضعية الفنان ومأساته التراجيدية والحلم الطفولي الباهت، ونلاحظ في النص اقتصادا في الأوصاف واختزالا في التوصيف النعتي " يجلس إسماعين أمام اللوحة الغريبة، يتأمل الصورة، صورة رسام رسم لوحة بيضاء ومربعا أسود...و يغني. التفت إسماعين يمينا ويسارا لعل أحدا يراه، تمنى في نفسه أن يكون في نفس الإطار الأبيض الذي تركه الفنان فارغا"(ص:56).

تراكــب الجمل وتعاقبها المسترسل:
من أهم الملاحظات التي نستخلصها من تتبعنا لقصص عز الدين الماعزي تراكب الجمل وتداخلها وتعاقبها استرسالا وانسيابا بدون حدود وفواصل تركيبية ونظمية. وهذا الترادف والتراكب الجملي والمزاوجة بين الجمل البسيطة والجمل المركبة هو الذي يعطي لقصصه رونقها الإبداعي الشاعري ومتعتها الجمالية الفنية وفائدتها الرمزية كما في هذه القصة التي تصور زلزال الحسيمة وانبطاح ليلى و ضياع أحلامها الوردية بوفاة كل أفراد أسرتها:" بعد ثوان من زلزال الثلاثاء الأسود بالحسيمة، توفي كل أفراد أسرة ليلى، وحيدة ليلى تذرف دموع الفراق لا تعرف ليلى كيف حصل ذلك هي التي كانت تحلم بيوم سعيد وبعالم بدون حواجز...هي الآن وحيدة وحيدة، ترى الحزن بعين واحدة يطل من كل العيون تكتفي بالنظر إلى هذه الثواني التي مرت وراء زجاج نافذة المستشفى. هي التي كانت ترسم بالألوان ما خطته بقلم الرصاص مثل فراشة وتتلعثم بأحرف الهجاء وأناشيد الطفولة كلما خلت إلى نفسها تغني وهي تقفز على الحبل رعب الزلزال الذي تركها بدون أهل..."(ص:44).

النزعة القصصية والســـردية:
وتكتمل في مجموعة عزالدين الماعزي الخاصية الشاعرية وخاصية النزعة القصصية. و نعني بهذا أن قصصه الرمزية والتقريرية معا تتوفر فيهما الحبكة السردية والنزعة القصصية بمكوناتها الخمس: الاستهلال السردي، والعقدة الدرامية، والصراع، والحل ، والنهاية التي قد تكون مغلقة معطاة، أو مفتوحة يرجى من القارئ أن يملأ فراغ البياض ونقط الحذف عن طريق التخييل والتصوير واقتراح الحلول الممكنة. ويا للعجب العجاب! فما تقوله قصة من قصص الماعزي الموجزة في أربعة أسطر أو صفحة واحدة من الحجم المتوسط تعجز كثير من الروايات الكلاسيكية والحداثية بصفحاتها الطويلة ومجلداتها المتسلسلة أن تقوله بوضوح و جلاء وروح شاعرية فكاهية مقنعة. ومن هنا نرى أن القصة القصيرة جدا ستكون جنس المستقبل بلا منازع مع التطور السريع للحياة البشرية والاختراعات الرقمية الهائلة وسرعة الإيقاع في التعامل مع الأشياء وكل المعنويات الذهنية والروحية. ومن أمثلة النزعة القصصية المحبكة بشكل متكامل في صياغة الأحداث والشخصيات والفضاء والمنظور والزمن والسجلات اللغوية والخاصية الوصفية نذكر قصة(حذاء شطايبه):" يضع شطايبه قبعته نظارته السوداء يهيم في الشارع يخيط بعينيه أرداف الفتيات ويمسح غبار الأزقة وكراسي المقاهي.

لا يدري شطايبه الذي أصابه إنه قلق منقبض كتوم...
شطايبه يضع صندوقه في يده يتابع سيره بين المقاهي يتطلع إلى الأحذية التي تود المسح... وهو في طريقه يصطدم مع كلب هو الآخر يبحث عن عظمة أو فتات أمام باب مقهى يلتفت إليه ينهره يرفع رجله ليضربه يرفع الكلب أذنه تظهر أنيابه يفتح فاه يزمجر الطفل يغضب الكلب يرفع رجله يتلقاه الكلب فيلقم حذاءه يهرب الكلب بالحذاء يرمي شطايبه الصندوق يجري ويجري يضيع الصندوق والحذاء..."(ص:50).

استنتـــاج تركيبي:
يتبين لنا من خلال هذا العرض الوجيز أن عز الدين الماعزي متمكن من فن القصة القصيرة جدا تمكنا تاما، يحسن توظيف تقنياته التعبيرية الرائعة في خلق السخرية وفكاهة التنكيت والتلغيز وإثراء شاعرية التصوير والتشخيص. وتتميز قصصه بالواقعية الانتقادية حيث تتحول مجموعته القصصية إلى مرآة صادقة تعكس كل التناقضات والصراعات الجدلية وانحطاط الإنسان وتردي القيم الكمية والكيفية في عالمنا اليوم الذي يتقابل فيه الصغار والكبار، كما تتقابل فيه المحبة والكراهية والخير والشر. ونلاحظ كذلك أن الماعزي كان وفيا لشعرية جنس القصة القصيرة جدا بناء وصياغة ودلالة ومقصدية . وتنم قصصه الشيقة على مستوى التناص والتفاعل النصي والحواري عن مدى تأثر الماعزي إلى حد كبير عن وعي أو بدون وعي بقصص الكاتب المغربي أحمد بوزفور والكاتب السوري زكريا تامر والكاتب المصري يوسف إدريس....

jamilhamdaoui@yahoo.fr