هذا هو نص اخر محاضرة كان من المقرر أن يلقيها الراحل العزيز الدكتور نصر حامد أبوزيد في الكويت قبل عدة عدة شهور من رحيله، ولكن منعه من الدخول بعدما وصل المطار، وبمؤامرة من دعاة الظلام وأنصار التكفير جعله? ?يلقيها عبر الهاتف وبدا من إلقاء المحاضرة في قاعة تتسع لمئة وخمسين شخصا، تجمع لسماعها ممنوعة أكثر من عشرة أضعاف هذا العدد.

المحاضرة الأخيرة

نصر حامد أبوزيد

أيها الاخوة الأفاضل، أيها السيدات والسادة، يسعدني أن ألتقي بكم حتي ولو كان اللقاء عبر الصوت. كنت أتمني أن أكون معكم، كنت أتمني أن أكون وسط هذا الدفء العميق، لكن شاءت إرادة العبثية ألا أكون. قرار اتخذه مسئول، لا أدري بالضبط مكانة هذا المسئول، هل هو وزير؟ أم هو وكيل وزارة أو هو مدير إدارة؟ هذا كله ليس هاما. إنما هو قرار اتخذه مسئول،هو في الواقع غير مسئول، ذلك أنه قرار بسحب قرار، القرار المسحوب هو قرار منح المواطن المصري العربي نصر حامد ابوزيد تأشيرة دخول لوطنه الكويت، القرار الساحب هو منع المواطن المصري العربي نصر حامد أبوزيد من دخول الكويت. هذا أمر مُضحك، وكنت أتمني أن أكون معكم حتي تروا الابتسامة الواضحة علي وجهي. هذا قرار سحب قرارا، وهذا القرار كما قلت في بعض الصحف، وأنا أكرر الأن، هذا القرار أضعه تحت حذائي. ذلك أنه قرار سياسي ناتج عن الخضوع للإبتزاز والضغوط. من حق أي جماعة ومن حق أي أفراد أن يعترضوا علي دخول مواطن الي بلدهم، من حق أي جماعة أن تعترض علي فكر ما، لكن أن يرضخ مسئول لهذا الإعتراض، فتلك هي المشكلة. نحن الأن دخلنا نُفق مظلم، هذا النُفق المظلم يستدعي سؤالا: من الذي يملك أوطاننا؟ من هنا فإن خصومتي ليست مع الذين يرفضون حضوري، خصومتي مع الذي منحني التأشيرة ثم سحبها، بلا إبداء للأسباب.

 

لماذا التضحية بالثقافة والمثقف؟

تذكرني هذه القصة المضحكة، أنا أقول المضحكة وأرجو أن تبتسموا معي، تذكرني بقصة حدثت للباحث طارق رمضان (طارق رمضان باحث مصري ولد في سويسرا وحصل علي درجة الدكتوراة من جامعة سويسرية وهو مواطن سويسري) كان قد حصل علي فيزا لدخول الولايات المتحدة الأمريكية منذ عدة سنوات، لأنه قد عُين أستاذ في جامعة "نوتردام" في امريكا، ثم قررت الادارة الأمريكية سحب الفيزا من الدكتور طارق رمضان، لكنها أعطت أسبابا. سواء كنا نتفق مع هذه الأسباب الغبية من الادارة الأمريكية أو نختلف معها، فإنها أعطت أسبابا علي الأقل. القرار الذي منعني من الإلتقاء بكم لم يعط أي أسباب. وهذه هي المفارقة. بين مجتمعات ربما تتشابه ربما في درجة غباء إدارتها لكن علي الأقل تحترم الناس فتبرر القرار، لكن في مجتمعاتنا لا يحترمون الناس. لماذا هذا الأمر مُضحك؟ ولماذا هذا الأمر يُعد من المساخر؟ لأننا نعيش في عالم الآن قد زالت فيه الحدود، لم أستطع أن ألتقي بكم بوجهي ولكني ألتقي بكم بصوتي، لا يدور هذا ولم يدر بخلد اللذين اعترضوا، ولا بخلد صاحب القرار. ان الناس تتواصل وأننا في عصر أصبح التواصل فيه خارج حدود القوانين التي تُوضع وخارج حدود الأسوار التي تُقام.

أنا سعيد بأن ألتقي بكم، وأريد أن أشكر المنتدي، وكل الإخوة الأفاضل في هذا المنتدي، وأريد أن أوجه الشكر لبعض الرجال في المطار، الذين حاولوا علي قدر الإمكان أن يجعلوا الساعات التي قضيتها في المطار ساعات طيبة، أنا أريد أن أشكرهم جميعا، ولهذا أريد أن أكرر مرة أخري إنتمائي المصري العربي. في البداية أردت أن أقول مرحبا بكم من القاهرة، وأنا في بيتي، وطبعا أفتح قوس وأنا أقول مرحبا بكم من القاهرة، بهذه النبرة، وأنا أفتح قوس تحليل الخطاب، عادة حين يقول الناس مرحبا بكم من القاهرة قلب العروبة النابض، وهذه هي شراك اللغة، اللغة أيضا لها شراك، لها مشكلات إذا لم نكن واعين لإستخدام اللغة، يمكن للغة أن تسحبنا الي شراكها، ومن هنا حين أقول مرحبا بكم من القاهرة، وأنتم ترحبون بي في الكويت، لا أريد أن أقع في شراك اللغة، وأن أقول ما يمكن أن يقوله كل من يقع في شراك اللغة، من القاهرة (قلب العروبة النابض) لأن العروبة في كل مكان، وأصبح لها أكثر من قلب. قلب العروبة النابض هم المثقفون العرب، الذين يتجاوزون حدود الزمان وحدود المكان، ويتواصلون مع ماضيهم القريب، ومع ماضيهم البعيد، تواصلا نقديا بناءا، لا تواصلا قائما علي التقليد، والتكرار والإعادة بلا إفادة. ما هو الدرس؟ الدرس هو أننا يجب أن نعي أن هناك هذا الزواج الكاثوليكي بين السياسي والديني في مجتمعاتنا، ليس فقط أن الخطاب الديني يحول الدين الي سياسة، وإنما أيضا أن الخطاب السياسي يحول السياسة الي دين. منذ فترة طويلة جدا وفي كتابي "نقد الخطاب الديني" ، قلت ذلك بشكل واضح وصريح. الخطاب السياسي والخطاب الديني قد يختلفان في المفردات، قد يختلفان في بعض المفاهيم، ولكن في بنيتهما العميقة كخطاب ينطلقان من منطلقات ثابتة واحدة.

لماذ التضحية بالمثقف؟ لماذا حينما حاول هذا السياسي أن يرضخ للإبتزاز أن يرضخ للضغط. حرصا علي منصبه، حرصا علي كرسيه المزور، هكذا قال الكندي وهكذا قال ابن رشد، "اللذين يحرصون علي كراسيهم المزورة" . لماذا تكون التضحية بالمثقف؟ هل لأن المثقف في مجتمعاتنا العربية هو كما نقول في مصر "ابن البطة السوداء"؟ هل هو النقطة الضعيفة؟ أعتقد ايضا أن هذا سؤال مهم، لماذا المثقف؟ لماذا المثقف هو دائما المستهدف؟ لماذا المثقف هو دائما ما يمكن التضحية به؟ طبعا من خلال خبرتي ومن خلال حياتي أستطيع أن أعطي نماذج كثيرة جدا، جدا من أول رفض جامعة القاهرة ترقيتي الي درجة أستاذ عام 1993م. الذي دار بخلد رئيس الجامعة آن ذاك، هذا أستاذ مُنع من الترقية، يمكن أن يُرقي في الدورة الثانية، لكن لا نريد أن نتعرض لضغوط وابتزازات الجماعات الإسلامية داخل الجامعة. هكذا يمكن أن يتم القضاء علي كل القيم، التفكير الحر، الحرية الأكاديمية، حرية البحث، يتم التضحية بها من أجل مخاوف المسئول علي كرسيه المزور. ذلك أن رئيس الجامعة في مصر تعينه الدولة، يعينه النظام السياسي، فهو ينتمي الي النظام السياسي أكثر مما ينتمي الي المؤسسة التي يترأسها، لماذا المثقف؟ هذا سؤال علينا أن نتأمله.

 

التكفير كاستراتجية قمعية وضرورة استقلال المثقف

علينا أن نعيد النظر في منظومة نقدنا، للتيارات الفكرية والتيارات السياسية والتيارات الدينية في مجتمعاتنا. أساليب الضغط والإبتزاز هي التكفير، والتكفير ممكن أن يكون تكفيرا دينيا ويمكن أن يكون تكفيرا سياسيا، وسأتعرض لهذا التكفير السياسي الذي يستخدم مفردات أخري. الفرق بين أساليب الضغط وأساليب الإبتزاز .وأساليب التنوير، هو أن أساليب الضغط والإبتزاز تركز علي التكفير، والتكفير نبذ، إقصاء، عزل، قتل أساليب التنوير تعتمد علي التفكير. وقلت مرارا أن الفرق بين التكفير والتفكير، وهما يرتدان الي جذر لغوي واحد كفر وفكر ربما هو فقط استبدال مكان الكاف والفاء، والفاء الي الكاف، الي هذا الحد الفرق بين التفكير والتكفير لغوي، طبعا هذا مضحك اذا اعتمدنا علي التحليل اللغوي، الفرق بين التفكير والتكفير فارق هائل، ان التفكير مساحة من الإختلاف، مساحة للإخذ والرد، مساحة للإستماع والإنصات ومساحة لتعديل الرأي، في التفكير ليس هناك آخر بمعني خصم، وعدو منبوذ، مُقصي يُقتل. في التفكير هناك دائما مساحة في التأمل في أفكار الآخر. في التفكير حتي داخل الفكر الفقهي، الفكر الفقهي الذي ينتسب له هؤلاء. اللذين يتصورون أنفسهم داخل اطار الفكر الفقهي، داخل اطار الفكر الفقهي "رأي صواب يحتمل الخطأ ورأي خطأ يحتمل الصواب" أين هذا التفكير الفقهي الكلاسيكي من التفكير الفقهي الراهن؟ هذا فارق أيضا بين المعرفة وبين ظلال المعرفة، هذا فرق بين العقل في حيويته، النشاط الفكري في حيويته، وبين النشاط الفكري حين يقوم فقط بتلخيص المقولات دون أن يدرك من أين أتت هذه المقولات، وما هي جذورها الفكرية. أسلوب الضغط والإبتزاز هو التفكير داخل الصندوق، صندوق مغلق، يبدو أن كل شيء فيه واضح مع أن كل شيء مظلم. أساليب التنوير تفكير خارج الصندوق، تفكير يتخطي المقولات الثابتة. لا يعترف بالخطوط الحمراء لأن الخطوط الحمراء من صنع بشر وضعوها عبر التاريخ، وعبر فترات متتالية من التاريخ، التفكير داخل الصندوق والتفكير خارج الصندوق. هو الفارق بين أساليب الضغط والإبتزاز(التكفير) وبين أساليب التنوير (التفكير).

في تاريخنا الحديث، وسوف اتعرض بسرعة الي هذا، أريد أن أعطي فكرة عن موضوع المحاضرة التي كان من المفترض أن أقولها، أنا مغرم بإعطاء بعض القصص، في الصراع بين اللغوي وبين الشاعر، بين عالم اللغة وعالم النحو، والشاعر. ندرك التفكير داخل الصندوق، والتفكير خارج الصندوق. اللغوي النحوي يري اللغة مجموعة من القواعد الصارمة لا يمكن الخروج عليها. بينما الشاعر يمتلك اللغة، الشعراء أمراء اللغة، الشعراء أمراء الكلام. الشعر هو الذي وضع قواعد اللغة وبالتالي لا يمكن للشعر أن يخضع لقواعد اللغة. ومن هنا كان اللغويون يتصيدون أخطاء الشعراء. وهنا سأعطي نموذج مضحك للغوي عبد الله بن اسحاق الحضرمي وهو يتصيد أخطاء الشاعر بشار بن برد، حتي أن بشار ضاق ذرعا بهذا اللغوي الذي يفكر داخل الصندوق، فكتب فيه بيتا هجائيا قال فيه "ولو كان عبد الله مولي هجوته ولكن عبد الله مولي المواليَ" فما كان من النحوي الا أن قال له "أخطأت ثانية عندما نصبت مواليا؟" كان المفروض حسب قواعد اللغة أن يقول "ولكن عبد الله مولي الموالي" وليس المواليَ. فقال له "علي ما نصبت مواليا؟ قال له الشاعر "علي ما يسوءك وينوءك" لأن الشعر مرتبط بالإيقاع والإيقاع جزء من قواعد اللغة ولا أريد أن أعطي نماذج من القرآن الكريم من اللإيقاع، والحفاظ علي بنية الإيقاع تم التضحية بالعلامة النحوية، العلامة اللغوية.

الفقه بشكل عام حين دخل مرحلة الإجترار، وحين دخل مرحلة الإعادة بلا إفادة، عادي كل أنماط الفكر في الثقافة العربية الإسلامية الكلاسيكية. الفقهاء عادوا الصوفية ولم يحبوا لغتهم ولم يحبوا تجاربهم، واتهموهم اتهامات شتي ليس أقلها أنهم أسقطوا الشريعة. وهذا ليس صحيحا.عادي الفقهاء المتكلمين، عادي الفقهاء الفلاسفة وقصة ابن رشد مع فقهاء الأندلس معروفة. ما هو الدرس الذي يمكن أن نخرج به من هذا التعليق السريع علي ما حدث؟ ماذا يفعل المثقف حتي لا يعامل معاملة ابن البطة السوداء؟ أو ابن البطة العرجاء؟ كما نقول في الأمثال المصرية العامية. المثقف يجب، ولن أمل من تكرار هذا، أن يحافظ علي استقلاله. لأن السلطة السياسية، والسلطة الدينية، في مجتمعاتنا كلاهما يحاول أن يأخذ المثقف الي جانبه، باسم الحرب علي الإرهاب، وأنا لا أتحدث هنا ليس عن الحرب العالمية علي الإرهاب، وانما الحرب علي الإرهاب داخل مجتمعاتنا، باسم الحرب علي الإرهاب تم تجنيد المثقفين لمساندة الأنظمة، وفي هذه المساندة ضد الحرب علي الإرهاب، لم ينتج المثقف معرفة حقيقية بأسباب نشوء الإرهاب في مجتمعاتنا. ولم يستطع المثقف أن يري ما تمارسه السلطة السياسية من إرهاب ضد المواطنين، في جميع المستويات وعلي جميع الأصعدة. المثقف في رأيي يجب أن يكون حارس قيم لا كلب حراسة.

حارس قيم بمعني حتي لو النظام السياسي في بلدي وفي وطني الذي أنتمي اليه تبني الأفكار التي أؤمن بها كاملة، يجب علي دائما أن أحافظ علي هذه المسافة المعرفية، هذه المسافة المعرفية تجعلني حارس لهذه القيم، لأن القيم في تطبيقها السياسي تُصاب بكثير من التلوث. سأعطي مثال من التاريخ الذي نعرفه جميعا: قضية خلق القرآن والمحنة التي خلقها النظام السياسي علي أيدي المعتزلة المفكرين العقلانيين، ضد غير المعتزلة، هذه قضية يجب أن نتعلم منها الكثير، لأن السلطة السياسية في ذلك الوقت، المأمون، أرادت أن تجمع قوة الدين مع قوة السياسة في يديها. وأنا حين أقرأ في الطبري في التاريخ، بعض المناطق التي تكشف عن الظلام المهيمن علي هذه القضية. يجعلنا نعيد النظر في مسألة المأمون المفكر المتفتح العقلاني ... ألخ. بالصدفة أقرأ في تاريخ الطبري فوجدت أنه في حالة تبادل الأسري بين الدولة العباسية والدولة البيزنطية، تبادل أسري الحروب، كان يتم امتحان أسري المسلمين حول خلق القرآن، كان لابد للأسير الجندي المسكين، لابد ان يُمتحن فإذا قال أن القرآن مخلوق يمكن للدولة أن تدفع الفدية، إذا لم يكن عندها أسري. كان يحدث هذا حين يزيد عدد أسري الجنود المسلمين علي عدد أسري الدولة البيزنطية.

ما هذا ؟ ماهذا بالضبط؟ لم تصبح المسألة هنا مسألة فكر، وإنما استخدام السلطة لمقولة ربما علي درجة عالية من الأهمية، هذا النقاش الذي دار بين المعتزلة وبين خصوم المعتزلة حول خلق القرآن هو نقاش في العمق، من قضايا يجب أن يعاد النقاش حولها، لكن حين استخدمت السلطة السياسية في عصر المأمون هذه القضية لكي تمتحن كل الفقهاء وكل القضاة، استخدمت الدولة هذه المقولة الفكرية كسلاح لسيطرة الدولة السياسية. كان من الطبيعي ومن المتوقع بعد عدة أجيال في عصر المتوكل أن ينقلب الحال. انقلبت الدولة علي نفسها، غيرت الدولة قناعتها، وبالتالي ما كان مُضطَهَدا بالأمس صار مُضطهِدا اليوم، ومن كان في الأسر أمس، أصبح هو الحر اليوم. هذا درس، وهذا يحدث الآن في المجتمعات العربية والإسلامية. يحدث ذلك. وبالتالي المثقف لابد أن يقف علي هذه الأرض من الإستقلال. حين يدافع المثقف عن الحرية لابد ان يدافع عن حرية الجميع بلا استثناء. حين يدافع المثقف عن حقوق الإنسان، لابد أن يدافع عن حقوق الإنسان بلا استثناء. علي المثقف أن يخرج من عزلته. أي من عزلة أهل الحل والعقد.

أذكر وأنا أعيش في مدينة السادس من أكتوبر خارج القاهرة أنه في ذلك الوقت كانت حقوق الإنسان ومؤسسات حقوق الإنسان كانت مهتمة بما حدث في الجامعة. وفي المدينة التي أسكن بها كان يتم القبض علي العمال بدون ابداء أي سبب، لأن مسكن أحد الضباط قد سُرق. وبالتالي يلجأ قسم الشرطة الي القبض علي جميع العمال، الذين يأتون من القاهرة للعمل بمدينة السادس من أكتوبر. لم يكن أحد يدافع عن هؤلاء العمال. وحين حضرت احدي الإجتماعات للدفاع عن الحقوق الأكاديمية، قلت لا تدافعوا عن الحقوق الأكاديمية فقط، بينما الحقوق الأساسية للمواطنين مُهدرة.

حقوقنا كمثقفين لا تنعزل ولا يجب أن تنعزل عن حقوق أدني مواطن في أدني بقعة من العالم العربي. اذا عشنا بهذا الإحساس بالصفوة، هذا الإحساس بأننا فوق البشر، بأننا لنا ميزات لأننا نعمل بالفكر، هذا خطأ يجب أن نتحرر منه، الفكر عمل والرجل الذي ينظف الطريق يعمل، هذا عمل وهذا عمل، وإجادة هذا العمل لا تقل عن إجادة هذا العمل الذي يُسمي الفكر. الفكر عمل، الفكر ليس ميزة، كوننا مثقفون، وكوننا نفكر، وكوننا نؤلف كتبا، وكون أن هناك قنوات يمكن أن تعبر عنا، لا يجب أن تكون ميزة. الدفاع عن حقوق الإنسان والدفاع عن حقوق المواطن. يجب أن تكون في القلب من دفاعاتنا وألا يكون هناك أي مهادنة في هذا الدفاع.

 

ماهية الدولة وتجديد الفكر الديني

هذه كلها كانت مقدمة، والأن أريد إذا سمحتم لي، وسمح الوقت، أن أعطي ملخص شديد علي ما كنت أنوي أن أقوله في المحاضرة. عن الخطاب الديني المعاصر، تجديد الفكر الديني، أو اصلاح الفكر الديني أياً كانت التسمية في الدولة الدستورية. وأبدأ بمسألة لا تحتمل النقاش حولها، الدولة الدستورية، الدولة التي تعيش طبقا للدستور، وتنظم حياتها طبقا للدستور، هي بالطبيعة أو بالتبعية دولة القانون. هذه الدولة ليس لها دين، ولا يجب أن يكون لها دين، الدين هو أمر المجتمعات وليس أمر الدولة، وهذه طبعا مسألة من مسائل الخط الأحمر، كيف ننقي دساتيرنا من هذه الفقرة التي تقول: الدين الإسلامي دين الدولة. خاصة في الدولة المتعددة الأديان، ربما أضع المسألة في شكل كاريكاتيري، الدولة لا تصلي، الدولة لا تصوم، الدولة لا تذهب الي الحج، الدولة لا تدفع الزكاة. الدولة هي دولة المواطنين، اذا كان للدولة دين فمعني ذلك أن المواطنيين الذين ينتمون الي دين غير دين الدولة، هم بالضرورة مواطنون من الدرجة الثانية. الأدهي من ذلك أن المواطن الذي ينتمي الي نفس الدين وله رأي مخالف، وإجتهاد مغاير لمؤسسات الدولة وما يحيط بمؤسسات الدولة من الفكر الديني، أيضا يتعرض للخطر.

هذه أمور أيها الزملاء الأعزاء لا يجب أن نتردد فيها. ليس هذا فصلا للدين عن المجتمع، الدولة ليست هي المجتمع، المجتمع يستمر، المجتمع يعيش، المجتمع يدخل في التاريخ والدولة تتغير. ليست الدولة أيضا هي النظام السياسي. كيف نميز بين الدولة، وبين النظام السياسي، وبين المجتمع؟ وكيف نتقبل مجتمع تتعدد فيه الديانات، وتتعدد فيه الأعراف، وتتعدد فيه الثقافات، وتتعدد فيه الإجتهادات. دون أن يُخل ذلك بتخيل أو تصور ما يسمي وحدة الدولة، المشكلة نراها في كل مكان، اذن إذا أردنا فعلا تجديد الخطاب الديني أو اصلاح الخطاب الديني، هذه مقدمة أولي. ليس معني ذلك أن نسمح لجماعات بإنشاء أحزاب، في دساتير بعض دولنا، مسائل في الواقع هي نوع من "الهلهلة" وسأضرب مثل من الدستور المصري، الدستور المصري ينص علي أن الإسلام دين الدولة، وعلي أن مباديء الشريعة هي أساس التشريع، وهذا بالضبط ما يطالب به الإخوان المسلمون،. ما هو الفرق بين دستور الدولة ودستور الإخوان المسلمين؟ لافرق. يُنص في نفس الدستور علي أنه لا يجوز إقامة أحزاب علي أساس ديني، اذا كانت الدولة تقوم علي أساس ديني، فكيف لهذه الدولة أن تمنع قيام أحزاب علي أساس ديني؟ نحن نتحدث علي هذه التناقضات التي تجعل الدستور كأنه رقعة من ثوب مهلهل، كل هذا يحتاج الي تفكير، يحتاج الي نضال المثقفين المستقلين، حراس القيم مرة أخري، حراس القيم وليس كلاب الحراسة.

إذا أردنا تجديد الخطاب الديني، أو إصلاح الخطاب الديني، طبعا التمييز بين الخطاب الديني وبين الدين هذا أمر لا يحتاج الي كلام كثير فيه، لكن المشكلة في الخطاب الديني المعاصر أنه يعتبر نفسه هو الدين، يعتبر أن مقولاته، وهناك جرأة عجيبة من الخطاب حين يقول أن من المعلوم من الدين بالضرورة أن هذا أمر مُجمع عليه. أنا أريد أن أميز في الخطاب الديني المعاصر، حتي نستطيع أن نقترح روشتة للعلاج، أن نفرق بين الأعراض وبين المرض. الأعراض كثيرة ويمكن أن نمضي ساعات في الحديث عن هذه الأعراض. هذا الخطاب الديني الشائع والمسيطر والمهيمن هذا لايعني أن هنا وهناك أصوات عاقلة، لكن أنا أتحدث عن الخطاب المهيمن المؤثر. هو خطاب ضد الآخر بإمتياز. يستوي في ذلك أن يكون الآخر في الدين (المسيحي، اليهودي، البهائي، الملحد) هذا الآخر يستحق القتل. أو يكون الأخر في الملة (الشيعي السني). أن يكون الآخر في الجنس (المرأة) أو يكون الآخر في الرأي(الردة) أو في المنع، الإبداع، هو الآخر أيضا، الإبداع بدعة وأنا لا أريد أن اذكر الحالات، حالة المطربين والرسامين والشعراء اللذين صودرت قصائدهم. إذن هو خطاب ضد الآخر، هو خطاب إقصائي. المرأة هي الآخر، المرأة التي لم يذكر القرآن شيئا عن إغوائها لأدم وعن مسئوليتها عن هذا الإغواء، لكن هذا الإغواء المأخوذ من التراث الاهوتي التوراتي قد تم إستيعابه كلية في التفسير.

هذه هي الأعراض ما هو المرض؟ أستطيع أن أضع المرض في النقاط الأتية: هيمنة الرؤية الفقهية للعالم: أنا أشرت الي رؤي مختلفة، رؤي متكاملة، الرؤية الصوفية للعالم، تختلف عن الرؤية الفقهية للعالم. الرؤية اللاهوتية للعالم، تختلف عن الرؤية الفقهية للعالم. الرؤية الفقهية للعالم تتعامل مع الإنسان باعتبارة مقيدا، باعتباره الإنسان المكلف، المقيد بقيود الحلال والحرام، وقد تم في الفكر الفقهي المعاصر إختصار مساحة المباح، لأن هناك الحرام وهناك الحلال، وهناك المكروه وهناك المباح. دخل المكروه في الحرام، والمباح تم اختصار مساحته الي حد كبير. نتيجة الأسئلة الأن أصبحنا نعيش مؤسسات الفتوي، تجعل المواطن الذي كان يعرف منذ أربعين سنة، كيف يمارس حياته دون أن يضطر للسؤال عن كل التفاصيل، ودون أن يطلب فتوي في كل تفصيلة من تفاصيل الحياة، أصبح الأن يسأل في كل تفصيلة من تفاصيل الحياة، نسمع أشياء مُضحكة، ومُبكية في الوقت نفسه، هذه الرؤية الفقهية للعالم ليست هي الرؤية الوحيدة في القرآن، القرآن هو رؤي للعالم، رؤي للعالم متضافرة في رؤية للعالم تحتاج الي إكتشاف لم يُكتشف حتي الأن. ذلك أن تاريخ التفسير اعتمد علي البدأ من سورة الفاتحة والإنتهاء بسورة الناس، وتفسير القرآن تجزيئيا. حتي أن بعض الفقهاء يقولون أن نهاية الآية قد نسخت أول الآية. طبعا لا أريد أن أدخل في البنية المعرفية لعلم الفقه، البنية المعرفية التي تضع القرين والسنة ثم تضع الإجماع والقياس، علي كل الخلاف.

 

الفقه التقليدي وكيف نفهم القران

كيف نفهم القرآن؟ الفقه التقليدي وضع مستويات للمعني، ومستويات للدلالة، الفقه الحديث لا يدري عنها شيئا، ليس هناك من معني واضح، يعني ما يسمي "ما هو معلوم من الدين بالضرورة"، ليس عند الفقهاء الكلاسكيين معلوم من الدين بالضرورة، كما يقول الناس الأن، طبعا تاريخ تكون نظرية الفقه، تاريخ تكون علم أصول الفقه، أي النظرية القانونية في الفقه الإسلامي، يحتاج الي إعادة دراسة، كيف تكونت هذه المنظومة الفكرية وعلي أي أساس تكونت هذه المنظومة الفكرة؟ في تاريخ الفكر الإسلامي كما قلت تم تهميش الرؤي الأخري، الرؤية اللاهوتية علم الكلام، الفكر الفلسفي، الفكر الصوفي، بينما في القرآن الكريم نجد هذه الرؤي سواء كانت عالم فلسفي، عالم صوفي روحي أخلاقي، ممزوجة مزجا عميقا بالعالم التشريعي في القرآن يعني بحسب الإحصائيات التي قالها الإمام أبو حامد الغزالي ليس في القرآن أكثر من خمسمائة آية تشريعية، هذا يساوي اثني عشرة في المئة من القرآن. باقي القرآن مُستبعد من هذه الرؤية الفقهية للعالم ويجب ونحن ننظر الآن الي كلية القرآن. أن نعيد النظر في هذه الرؤية الفقهية للعالم. هذا الأمر يحتاج الي دراسات ودراسات، بعضها قمنا به وبعضها لم نقم به.

أزمة الحداثة خلقت أزمة الهوية، الحداثة هي ثورة في الفكر وثورة في العقل، وتغير كامل فيما يسمي "البراديم"، العالم الذي كان مركزه المقدس، أصبح مركزه الإنسان، كل هذا غير من مفاهيم كثيرة، ولولا الإصلاح الديني الذي بدأ في القرن الخامس عشر، والقرن السادس عشر، هذا الإصلاح الديني الذي أدي الي نمو النزعة الفردية، ونمو النزعة الفردية أدي الي مزيد من حرية الفكر، وهذا أدي الي تطور العلم، وتطور العلم ثورات وراء ثورات. ونحن لم نمر بأي ثورة من هذه الثورات، الحداثة جاءتنا من فوق مرتبطة بالغرب، مرتبطة بالحامل الإستعماري للحداثة، من هنا خلقت هذه الحداثة أزمة هوية، في فترة متقدمة جدا تم قبول ثمرات الحداثة، التكنولوجيا، اشترينا الأسلحة من الغرب، محمد علي مشروعه كله كان إقامة جيش حديث. لقد لبسنا قشرة الحضارة والروح جاهلية. إذن قُبلت ثمرات الحداثة دون الأساس الفكري للحداثة. في دراسات كثيرة بينت كيف تم قبول الحداثة علي أساس الإحتماء بالتراث، وشرط قبول الفكر الحداثي كان دائما مرهونا دائما بالتراث، لكن التراث الذي قدمه المفكرون الأوائل كان هو التراث العربي الإسلامي العقلاني، تراث المعتزلة، وتراث ابن رشد.

في البداية تمت إعادة فتح باب الإجتهاد: شاه ولي الله في الهند، ورفاعة رافع الطهطاوي في مصر، والسيد أحمد خان. إعادة فتح باب الإجتهاد، ونقد الإجماع والبحث عن إجماع جديد، وأصبح هناك جيل جديد من العلماء.

 

الإستجابة لتحدي العقلانية

يمكن أن نقول ان محمد عبده هو الذي قدم هذه الإستجابة لتحدي العقلانية، تفسير محمد عبده تفسير يحتاج الي قراءة، وهو لا يُقرأ في الأزهر علي أي حال، محمد عبده غائب في أفق الفكر الديني المعاصر. خطاب تحرير المرأة. النقد الديني لمفهوم الخلافة علي عبد الرازق، إعادة قراءة التاريخ الإسلامي، العبادي وأحمد أمين وطه حسين. إذن رد الفعل الأول للحداثة كان هو، تحديث الفكر الإسلامي، لم يكن عزل الفكر الإسلامي عن الحداثة، وإنما كيف يمكن أن نستعيد الفكر الإسلامي، ونحدث الفكر الإسلامي، لكي يتقبل قيم الحداثة، سواء كانت هذه القيم هي العلم، أو المؤسسات السياسية، أو المساواة وكل هذه القيم.

طبعا العلاقة بين العالم الإسلامي والعالم الغربي، مرت بمنحنيات كثيرة، وأنا هنا أريد أن أؤكد أن محاولة الفهم والتفسير لاتعني التبرير، لأن في تحليلات بعض المثقفين كثيرا ما يختلط التفسير بالتبرير، لا شك أن هذه العلاقة الملتبسة مع الغرب، خلقت كثيرا من الإشكاليات، وهذا كان أحد العوامل التي أحدثت التحول في الفكر التحديثي، رشيد رضا يقف في هذه المنطقة، بين محمد عبده وبين الإخوان المسلمين، رشيد رضا عاش أزمات العالم الإسلامي التي لم يعيشها محمد عبده، رشيد رضا عاش ازمة إلغاء الخلافة، الصراع حول الخلافة في العالم العربي، سعي معظم الحكام العرب لكي يكونوا خلفاء. تأسيس الإخوان المسلمين 1928م، وعلي بند الإخوان المسلمين الأول أسلمة المجتمع، وهذا هو الفرق الكبير بين تحديث الفكر وأسلمة المجتمع، هذا يعيدني الي ماذكرته في البداية بين الفكر وبين التغيير بالقوة. إذا أردت ان تعيد أسلمة المجتمع تحتاج الي القوة، اذا أردت تعيد تحديث الفكر تحتاج الي الفكر، وبالتالي مع وجود هذه الضغوط علي المجتمعات العربية لقبول الديمقراطية ... الخ، كثير من الإسلاميين قد قبلوا فكرة الديمقراطية، لكنهم لم يتخلوا عن فكرة القوة، لم يتخلوا عن فكرة الضغط علي المجتمع، ولا الضغط علي الأنظمة السياسية المهترأة، من أجل تحقيق أهدافهم.

الوضع في الهند معروف محمد إقبال هو أول من دعي الي إقامة مجتمع خاص بالمسلمين، وإنفصال مسلمي الهند عن غير المسلمين، فكر المودودي هو إمتداد لبعض جوانب فكر محمد إقبال، يمكن أن نعمل مقارنة بين محمد إقبال ومحمد عبدة، وكيف تم أخذ الجانب الإيديولوجي في فكرهم وتطويره في حالة الهند، أبو الأعلي المودودي، وفي حالة مصر، رشيد رضا. حتي وصلنا الي سيد قطب والجاهلية الجديدة.

المثقف مرة ثانية: شهدت مصر التحول من اليسار الي اليمين، ومن الشيوعية الي الإسلامية، وفي ذلك الوقت قلت وأقول دائما النبي عليه الصلاة والسلام له مقولة "خيركم في الجاهلية خيركم في الإسلام" يعني الخير لا يرتبط بالإنتقال من أفق الي أفق آخر، الخير كائن في طريقة التربية، طريقة التنشئة. الذين إنقلبوا من اليسار الي اليمين، ومن الشيوعية الي الإسلامية، هم كانوا متعصبين داخل اليسار، وكانوا متعصبين داخل الشيوعية، وكانوا يمارسون التكفير داخل اليسار، ويمارسون التكفير داخل الشيوعية، التكفير داخل الشيوعية يساوي الإنحراف، يقولون الرفيق منحرف، الرفيق منحرف تساوي كافر. ما بعد القطبية والجماعات الإرهابية.

إذن الإنتقال من تحديث الفكر الي أسلمة الحداثة هو إنتقال تم عبر متغيرات سياسية يجب أن نفهمها لا لكي نبرر بها هذا الذي حدث، يجب علينا كمثقفين تفكيك مقولات الخطاب الديني، أحد هذه التفكيكات: "لا إجتهاد فيما فيه نص" وهنا فيه مخادعة دلالية ماكرة، لأن كلمة نص في هذه العبارة، وهذه عبارة صحيحة في أصول الفقه، "لا إجتهاد فيما فيه نص" كلمة نص معناها أحد مستويات الدلالة في الخطاب القرآني، وهو مستوي موجود الي جانب مستويات أخري، المُجمل والمحتمل، والغامض والمتشابه، ويقول الفقهاء جميعا "والنصوص عزيزة". النص هو العبارة الواضحة وضوحا بيّنا، يفهمه أي شخص يفهم اللغة العربية، وهذا ما يقال عن الحج " ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة" ليس هناك حتي مجال للإجتهاد وجمع سبعة وثلاثة = عشرة حتي لا يخطأ في الحساب. "النصوص عزيزة" حين يقول الخطاب الديني الأن "لا إجتهاد فيما فيه نص" وهو يقصد بالنص مجمل القرآن ومجمل السنة، هذا تزييف لأن كلمة نص في الفكر المعاصر مختلفة، كلمة نص هي مصطلح دلالي، لا يدل علي مجمل الكتاب ومجمل السنة.

المعلوم من الدين بالضرورة هذه أيضا إحدي القضايا لأنه التفريق بين العلم الضروري وبين العلم النظري وبين المعرفة الضرورية والمعرفة النظرية، تجعل العلم الضروري هو البديهيات، فالمعلوم من الدين بالضرورة لا يخرج عن إطار البديهيات، لا يدخل فيها كل هذه التفاصيل التشريعية ولا كل هذه التفاصيل اللاهوتية، لأن حتي مفهوم التوحيد "الله واحد" هذا حتي من البديهيات لكن كيف صيغ مفهوم التوحيد لاهوتيا، وكيف صيغ مفهوم التوحيد فلسفيا؟ إذا "المعلوم من الدين بالضرورة" مساحة تتسع يوما بعد يوم، حتي يقال أن الحجاب معلوم من الدين بالضرورة، طبعا علينا أن ننتظر في القريب ان شاء الله، أن النقاب سيكون معلوم من الدين بالضرورة. الأن الخلاف هل النقاب تقليد أم تشريع؟

التكفير وأنا أشرت الي هذا. ثم المرجعية الوحيدة هي مرجعية الشريعة، يميزون نظريا بين الشريعة وبين الفقه، لكن حين يأتون بنماذج من الشريعة، يأتون بنماذج من الفقه، ما هي الحدود الفاصلة بين ما يسمي الشريعة والفقه، هل تٌفهم الشريعة كما يفهمها المتصوفة مقابل للحقيقة، الظاهر والباطن؟ هل تُفهم الشريعة كمقابل للبرهان كما فهمها الفلاسفة؟ كل هذه المعرفة، وهي معرفة في التراث الإسلامي، غائبة عن الخطاب الديني المعاصر، جوهر المشكلة حتي أختم لأنني أطلت. الخطاب الديني المعاصر بشكل عام ليس فقط الخطاب الديني الإسلامي، إنما الخطاب الديني في جميع الأديان، يفزع من التاريخ، التاريخ يلقي أضواء علي المناطق المعتمة في الماضي الذي يعتمد عليه هذا التراث، الفزع من التاريخ، حين تقول نقرأ القرآن قراءة تاريخية، يقولون لك هذا معناه أنك تُخرج القرآن من دائرة المقدس، والفزع من التاريخ يظهر علي أنه فزع علي المقدس، وفي أحيان كثيرة يبدوا هؤلاء وكأنهم يدافعون عن حقوق الله، خذ بالك حقوق الله، الفزع علي المقدس، ما هو المقدس؟ هل المقدس كائن قار في النصوص؟ هل المقدس قار في الأماكن؟ أم أن المقدس هو علاقة الإيمان التي تربط المؤمن بالمكان، أو بالشعيرة، أو بالنص.

لو كان المقدس صفة قارة في الأشياء لأقر بها جميع البشر، هذا هو الإختلاف في المقدس، ما هو مقدس عند المسيحي ليس مقدسا عند المسلم، ما هو مقدس عند اليهودي ليس مقدسا عند المسيحين و لا عند المسلم. المقدس هو علاقة قداسة ينشئها الإيمان، خارج الإيمان ليس هناك مقدس، إذن الخطر علي المقدس ليس من دراسة النصوص، وليس من تسليط التاريخ علي الممارسات الدينية، الخوف علي المقدس هو خوف علي عدم الثقة في الفرد، ومن هنا يحتاج الأفراد في الخطاب الديني المعاصر الي حماية. الي حماية من أي فكر يهدد إيمانهم، ونحن نريد ويجب ان نسعي الي ذلك، ان يتحول الإيمان الي قوة الفرد، أنا الذي يمنح المقدس قداسته، هو مقدس لأنني أؤمن به، هو مقدس لأنني أقدسه، الدليل علي ذلك أنه ليس مقدس بالنسبة لإنسان غيري. إذا علمت أن المقدس هو علاقة الإيمان وبين الظاهرة سيجعل كل منا يحترم مقدس الآخر, القرآن مقدس لأنني أؤمن به. هو في ذاته خارج الإيمان ليس مقدس بدليل أن الذي لا يؤمن به لا يراه مقدسا، الفزع علي المقدس يعني حماية البشر من أن يمارسوا إيمانهم بحرية.

 

التحايل لحل التناقضات:

لكي أنهي هذا اللقاء الذي طال والذي أتمني أنه لا ينتهي معكم، سأطرح مسألة غزو الكويت مثلا من قِبل نظام صدام حسين، الفتاوي التي خرجت في ذلك الوقت لكي تبرر الإستعانة بالقوات الأجنبية، بأمريكا لتحرير الكويت، أخذ يقلب الفقهاء في دفاترهم القديمة فوجدوا أن الرسول عليه الصلاة والسلام، قد استعان بأحد المشركين وهو في طريق هجرته الي يثرب، فقالوا قياسا علي هذه الواقعة يجوز الإستعانة بالكفار، خذ بالك أن الأمريكان هنا أصبحوا كفار، و كأن النبي عليه السلام كان مخيرا، كأنه كان هناك مؤمن يستطيع أن يدله علي الطريق. هذا معناه أن الناس تعيش خارج التاريخ، أن الأمر لا يناقش علي أساس الأسس الواقعية لهذا الأمر، أن كان هناك عجز في النظام العربي آنذاك، عجز شامل وتام عن الوقوف ضد عدوان نظام عربي علي وطن عربي آخر، بدلا من أن تُناقش هذه المسألة من هذه الزاوية، لكي ننقد هذه الأنظمة، ولكي نحيي في شعوبنا قوة المقاومة، فيلجأ المفتي الي هذه الواقعة لكي يقول يجوز الإستعانة بالكفار، خذوا بالكم من المصطلحات. إذا طرحت أمثلة أطرح أمثلة كثيرة، تزويج الصغار، يستشهد مفتي لا أريد أن أذكر جنسيته, بأن النبي قد تزوج السيدة عائشة وكان سنها سبع سنوات وبني بها وهي بنت تسع، القرن السابع أيها الناس، والقرآن لا يمل من التكرار أن محمد عليه السلام بشر، بشر يعني شخص عاش في التاريخ، لكن أن تكون قيم القرن السابع هي القيم التي نبي عليها قيم القرن الواحد والعشرين، أين المفر، إعادة دراسة القرآن من منظور التاريخ. أعادة فهم عالم القرآن أو عوالم القرآن، والعلاقة الخصبة بين عوالم القرآن، بين التشريع والعالم الروحي والأخلاقي.

"إن الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر"  "كتب عليكم الصيام كما كتب علي الذين من قبلكم لعلكم تتقون" التقوي. إذن الشعائر ليست مرادة لأنفسها. الشعائر لا تعلل، لأن تجربة التدين هي روحية وأخلاقية ومهمة الشعائر أنها تنمي هذه الطاقة الروحية والأخلاقية, مسألة أنها لا تعلل كلام يقال من باب الإيمان، لكنه من الناحية العلمية ليس صحيحا، في الحج وفي الأضحية "لن ينال الله لحومها ولكن يناله التقوي منكم" إذا أردت أن أعدد فيما يسمي الآيات التشريعية في القرآن، العلاقة بين التشريعات وبين الأخلاق لابد ونحتاج الي إعادة ربط هذه العلاقة. في الفكر الإسلامي تم تجزيء القرآن سواء كنا نتكلم عن التفاسير التي أخذته بالطول، أو عن العلوم الدينية، يعني استقلت الفلسفة بجزء من القرآن واستقل علم الكلام بجزء من القرآن، استقل التصوف بجزء من القرآن، واستقل الفقه بجزء من القرآن. القرآن جزيء ونحن نحتاج الي وحدة القرآن التي تمكننا من أن نري التشريع في ضوء هذه الأبعاد كلها في ضوء البعد الروحي البعد الأخلاقي البعد الفلسفي البعد اللاهوتي، وأن نري البعد الفلسفي في ضوء هذه الأشياء، هذا أمر يحتاج الي إنجاز، يحتاج الي عمل ليس عندنا مؤسسات لدراسة الدين، عندنا مؤسسات لتعليم الدين، وليس لدراسة الدين وهناك فرق كبير بين دراسة الدين وبين تعليم الدين، تعليم الدين يمكن أن يكون في المسجد، يمكن أن يكون في الأسرة، يمكن أن تكون بعض المؤسسات التعليمية لتعليم الدين، لكن الي جانب ذلك لابد أن تقوم مؤسسات لدراسة الدين. ودراسة الأديان وتاريخ الأديان، والأديان المقارنة ... الخ. كل هذا غائب عن أفق نظمنا التعليمية، بشكل عام ليس فقط في العالم العربي، بل في العالم الإسلامي، بشكل أو بآخر.

أيها الإخوة الأعزاء كما ترون التقيت بكم بصوتي نعم لكننا التقينا، لن يستطيع ولا يستطيع أحد ان يمنعنا من اللقاء. هذه قوتنا، هذه قوة الحداثة. ومن هذا المنطلق أشكركم، وأنحني تقديرا واحتراما لهذا المنتدي وجميع الحضور الذين حضروا.

 

 

من مِؤلفات نصر حامد أبوزيد

1.  الاتجاه العقلي في التفسير: دراسة في قضية المجاز في القرآن عند المعتزلة، وكانت رسالته للماجستير،

2.  فلسفة التأويل ( دراسة في تأويل القرآن عند محيي الدين بن عربي). وكانت رسالته للدكتوراه، في كلية الآداب جامعة القاهرة قسم اللغة العربية،

3.  مفهوم النص دراسة في علوم القرآن

4. اشكاليات القراءة وآليات التأويل (مجموعة دراساته المنشورة في مطبوعات متفرقة)،

5. نقد الخطاب الديني ،المرأة في خطاب الأزمة (طبع بعد ذلك كجزء من دوائر الخوف)، البوشيد وترجمة وتقديم نصر أبي زيد.

6. الخلافة وسلطة الأمة نقلة عن التركية عزيز سني بك (تقديم ودراسة نصر ابي زيد)

7.  النص السلطة الحقيقة ( مجموعة دراسات ومقالات نشرت خلال السنوات السابقة)،

8. دوائر الخوف: قراءة في خطاب المرأة (يتضمن الكتاب السابق المرأة في خطاب الأزمة)،

9. الخطاب والتأويل (مجموعة دراسات، تتضمن تقدمة كتاب الخلافة وسلطة الأمة

10.               التفكير في زمن التكفير  (جمع وتحرير وتقديم نصر ابي زيد عن قضية التفريق بينه وبين زوجته وردود الفعل نحوها)،

11.               القول المفيد في قضية أبي زيد (تنسيق وتحرير نصر أبي زيد عن قضية التفريق بينه وبين زوجته.

12.               هكذا تكلم ابن عربي (يعيد فيها الباحث مراجعة دراسته عن ابن عربي)،

13.               الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية