حوار من أجل الثقافة المغربية

محمد برادة

بعد مضيّ أكثر من خمسين سنة على الاستقلال، لا يمكن القول بأن الثقافة المغربية تجد نفسها أمام فراغ أو أرض خراب. بعبارة ثانية، لا يمكن أن نحاكــم تاريخ ثقافتنا، وبخاصة الحديث منها، بمنطق ٍيـُسقط تصورات ثقافية راهنة، جاهزة، على مسار يمتدّ إلى عقود سالفة، بقصد إبراز ثغرات هذه الثقافة. علينا ألا نُغفل أن النسبية تفرض نفسها عند كل تحليل أو تـأريخ، وأن من الضروري أن نأخذ بالاعتبار السياقَ وشروط الإنتاج وتأثيرهما على تطوير الوعي وبلورة قيم التجديد. من هذه الزاوية، نقول إن الأسئلة التي طـرحتها الثقافة والمثقفون المغاربة، طوال القرن العشرين، كانت تستهدف تغيير الإرث الماضوي والانخراط في صيرورة التاريخ الإنساني المعاصر، ومواجهة سؤال الحداثة وتبـِعاته السياسية والاقتصادية والثقافية. هذا الأفـق- المسار الذي رسمت بعض ملامحه فترة ُمواجهة الحماية الفرنسية، هو الذي طرح بقوة علاقتنا بتاريخنا الموروث وثقافتـنا المُتحدّرة من صلب انتماءٍ متمازج الأعراق والصيَغ والأشكال، وهو ما كـوّن تحديات الاستمرار والتغيير والتفاعل والتأصيل وتقليب التربة. من ثمّ تجاورتْ وتصارعت تجلياتُ الثقافة منذ الفترة البربرية الموغلة في القدَم، وُصولا إلى حمولات الحضارة الإسلامية-العربية ومرورا بالسلفية المتفتحة في مرحلتها الأولى وتفاعلها الإيجابي مع المُتخيـّل الوطني ومقتضيات الكفاح من أجل الاستقلال، ووصولا إلى أسئلة التحديث والحداثة والطموح إلى بلـورة متـخـيل اجتماعي يستـمدّ قيمَه وقوانينه من صراعات المجتمع المغربي الملموسة، لا منْ نواميس تجريدية تُحلق في سماوات عليا.

بتعبير آخر، خلال المائة سنة الماضية التي قضى المغربُ نصفها في ظل الحماية الفرنسية والنصف الثاني في ظل الاستقلال، أصبحنا اليوم في وضع يستدعي أن نعيد صياغة الأسئلة الثقافية والسياسية من مــوقـع شُمولي، لا تجزيئي، لأننا أمام حصيلة ملموسة لفترة الاستعمار وأخـرى لخمسين سنة من الاستقلال، وكلاهما في بـُعديْهما الماضي والحاضر، يحتمان طرح سؤال المستقبل والانتماء إلى عالم اليوم المتـغـيـر ضمن سياق مفرط التعقيد، غزيـر الابتكار لوسائط الثقافة وتقنياتها وحواملها. وبـَدهي أن هذا السؤال الجوهري الذي يطرح نفسه بقوة، لا يخص المثقفين وحسب، بل هو موجه إلى مجموع القوى الاجتماعية والسياسية الحريصة على توفير سبل النهوض وضمان حرية المواطن المغربي وتأمين مساهمته في التغيير. لكن المثقفين ينوبهم قسط مهم من مسؤولية صوغ الأسئلة ومتابعة التحولات، وتحريك النقاش العام لتصبح القيم الجديدة ومفاهيم الديمقراطية مـُتمثـَّلة ومـُسـتـَـوْعـَــبَــة من لدن الشعب قاطبة، لأن الحداثة الحق لا تنبني على مجرد البيانات أو القرارات الفـوقيــة، وإنما هي مُقترنة بالتمثّل والوعي والحوار الدائم وإعادة النظر. 

من هذه الزاوية، يشعر المثقفون المغاربة اليوم بضرورة إحياء الحوار وتجديد الطروحات والتحليلات، والنظر بجرأة إلى منجزات الماضي والحاضر، والإسهام في بلورة ملامح ثقافة المستقبل. ومعلوم أن كل استئناف للحوار ينبني على حصيلة سابقة أنجزتها أجيال متتالية منذ أوائل القرن العشرين، على الأقل.  من ثمّ فإن مثل هذه اللقاءات لا تدّعي خلـْقَ تصوّر " جديد"، منفصل عن تاريخية السياق وعن الفاعلين في الحقل الثقافي بما هُمْ عليه وضِـمْنَ شروط محددة. ولا شك أن تجربة المغرب الثقافية الحديثة قد ارتبطت منذ مرحلة الكفاح الوطني، بالممارسة وبحضور لافتٍ للمثقفين الذين أثـّروا في ساحة السياسة والنضال، كما أسهموا في تفاعل الثقافي والسياسي انطلاقا من تطلـّـع مُشترك نحو الحرية والتحرر وتشييد مجتمع العدل والكفاية. والتاريخ، كما هو معلوم، يمارس " خياناته " فلا يستجيـب دائما لنوايا الفاعلين الطيبيـن؛ ومن ثمّ ضرورة يقظة المثقفين وتدخلهم لمراجعة المسار، وتصحيح الأسئلة، وتجلية طريق المستقبل. هذا لا يعني أن المثقف يمتلك وصـْـفـة جاهـزة، قادرة على تخليص المجتمع من مشكلاته وتعــثـراته، ولكنه يمتلك حق التحليل والاعتراض والنقد وتوسيــع منظور الرؤية السياسية، والإسهام في دعــم الصراع الديمقراطي المـُهدّد دوْماً بالتـعـثـر والتراجع، خاصة في بلد حديث العهد بدولة المؤسسات والقانون وحيث "المخزن" لا يزال يتحكـّم في مصائر العباد.  لكن، إلى جانب كل ذلك، أعتقد أن المثقفين والمبدعين المغاربة يستشعرون حاجة مـاسـّـة إلى الالتقاء والحوار ورؤية النفس في مــرآة النقد بحثا ً عن أفق متجدد. ذلك أنه لا يكفي أن تكون هناك فوْرة في الفكر والإبداع والبحث التاريخي والسوسيولوجي والكتابة الأدبية، ما دامت شروط الإنتاج والتواصل مع المتلقين تكاد تجعل هذا الإنتاج وهذا الحضور متلاشيا ً وسط ضوضــاء الخطابات المتخشبة والبرامج التلفزية المـُخدّرة، وطغيان ثقافة التسلية وتجزيـة الوقت.

من ثمّ، أحسب أن جميع المثقفين، على اختلاف توجهاتهم، يـحسون بالرغبة في اللقاء مع زملائهم ومع الجمهور المـُتـلقي لكي يـستمدوا العوْنَ والقدرة على الاستمرار في عمل صعب وعاقّ، وفي ظلّ شروط لا تضمن لهم المساندة المادية من الجمهور المتلقي  لكي يتمكنوا من التحرر من التبعية لمصادر التمويل، حكومية كانت أو تابعة لهيئات تـُـقيّـد حرية الإبداع ومبادرات الثقافة. لأجل ذلك، قد تكون لقاءات الحوار مـُـسعفة على مواجهة مثل هذه الأسئـلة التي تـتـطلب تفكيرا على المدى البعيد أيضا، لإيــجاد صـيـَـغ ٍ وتصورات تـُحــرر الثقافة منضغط شروط الإنتاج المـُـجـحفة ورقابة الســلطة.  ومن المعــلوم أن تاريخ الثقافة المغربية لــم يـُـكتب بعد بطريقة متكامـلة، تـربط التجليات الشفوية والبصــرية والعـُـمرانية بممارسة الحياة، وتـُحلل الموروث الثقافي التقليدي والمحلي على ضوء التفاعــل مع الثقافة الكونـيـة وتأثيــرات المثاقفة في تغيـيـر الرؤية إلى العالم. ومن هذا المنظور، تستطيع هذه الحوارات أن تقدم شهادات وعناصر تـُـغنـي مشروع التـأريخ الثقافي وتربطه بهموم المـُـنتجين والمبدعين. إن الثقافة تهمُّ جميع مكونات المجتمع المغربي، دولة ً وشعبا، كما تهـمّ الجمعيات المدنية والمؤسسات الثقافية المستقلة والرسمية. ذلك أن الثقافة عنصر جوهريّ في رسم صيغة للحياة وتجديد الوعـي والفكـر والارتقاء بالذوق الفني والجمالي، وتحديد العلائق مع عالـم يمور بالتيارات المـُـتضــاربة والإيديولوجيات الاستغلالية والأصولية المتطرفـة. والثقافة، في إحدى مهامها، تسعـى إلى الدفاع عن قيم إنسانية مـُتـفتحة، تحمي المجتمع من العنف والعنصرية والتعصب. لنـَـقلْ باختصار، الثقافة دفاع عن الحياة التي تصونُ الحرية وتحرر الفكر، وتؤمنُ التعايـشَ سوية ً في ظلّ الحوار والصراع الديمقراطي الحقّ .

هذه الأهمية التي تكتسبها الثقافة، وبخاصةٍ في مجتمع مثل مجتمعنا المـُـتعـطش إلى الحداثة وتأصيل الـقـيم وفــقَ منظور مستقبلـي، هو ما يطرح مسؤولية الدولة في دعم الثقافة المـُنتجـة  والمـُخصبـَة للتربة العقلانية، والواصــلة بين الوجدان والهـُوية ضمــن صيرورة التـغيير وتفاعل الذات مع المجتمع. وبـَدهِيّ أن الدولة لا تستطيع أن تخـلق ثقافة ولا إبداعا، لكنها مـُـطالـَبة بتـوفير الشروط التي تدعـم المبادرات الثقافية وتحمي المكتسبات المعنويـة والمادية، وتسهر على أن تكون الثقافة، بمختلف تعـبـيـراتها وتجلياتها، حاضرة في وسائـط الإعلام وفي فضاءات التعلـيم والنــشـر والتوزيـع. وهذا ما يستوجب أن تأخذ مؤسسات الدولة الثقافية بالاعتبار وجهات ِ نـظر المثقفين والمبدعين الذين هـمْ أعــرفُ بالتحولات والحاجيات، في ظــل ّ تعامل ينبني على الاحترام والإنصاف وإعطــاء الأولــوية للمثقفـين والمبدعين الشباب الذين يجدون صعوبـة في توصــيـل إنتاجهم وأفكارهم إلى المتلـقين المـُـحتمـَـلين .

وبطبيعة الحال، ليس هذا اللقاء الذي نتـنادى إليه وننخرط فيه،  هو المبادرة الوحيدة لأن مثقـفين ومبدعين مغاربة آخــرين بادروا إلى الدعوة إلى الحوار، وهي مبادرات تلتقي، على رغم اختلاف طرائق العمــل، عنـد تعميـق التفكير في الشأن الثقافي، وهو المقصد المشترك الذي سيجعل هذه المبادرات تـؤسس  أفقا ً مفتوحا ودائما للحوار .

 

berrada61@hotmail.com