«العربي الجديد» وافتضاح علوم الغرب عن الشرق

صبحي حديدي

'كلّ ما ظننتَ أنك تعرفه عن الشرق الأوسط، مغلوط'، هكذا شاء تحرير مجلة 'نيو ستيتسمان' البريطانية أن يكون عنوان الغلاف، لمقالة مترجمة عنوانها الأصلي هو 'ليست ثورة إسلامية'، كتبها المؤرّخ والباحث الفرنسي البارز أوليفييه روا، ونشرها بالفرنسية أيضاً، في صحيفة الـ'موند'، قبل أيام. وليس الأمر أنّ تحرير الأسبوعية البريطانية يميل عادة إلى التهويل والإثارة، بقدر ما يلوح أنّ العنوان الدراماتيكي تحصيل حاصل للصدمات المتعاقبة التي أحدثتها انتفاضتا الشعبين التونسي والمصري، فضلاً عن التحرّكات الشعبية في الجزائر واليمن والبحرين وليبيا. دروس 'هذا العالم العربي الجديد'، وفق التعبير الذي صار المرء يقع عليه هنا وهناك، هزّت أركان المعارف السوسيو ـ سياسية الغربية، الراسخة رسوخ الجبال في العقول والضمائر، قبل استقرارها مثل صخور جلمود جاثمة في باطن الأدبيات والدراسات والكليشيهات والتنميطات، حول 'العقل العربي' و'السيكولوجية العربية' و'الشارع العربي' و'النظام العربي'، وكلّ ما يقترن بهذه من صفات الركود والجمود واللاتاريخ والسرمدية ومقاومة التغيير ورفض الديمقراطية، فضلاً عن الكابوس الأكبر المسلَّم به قطعاً: أنّ الإسلام السياسي هو البديل، الأوحد الوحيد!

والحال أنّ مقالة روا (وهو الذي وقّع العديد من الأعمال الرصينة حول الشرق والإسلام والعرب، بينها كتاب إشكالي يعود إلى سنة 1992 بعنوان 'فشل الإسلام السياسي')، لا تنأى في جوهرها عن روحية العنوان الدراماتيكي الذي اختاره تحرير 'نيو ستيتسمان' للغلاف. تسعة أعشار أفكار المقالة تشير إلى سلسلة المفاهيم القاصرة، في مادّة التحليل مثل مناهجه، حول قضايا كبرى تخصّ المجتمعات العربية المعاصرة، مثل الإسلام السياسي، والعلمانية، والديمقراطية، والإستبداد، والتمثيلات المتقاطعة للغرب والولايات المتحدة وإسرائيل، وسوى ذلك. وهو يختم بالقول إنّ 'سيرورة التغيير سوف تكون طويلة تكتنفها الفوضى، لا ريب، ولكن ثمة أمر مؤكد: لقد انطوى عصر الإستثنائية العربية ـ المسلمة. الأحداث الراهنة تشير إلى تحوّلات عميقة تشهدها المجتمعات العربية، كانت تعتمل منذ بعض الوقت، ولكنها طُمست حتى الآن بفعل العدسة المزيِّفة للمواقف الغربية تجاه الشرق الأوسط. إنّ ما تظهره هزّات مصر وتونس هو أنّ الناس في هذين البلدين قد استمدوا الدروس من تاريخهم هم (...) لم ينتهِ أمرنا مع الإسلام، بعد، وهذا أمر مؤكد، كما أنّ الديمقراطية الليبرالية ليست 'نهاية التاريخ'، ولكن علينا في الأقلّ أن نتعلّم التفكير بخصوص الإسلام ضمن علاقته بثقافة 'عربية ـ مسلمة' ليست اليوم منغلقة على نفسها أكثر ممّا كانت عليه في الماضي'.

ليس هذا رأي الأمريكي دافيد روثكوف، صاحب ورئيس مؤسسة 'غارتن روثكوف' للإستشارات حول الأمن الكوني والطاقة، والمدير الإداري الأسبق لمؤسسة 'كيسنجر وشركاه'، أشهر معاقل الإستشارات الجيو ـ سياسية العالمية؛ والأكاديمي في معهد كارنيغي، والمعلّق في صحف كبرى مثل 'واشنطن بوست' و'نيويورك تايمز' و'فايننشيال تايمز'. قبل أيام ألقى روثكوف 'نظرة فاحصة' على 'ميدان التحرير'، وعلى مصر بأسرها، بعيد رحيل حسني مبارك، واستعرض الماضي القريب، وبعض الماضي البعيد، وخرج بهذا اليقين القاطع: 'هذه ليست سوى نهاية المشهد الأوّل، من الفصل الأوّل، ممّا سيتكشف عن دراما طويلة متعرّجة'، قوامها أسئلة عديدة حول المستقبل (مشروعة وصحيحة بالطبع، ويرددها المصريون أنفسهم قبل روثكوف)، تنتهي عند صاحبنا إلى الكليشيه العتيقة دون سواها: حذار، أيتها الولايات المتحدة الأمريكية بصفة خاصة، من خسران مصر لصالح الإخوان المسلمين!

صاحبنا هذا كان، قبل سنوات قليلة، قد اقترح على البشرية نظرية جديدة تلمّ شتات ما قاله فرنسيس فوكوياما حول نهاية التواريخ غير الأمريكية ونهاية الاقتصادات غير الرأسمالية؛ وتستجمع شذرات من قواعد صمويل هنتنغتون حول صدام الحضارات، فضلاً عن هذه المجموعة أو تلك من استيهامات المحافظين الجدد، ومسحة غطرسة جلية هنا، وجرعة عنصرية خافية هناك، فقال بالمبادىء التالية: ـ تكنولوجيا المعلوماتية، وبالأحرى انفجار تكنولوجيا المعلومات، هو أبرز مظاهر العولمة الراهنة التي يشهدها العالم بأسره.ـ الولايات المتحدة هي سيّدة هذه الثورة، وصاحبة الباع الأطول في تطويرها وتصديرها. إنها تسيطر تماماً على أوتوستراد المعلومات، أكثر من أي بلد آخر على الإطلاق. العالم يصغي إلى الموسيقى الأمريكية، ويشاهد التلفزات الأمريكية، ويستخدم البرامج الكومبيوترية الأمريكية، ويأكل الأطعمة الأمريكية، ويلبس الثياب الأمريكية. الأمريكيون يتحكمون في سمع وبصر وذوق ومعدة وعقل العالم.

ثقافات العالم الأخرى لا تستطيع مقاومة هذا الغزو الأمريكي الشرعي، وحالها أشبه بحال الملك كانوت (أحد زعماء الـ'فايكنغ' في القرون الوسطى)، الذي نصب عرشه أمام البحر، وأمر الأمواج بالإنحسار. مطلوب بالتالي أن تستغل مختلف إدارات البيت الأبيض هذا الوضع الاستثنائي، فتترجم شعار 'الولايات المتحدة بلد لا غنى عنه' إلى واقع فعلي.ـ لا عواطف ديمقراطية، ولا أوهام ليبرالية، حول ضرورة إفساح المجال أمام الثقافات الوطنية لكي تترعرع وتحتفظ بهوياتها الوطنية. ولا مجال أيضاً أمام فكرة 'التعددية الثقافية'، الرومانتيكية في الجوهر، المعرقلة للمزيد من نشر وانتشار العولمة الشاملة. البديل الوحيد المتاح، بل المطلوب بإلحاح شديد، هو تعميم الثقافة الأمريكية، وحدها: 'قد يجادل الكثير من المراقبين بأنه من غير المستحبّ انتهاز الفرص التي تخلقها الثورة المعلوماتية العالمية، من أجل فرض الثقافة الأمريكية على الآخرين. ولكنني أجادل بأنّ هذا النوع من النسبوية خطير بقدر ما هو خاطىء. ذلك لأنّ الثقافة الأمريكية مختلفة جوهرياً عن جميع الثقافات الأصيلة في العالم، وهي جماع متجانس من المؤثرات والمقاربات الكونية، وهي منصهرة في خلاصة خاصة تتيح تطوّر الحريات الفردية والثقافات الفردية على حدّ سواء'.

تأسيساً على هذه المحاجّة، يتابع روثكوف: 'ينبغي أن لا يعفّ الأمريكيون عن القيام بما هو في صلب مصالحهم الإقتصادية والسياسية والأمنية، وهي في نهاية الأمر ليست سوى مصالح العالم على اختلاف جغرافياته وثقافاته. وينبغي على الولايات المتحدة أن لا تتردد برهة واحدة في تعميم قِيَمها وأخلاقياتها. وينبغي أن لا ينسى الأمريكيون، لحظة واحدة، أنّ ثقافتهم، وحدها ودون ثقافات جميع الأمم على امتداد تاريخ العالم، هي الأكثر عدلاً، والأكثر تسامحاً، والأكثر استعداداً لإعادة تقييم وإعادة تطوير عناصرها، والنموذج الأفضل من أجل مستقبل الإنسانية'.

هل فهم روثكوف شيئاً من مئات اللافتات التي رُفعت في 'ميدان التحرير'؟ وهل استوعب أيّ تفصيل يجعله يعيد النظر في الوظائف الأخرى التي يمكن أن يؤديها أوتوستراد المعلومات، في صالح الشعوب، وليس في صالح الثقافة الأمريكية وحدها، حصرياً؟ هل تنبّه إلى أنّ وقائع مصر اليومية، وقبلها وقائع تونس، أخضعت طرائق حماية المصالح الأمريكية لقواعد جديدة في اللعب، لم تكن فيها خيارات البيت الأبيض مستقرّة وصائبة وظافرة، بل متقلّبة متخبطة خاسرة؟ وكيف فاته (إلا إذا كان ذاك عن سابق عمد وعناد) أنّ الإخوان المسلمين تخلفوا عن ركب الإنتفاضة قبل انطلاقتها، وتردّدوا طيلة ساعات ونهارات، قبل أن يلهثوا للحاق بالقافلة؟
بيد أنّ روثكوف يظلّ خرّيج مدرسة في التفكير الأحادي، وليس الإنتقائي فحسب، كان في عداد كبار أساتذتها المؤرّخ البريطاني اليهودي برنارد لويس، 'بطريرك الإستشراق' كما تجوز تسميته بحقّ، وصاحب عشرات الأعمال حول تاريخ العرب والمسلمين، والمستشار الذي تلجأ إليه مختلف دوائر صنع القرار في الولايات المتحدة، من البيت الأبيض إلى وزارة الخارجية، دون نسيان وزارة الدفاع والإستخبارات المركزية. ورغم أنه مقلّ تماماً هذه الأيام، وعلى نحو يثير العجب ويناقض طبائعه، فقد أدلى بدلوه حول مستقبل الإنتفاضة المصرية، واعتبر أنّ مستقبلها صار ينحصر في خيارين: 'إمّا استمرار النظام ذاته، في صيغة معدّلة، وإمّا سيطرة الإخوان المسلمين؛ ومن الواضح أنّ الخيار الأوّل هو الأفضل'!

محاوره جاي نوردينغر (من مجلة 'ناشنال ريفيو' الأمريكية، اليمينية التي لا تقلّ تعصّباً لإسرائيل عن صحيفة 'يديعوت أحرونوت')، يتابع سؤاله عن مستقبل الديمقراطية في مصر، فيردّ لويس: 'لا أعرف أصلاً ما الذي يمكن أن تعنيه مفردة الديمقراطية هناك'، ولكن من المؤكد وجود 'عناصر كثيرة تجعل مصر 2011 شبيهة بإيران 1979'. وهنا خلاصة الموقف، عنده: الكثير ممّن نسمّيهم 'أصدقاء أمريكا' في المنطقة هم 'ثلّة فاسدين'، ولكنهم 'خير لنا من الراديكاليين الإسلاميين'! كأنّ لويس بالذات كان في ذهن روا حين ابتدأ مقالته، سالفة الذكر، بالسخرية من الذين يبدأون تحليل الأوضاع في مصر وتونس من معيار عمره أكثر من ثلاثة عقود، هو الثورة الإسلامية في إيران.

وقبل أشهر، حين كان الغرب يترقّب نتائج التصويت الشعبي على التعديلات الدستورية في تركيا، طرحت صحيفة 'وول ستريت جورنال' السؤال التالي على لويس: إلى أين تسير تركيا الراهنة؟ وبالطبع، لم يصدر الجواب عن الرجل في صفته الإستشراقية، فحسب؛ بل أيضاً عن كونه أحد كبار المختصين بتركيا الحديثة، وتركيا العثمانية، فقال: خلال عقد من الآن، قد تصبح الجمهورية العلمانية التي أسّسها مصطفى كمال أتاتورك أشبه، إلى حدّ بعيد، بالجمهورية الإسلامية في إيران. وحين ظهرت نتائج الإستفتاء كان الشارع التركي قد كذّب نبوءات لويس، لأنّ نسبة التصويت لصالح التعديلات، 58 بالمئة من أصل نسبة مشاركة بلغت 77 بالمئة، كانت عابرة للإنقسامات الحزبية أو السياسية أو الإثنية أو الدينية. وكان ذلك التكذيب الشعبي يسفّه، من جانب آخر، مواقف لويس العريقة المتعاطفة تماماً مع الديمقراطية التركية، ليس لأنه كان يراها 'علمانية' في محيط شرس من الفقه (الإسلامي) اللاعلماني واللاديمقراطي في الجوهر، فقط؛ بل كذلك لأنها في نظره تظلّ المثال الوحيد الذي نجح في الشرق الأوسط. كذلك بشّر لويس طويلاً، واستبشر مراراً، بالتجربة التركية في الديمقراطية التعددية والعلمانية السياسية والدستورية، لأنها 'لم تكن من صنع الحكام الإمبرياليين، ولم تفرضها القوى الغازية الظافرة. كانت خياراً حرّاً مارسه الأتراك حين انتهجوا طريق الديمقراطية الطويل والشاقّ والمزروع بالعقبات، ولكنهم برهنوا أنّ حسن النية والتصميم والشجاعة والصبر كفيلة بتذليل تلك العقبات والتقدّم على طريق الحرية'.

والعالم تيقّن، أوّلاً، أنّ مواقف رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان (زعيم الحزب الذي يتخوّف لويس من أنه سيحوّل تركيا إلى إيران جديدة)، كانت أكثر صدقاً وشجاعة في انحيازها إلى انتفاضة الشعب المصري، من مواقف وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون، أو الرئيس الأمريكي باراك أوباما نفسه. كما تيقّن العالم، ثانياً، أنّ أياً من الأحزاب العربية، أو تلك الإقليمية، ذات البرامج الإسلامية، المعتدلة منها أو المتشددة، لم يكن لها ضلع أو دور في صناعة انتفاضة مصر، وقبلها انتفاضة تونس، طيلة الأيام الخاطفة المذهلة التي غيّرت وجه العالم العربي. وبعد نموجَيْ روثكوف ولويس، ألا يحقّ لرجل مثل أوليفييه روا أن يقول، ويُصادَق على قوله: 'كلّ ما ظننتَ أنك تعرفه عن الشرق الأوسط، مغلوط'؟

كاتب وباحث سوري