كي لا يتم اختطاف الثورة المصرية

أمجد ناصر

القلق الذي ينتاب كثيرين من 'اختطاف' الثورة المصرية، أو تفريغها من محتواها النوعي، ليس بلا وجاهة. معظم الأقلام المصرية والعربية الذي رافق انبلاج فجر الثورة الكبير على الديار المصرية يشعر بشيء من هذا القلق. هناك فعلاً ما يدعو إلى ذلك. فليس هكذا يكون حصاد الثورات. من طبيعة الثورة أنها تجبُّ ما قبلها. تقطع معه على نحو لا يقبل الالتباس. ترسم خطاً فاصلاً بين ما قبل الثورة وما بعدها بصرف النظر عن الآليات التي تتبعها سواء كانت مسلحة أو سلمية. ولم يحصل هذا، حتى الآن، مع الثورة المصرية الباهرة. هناك ثورة لا مثيل لها في تاريخ العالم العربي (بل ربما في العالم المعاصر) حدثت في مصر. توالت فصلا بعد فصل في بثّ حيّ، متأجج، ومباشر من كل المدن المصرية. اقتلعت حاكماً ممسكاً بكل أسباب القوة بغض النظر عن شيخوخته الشخصية، جعلت العالم كله يحبس أنفاسه نحو ثلاثة أسابيع متابعاً أطوارها الدرامية المتعاقبة. هذه الثورة التي فجَّرها شباب مصر والتفّت حولها معظم فئات المجتمع المصري لم تنته على نحو حاسم كما تنتهي الثورات. فالنظام المصري (وليس الدولة) بمؤسساته الأمنية والحكومية والاعلامية، لا يزال قائماً. تضعضع فعلاً، اختل توازنه، أشرف على الانهيار الكامل ولكنه، بفضل تدخّل المؤسسة العسكرية، حافظ على شيء من البقاء فيما طُلب من الثورة أن تعود الى البيت لأنها انجزت مهمتها!

سيقول البعض ولكنَّ هناك متغيرات كبرى حدثت في الحياة السياسية المصرية: خلع رأس الدولة وعائلته، إحالة بعض رموز الفساد إلى القضاء، الحجر على مسؤولين حكوميين وحزبيين سابقين، حل مجلسي الشعب والشورى، تعليق العمل بالدستور. هذا جيد طبعاً ولكنه، قياساً بحجم الثورة ومطامحها وتنوّع الفئات المنخرطة فيها، ليس كافياً. فالنظام، على ما يبدو، لم يسقط. آية ذلك أن آخر حكومة عيَّنها الرئيس المخلوع لا تزال على رأس عملها. قوات الأمن التي انهارت (أو اختفت لسبب ما) يعاد تأهيلها، جهاز أمن الدولة القمعي لا يزال على حاله. قادة الإعلام التطبيلي الفاسد لا يزالون يديرون مؤسساتهم وإن تغير خطابهم، أحكام الطوارىء لم تُرفع. السجناء السياسيون لم يُطلق سراحهم. هذه دلائل تدعو إلى القلق. فمقابل الوعود التي قطعتها المؤسسة العسكرية على نفسها في إحداث النقلة التي يطالب بها مفجّرو الثورة وشعبها هناك تحرك حاسم من قبل هذه المؤسسة لإنهاء الثورة عند الحد الذي انتهت إليه: خلع الرئيس والشروع في إعادة صياغة الدستور قبل أن يلمس الناس ثماراً مباشرة لثورتهم.

حسني مبارك الديكتاتور البائس، المتهالك في قصره الرئاسي في القاهرة أو في منتجعه الدائم في شرم الشيخ، كان مشكلة مصرية (وعربية أيضاً) ولكنه لم يكن كل المشكلة. والثورة، التي لم يصدّق مفجّروها أنها ستكون بهذا الاتساع والشمول والجذرية، لم تقم من أجل اسقاط حسني مبارك بل من أجل اسقاط نظامه، من أجل مصر جديدة تسودها الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الانسانية. هذه المصر لم تتضح ملامحها بعد. أطلَّت من عيون ملايين المصريين الذين انخرطوا في مواكب الثورة العظيمة، ولكنها لم تولد بعد. ولا يكفي هذا الاطراء المرسل الذي نسمعه عن طهارة الثورة ونقائها من أفواه الصادقين والمنافقين الذين يطلون علينا من القنوات التلفزيونية العربية والمصرية. بالأحرى هذا الإطراء يقلق أكثر مما يطمئن. كأنَّ هذا كافٍ بحد ذاته. كأنَّه نهاية المطاف. والحال أن الأمر لا يتعلق بالنقاء والطهارة وسلمية الأداء (على أهمية ذلك) ولكن بالحصاد. هذا الحصاد لم نره بعد. ما يقلق أيضاً أن الثورة لا هيكل تنظيمياً لها. لا قيادات مجربة للعمل السياسي وقادرة على صد محاولات الالتفاف التي ستقوم بها بقايا النظام القديم لاعادة الحياة الى جسده المترنّح، فضلاً عن استعداد قوى المعارضة الرسمية للمساومة على أنصاف الحلول.

النظام المصري لم يسقط حتى الآن. وهذا الثناء السابغ الذي تغدقه أمريكا وأوروبا وإسرائيل وبعض النظم العربية على أداء القوات المسلحة المصرية يقلق. أيُّ ثناء من هذا النوع يجب أن يشعر قوى الثورة بالقلق لأنه يعمل على أن تنتهي الثورة إلى ما انتهت إليه حتى الساعة: إزاحة حسني مبارك من المشهد. هناك، بالتأكيد، من يقول ولكن لم تمض سوى أيام على سقوط حسني مبارك ولم يمر الوقت، بعد، على حدوث النقلة الجذرية في الحياة السياسية المصرية. هذا صحيح نسبياً ولكنه مخاتل أيضاً. لننظر الى المثال التونسي. لقد سقط زين العابدين بن علي منذ نحو شهرين ولكن نظامه لم يسقط حتى اللحظة. من يقودون تونس، بعد الثورة، هم الذين كانوا موجودين قبل الثورة. محاولات بقايا النظام التونسي للتشبث بمواقعها مستمرة، بل ان اشتباكات لا تزال تقع في بعض المدن والقرى التونسية بين بقايا قوات بن علي والمواطنين. هذا مثال يجب أن يقلق ثوار مصر. فالكلام الذي سمعناه من بعضهم عن عودتهم الى التظاهر مرة أخرى إن لم تتحقق مطالبهم الجذرية فيه بعض البساطة، فليس سهلاً، بعد تراجع قوة الدفع الثورية، استنهاض الجمهور العريض الذي انخرط في الثورة مرة ثانية. ليس سهلاً أن تعود الملايين مرة أخرى إلى ميادين المدن المصرية لتصحح المسار السياسي لما بعد الثورة.

عمر الثورة المصرية ثلاثة أسابيع بينما عمر النظام المصري الراهن، ذي الامتداد الساداتي، أربعون عاماً. لقد تركَّب النظام المصري طبقاً فوق طبق على امتداد أربعين عاماً. نشأت تحالفات اجتماعية وطبقية وسياسية، قامت بنى أمنية معقدة، تشكلت نظم إعلامية اخطبوطية، عشش فساد مالي وإداري في طيف واسع من المصالح والإدارات الحكومية، وليس سهلاً تفكيك هذه البنية التي يتكوّن منها النظام المصري بخطى إصلاحية بطيئة هنا وهناك. يحتاج الأمر إلى تغيير شامل وسريع وهذا لن يحدث، حسب ظني، في ظل سيطرة الجيش على شكل وطبيعة ومدى التغيير. فمع احترامنا لرأي معظم المصريين في جيشهم إلا أن التقارير البحثية المصرية والغربية تشير إلى وجود مصالح مالية كبرى للقوات المسلحة، تكوَّنت في عهد حسني مبارك. قد لا ينال أفراد الجيش المصري شيئاً من منافع تلك المصالح الاقتصادية ولكن كبار الضباط ينالون. المنطقي، في هذه الحــــال، أن لا تتطابق صورة التغيير التي في ذهن الذين قاموا بالثورة بصورة التغيير التي في ذهن كبار قادة القوات المسلحة المصرية، بل أكاد أجزم أنه يستحيل أن يحدث هذا التطابق، فالجهتان تصدران من مواقع سياسية وفكرية وحُلمية مختلـــفة إن لم تكن متناقضة. من الضروري، والحال، أن لا تعتبر قوى الثورة أنها أنجـــزت المهمة (بحسب ما كتبه الناشط وائل غنيم على صفحته في الفيس بوك)، فالمهمة لم تنجز.

إزاحة حسني مبارك عن المشهد ليست نهاية المطاف. إنها البداية فحسب. لذلك من غير المعقول أن تأوي قوى الثورة الى النوم باكراً وتترك صورة التغيير المأمول في يد الجيش. فالجيوش، في العالم الثالث عموماً والعالم العربي خصوصاً، لم تكن ضامناً قط للديموقراطية، فكلنا نعرف شهيتها الغريزية للعب أدوار في الحياة السياسية الداخلية أكثر مما تقوم به على الحدود. العرب جميعاً يتطلعون إلى ما ستسفر عنه الثورة المصرية، إلى ما ستكون عليه صورة مصر. فكما تكون مصر يكونون نظماً وشعوباً. النظم العربية المرتجفة الآن تراهن على أن يخفق المصريون في إحداث نقلة جذرية في حياتهم السياسية فيما الشعوب العربية تضع أيديها على قلوبها خشية اختطاف الثورة أو إفراغها من محتواها. ما ستنتهي إليه مصر سيحدد، بلا أدنى شك، ليس صورة بلاد الكنانة فقط بل والعالم العربي كذلك.


Email: amjad@alquds.co.uk