ثورة الحب والتاريخ وتحمل المسؤولية

أنيس مصطفى القاسم

ثورة شباب مصر في الخامس والعشرين من كانون الثاني (يناير) 2011، هي ثورة الحب والتاريخ وتحمل المسؤولية، الحب لمصر ولتاريخ مصر، وتحمل المسؤولية لاستعادة مصر مما حل بها. هي ثورة عبرت عنها دمعة انسابت من عين الشاب وائل غنيم، وكلمتان نطق بهما: 'دي بلدنا' في برنامج الاعلامية المصرية الفذة منى الشاذلي 'العاشرة مساء' التي لم تكن في معاناتها أقل من المعاناة التي كان يحس بها وائل. 'حب' مصر و'تاريخها' تحركا هذه المرة لا للتفاخر والتباهي من قِبَلِ اعلاميين أو دبلوماسيين جهلة. لا، ليس للتباهي والتفاخر الاجوفين، وإنما ليكونا وقودَ ثورة ٍعلى نظامِ حكم أهان البلد وأذله. لقد انبعث ذلك الحب الغامر والوعي المتوثب لأعماق ذلك التاريخ ليوقظا في الشباب ما حاول نظام متخلف أن يطمسه من دور ريادي حقيقي لبلد كان دائما هو الطليعة في التقدم والعطاء. في هذه اللحظة من عمر التاريخ في يوم الجمعة الموافق الحادي عشر من شهر شباط (فبراير) عام 2011، التي أكتب فيها هذا المقال طلع على التلفزيون المصري 'نائب' الرئيس ليعلن 'تخلي'، لا تنحي، مبارك ونظامه، عن الرئاسة، ولأَسمَعَ زغرودةَ نوارة نجم وتقريرَها على فضائية الجزيرة، وصوتَها البهيج المتهدج بالبكاء معلنةً برنامجَ الشبابِ لمصرَ الشباب، والانطلاقةَ في مشوار الحرية والريادة الحقيقية الجديرة بمصر. وفي فرحتها، لم تنس نوارة تونس ولن ينساها أي عربي. فأهلا وسهلا بتونس والقاهرة وفضائية الجزيرة في كل بيت عربي.

سُئِلَت نوارة، أمام من سيكون الجيش مسؤولا الآن بعد رحيل مبارك، فكان جوابها السليم من دون تردد 'أمامنا'. نعم الجيش مسؤول أمام الشعب الذي أشعل الثورة وقدم الشهداء وانتصر، وكانت تلك التحية العسكرية العظيمة في أدائها ومعناها من جانب الناطق الرسمي باسم القوات المسلحة، تعبيرا صادقا عن المعاني العميقة لتلك اللحظة التاريخية التي استرد فيها الشعب مسؤوليته عن الوطن ومستقبله. هؤلاء كانوا شهداء الوطن والشعب والجيش، استشهدوا من أجل أن يعيش الوطن والشعب والجيش وجودا كريما أبيا موحدا. في مساء ذلك اليوم أيضا استضافت منى الشاذلي في برنامجها على دريم الثانية (وَمَنْ غيرُ منى عنده حِسُّ الثانية لا الدقيقة) الاستاذ الكبير محمد حسنين هيكل، الذي بدا على الشاشة وقد استعاد شبابه وحيويته، والافكارُ تتزاحم لديه، فتتحرك مضامينها ايحاء وإن لم تكتمل نطقا. ولكنه كان واضحا جدا في موضوع المسؤولية: الشباب لا الجيش هم الذين قاموا بالثورة، ولذا فالجيش مسؤول أمامهم. ونضيف بأن هؤلاء الشباب استطاعوا أن يجندوا الشعب، كبارا وصغارا، رجالا ونساء، أفرادا ومنظمات، مسلمين ومسيحيين، إخوانا وعلمانيين وليبراليين وناصريين. الشعبُ كله استطاع هؤلاء الشباب أن يحركوه ليحققوا بذلك ما عجز الجميع عن تحقيقه، وهو أن الشعب هو صاحب السيادة والسلطة، وأنه هو المسؤول عن مصير الوطن وجميع المؤسسات مسؤولة امامه، وأنه، بالتفافه حول الشباب واستجابته لدعوتهم يكون قد فوضهم لتحمل المسؤولية باسمه.. واذا نازعهم منازع، فالشعب موجود.

إن شعور هؤلاء الشباب بالمسؤولية عن الوطن وتاريخه ومصيره كان المحرك الاساسي لكل ما فعلوه. ومن الواضح أنهم كانوا على وعي عميق بهذه المسؤولية. وهذا الاحساس بالمسؤولية انتقل بسرعة انتقال رسائلهم على الانترنت الى جميع طبقات وفئات الشعب. وهذا الكلام ليس إنشاء، وانما كان حقيقة على أرض الواقع يمارسها ابناء الشعب ويدركها كل متتبع لما كان يجري. لقد أذهلت العالم كله تلك الظاهرة التلقائية التي لم تألفها القاهرة، ولم يألفها اي مجتمع آخر عندما تكاتف الرجال والسيدات والشباب والصبايا والصغار والكبار في عملية تنظيف ميدان التحرير والشوارع المؤدية اليه. ربات البيوت المجاورة نزلن من بيوتهن ومعهن أدواتهن ليشاركن في العملية. ولم يقتصر هذا العمل التطوعي المجتمعي على تنظيف الميدان، بل كان لافتا لنظر الكثيرين تلك الترتيبات المختلفة الاهداف التي انتشرت في الميدان، بحيث أنها اشتملت حتى على ملاهٍ للاطفال، بحيث تستطيع الامهات المشاركة في الاحتجاجات والنشاطات، وهن مطمئنات على اولادهن الصغار. هذه الظاهرة لفتت أنظار مراسلة هيئة الاذاعة البريطانية (بي.بي.سي) فرسمت مخططا للميدان ووضعت عليه الاركان المخصصة لمختلف النشاطات، وفاتها موقع واحد هو الموقع الذي خصص للاغراض التي تفقد أو تضيع مثل الهواتف النقالة أو حوافظ النقود، حيث كانت تسلم لموقع معين، بحيث يستطيع اصحابها أن يستردوها. والمخطط هذا والبيانات موجودان على موقع الهيئة.

نحن اذن امام ظاهرة مهمة في المجتمع العربي، حيث أن هذا الذي شاهدناه في القاهرة ومصر عموما كان حاضرا ايضا في تونس العاصمة وتونس المدن والقرى. فقد ظهرت اللجان الشعبية في كل مكان عندما اختفى اعوان الشرطة وتعرض الأمن العام للخطر، لم يقف الشباب يلوم الشرطة ويلعن المحافظ ووزير الداخلية وإنما واجه المشكلة وشعر بمسؤوليته حيالها ووجد الحل. اما حساب المقصرين فيأتي في ما بعد. وفي القاهرة عندما لوحظ خطر محاولة نهب المتحف المصري وقف مخرج سينمائي مصري لدى فضائية الجزيرة يلفت النظر لهذا الخطر على تاريخ مصر ويدعو الجيش للتحرك لها الغرض، الا أن الشباب كانوا قد تنبهوا لهذا الخطر وطوقوا المتحف باجسادهم وحموه وحموا معه تاريخ وطنهم.

هؤلاء الشباب الذين قاموا بمعجزة القرن الواحد والعشرين لم يكونوا عاطلين عن العمل او فقراء نهشهم الجوع، وانما كانوا في غنى عن أن يعرضوا انفسهم للبطش والاهانة وأن يكتفوا بتوجيه اللوم والشتائم للمسؤولين المقصرين في اداء واجبهم. وهذا ما فعله غيرهم من مثقفين وآخرين غيرهم. إن ما يميز هؤلاء الثوار أنهم أحسوا بمسؤوليتهم هم عن تصحيح الخطأ ومعالجة اسبابه، وهذا الشعور بالمسؤولية دفعهم للبحث عن طريقة للتغلب على عامل الخوف من النظام الذي يستطيع أن يرهبهم كأفراد، ولكنه عاجز عن ارهابهم كشعب ثائر. القوة في الجماعة الملتزمة التي يحركها شعور عميق بالمسؤولية. هذه هي نقطة التلاقي، وفي سياقها تنتفي الاسئلة الخارجة عن هذا النطاق، ويتجه الجميع لتنفيذ الالتزام الذي ترتب على الشعور بالمسؤولية.

هذا الشعور بالمسؤولية المجتمعية الذي يولد الاستجابة التلقائية هو ما كان مفقودا في مجتمعاتنا العربية كلها، وليس في تونس ومصر فقط. وهو الذي يجب التركيز عليه للانتقال الى مجتمعات فاعلةٍ للتقدم والتاريخ، وليست قابعةً في زوايا الاهمال والاستغلال. ومما يدعو للاعجاب والافتخار بشبابنا الذي قام بالثورة، أن مجتمعاتنا العربية تكاد تكون خالية من أي منهج يدرب على تحمل المسؤولية وممارستها. وإننا نرجو ألا يفوت الشباب هذه الفرصة التي خلقوها بأيديهم وبفكرهم النير. نرجوهم الحفاظ على منظمات المجتمع المدني واللجان الشعبية التي أوجدوها وتطويرها، وتشجيع النشاط المجتمعي والجمعي والتمسك به، والمشاركة في الفكر والعمل. إن التجربة التي مر بها شبابنا في جمهورية ميدان التحرير قلما تتكرر اذا لم يحافظ الشباب على فلسفتها. في ميدان التحرير التقى أبناء الشعب جميعا، من مختلف الخلفيات الفكرية والاجتماعية والعقائدية، وكان السائد هو الاحترام الكامل للاختلاف كحق من حقوق الانسان، وأن الاختلاف هو الاسلوب الأمثل للوصول الى الأفضل. وكان الكل يشعر بالأمان وبالمساواة مع الآخر. لم تتعرض فتاة واحدة للتحرش في ميدان يعج بمليونين من البشر، ولم يقع تلاسن بين إخواني وعلماني أو بين مسلم ومسيحي. ساد الوئام والاحترام المتبادل وتقاسم العمل الجماعي التطوعي في خدمة الهدف، وهو هدف لم يكن طائفيا أو فئويا أو عقائديا ضيقا، ولذا شارك فيه الجميع من دون تحفظ. لم تكن هناك زعامة تفرض رأيها. والسبب في هذا كله كان الشعور بالمسؤولية الذي أدى بدوره للبحث عن افضل السبل لتحقيقها، وهذا أدى ويؤدي بدوره الى البحث في الافكار واحترام كل ما يطرح منها ومناقشته في موضوعية ثم الاتفاق على الاسلم.

الدرس المهم الذي يجب أن نحرص عليه هو الحاجة الماسة لتربية أجيال متعاقبة على تحمل المسؤولية وممارستها ممارسة سليمة، بحيث تصبح هذه الظاهرة سليقة ترافقنا في كل موقف، وتذكرنا باننا سنكون نحن المسؤولين عن الخطأ والفساد، اذا لم نتحرك لمواجهته. والمسؤولية هذه هي في الحقيقة مسؤوليتان: مسؤولية الفعل من جانبنا لتصحيح الوضع من جهة، ومسؤولية المحاسبة على التقصير فيه من جهة ثانية، حتى لا يكون هناك ركود أو ارتداد، وبدونهما معا لا تستقيم الامور. هذه التربية على تحمل المسؤولية وممارستها يجب أن تصبح جزءا أساسيا من المنهج الدراسي والتربوي، ليحل محل مناهج التلقين المتداولة التي تشل العقول وتباعد ما بين الانسان وما يمكن له أن يفعل لو اعتاد على التفكير وتحمل مسؤوليته عن مواقفه وأفكاره.

آنَ لعصور الاستعباد والاستبداد والتخلف أن تنتهي، ولعصور الحرية والوعي بالمسؤولية وممارستها الفردية والجمعية أن تنطلق، وآنَ أن يرتفع صوتنا الى عنان السماء بصرخة عمر بن الخطاب 'متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم احرارا'. لقد آنَ لشعوبنا أن تتحمل هي المسؤوليةَ عن الوطن ومسيرته ومصيره، وآنَ لها أن تبلغ الرشد وتنهض هي بالمسؤولية. وها هي البشائر أطلت، والحمد لله، والمسيرة بدأت واننا لواصلون، بإذن الله وهمة شبابنا.
شكرا يا شبابنا لقد اعدتم لنا حماسا وأملا كادا أن يختفيا من حياتنا.

 

من مؤسسي منظمة التحرير الفلسطينية ،والهيئة الوطنية لحماية الحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني