رئيس الوزراء المصري يتجرع مرارة «بونبون» الثورة

براء الخطيب

في نعومة الثعبان الذي يحتضر كان رئيس الوزراء أحمد شفيق يتحدث في بالوعة التلفزيون المصري، في اليوم الثالث من بداية الثورة، ويعلن أنه يطلب من الشباب المعتصمين في ميدان التحرير أن يعودوا إلى بيوتهم، وأنه لن يقبض عليهم أثناء انصرافهم، ومن تبقى منهم فسوف يرسل لهم في ميدان التحرير الشاي الساخن بالحليب مع حبات 'البونبون' المسكر الحلو، لم يكن يصدق يومها أنه سوف يتجرع مرارة 'بونبون' الثورة المر بعد عدة أيام قليلة، وكان قد تردد اسم أحمد شفيق على استحياء لأول مرة خلال النصف الأول من العام 2010، مع مرشحين محتملين آخرين مثل عمر سليمان رئيس المخابرات، ذرا للرماد من قبل النظام الفاسد، وكغطاء لتوريث جمال مبارك الابن الأصغر للرئيس المخلوع، بل ان 'وول ستريت جورنال' الأمريكية نشرت في هذا العام نفسه، أن أحمد شفيق وزير الطيران المدني وقائد سلاح الجو السابق، مرشح محتمل لرئاسة مصر خلفاً للرئيس مبارك (المخلوع)، وأوضحت الصحيفة في تقرير لها تحت عنوان 'منافس جديد يبرز في مصر، أن 'شفيق قادر على الحركة بين مركزي القوى داخل الحزب الوطني (الحرس القديم والحرس الجديد)، كما أنه قائد سابق للقوات الجوية، مثل الرئيس مبارك (المخلوع)، وخدم تحت قيادته وتولى شفيق - 69 عاماً- رئاسة أركان القوات الجوية عام 1991 وعين قائداً لها في نيسان/أبريل عام 1996 واستمر في هذا المنصب 6 سنوات، وهي أطول فترة لأي قائد للقوات الجوية المصرية، قبل أن يعين في منصبه المدني الحالي عام 2002، وعمل ملحقاً عسكرياً للسفارة المصرية في روما من عام 1984 إلى 1986'.

بعد انسحاب قوات الأمن المركزي (يوم جمعة الغضب/28 شباط/فبراير) المفاجئ من ميدان التحرير، وبداية ظهور دبابات الجيش، اقترب مني شاب وسيم (30 سنة تقريبا) وفي عينيه كبرياء وبريق عجيب، وقال لي بأنه يريد أن يتحدث معي، لكن علينا أولا أن نتعارف، وطلب مني في أدب شديد أن يتعرف علي، وكنت أنا وهو نحاول التخلص من تأثير الغازات المسيلة للدموع بالمياه الغازية (يا له من اختراع عبقري أوصى به شباب الثورة التونسية) وقبل أن أجيبه أخرج بطاقة هويته وأراها لي فقرأت اسمه '......' ومهنته طبيب أطفال، وطلب مني أن أريه بطاقة هويتي فأريتها له، فقال انه من 'الإخوان المسلمين' وتحدث كثيرا عن الدولة المدنية، والفيسبوك، والإنترنت، والانتفاضة (لم نكن نعرف أنها سوف تصبح ثورة) وخفض صوته المبحوح من شدة ما بذله من مجهود في ترديد شعارات الثورة، وبصوته الخفيض المبحوح بدأ يشرح لي تصوره حول نوايا قوات الجيش، وأن رئيس الوزراء شفيق مكلف من رئيسه الذليل للالتفاف على الانتفاضة، أو ربما سوف يشعلها حربا أهلية، فها هي الدبابات تنتشر في ميدان التحرير، وراح الشاب الوسيم الطبيب والبريق المتوهج في عينيه يتحدث عن قراءاته على الإنترنت عن 'حرب الشوارع' و'القتال في المدن'، وراح يفهمني بأن القتال في المدن يعتبر من أعنف وأصعب أنواع القتال، لذا فقد تصبح المناطق المبنية مناطق معارك وساحات قتال بسبب مواقعها المسيطرة على طرق التحرك ولاحتوائها على منشآت صناعية وسياسية قيمة (كنا قريبين من المتحف وكان خلفه مبنى الحزب الوطني في بداية اشتعاله) وإن طبيعة المناطق المبنية أو المدن أو العمارات المتلاصقة أو حتى العمارات والمباني المعزولة والمحاطة بمساحات صغيرة من الأرض أو الحدائق لها طرق خاصة لمهاجمتها، وأيضا المناطق السكنية التي تكون قريبه من بعضها البعض وتحدها شوارع من جانب وحدائق وأرض فضاء من الجانب الآخر، والتي قد تكون مخططة على شكل هندسي مع وجود بعض الفراغات الصغيرة بين تلك المباني، وقد يختلف أسلوب الهجوم في مثل هذه المناطق تبعا لكثافة المباني، إلا أن أساليب الهجوم الرئيسية العامة تبقى هي نفسها، وعندما سألته هل يدربونهم في 'الإخوان المسلمين' على ذلك؟ ضحك الشاب ضحكة لم أر أجمل منها، وقال بأنه لم يضحك هكذا منذ بداية المظاهرات وأنه لم يدربه أحد على ذلك بالطبع، كما أن هذه دعايات حقيرة من إعلام النظام الفاسد، لكنه عرف ذلك وأكثر منه من بعض مواقع الانترنت (يا لها من ثورة ساعدت فيها الإنترنت ويا لهم من شباب أحسنوا استخدام وسيلة حضارية من نتاج عصرهم) وانقطع الحديث بيننا عندما تعرف عليه أحد أصدقائه، فغادرا المكان معا، وعبرت أنا الميدان إلى دار نشر 'ميريت' التي لا تبعد عن ميدان التحرير بأكثر من عشرة أمتار وأنا أتوكأ على ذراع المحامي الشاب سامح سمير ( في الفيسبوك = سامح سمير ) وهو واحد من قادة الشباب في الثورة المجيدة، لأجد الشاب محمد محسن (في الفيسبوك = Mohamed Mohsen ) الذي كان منخرطا في المظاهرات منذ ساعة أو أقل، وهو يغني على أنغام جيتار زميله الشاب رامي عصام (في الفيسبوك Ramy Essam):
- يا مصر قومي وشدي الحيل/ كل اللي تتمنيه عندي
- لا القهر يطويني ولا الليل/ آمان آمان بيرم أفندي
- رافعين جباه حرة شريفة / باسطين أيادي تؤدي الفرض
- ناقصين مؤذن وخليفة / ونور ما بين السما والأرض
- يا مصر عودي زي زمان/ندهة من الجامعة وحلوان
- يا مصر عودي زي زمان/ تعصي العدوين وتعاندي/ آمان آمان بيرم أفندي
- الدم يجري في ماء النيل/ والنيل بيفتح على سجني
- والسجن يطرح غلة وتيل/ نجوع ونتعرى ونبني
- يا مصر لسه عددنا كتير/ لا تجزعي من بأس الغير
- يا مصر ملو قلوبنا الخير/ وحلمنا ورد مندي/ آمان آمان بيرم أفندي
- يسعد صباحك يا جنينة/ يسعد صباح اللي رواكي
- يا خضره من زرع إيدينا / شربت من بحر هواكي
- شربت من كاس محبوبي/ وعشقت نيل أسمر نوبي
وغسلت فيه بدني وتوبي/ وكتبت اسمه على زندي/ آمان آمان بيرم أفندي'.

وهي أغنية كان قد كتبها صديقنا الرائع الشاعر الكبير نجيب شهاب الدين، وغناها الشيخ إمام عيسى عقب مظاهرات الطلبة عام 1968، كما لو كان نجيب شهاب الدين يعلن وقتها ارتباط 'مصر/ الثورة' بـ'تونس/ الثورة' عندما تغنى باسم بيرم التونسي، فهو 'التونسي' الذي هو ' آمان آمان بيرم أفندي'. وجاء الدور على أغاني شاعر الشعب أحمد فؤاد نجم وغنى محسن أغنية نجم التي كتبها عام 77 بعد انتفاضة يناير المجيدة كرسالة شخصية منه إلى حبيبته:
- كل ما تهل البشاير/ من يناير كل عام
- يدخل النور الزنازين/ يطرد الخوف والظلام
- يا نسيم السجن ميل/ع التعب وارمي السلام
- زهر النوار/ وعشش في الزنازين الحمام
- واسأليلي كل عالم في بلدنا/ كل برج وكل مادنه
- كل صاحب من صحابنا/ كل عيَّل من ولادنا
- حد فيهم شاف علامة/ من علامات القيامة
- قبل ما تهل البشاير/ يوم تمنتاشر يناير
- لما قامت مصر قومه/ بعد ما ظنوها نومه
- تلعن الجوع والمذلة/ والمظالم والحكومة؟
- سلمي لي ع الولاد السمر/ خُضْر العمر/ في عموم الحواري
- سلمي لي ع البنات/ المخطوبين في المهد/ لسرير الجواري
- واسأليلي بالعتاب/ كل قاري في الكتاب/ حد فيهم كان يصدق
- بعد جهل وبعد موت/ إن حس الشعب يسبق/ أي فكر وأي صوت'.

وبعد خلع الذليل بلا كرامة، ونجاح الثورة المجيدة في تحقيق أول أهدافها (إسقاط رأس النظام الفاسد) جاءت مرحلة إسقاط النظام، وهي مرحلة شاقة بالطبع، يدرك شباب الثورة خطورتها وخطورة أزلام النظام الفاسد، الذين سوف يستشرسون بشتى الطرق والوسائل الخسيسة في الالتفاف على الثورة وإجهاضها على أرض الواقع، يقودهم (دستوريا) رئيس الوزراء المؤقت أحمد شفيق وبعض ممن كان الذليل المخلوع قد أتى بهم مهما تخفوا في الأزياء المختلفة، لذلك فإنه يتحتم على قادة المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية، الذين وعدوا الشعب المصري وعدهم الخالد منذ اللحظة الأولى، أن الجيش لن يطلق رصاصة واحدة على المتظاهرين، يتحتم على المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية أن يزيل كل الشكوك والهواجس عن الشعب المصري حول استمرار المشير حسين طنطاوي وزيرا للدفاع وقائد المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وكما جاء في جريدة 'القدس العربي' الصادرة في لندن أنه 'وصفت وثائق دبلوماسية أمريكية سرية حصل عليها موقع ويكيليكس المشير محمد طنطاوي وزير الدفاع المصري، رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي يحكم مصر حالياً بعد تنحي الرئيس حسني مبارك، بأنه من الحرس القديم ومقاوم للتغيير، وقالت صحيفة (الغارديان) الثلاثاء إن السفير الأمريكي في القاهرة فرانسيس ريتشاردوني وصف في برقية أرسلها إلى واشنطن في آذار/مارس 2008 المشير طنطاوي (75 عاماً) بأنه 'كبير في السن ومقاوم للتغيير.. وركز مع حسني مبارك (الرئيس المخلوع) على استقرار النظام والحفاظ على الوضع الراهن خلال مرحلة ما بعد اتفاقية كامب ديفيد، وهما ببساطة لا يملكان الطاقة أو الرغبة أو النظرة لفعل أي شيء مختلف'، وكتب السفير ريتشاردوني في برقيته أن المشير طنطاوي 'استخدم نفوذه في مجلس الوزراء لمعارضة الإصلاحات الاقتصادية والسياسية التي يرى أنها تضعف سلطة الحكومة المركزية، ويشعر بالقلق من مسألة الوحدة الوطنية وعارض مبادرات سياسية لاعتقاده بأنها تشجّع على الانقسامات السياسية أو الدينية داخل المجتمع المصري'، وأضافت الصحيفة 'على الرغم من اعتماد مصر على تمويل الجيش المصري، نظر المسؤولون الأمريكيون إلى طنطاوي على أنه متحفظ حيال ذلك، ورأوا أن الرجل الثاني في المجلس الأعلى للقوات المسلحة الفريق سامي عنان (رئيس أركان الجيش المصري) أكثر قابلية للعلاقات الشخصية'، وأشارت إلى أن الفريق عنان كان في واشنطن عند اندلاع الاحتجاجات في القاهرة، وقالت (الغارديان) إن الفريق عنان 'وجد نفسه في موقع غير عادي، كالشخصية العسكرية القيادية المفضلة من قبل واشنطن وجماعة الأخوان المسلمين في مصر، التي وصفته بأنه غير قابل للفساد ويمكن أن يكون رجل مصر في المستقبل'، ومن الواضح أن المشير طنطاوي سوف يكون عبئا ثقيلا على المجلس الأعلى للقوات المسلحة، في محاولة مستميتة للتشبث بالنظام السابق بحكم السن والتجربة، ولا بد من تغييره كوزير للدفاع في الحكومة المؤقتة القادمة، وبالتالي إحالته للإاستيداع، وبالتأكيد فإن رئيس الوزراء أحمد شفيق يعرف أنه لن يستمر في مكانه، وأنه سوف يرحل لا محالة ليلحق بالذليل المخلوع ليتجرعا معا مرارة 'بونبون' الثورة المصرية المجيدة.

 

روائي مصري