الثورة في لبنان ثورة ألوان

ريما شري

يعيش العالم العربي هذه الأيام، حالة احتفالية غير رسمية قلما يحتفل بها. إنه عيد الثورة الذي يحتفل به العرب بنجاح الثورة التونسية والمصرية مفتخرين بقوة الشعوب العربية وقدرتها على الخلاص من الاستبداد والقمع والفساد، الذي مارسه حكامهم على مدى عقود طويلة. بعد نجاح الثورة التونسية التي تمكنت من خلع الرئيس التونسي زين العابدين بن علي، تمنى كثيرون لو يتمكن الشعب المصري من تحقيق الشيء نفسه، في حين راهن آخرون على صعوبة تحقيق ذلك، لاعتقادهم بأن مصر تختلف عن تونس بسبب قوة نظام الحكم فيها وارتباطاته بجهات دولية، وموقعه السياسي في الشرق الأوسط. ولكن الثورة حدثت وقلبت الموازين وأثبت فيها الشعب المصري أن أبناء الوطن هم من يملون القرار ويحددون النظام ويقررون من يبقى ومن يرحل، ومن يشغل أعلى منصب في الدولة. وبعد نجاح الثورة المصرية التي تمكنت من خلع الرئيس المصري حسني مبارك، تفاءلت الشعوب العربية بواقعية التغيير وامكانية حدوثه.

بلدان عربية كثيرة تتراقص اسماؤها على قائمة الانتظار، في ما تحتل اليمن والجزائر والبحرين والأردن مراكز متقدمة على قائمة الرهانات. كما تشهد هذه البلدان تحركات شعبية ومظاهرات يطالب بعضها برحيل الرئيس والبعض الآخر يطالب بإصلاحات وتعديلات جذرية في أسس النظام. ربما يصعب استبعاد قدرة أي من هذه الدول على تحقيق ثورة جديدة في العالم العربي مهما يبدو الأمر صعبا وبعيد المنال، ومهما حاولت السلطات والجهات الأمنية عرقلة ذلك، خاصة بعد أن اثبتت الثورة المصرية قدرة الشعب على مواجهة أقوى الأنظمة وأكثرها استبدادا، فأصبح المستحيل ممكناً وتشجعت الحركات الشعبية مستلهمة التجربتين التونسية والمصرية ومتفائلة بنتائجهما. ليست ظروف كل البلدان العربية متطابقة وان كان هناك تشابه كبير بينها، ربما، باستثناء لبنان. فهو لا يرد على قائمة الدول المرشحة للثورة والتغيير.
إن استبعاد لبنان من قائمة 'الثورة المنتظرة' لا يدل على أنه بلد سليم يخلو من الفساد الإداري والخلل السياسي والعجز الاقتصادي والفقر والبطالة. ولكنه يفسر 'خصوصية' الأزمة اللبنانية التي يتسابق أطرافها على السلطة بسلاح واحد هو الطائفية. في حرب داخلية كهذه يمكن للثورة أن تتحقق في حالة واحدة، وهي إن توحد الشعب ضد كل الزعماء الذين يترأسون احزابا وحركات سياسية، واجتاز الفتن المذهبية والطائفية التي تغذي الكراهية والحقد بين أبناء الوطن الواحد. ولكن هذه الحالة لا تنطبق على لبنان، لأن الشعب اللبناني، للأسف، لم يتمكن من تجاوز حدود الطوائف ولم يتمرد، حتى الآن، على أمرائها.

ويبدو أن لبنان يعيش من الطائفية وتتغذى وسائل اعلامه على الأخص، وأحزابه والمنتسبون إليها وحتى الداعمون لها من الطائفية. في لبنان، الفرد يلخص بلون (أصفر، برتقالي، أزرق..) أو بتاريخ (8 و14 آذار) أو بمنطقة (الضاحية، طريق الجديدة، زحلة) وتمثله محطة تلفزيون (المنار، المستقبل، الـ MTV) أو صحف (السفير، النهار، الديار، الأخبار المستقبل..).

فأي مكان تأخذه الثورة وسط هذه التعقيدات والفجوات السياسية والنزاعات الحزبية ومن سيقوم بها ولصالح من؟ في لبنان، من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، أن تخترق الثورة التخندقات الطائفية وأن تكون عابرة لها. بالعكس فهو يشهد 'ثورات طائفية' بشكل مستمر تقوم بها طائفة (أو قسم من الطائفة) يدل عليها لون حزب او تنظيم مثل 'الأصفر' (حزب الله) أو 'البرتقالي' (العماد عون) أو 'الأزرق' (الحريري وتيار المستقبل). ويحصل هذا، أيضا، كلما صرح زعيم حزب معين ببيانات تهدد احزابا أخرى، وكلما وقعت أحداث بشأن طائفة معينة، أو كلما اغتيلت شخصية سياسية 'تابعة' لطائفة معينة، أو كلما تعرض لبنان لحرب مع إسرائيل فتلام بعض الجهات على زعزعة 'السلام والاستقرار' الذي يعيشه هذا البلد بحسب اعتقاد جهات طائفية أو حزبية أخرى.

منذ حرب لبنان الأهلية سنة 1975 وحتى الساعة، ولبنان يشهد هذه النزاعات التي لم تحقق لشعبه سوى مزيد من الشحن الطائفي والتخندق الحزبي بين جماهير الزعماء الذين يهللون لقائدهم بغض النظر عن مسيرته السياسية أو تصريحاته أو مواقفه من أحداث معينة. إن أكثر هذه الجماهير لا يدرك أصلاً ما العلاقة المفصلية بين ما يقدمه زعيمها السياسي وما يقدمه زعيم آخر. ان اهتمامها الأكبر يتركز على ضرورة انتسابها إلى حزب معين كي تتمكن من المشاركة في عمليات الشحن المذهبي الذي تشنه وسائل الإعلام اللبنانية التابعة لزعيم معين. ومهما تفوه هذا الزعيم باقوال منطقية أو غير منطقية، يصبح ما يقوله الخيار والمسيرة الأفضل للبنان، بحسب اعتقاد جمهوره. وفي حال غير هذا الزعيم اتجاهه السياسي بشكل مفاجئ إلى اتجاه معاكس تماماً لما كان عليه، فإن جمهوره لا يتأثر بهذا التغير، لا بل يبقى مهللاً له ومتمسكاً بالاعتقاد نفسه الذي يبين صحة ومنطق زعيمهن الأمر الذي يمكن وصفه بـ'التبعية السياسية الأوتوماتيكية'.
وبحكم أني لبنانية، كان لا بد أن انتسب أوتوماتيكياً إلى اتجاه سياسي معين فوجدت نفسي محاطة في ثورة صفراء اللون. فقرأت جريدة 'السفير' وشاهدت قناة المنار وسكنت في مناطق جغرافية ملائمة لهذا المسار، مما ساعد على تأكيد صحة مساري السياسي واندماجي الاجتماعي. وكنت أحياناً أسمع نشرة الأخبار على 'القناة الزرقاء' كي أتهكم على انحيازها السياسي وتشويهها للحقائق ففوجئت بأن اصدقائي محبي اللون الأزرق كانوا يفعلون الشيء نفسه ويتهكمون على قناة المنار وطريقتها في عرض الخبر.

ولكن حين سافرت إلى الخارج أحببت أن أنظر إلى لبنان من بعد وأراقب الأحداث بشكل موضوعي واشاهد كل المحطات وأقرأ معظم الصحف، فأدركت مدى تفكك لبنان وبعد ابنائه بعضهم عن بعض، فحسدت مصر وتونس على وحدة شعبيهما. فكم من الصعب أن يشهد لبنان ما شهدته مصر وتونس في يوم من الأيام. يوم يثور فيه اللبنانيون على كل ما هو ضد مصلحتهم ومصلحة بلادهم، وأن يتفقوا، ولو لمرة، على أمر واحد يعود بالسلام على لبنان وأهله من دون ان يكونوا مقيدين بما يمليه عليهم زعيم أو تنظيم معين. فالشعب التونسي والمصري انطلق من الشارع وهو من اشترط من يبقى ومن يرحل. لبنان بحاجة إلى ثورة فعلية. ثورة يقوم بها الشعب كله ضد التلاعب الحزبي والطائفي الذي يمارسه معظم الساسة اللبنانيين على حساب مستقبل لبنان وأمنه واقتصاده.

ما حصل في تونس ومصر ممكن أن يحصل في لبنان ولكنه قد يبدو مضحكاً ومسلياً. فأثناء الثورة التونسية والمصرية، رفع المتظاهرون شعارات مثل 'الشعب يريد إسقاط النظام' و'الشعب يريد إسقاط الرئيس' وكان معظمهم يتفق على عدم شرعية الرئيس والنظام. ولكن في لبنان الأمر مختلف، فلو فكر اللبنانيون في القيام بثورة شعبية بهدف تحسين اوضاعهم فأي شعار سوف يرفعون؟ الشعب يريد إسقاط من يا ترى؟ أي زعيم بل أي حزب؟ أي طائفة بل أي لون؟ الشعار الوحيد لثورة فعالة في لبنان يجب أن يكون، 'الشعب يريد إسقاط الطائفية السياسية' ولكن هذا يحتاج إلى الكثير من الوقت والجهد لبلوغه. ربما يتوجب على كل لبناني أن يسافر ثم يعود إلى لبنان كي يستوعب أن لبنان بلد واحد وليس 'بلداناً' وكي يستطيع أن ينظر إليه كقوة واحدة وليس كقوى متعددة ومتنافرة. فالثورة لن تحدث طالما الشعب يصر على العيش في 'بلده' الخاص: أي طائفته

 

كاتبة لبنانية