ثورة تونس هي الأكبر لأنها كانت البداية

حديث عن الحرية والفضائيات وطلّ الملوحي

ميساء آق بيق

الصفحة بيضاء أفتحها أمامي، والأحداث كثيرة والأفكار متلاحقة، ولكني لم أعرف من أين أبدأ. أعلم أن الذهول والمفاجأة وهول الموقف كانت جميعا سيدة الأيام الماضية، إذ لم يكن أحد يتصور بعد هذه العقود الطويلة من السبات اللانهائي أن يستيقظ المارد الجبار وتعلو صرخته ضد الطغيان والفساد. هي مصر، أم الدنيا، أكبر دولة عربية حبست الأنفاس وخطفت الأبصار، فالمشهد فيها لم يكن اعتياديا، والناس على اختلاف مشاربهم وأعمارهم وأذواقهم وطوائفهم، تسمروا أمام الشاشات يراقبون لحظة بلحظة ابتكارات وإبداعات خرجت من المتظاهرين المصريين الشباب، من غناء وهتاف وشعارات ومسرحيات هزلية وحتى جلسات الزار، صورة مضحكة وأخرى مبكية، اختلف تصوير محطات التلفزة للمشهد، فنالت كل واحدة منها نصيبها من الانتقاد وعدم الرضى، سواء كانت أجنبية أم عربية أم محلية، وتعرضت طواقم الصحافيين التابعين لعدة محطات إلى الاعتداء والضرب وتحطيم أدوات العمل التفزيوني، أمر مؤسف أن يجد الصحافيون أنفسهم تحت سياط الاعتداءات فقط في الدول العربية، أو بالأصح في دول العالم الثالث، لم نسمع أن فريقا صحافيا تعرض للضرب والاعتداء في أي دولة أجنبية أثناء تغطية احتجاجات أو مظاهرات، وهذا يؤكد أكثر حجم الكبت الذي عاشت في ظله الشعوب فترات طويلة، ويسلط الضوء على رفض الرؤية المختلفة أو الرأي الآخر، وهي ثقافة سيطرت على العقول على مدى الزمن.

وفي ظل كل ما كنا نشاهده أردت أن أقدم اعتذارا شديد اللهجة للأجيال الجديدة التي أخطأت في حقها وقللت من شأنها، اعتقدت مخطئة أن جيل اليوم تربى على الدلع والاستهلاك، يقضي أوقاته في أمور صغيرة لا قيمة لها وتشغله أشياء ليس لها وزن في تحريك الأحداث، وإذ بهذه الأشياء المرتبطة بالثورة التقنية وصفحات التواصل الاجتماعي تشعل نارا لن تنطفئ، هكذا هي الشعوب الحية تجد لنفسها دروبا مختلفة تنظم ثوراتها من خلالها، هكذا جمع الانترنت الشعب المصري فسارت مصر على درب تونس. وعلى ذكر تونس أود أن أتوقف قليلا عند من يعتبرون أن ثورة مصر أكبر من مثيلتها في تونس، ولدي رأي في هذا المجال اسمحوا لي بأن أدلي به وأقول إن هذا ليس صحيحا، لأن الثائرين في تونس عندما انتفضوا لم يكن أمامهم مثل يحتذون به، كان يدفعهم توقهم للتغيير والحرية، ولم يكونوا يعلمون ما ينتظرهم جراء وقفتهم، إضافة إلى ذلك فإن مشهد المتظاهرين في مصر لا شك أنه كان سيذهل العالم، فعدد سكان مصر يبلغ أكثر من ثمانية أضعاف عدد سكان تونس، ومن المؤكد أن الدفق البشري الهائل في ميدان التحرير لا يمكن منافسته، عدا عن أن مصر كانت تتمتع نسبيا ببعض الحرية في المعارضة والصحافة والانترنت والتلفزة، وهو شيء لم يكن ليتوفر في الخضراء، التي لم يكن يوجد فيها مراسل تلفزيوني واحد عدا مراسلي الرياضة، أعتقد أن الرياح كانت تسير مع السفينة المصرية بشكل أقوى من تلك التي أبحرت في تونس، وأعتبر أن وقفة التونسيين كانت جبارة ومهمة بجميع المقاييس، لولا أن بلدهم يعتبر صغيرا نوعا ما ولا يتمتع بالثقل السياسي الذي تحظى به مصر، أي أن أهمية ثورة مصر نبعت من حجم البلد الجيوسياسي والاجتماعي والبشري، وحتى على مستوى قربها من إسرائيل، في حين جاءت أهمية ثورة تونس من ريادتها في بلد عربي شارك إخوته العرب في الرزوح تحت نير الطغيان لزمن طويل، علما بأني لا أقلل مطلقا من قيمة التضحيات التي قدمها الطرفان.

تناقض الإعلام
تحدثت سابقا عن كثرة الفضائيات العربية وتعدد نوعياتها، حتى ظهر البعض منها أثناء أحداث الثورة وكأنه من عالم آخر لا علاقة له بما يجري ولا تمت له الأخبار بصلة، لا يستطيع الجميع بالطبع مشاهدة محطات الأخبار كل الوقت، ولكن تقديم محطات الترفيه صورة مشرقة بعيدة عن الواقع يقع في خانة التضليل، وهؤلاء الشباب المشاركين في برامج الهواة يقدمون صورة مناقضة تماما للشباب الذي حمل راية التحرير، ففي الوقت الذي كان فيه فتيان وفتيات يقومون بتنظيف ميدان التحرير كي يعطوا صورة براقة عن بلادهم وحضارتهم، وآخرون كانوا يضعون إبداعاتهم في خدمة قضية كبيرة، هي تأكيد سلمية تحركهم، فقدموا أروع صورة للمواهب الشابة الواعدة التي تستحق الصعود إلى المجد والشهرة، بدا شباب برامج الهواة في واد آخر. مما لا شك فيه أن المشكلات الاجتماعية التي تشغلنا هي أصل القلق الذي يستولي على الآباء والأمهات لمصلحة أبنائهم وعلى الشباب لمستقبل أكثر راحة وأمانا، ولا ضير من تعريف المشاهدين بهذه المشكلات، لكن المعضلة تكمن في أن بعض القنوات تسلط الضوء على مشكلات غربية بعيدة عن ثقافتنا، الفرق بين البرامج الغربية التي تتعرض لتعقيدات المجتمع ومثيلاتها العربية، هي أن الأولى تقدم المشكلة والحل بطريقة جذابة وخفيفة الظل، في حين نقضي نحن الوقت في برامجنا العربية في أحاديث طويلة تناقش المسألة من ناحية نظرية ولا تملك في يدها مفاتيح الحلول، المسؤولون الغربيون يظهرون جميعا على شاشات التلفزة، يستضيفهم مقدمو البرامج مثلهم مثل أي ضيف آخر، عندما يواجهون بمسؤولياتهم يحملونها على عواتقهم ويقدمون الوعود أمام الجمهور الذي سيسائلهم عن تنفيذها، وسيحاسبهم عن عدم تنفيذها في صناديق الاقتراع عندما يحين موعد الانتخابات المقبلة، الهوة سحيقة بيننا وبينهم، ومن هذا المنطلق قد تكون الثورات المندلعة في أكثر من مساحة عربية هي البداية لتحقيق هذه الصورة التي يطمح إليها كل إنسان حر.

طلّ الملوحي
وبالحديث عن الحرية أجد نفسي أرنو إلى سورية، ففي الوقت الذي تحركت الدول العربية سريعا بعد اندلاع الثورات كي تحدث تغييرات تطمئن الشعوب وتشعرها بالأمان وتفتح أمامها فضاء أوسع من الحرية، ضاق فضاء الانترنت الواسع بفتاة في عمر الزهور، المدونة الصغيرة طلّ الملوحي، كلمة طلّ تعني ندى الصباح وهذه الفتاة التي تبدو كندى الصباح المحتجزة منذ عامين، وجدت نفسها بين القضبان بحكم محكمة لمدة خمس سنوات مقبلة، يعني أنها بدلا من أن تبني مستقبلها بالعلم والدراسة حكم على مستقبلها بالدمار وهي في مطلع العمر. أتخيل أن لدى من اعتقلها واحتجزها وحاكمها وحكم عليها جميعهم عائلات وأبناء وبنات، ويصعب علي أن أتصور كيف لم يروا صورة أبنائهم في وجه طلّ، وأجد نفسي أمام تساؤلات كثيرة مشروعة: كيف يمكن أن تتعاون فتاة في التاسعة عشرة من عمرها مع أجندات خارجية أو تكون لها صلات مشبوهة؟ وكيف يتجه العالم كله للانفتاح حتى يبدو كقرية صغيرة في عصر الثورة التقنية، في حين يضيق الفضاء بفتاة في المرحلة الثانوية، أحبت أن تعبر عن أفكارها كتابة في مساحة خاصة بها تحمل اسمها لا تحرض على خيانة الأمانة ولا تدعو للابتعاد عن هموم الوطن.

كنت دائما على ثقة في أن الرئيس السوري الشاب أقرب إلى أبناء وطنه من أي رئيس آخر، وهو المحب للانترنت والكمبيوتر وفضاءات الحواسيب، وهو الذي كانت له الريادة في ربيع دمشق، وهو الذي يتحدث بكل ثقة عندما يترجم كلمات شعبه، وكنت دائما أتطلع بعين الإعجاب إلى النشاطات الاجتماعية والإنسانية التي تنخرط فيها زوجته السيدة أسماء من رعاية ذوي الاحتياجات الخاصة والمسنين والأطفال والبيئة ومن العمل على إظهار صورة الوطن بأجمل وجه، ومن هذا المنطلق لا أدري لمن سأتوجه بالرسالة المباشرة إذا لم أتوجه إليهما بالمناشدة والرجاء لإحاطة هذه الشابة البريئة بلمسات الرعاية والرحمة، ولإدخال السعادة على قلبي والديها المنفطرين على ابنتهما التي لا أعتقد أنه سيكون بإمكانها إمساك الورق والقلم أو جهاز الكمبيوتر بعد هذا الخوف الذي عاشته وجعلها تكبر مئات الأعوام، لقد كانت سورية دائما رمزا للكرامة ومهدا للعلم، سورية التي أرسلت مدرسي اللغة العربية إلى الدول التي استقلت متأخرة، والتي أنجبت نزار قباني وشعراء وكتاب آخرين لن تضيق بلغة الأدب والشعر، وحتما لن تكون فتاة لم تبلغ العشرين من عمرها تهديدا لأمنها واستقرارها. اللهم هل بلّغت؟ اللهم فاشهد.

 

كاتبة وإعلامية سورية