مواجهة الاستبداد

أحمد بلخيري

إلى جابر عصفور

استوحيت هذا العنوان، مع تعديل جوهري، من كتاب جابر عصفور "مواجهة الإرهاب"، الذي تضمن "قراءات في الأدب العربي المعاصر". ينطوي العنوان على حمولة فكرية، يتبين من متن الكتاب أن الإرهاب محصور في نطاق معين، دون اعتبار الاستبداد، أيا كان مصدره، إرهابا. انطلاقا من معنى ضيق لمفهوم الإرهاب، حلل جابر عصفور في كتابه السابق الذكر "منمنمات تاريخية"لسعد الله ونوس. مما جاء في تحليله لهذه المسرحية:"يتحرك علماء وأعيان يبحثون عن المناصب والوجاهة والغنيمة، فينتهي الأمر بالجميع إلى كارثة السقوط أمام جحافل المغول التي لها طوفان الفساد في الداخل، فالهزيمة بدأ دائما من داخل". و"تحالف هؤلاء العلماء مع تجار الزور وحكام الجور، وتآمروا جميعا على العامة الذين حرموا عليهم أحلام العقل والعدل والحرية". رأى جابر عصفور أن مسرحية "منمنمات تاريخية"تنطوي على نظرتين متناقضتين. كانت النظرة الثانية "قرينة المستبد الظالم الذي لا يرعى مصالح الجماعة ، ويقدم مصالحه الخاصة ، ويسوس الأمة سوس الأنعام، مميزا بين طوائفها، نافيا عن المخالفين له حق المواطنة".

وعن قناع ابن خلدون في المسرحية المذكورة يقول:"لقد سار في ركاب أمراء وسلاطين لا يستحقون أن يكونوا حذاء لتيمور، فيما يقول القناع في المسرحية، وآن الأوان لأن يفيد من علمه البارد الذي يبحث له عن الثمن المناسب في أي مكان.  ويفرح ابن خلدون بصحبة الطاغية الجديد ويلح عليها". لا أريد أن أسترسل في تقديم استشهادات من تحليلك لمسرحية "منمنمات تاريخية"لسعد الله ونوس. لكنني أسألك: بماذا تصف حاكما يلعب ببنود "لدستور"ليجعله على المقاس؟ بماذا تصف حاكما جاء إلى الحكم صدفة وليس بإرادة شعبية، وحكم شعب مصر حكما استبداديا طيلة عقود ثلاثة، حيث يتم تعيين، وادعاء الانتخاب،  من يسمون ممثلي الشعب؟ بماذا تصف حاكما يخنق أنفاس المثقفين الأحرار ويقدم فتات الموائد وفضلاتها لمثقفين يجعلون مصلحتهم الخاصة فوق كل اعتبار؟ بماذا تصف حاكما جعل وسائل إعلامه وسائل للتضليل،  وحجب الحقيقة،  والدعاية الفجة، والإقصاء؟ بماذا تصف حاكما قطع عن "شعبه"وسائل التواصل الإلكترونية؟ بماذا تصف حاكما تحدى شعبا يتظاهر في الشوارع بالملايين، ومن مختلف الأعمار، ذكورا وإناثا، إرضاء لتعطشه للسلطة،  زاعما أنه ليس طالب سلطة؟ بماذا تصف حاكما يخير "شعبه"، في تهديد مكشوف، بين الاستقرار وبين العنف أي بين القبول به حاكما أو قتل الشعب؟ بماذا تصف حاكما قمع، وبعنف، آلاف المتظاهرين سلميا في ميدان التحرير بالقاهرة؟ بماذا تصف حاكما أطلق العنان لعصاباته المسلحة (البلطجية) بعد خطابه المستفز مباشرة لتنال من أجساد المعتصمين،  ليلا،  بميدان الشهداء بالأسكندرية؟ بماذا تصف حاكما ينطلق من هذه الثنائية:أنا أو الشعب؟ بماذا تصف حاكما واجه شعبا عبر عن رأيه بطريقة سلمية وحضارية بآلة القمع؟ بماذا تصف حاكما يأتمر بأوامر "مغول العصر"ولا يستمع إلى نبضات الشعب، ويقدم مصالحه الخاصة، ويسوس الأمة سوس الأنعام، مميزا بين طوائفها، نافيا عن المخالفين له حق المواطنة"وفق ما كتبت في كتابك؟. و بماذا تصف حاكما فقد الشعب ثقته فيه، وعبر عن ذلك بوضوح،  بسبب الخداع المستمر؟ وبماذا تصف حاكما استند لتبرير بقائه في السلطة ستة أشهر أخرى، بعد ثلاثين سنة من الحكم!، وفي خريف العمر،  على ما سماه الشرعية،  المطعون فيها،  دون سماع صوت الشعب؟بماذا تصف حاكما يمرغ كبرياء الشعب في التراب إرضاء لحالته النفسية؟.  أليس هذا الحاكم مستبدا؟. بلى.

وما هي الصفة التي يمكن أن تصف بها مثقفا سار في ركاب حاكم تلك صفته؟هل هو ضمير الشعب؟. استفت ضميرك. إن موقفك المخزي لا يشرف المثقفين الأحرار ضمائر الشعوب. السيد جابر عصفور، لقد قرأت كتابك المشار إليه سابقا، وغيره، وكنت أحترمك وأقدر اجتهادك النقدي. لكن موقفك الأخير المساند لحاكم مستبد جعلني أغير رأيي تماما. و أدى موقفك هذا إلى أن تتغير، في ذهني،  مدلولات مفاهيم العقل والعدل والحرية،  وما يدخل في نطاقها، في كتابتك. لقد حدد معانيها الجديدة،  في كتابتك،  بحثك عن" المناصب والوجاهة والغنيمة"حسب قولك. ومع الأسف،  إن أمثالك كثيرون في العالم العربي. ينددون بالاستبداد ويقتاتون من فضلات موائده، يدعون إلى الحداثة ويتصرفون تصرف عتاة التقليد، يتشدقون بالاختلاف ويمارسون الإقصاء، يدعون إلى التنوير ويمارسون التعتيم.

السيد جابر عصفور، إن الاستبداد إرهاب كذلك وليس مقصورا على المعنى الضيق الذي حصرته فيه. والإرهاب عموما، ومنه الاستبداد، عدو للإنسانية، وعدو لكل القيم الأصيلة. والمثقف الحر النزيه هو من يقف ضده. أما عن المثقف الذي يخدم الاستبداد فأدعوك إلى قراءة كتاب "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد"لعبد الرحمن الكواكبي لتعرف منزلته، أي هذا المثقف،  عند المستبد. قد تكون قايضت موقفك بصفقة. و"بقدر الصفقة تأتي العقلنة التي تقوم بتحسين السقوط، ، ومن منطلق المنفعة الفردية يأتي التبرير الذي يستبدل حلما بحلم"كما جاء في كتابك. والاستبداد يسرق ويقتل أحلام الشعوب. فها أنت تساهم، بموقفك هذا،  في قتل الشعب المصري وسرقة أحلامه، ولن ينساه لك هذا الشعب الطيب أبدا. وعليك أن تعتذر لسعد الله ونوس، وغيره،  لأنك قمت باستغلال مسرحيته لتلميع اسمك.   

 

باحث مسرحي من المغرب