الإعلام السمعي البصري العربي والثورة

الفضائيات رفعت الغطاء عن حقيقة الانظمة فبدأت «عروض» الجماهير

محمد الحجلي

تبدو لي الشعوب العربية وهي تتابع هذه الثورة العربية العظيمة في هذه الأيام التاريخية باهتمام بالغ، عبر وسائل الإعلام، خاصة شاشات التلفزيون، وبشكل أخص، القنوات الإخبارية المختصة، وتناقش ما يجري من أحداث بحماس شديد، تماما كما يتابع الجمهور عرضا فنيا شيقا وعميقا يثير النقاش (فيلم سينمائي أو مسرحية). أقول تماما لأن العرض الفني الذي يعرض في فترة وجيزة، هو نتيجة لمجهود كبير ومضن أخذ من منجزيه داخل الكواليس، أضعاف أضعاف مدة العرض، بينما العرض الذي تتابعه الشعوب العربية، على مدى أيام، هو أيضا نتيجة لمجهود كبير تم بذله على مدى سنوات طوال. وأقول تماما أيضا لأن الثورة المصرية اندلعت في الوقت الذي وصلت الثورة التونسية نهايتها، أو كادت، وكأن الشعب المصري انتظر فقط وصول الثورة التونسية (العرض التونسي) إلى المحطة النهائية، بتحقيق أهداف الشعب التونسي، ليطلق العنان لثورته في بلده مصر. وأغلب ظني هنا أن بقية الشعوب العربية هي الآن متسمرة أمام التلفزيون تتابع العرض المصري، وتنتظر فقط نهايته، لتتفرغ للقيام بثورتها هي أيضا، وكأن المسألة فيها تناوب .. تناوب في (عروض) الثورة العربية. فأين يكمن هذا المجهود الذي تم بذله على مدى سنوات طوال؟ قبل الإجابة على هذا السؤال، لا بد من التذكير بما يلي:

تمثل حرب أكتوبر 1973 التي انتصر فيها الجيش المصري على الاحتلال الإسرائيلي بمشاركة الجيوش العربية، ذروة مرحلة يتطلع فيها العرب إلى تحرر واضح، إن لم نقل ان هذا التحرر بدأ يتحقق أنداك، وبدأ معه تنامي الشعور القومي العربي في عهد جمال عبد الناصر، رغم هزيمة 1967، بينما تمثل اتفاقية كامب ديفيد 1976، بداية انحدار من هذه الذروة، وتراجع هذا الشعور القومي، إن لم نقل ان العرب شعروا بالخزي والإهانة من هذه الاتفاقية، وتقوى هذا الشعور بزيارة الرئيس المصري أنور السادات للكنيست الإسرائيلي في القدس المحتلة. منذ ذلك التاريخ، كانت الشعوب العربية تجتر خيبات وانكسارات وهزائم، وزادت أوضاع الشعوب العربية تدهورا وترديا، مع تفاقم أمراض اجتماعية واقتصادية، واتسعت الفوارق الطبقية بين أصحاب السلطة والمال، والفئة الفقيرة من أبناء الشعب، وأخذت هذه الشعوب تفقد ثقتها في قياداتها، ليس فقط بسبب هذه الأمراض، ولكن لأن هذه القيادات تخلت عن مبادئ القومية، والاعتماد على الذات، وارتمت في الحضن الأمريكي. وتجلى هذا الانحدار وهذا التراجع في مجموعة محطات من أهمها: الغزو الإسرائيلي للبنان، وخروج المقاومة الفلسطينية منه سنة 1982..هزيمة العراق سنة 1991.. اتفاقات أوسلو 1993.. غزو العراق واحتلاله سنة 2003.

أمام هذا الواقع الذي وسع الشرخ بين الشعوب العربية وقياداتها، انقسم الفكر العربي ـ والفكر السياسي منه خاصة، إلى فئتين تقريبا: إحداهما انحازت إلى الشعوب، فكانت واضحة، بينما الأخرى التبس عليها الأمر، واختلط عليها مفهوم النظام بمفهوم الوطن، فانحازت إلى النظام وحكامه، معتقدة أنه انحياز للوطن. هذا الالتباس دفع البعض من هذه الفئة الأخيرة إلى التمادي في هذا التوجه، فلم تكتف بمحاباة الأنظمة العربية، ومباركة سياساتها الفاشلة، ولم تكتف حتى بمباركة السياسة الأمريكية تجاه العرب، وإنما تحولت إلى بوق دعاية لها، بل والأكثر من هذا، توغلت في هذا الاتجاه حتى الحضيض، وأصبح البعض منها مرشدا للأمريكيين لاحتلال العراق. هل هناك دناءة أكثر من هذه؟.. هكذا برز على السطح مفكرون عرب ينظرون إلى الشعوب العربية كمجرد قطيع من البشر المتخلف، يقوده الأمريكيون، أو هكذا يجب. من بين هؤلاء: فؤاد عجمي وكنعان مكية ومأمون فندي.

ولكن إذا كان الوطن العربي ما بين 1978 (كامب ديفيد) ويومنا هذا شهد كل هذا التردي المتزايد على كل صعيد، إلا أن هناك من العرب من استفادوا في هذه الفترة، من الثورة التي عرفتها وسائل الإعلام والاتصال الجماهيري، وخاصة البث التلفزي الفضائي .. وكأن هذه الثورة أصبحت بمثابة المنقذ لهذه الأمة. هكذا تأسست قنوات إخبارية عربية مختصة، ابتداء من سنة 1996، ومن دون الدخول في مقارنة بين هذه القناة وتلك، إلا أننا شاهدنا على العموم، إعلاما تلفزيونيا عربيا حرا ومستقلا وبمهنية عالية، وبعدا توجيهيا مؤثرا وفعالا استطاع أن يوصل خطابه إلى وجدان الجماهير العربية، وبروز هذا الخطاب الإعلامي العربي بهذه القوة والفعالية، أمام واقع عربي غاية في التردي، لا يبدو لي الأمر غريبا أن يكون مرفوضا - على نحو يثير الضحك ـ ليس فقط من طرف الحكام العرب، بل أيضا من طرف إسرائيل (جزيرة الديمقراطية والحرية وسط محيط من الأنظمة الاستبدادية) كما تقدم نفسها، والتي تعول كثيرا على هذه الأنظمة للضغط على شعوبها ومن طرف الولايات المتحدة الأمريكية (رائدة العالم الحر). فالأمر ليس غريبا لأن هذا الثالوث، إسرائيل، الولايات المتحدة والحكام العرب، هو المستفيد من هذا الواقع العربي. فبروز هذا الإعلام بهذه القوة، من داخل مجتمع يعاني من تدهور مهول، لا غرابة أن يكون مثيرا للجدل بهذه القوة.

إن الجرأة التي يتم بها تقديم بعض الأخبار في الإعلام العربي الحر والمستقل، خاصة الأخبار التي تمس مباشرة الحكام العرب، أو رجال السلطة عامة، أو المثيرة لحفيظة الأنظمة العربية، إضافة إلى الصيغة التي تصاغ بها هذه الأخبار، ثم الصور المعبرة المصاحبة لها، وأيضا النقاشات والحوارات التي يتابعها الجمهور العربي يوميا على الشاشة، التي تدار بشكل توجيهي غير مباشر، والتي تدور في الغالب بين رأي مؤيد لهذه الأنظمة، ورأي معارض لها، بحيث يفسح المجال لمرور بعض الآراء الممنوعة في التلفزيون الرسمي، كل هذا، وعلى طول هذه المدة من 1996 - حيث أنشئت أول قناة إخبارية عربية - إلى الآن، يعد ـ في نظري ـ بمثابة الإعداد لما نشاهده الآن من مشاهد ثورية للشعوب العربية على هذه الأنظمة، التي فرضت عليها أن تعيش طوال هذه العقود تحت رحمة القمع، في الوقت الذي تلبي فيه ما تطلبه الولايات المتحدة والغرب عموما، وحتى ما تطلبه إسرائيل. رغم كل الجهود التي بذلتها الأحزاب اليسارية والمعارضة، والتي بح صوتها وهي تخاطب الجماهير منذ عقود لتغيير هذه الأنظمة، بأنظمة ديمقراطية، إلا أن الملاحظ، أن رجل الشارع العربي هو الذي يقود الآن هذه الثورة.

هذه الثورة التي اندلعت في تونس وتمر الآن بمصر وهي في طريقها نحو بلدان عربية أخرى، لم تقدها الأحزاب اليسارية والمعارضة، وإنما أطلقت شرارتها الشعوب العربية، وهي التي تقود نفسها بنفسها الآن، فهذه الشعوب عاشت منذ ما يقرب من أربعة عقود في حالة سخط وغضب من أنظمتها، ولكن بدون وعي أو جرأة. وجاء الإعلام السمعي البصري العربي الحر والمسؤول، فحقق تواصلا جماهيريا واسعا جدا، فلا غرابة أن تكون مثلا قناة الجزيرة عند انطلاقها، هي القناة الأكثر مشاهدة من بين كل القنوات العربية الأخرى، بما فيها من قنوات المنوعات والترفيه. ولم تحقق التفوق عليها الآن، إلا القنوات التي تعرض الأفلام الأمريكية، التي يملكها ـ نسبيا أو كليا ـ سعوديون. وكان للانترنت، خاصة موقع ويكيليكس الذي تعامل فقط مع قناة الجزيرة والبي بي سي 4، من بين كل قنوات العالم، كان له دور كبير في فضح هذه الأنظمة. كما كان لموقع الفيس بوك والهاتف المحمول، دور مهم في عملية تنظيم المظاهرات.

فهذه المواد الإخبارية والإعلامية، من أخبار وصور ونقاشات وحوارات تابعها المشاهد العربي في الإعلام السمعي البصري العربي، على مدى سنوات طوال، هو الذي رفع الغطاء عن حقيقة هذه الأنظمة وسياساتها وحرك هذه الشعوب نحو الثورة.
هذه الشعوب لم تنطلق من فراغ

 

ناقد سينمائي وتلفزيوني من المغرب
elhamedd@hotmail.com