الطريق إلى ميدان التحرير

أحمد عبد المنعم رمضان

28 يناير 2011 - جمعة الغضب
جلست على رصيف شارع التحرير , كان الشارع خاليا تماما من حركة السيارات المتداخلة ورائحة العوادم المعتادة وإن امتلأ بروائح غازات أخرى, هذا الشارع الذى لم يخل من السيارات بهذا الشكل المهيب من قبل, كما لم يمتلئ بالأنفاس البشرية والأرواح الحية بتلك الأعداد الضخمة. الشمس توارت خلف غيوم كثيفة , البعض يجلس بجوارى , مفرود الساقين أو حتى القرفصاء , تلطخ الأتربة ملابسنا, منكوش شعرنا ومتقطعة أنفاسنا. البعض مازال واقفا على قدميه متحديا, والبعض الآخر جرى بعيدا. كنا مئات الألاف منذ لحظات, أما الآن فقد انهار عددنا لأقل من الربع. رائحة الدخان مازالت تعبث بأنوفنا , وكل منا يمسك بمنديله أو يربط كمامته مغطيا أنفه اللامعة احمرارا. العيون كلها دامعة, ولكننا لسنا بباكين , وجوهنا بطعم البيبسى وأنوفنا بطعم الخل. كنا من لحظات نقف وجها إلى وجه الجنود المتراصين بملابسهم السوداء القاتمة, ونحن نرتدى ملابسنا متباينة الألوان, الشارع يضج بكل الألوان الملتحمة. وقفنا وجها لوجه, لا ندرى شيئا عن مصائرنا. قنابل الغاز تنهمر علينا بغزارة مفرطة, الكل يمسك بأنفه, لم نعد نرى شيئا من خلف ستائر الدموع... تمتد يد أنثوية بزجاجة بيببسى وصوتها يلهث " اغسل وشك بالبيبسى , بيودى أثر القنابل ", فأفعل , وتأتينى يد أخرى بقطعة بصل لأنها تداوى العيون, وماألبث أن أفيق حتى اتلقف قنبلة أخرى بالجوار, تنهمر على أثرها دموعى وتتلاشى رؤيتى, يحترق حلقى وتتقطع أنفاسى, فتمتد يد سمراء بمنديل مبلول ببعض الخل, أنا لا أرى الوجوه, فقط الأيدى... قنابلهم كثيرة لا تكاد تظنها انتهت حتى يفاجئوك بغيرها... هل هذا ما تدفعون فيه أموالنا ؟؟

أثناء محاربتنا لغازاتهم وهم يتراصون على كوبرى الجلاء الجاثم فوق النهر, (التحرير.. الجلاء.. من اختار تلك الأسماء وكأنهم يوجهوننا ؟؟) , كان البعض يحاولون التسلل من على جوانب الأمن المتربص , فينصب لهم رجال الأمن الكمائن ويتصيدونهم واحدا تلو الآخر, وقفنا بثبات وعزيمة لا يقهران فى شكل صفوف متوازية , كل يمسك بيد من يجاوره , قبضت على يدى شخصين لا أعرفهما عن يمينى وعن يسارى , بعد أن تاه منى صديقاى,  صنعنا من أجسادنا سدودا متماسكة متحركة. تفاجأنا بحركة السيارة قاذفة القنابل بشكل مباغت, وهى سيارة ضخمة باللون الزيتى المميز لسيارات الأمن, انطلقت مسرعة متأرجحة بين أجسادنا وهى تكاد تدهسنا بينما نترامى على جنبات الطريق.

بعد هروب السيارة الأمنية, خلا الكوبرى – الجلاء- من فلول العساكر ,فصحنا صيحات النصر وتقدمنا مخترقين النهر بخطى مترقبة, وعيون عادت للإبصار وأنفاس بدأت بالانضباط , الجموع تعبر الطريق بالآلاف والكل عازم ومصر, الكل واثق أو يبدو كذلك... حتى ظهر لنا بالأفق تمركز آخر من تمركزاتهم. الجنود يقفون بالثبات نفسه مثل سابقيهم, أو قد يكونون أنفسهم , المشهد يبدو مكررا, وأعدنا المعركة بالتفاصيل نفسها, كل بدوره , القنابل , الدموع , البصل , البيبسى , الاختناقات والأيادى الممتدة. حتى ظهر اللون الأحمر بالأجواء وبدأ الدم يطهر الطرقات, بدأت الطلقات فى العبث, العيون تتطاير والصدور تخترق والأذرع تتهشم. ما أكاد أفرغ من النظر إلى مصاب محمول على سواعد أربعة رجال حتى يلحق به آخر, لا نعرف هل هو حى أم ميت , ضربات قلبى تلاحقهم والغازات تمنعنى من التحقق من ملامحهم. الحنق والغضب يمتزجان بالخوف والشجون. وقفنا لنصلى, امتزجت رؤوسنا بأسفلت الطريق وكأننا نقبله... الأرض تهتز تحت جباهنا ,وشفاهنا تتمتم بدعواتنا الراجية. لم تمنعنا جموع المصابين المتساقطين من الصمود بأماكننا, أحب أن أكون بطلا  ولكننى لم أكن بطلا لهذا الحد , كثيرا ما خشيت من الطلقات المترامية والدماء المتطايرة فتقهقرت خلف بعض الجموع , محافظا على موقعى بمنتصف الحشود. فاض الكيل ببعض من الضباط , فانطلقوا بشاحناتهم الضخمة التى تشبه السجون المتحركة , تقدموا نحونا وكأنهم سيدهسوننا , وهو ليس مستغربا بتلك اللحظة , فهرولنا جميعا متقهقرين للخلف , ركضنا سريعا , وتشتت جموعنا.

الآن, أجلس على قارعة الطريق, بعد أن عدت لألاقى أحد صديقى اللذين فقدتهما منذ ساعات, أما الآخر فلم أجده, سأعلم غدا أن طلقة أصابت ساقه. صورة الطاغية العجوز لاتزال تطالعنى بالشوارع والميادين, جمود وجهه وابتسامته المصطنعة, كنا قد تفتتنا وتناقصت أعدادنا ووهنت أجسادنا, النجوم والمشاهير يجلسون بين الفقراء والمكبوتين, لا يلاقون ما اعتادوه من تهافت وترحاب, الكل واحد الآن..., أغلبنا قضى معظم حياته على المكاتب, يطالع صورته متأففا بكل صباح , طالعتها وأنا طفل بالمدرسة وأنا طالب بالجامعة وأنا أعمل بالحكومة, نحن لسنا محاربين, أكثر مجهود بذلته فى حياتى هو لعب الكرة ,وأكثر خطر تعرضت له هو تسلق سانت كاترين ,وأكثر هم حملته هو نتيجة امتحان آخر العام... والآن, أنا بميدان معركة حقيقى, أواجه قنابل خانقة , وأسمع أصوات الطلقات , وأرى الدماء وهى تسيل.

بينما أجلس على أحد الأرصفة المتواجدة بمنتصف الشارع سأل بعضنا البعض بعدما قطع عنا الديكتاتور وسائل الاتصال , الهواتف المحمولة و الإنترنت, وعاد بنا عقودا للوراء, هل يعلم أحد بما نعمله الآن ؟؟ هل تتابعنا الكاميرات والفضائيات ؟؟؟ هل يرانا العالم ويسمع صوتنا؟؟ هل يشعر بنا من ببيوتهم, هل وصلهم صوت غضبنا؟؟ هل كنا واضحين بما فيه الكفاية, هل هناك من يتظاهرون بمكان آخر؟؟ هل يضربون, يقتلون, يعتقلون ؟؟ هل تقهقروا وفروا ؟؟ هل صمدوا ؟؟ هل نذهب إليهم ؟؟ هل سيأتون إلينا؟؟ هل هززنا العالم ؟؟

دب صوت ضجيج مفاجئ بين المتظاهرين من حولى, التفت إليهم فوجدت بعضهم يصفق والآخر يقفز فرحا , ترتسم على وجوههم المكفهرة علامات بشر وابتسامات بريئة, فانتصبت من جلستى , نظفت بنطالى بشكل تلقائى , تسلقت فوق بعض الأكتاف لأرى ما يرون, رأيت حشودا من الناس تتقدم نحونا , لا ألمح آخرها ولا أستطيع تقدير عددها, يزحفون نحونا بحماسة وعزيمة لا تهزمان, امتزجت أنفاسنا بأنفاسهم وتداخلت هتافاتنا , وتقدمنا سويا بأرواح محلقة وبخطى ثابتة وبأيد متشابكة نحو الميدان, ميدان التحرير.

11 فبراير 2011
أثناء توارى الشمس باليوم الثامن عشر من ثورتنا على الطغيان, خرج علينا الرجل الضخم بصلعته المهيبة, بنظرة منكسرة غير معتادة, تكلم لمدة ثمانى وعشرين ثانية, وأبلغنا بصوته أحادى النبرة أن الطاغية قد تنحى, قد رحل , قد سقط , قد ذهب , قد انتهى وإلى الأبد.

12 فبراير 2011
نمت مليا بعد احتفالات ليلة أمس, بعد أيام من التوتر والاضطراب, استيقظت متأخرا, تثاءبت فى سريرى, ابتسمت, أزحت الغطاء عنى وبدأت يوما جديدا لم أره من قبل.

هامش:
قلما يحيا الإنسان تلك اللحظات, قلما يشعر بهذا الفخر والزهو, ويود أن يقول لكل من يقابله أو سيقابله فى سائر حياته أنه شارك فى صنع هذا... لقد شاركت فى يوم 25 يناير, يوم الانطلاقة, لقد شاركت بجمعة 28 يناير, نقطة التحول, لقد شاركت بتظاهرتين مليونيتين وأخريين أقل عددا... لقد شاركت فى ثورة 25 يناير ... لقد شاركت فى صناعة التاريخ.