فلترقصوا لأننى أريد أن أغنى

عبدالمنعم رمضان

لم أستطع أن أوقف سيال دموع انفعالاتى، وأنا أهتف، وعندما قابلنى علاء عبدالهادى داخل المظاهرة احتضننى وبكى معى، منذ تلك اللحظة التمست طريقا جديدا للخلاص. كنت دائما أحب يوم الإثنين أكثر من سواه، إلا أن الثلاثاء فاجأنا بجمال لم تتحدث عنه الكتب، أعترف أن الكتب أصابتنى بما يمكن أن يصاب به شخص ممسوس، وأعترف أن بعضها علمنى أن الواحد منا يمكن أن يثق ويطمئن بمن يعترف أمامه أنه يخاف، لأن الخائف سيبقى فى مكانه إلى النهاية، حتى ولو صار وحيدا، أما من يزعم البسالة وعدم الخوف فاعلم أن فراره قد يكون مع أول انكسارة للحلم، مع أول صفارة إنذار، مع أول نجمة تسقط على الأرض، كانت الكتب قد علمتنى ذلك، لكن ميدان التحرير حمل جرار هذه المعرفة من بئرها العكرة إلى بئرها الصافية، فأصبحت معرفة جسدية، معرفة من لحم ودم، فى ظهيرة اليوم الذى تنحى فيه الديكتاتور، قابلت المخرج محمد كامل القليوبى، قال لى: ماذا يريد هذا الرجل، كان يمكن أن يرحل فى اليوم الثالث، أجبته، لو فعلها لصارت الثورة ثورة تافهة، فالوقت الذى يخيفنا لأنه قد يغطى وجه الثورة بالتميع والفتور والانصراف، هو ذاته الوقت الذى يلزم لتجذير وعى الثورة، وإشاعته، وإصابة قطاعات جديدة بعدواه، كلنا كنا خائفين، قالت لى فريدة النقاش إنها خائفة جدا، وأنها تتصور أن انشقاقا ما فى الجيش قد يتسبب فى احتراب داخلى، المخرج الشاب عماد إرنست سألنى: هل نحن مع الجيش أم الجيش معنا؟ بلغة أخرى: من يستخدم من؟

كلنا كنا خائفين، عزالدين نجيب وصلاح عبدالسيد بادلانى الخوف، فى الليل تنحى الرجل الكبير وشعرت أن مؤامرة مقصودة وغير مقصودة قد رأت فى تنحيته توقيفا للوعى الثورى عند حد معين، قبل أن يتمادى جدا ويكسر الحدود، إن هذه المؤامرة كانت محكومة بالخوف من زيادة جرعات تجذير الوعى الذى حتما سينتقل من الطور الذى بلغه إلى أطوار وآفاق لن يقبلها العسكر والبرجوازيون المترفون والأمريكان وقادة أحزاب أوراق السوليفان، وأحلافهم جميعا، لقد انتصرت الثورة ولكن السؤال الذى هو عرق الثورة الآن، لمن نقلت الثورة السلطة المنتزعة من الديكتاتور، فى أيام 9، 10، 11 فبراير انقبض قلب الطبقات الحاكمة القديمة، وانقبض قلب ورثتها، وأصبحت القلوب تترنح بين فراغ موحش، وفزع مقلق، كانت الكتب والخبرات الصغيرة قد علمتنى أن الانتهازيين يملكون قرون استشعار فائقة الحساسية، هذه القرون تحدد لهم اتجاهات الريح، وبالتالى اتجاهات خطواتهم، وأنهم، أعنى الانتهازيين، إذا انتقلوا من معسكرهم الذى ينتمون إليه إلى المعسكر الجديد، فهذا يدل على أن الجديد ينتصر، وهكذا ومنذ أول يوم للثورة، رأيناهم يؤيدون السلطة الحاكمة ويدعمونها، ويصفونها بحكمة السيد الرئيس، ويصفون خصومها بثقافة الانحدار التى فقست بيضتها وخرجت منها جموع الشباب، ثم انقلبوا فى آخر أيام الثورة، ورأيناهم ينصرفون عن السلطة الحاكمة بالاستقالة أو التنديد أو النيولوك، صغار فى الذهاب، صغار فى الإياب، انصرفوا يمتدحون فتوة الشباب وحيويتهم، الانتهازيون بقدرتهم على الانتقال من النقيض إلى النقيض، أجبرونى على النظر بإعجاب إلى ثبات محمد حسنين هيكل، ثباته الواعى الذى يختلف عن جمود غيره،

عندما استمعت إلى محمد حسنين هيكل سواء فى حواره مع فهمى هويدى، أو مع السيدة منى الشاذلى، صفقت بيدى، وغمرتنى الدهشة، فالرجل أفكاره أسرع من كلماته، حتى إن عباراته لا تكتمل، مما يجعلها ممتعة للأذكياء، مؤلمة ومهينة للأغبياء، أظن أنه كان يعذب الديكتاتور فى لقاءاتهما القليلة، لكننى أيضا شعرت أن هيكل، صاحب اللغة والأسلوب، يطل علينا من نافذة غير النافذة التى يحاول أن يطل منها الشباب، هل تعرفون قصيدة النثر، إنها قصيدة بغير معايير، بغير خريطة، بغير تصورات، حتى قصائد النثر السابقة لا تصلح دليلا لقصيدة نثر جديدة، لا تصلح دليلا لقصيدة نثر جماعية، هيكل يرسم رسما كروكيا للمستقبل، رسما محبوكا رغم أنه كروكى، والشباب يكتبون الثورة على هيئة قصيدة النثر، وميزة قصيدة النثر التى هى عيبها أنها مفاجئة، أنها بغير تدبير محكم، أنها بدون أبطال، وأن سحرها لا يمكن تعلمه، وثورة الشباب تتميز بتلك الميزة التى يمكن أن تكون مقتلها، إنها ثورة ضد الأبطال، سيقف هيكل فى نافذة دريم، أو نافذة الجزيرة، أو نافذة بيته، ويعلن خبراته ومعارفه التى نقدرها كثيرا، لكن الشباب سيبحثون عن جدار آخر، ربما هو الجدار الخلفى لدريم والجزيرة وبيت هيكل، ويثقبونه، وما إن يتسع الثقب سيطلون منه على عالم جديد، وسوف يفكرون فى الخطوة التالية أن يقفزوا خارج الثقب، أسوار هيكل متعة عقلية بحق، وقفز الشباب خارج الأسوار قوة حياة أيضا بحق، أقر أننى لم ألحق بالميدان فى اليوم الأول للثورة، ذهب ابنى وانتظرته، وفى اليوم التالى حكى لى عن مشاركته فى معركة شارع القصر العينى، وحكى لى عن إعجابه المفرط بعمرو واكد، وعن اختناقه غير التام بغازات الدموع، وتوقعت أن أمر المظاهرات قد يستمر ليوم أو يومين آخرين، مثل مظاهراتنا السابقة قبل كفاية، وبعد كفاية، فى صباح الجمعة 28 يناير يلتحق ابنى بزملائه ثانية، كنت أسمع حركته وأبتسم كأننى حكيم بائس، سأعلم فيما بعد أنه شارك فى معركتى كوبرى الجلاء وكوبرى قصر النيل تحت قيادة الممثل خالد الصاوى،لم أفكر لا فى المشاركة ولا فى الفرجة، إلا عندما مرت فى عصر الجمعة ذاته، وبالقرب من بيتى بالهرم مظاهرة كبيرة تتجه إلى ميدان الجيزة، سمعت ضجيج الهتافات، يمكنك أن تسميه ضجيج الجيل، وخرجت لأرى الضجيج بعينى، بعد لحظات انفعلت، ثم اندسست ومشيت بينهم، لم أستطع أن أوقف سيال دموع انفعالاتى، وأنا أهتف، وعندما قابلنى علاء عبدالهادى داخل المظاهرة احتضننى وبكى معى، منذ تلك اللحظة التمست طريقا جديدة للخلاص، أصدقائى اللبنانيون اتصلوا بى يطمئنون علينا، صديقتى الأقرب، صارحتنى، بأنهم يعتقدون أن المصريين أقل صلابة من التونسيين ولن يكملوا المسيرة، صديقتى قالت لى: المصريون علماء كلام، يجيدون طق الحنك، وليسوا أهل فعل، فى آخر الثورة، قالت: لقد أصبحتم ملوك أحلامنا، أصبحتم الأطول قامة، قلوبنا تفيض بكم، كلام صديقتى ذكرنى بما أوشكت أن أكونه، لم أقل لنفسى قط، أننا نعيش مرحلة ما بعد السقوط، ولكننى كنت قد أوشكت أن أصدق الخراب الواسع الذى يحيطنى، أوشكت أن أصدق أن المصريين منحوسون، كل شىء يمسكونه يتحول إلى هباء، حتى إننا كدنا نفقد كل شىء، كنت أميل إلى الاعتقاد بأن مارك توين قد تعرف علينا، وعلى الديكتاتور الذى يحكمنا، فاستنتج أن الإنسان يبدأ كقذارة، لينتهى رائحة نتنة، ولا غرض من وجوده غير إمتاع الجراثيم، وأن عملية التطور توقفت وبترت بظهور هذا الإنسان، الذى وحده يملك القلب الشرير فى عالم الحيوانات، رفضت أن أقابل مارك توين ثانية، بعد أن قرأت له هذا الكلام، أحسست بالخجل، فليس مقبولا على الإطلاق أن يحكمك غبى جاهل محدود الأفق لمدة ثلاثة عقود، ولا لنصف عقد، كانت السلطات المؤبدة القديمة تفتح علينا كل يوم، خزانات نفاياتها وقاذوراتها التى لا تنفد، ومعها لم نعد نسمع، لم نعد نرى، لم نعد نشم، لم نعد نتكلم، لم نعد نتذوق، توقفت حواسنا الخمس، أصبحنا كائنات كرتونية، أصبحنا ملايين من الروبوتات، نموت قبل أن نموت، ونحيا قبل أن نحيا، فى الميدان، اكتشف الشباب الأماكن الضائعة لخزانات الحضارة، وفتحوها، فاستعدنا حواسنا، صرنا ثانية كائنات بشرية، لنا ألسنة وآذان وأنوف وعيون وحناجر، نهتف لنطمئن على حناجرنا المولودة للتو، نسمع هتافات الآخرين وآراءهم لنطمئن على آذاننا المولودة للتو، نرى، نشم، نذوق، كانت الحواس المولودة تصل بنا إلى قمتها، ونصل بها إلى قمتنا، وعند قمم الحواس كان لابد أن تولد الروح، رأيت هذه الروح فى كل بقعة من الميدان، رأيت ميلادها فى ميلاد النكتة، وفى ميلاد الحنان وفى ميلاد التسامح والعفو، تذكرت أن من لا يضحك لا يحزن ولا يحب، وإذا سألتنى عن الدليل والشاهد، سأدعوك للنظر إلى وجه النقيب مكرم محمد أحمد والعميد عبدالمنعم سعيد، إن جسد كل واحد منهما هو نعش لروحه، فى الليل كنت أعود إلى البيت، انتبهت إلى أننى قبل أيام الثورة لم أكن أغادر البيت إلا قليلا، انتبهت إلى أننا كنا بلا وطن، كنا نكتفى ببيوتنا، أما الشوارع ورغم أنف ماجدة الرومى وصلاح جاهين ويوسف شاهين، الشوارع لم تكن لنا، ولما ثار الشباب وطردوا الديكتاتور، استعادوا أرواحهم وحواسهم ووطنهم، واستعادونا كآباء، واعترفوا بنا، كنا طوال ثلاثين سنة لا نعبأ سوى بنظافة بيوتنا، لقد قسمنا الوطن إلى شقق وبيوت، فأصبح وطنا مفتتا، أصبح وطنا مركونا فى قائمة الأشياء الملغاة أو المهملة، فور الثورة، وفور استعادة الوطن خرج الشباب كله، ينظفون أرضه، ويغسلون جدرانه ويصعدون إلى سمائه ليغسلوها أيضا، اليوتوبيا انطلقت من هنا، من الميدان، كلنا قرأنا عن المدن الفاضلة، وظنناها أحلام فلاسفة، وظنناها وافدة علينا من عالم المثل، إلى أن تحققت هكذا فى الميدان، ثمانية عشر يوما قضيناها فى جنة اليوتوبيا، قلت لنجاح طاهر: ماذا سنفعل بنهاراتنا بعد انتهاء الثورة؟ هل سنعود إلى الرتابة؟ هل سنمكث ثانية فى البيوت مثل شعراء قاصرين؟ لماذا تذكرت فجأة طرفة أن الديكتاتور سيشاركنا مظاهراتنا ويهتف معنا بسقوط الديكتاتور، وأنه قد يستورد شعبا بديلا لأننا نعطس ونبول؟ لماذا تذكرت فجأة طابور موتى السنوات الأخيرة، عفيفى مطر وفاروق عبدالقادر؟ أذكر أيام مظاهرات كفاية، وفى كافيتريا سوق الحميدية، قال لى فاروق: الثورة التى ستحدث، وهى قادمة، سوف يقودها بشر لا نعرفهم، أما عفيفى مطر فقد ضاقت روحه بأكوام القاذورات التى سقطت فوق رأسه، وفوق رأس نفيسة، وفوق رءوسنا، ومات بالحسرة، مات مثل ثمرة رمان لم يذقها أحد، كان محبطا وكنا محبطين، فى الميدان كانت نوبات الأمل أكثر تواترا، لكن نوبات الإحباط الأقل عددا جاءت بحجم الخوف من الفشل، فى النوبة الأولى، بكيت فور وصولى إلى البيت، وفى المرة الثانية خفت من المثل الصينى: أنصاف الثورات أكفان للشعوب، وصادفت أمين إسكندر، وسألته، لماذا لا ننصرف، فابتسم وتركنى وحيدا، فى اليوم التالى فهمت ابتسامته، وفهمت انصرافه، وتماسكت، وفور تبديل الانتهازيين أماكنهم تفاءلت بشدة، وأصبحت أكثر إصرارا على أن يتم الشباب ما بدأوه، فالسلاح العلنى الذى استخدمه المقيمون فى الميدان، لم يتجاوز الوقوف والهتاف، والسلاح السرى، كان فى إيمان الشباب بأن الثورات لا تستمر كثورات إلا بمطالب راديكالية، مطالب تغيير جذرى، وأنها تذبل إذا تحولت مطالبها إلى محض إصلاحات، وكان أيضا فى لون الشباب محضين ضد ميلودراما الرئيس وعنف النائب وركاكة الأعوان، طوال ثمانية عشر يوما ظل الشباب جذريين بلا هوادة، الشعب يريد إسقاط النظام، الشباب يعرف أن النظام ليس الحزب الحاكم فقط، ولكنه أيضا أحزاب المعارضة التى شاركته اللعبة ومنحته الشرعية، فى يوم الأربعاء الدامى، يوم معركة الجمل والحصان وضربة العصا التى شرخت ظهرى، كنت أقف فى الصباح قريبا من المتحف، ومعى اثنان من أصدقائى، ولما رأيت جموع المأجورين تأتى فى اتجاهنا، قررت أن أخترق الحاجز المحيط بالمتحف لأقابل القائد العسكرى للقوات الحامية للميدان، أعاننى كارنيه اتحاد الكتاب، وكنت أظنه هزيلا، لأنهم بسببه سمحوا لى بالدخول، فى الوقت ذاته كان أيمن نور وثلاثة أو أربعة من حاشيته يدخلون مثلى، المأجورون يعرفون أيمن ويشتمونه، فهو نجم، وأنا شاعر لا يعرفه إلا بعض النخبة، استقبلنا قائد الحامية، أظنه برتبة اللواء، الرجل مهذب للغاية، بادرنا بالقول إن الجيش على الحياد، قلت له: هذا ليس الحياد، الحياد يفرض أن تصنعوا حاجزا من الدبابات يفصل الطرفين، وإلا أصبحنا على مشارف حرب أهلية، اللواء قال: ليست عندى تعليمات أسألوا هذا، وأشار إلى شاب يرتدى الملابس المدنية، فهمت أنه ينتمى إلى المخابرات، الشاب أهملنا، أيمن نور أسكتنى بيده ولسانه، وطلب من السيد اللواء أن يوفر له ولمرافقيه الحماية الشخصية عند دخوله وعند خروجه، عندها تأكدت أن النظام ليس الحزب الحاكم فقط، وأن الشعب يريد إسقاط النظام، أيمن نور قد يكون من جيلى، وهو جيل كنا لا نتوافق فيه إلا إذا تشابهنا، وبسبب ذلك كانت جماعاتنا هى جماعات المتشابهين، جماعات الكل فى واحد، والشباب من جيل ابنى، وهو جيل يتوافق أفراده رغم اختلاف كل فرد عن كل فرد، الشباب من جيل ابنى يعرفون تماما أن الكل فى آحاد وليس الكل فى واحد، شيرين الجمال من جيل وسيط بينى وبين ابنى، لم أرها من قبل، ولكن كانت تتصل بى عندما أكون فى الميدان ليطمئن قلبها وقلب والدتها الأستاذة بكلية العلوم على وطنهما، شيرين مولودة بعد الثورة بثلاثة أيام، مولودة فى عيد الحب، جودت فخر الدين وبول شاؤول وهنادى زرقا وعائشة أرناؤوط وكلاريسا بيرث ومحمد بنيس وعباس الحداد وإلياس فتح الرحمن وثائر ديب ومنذر مصرى وخالد المعالى، كانوا يرددون على مسمعى، ودون صوت: مصر عادت شمسك الذهب، وحيد الطويلة يشعر أنه محبوس فى تونس، وكل يوم يسعى للسفر، لولا أن الطائرات تخونه ولا تأتى، هدى الجميلة ضحكت فى وجهى وقالت : صباح الخير، فى الميدان رأيت مجددا سهام بيومى وسلوى بكر وخليل كلفت ومحمد أبوالغار وعرب لطفى ورجاء إبراهيم وصنع الله إبراهيم، وتعرفت للمرة الأولى على يسرى نصر الله وأشرف الصباغ وطارق الشناوى وعلى بدرخان وإبراهيم عيسى، وناديت جورج البهجورى، يا عم جورج، ووعدنى بأن يرسم لى بورتريها جديدا، وصالحت ناسا، وصالحنى ناس، إنها النيرفانا، إنها النيرفانا، يوم الأربعاء الدامى استغثت بأدونيس، قلت له: ساعدونا، اكتبوا البيانات، اصرخوا مثلنا، اصرخوا فى آذان العالم، اصرخوا بأعلى صوت، وفعلوا، ولكن فى الوقت الذى كان فيه الشباب يقفون فى الميدان، وينامون تحت الدبابات، ويواجهونها إذا لزم الأمر، وكان بعض الضباط ينحازون إلى جانبهم، كان رجال الأحزاب من يسارهم إلى يمينهم يراقبون ذلك الصراع الدائر، يراقبونه من النافذة، ويتجهزون لالتقاط السلطة، إنهم فوجئوا بالثورة على الرغم من أنهم لم يكونوا راغبين فيها، لأن خطر الثورة عليهم لا يقل عن خطرها على الديكتاتور وأعوانه، لقد انتصرت الثورة رسميا، واحتفل الثوار واحتفل الشعب، واطلق الجميع هتافات الفرح والحزن على شرف الشهداء من أجل الحرية ومشوا تحت الأعلام، وهتفوا ارفع رأسك، إنك مصرى، ومعهم احتفل قادة الأحزاب القديمة، ولن يخفى على الناظرين إلى وجوههم، إنهم مازالوا خائفين فى أعماق نفوسهم، إنهم يخشون أن تكنسهم المكنسة ذاتها، عندما قال أحد المارة إننى أستطيع أن أحمل الهرم، شرط أن يرفعه أحدكم ويضعه فوق ظهرى، كان هذا الأحد يبحث عن نقطة استناد، عن قوة استناد، وها هى التحالفات العديدة تجعل من الجيش تلك النقطة، أو القوة التى سترفع الهرم وتضعه فوق أكتاف الحلفاء التاريخيين، الجنرالات والبيروقراطية الجديدة ورجال الدين ورجال المال والأعمال والبشوشين فى الظاهر المستائين فى باطنهم من الثورة وكل ثورة، يكتب كارلوس فوينتس فى صدارة روايته كرسى الرئاسة، أنه فى عام 2020 وخلال انعقاد لمجلس الأمن فى الأمم المتحدة، تجرأ رئيس جمهورية المكسيك، المثالى النزعة، وصوت ضد احتلال الولايات المتحدة لكولومبيا، وضد رفض واشنطن تسديد أسعار النفط إلى منظمة الأوبك، تصويت رئيس المكسيك أدى إلى أن يأتى انتقام الولايات المتحدة سريعا، إذ تقرر رئيسة الولايات أن تقطع نظام الاتصالات فى المكسيك، فلم تعد هناك هواتف أو فاكسات أو بريد إلكترونى، ويغوص البلد فى كابوس إدارى لا حدود له، ويصبح تبادل الرسائل هو الوسيلة الوحيدة للاتصالات، وسرعان ما يبرز المتنافسون الذين يسعون للاستيلاء على السلطة من خلال الرسائل التى يتبادلونها، وفى 25 يناير 2011، تجرأ الشباب المصرى، وخرج إلى الشوارع والميادين، وهتف هتافه الحاسم: الشعب يريد إسقاط النظام، فأهاج النظام الذى أتى انتقامه سريعا، بأن قطع نظام الاتصالات، فلم تعد هناك هواتف محمولة أو بريد إلكترونى، وشوّش على بعض الفضائيات، وسرعان ما استطاع الشباب أن يؤلفوا وسائل أخرى تجعلهم الأجمل والأقوى إرادة بيننا جميعا، وامتلأت الإذاعة الموحدة، أو الإذاعات المختلفة بالميدان، امتلأت بالأغانى التى ينتسب أغلبها إلى الأجيال الأسبق، عبدالوهاب وعبدالحليم وأم كلثوم وشادية، كأن زمن الديكتاتور خلا من الغناء، وفى ظهيرة الخميس 10 فبراير 2011 بعضنا خاف من الأمطار وبعضنا تفاءل بها، وبعضنا ظل يتوتر، لكن الواقع كان أكثر مهارة، وأخصب خيالا منا جميعا، الواقع الذى حسبناه سحابة عمياء. فى مساء الجمعة 11 فبراير تجرأ الديكتاتور وسقط تحت كرسيه، تحت كرسى الرئاسة، وامتلأت كل الميادين بالبشر الذين تحولوا إلى أشجار حلم، وبالأحلام التى تحولت إلى قامات بشر، ووراءهم هاجس سؤال ملح، كيف نكنس أتربة العالم القديم، كيف نؤسس عالمنا الجديد، كيف نجعل الثورة تامة، وكيف نجعلها دائمة، هذه هى المرة الأولى التى أشعر فيها أننى أعيش على شجرة، وكما ممارسات الطغاة هى الأكثر خرقا لقدرة المخيلة، فإن فانتازيا الثوار هى الريشة التى رسم بها الخيال شجرتى،فى مساء الجمعة 11فبراير خرج الليل من المتحف ونام فى الميدان، وفجأة وفجأة تصير أصعب الأشياء أبسط الأشياء، وفجأة وفجأة يبدأ النهار عندى، ويبدأ النهار عندك، وترتخى الأرض فنكتشف أن الصباح التالى هو صباح السبت الأول بغير ديكتاتور، وزوجتى التى أراها اليوم غير زوجتى بالأمس، وابنى غير ابنى، وذكرى الأب اعتدلت وأصبحت ذكرى أبى، والبيت اتسع، أصبح بحجم التاريخ كله، والجغرافيا كلها، أصبح بحجم الإنسان، فى صباح السبت نتبادل التحيات: صباح الخير يا حزنى، صباح الخير يا فرحى، وقبل أن نتجاذب ونتحاب، نرى كل الأشياء تركض فى اتجاه الثورة التى تريد أن تتم.