ما بين تونس والقاهرة: ديكة وكلاب

منصف الوهايبي

(إلى عبدالفتاح كيليطو)

 

أعود بعد هاتين الجمعتين: يوم الجمعة 14 جانفي[يناير] التونسي، ويوم الجمعة 11 فيفري[فبراير] المصري؛إلى حكايتين،سبق أن استثمرتهما في عمل شعري لي منشور: الأولى أنقلها عن الأمريكي هنري مللر، بشيء من التصرّف، وهو الذي نقلها بدوره عن لورنس دريل.  وأمّا الثانية فقد وردت في 'حيوان' الجاحظ ،في خطف كالنبض؛ ثمّ تأوّلها الكاتب المغربي عبدالفتاح كيليطو، وأعاد صياغتها في نصّ آسر هو أشبه بقفزة لطيفة بين عصرين متباعديْن. وفيه من سبْق البديهة وفيض الرويّة ما لا إخاله يخفى عن القارئ ما استأنس،في قراءة هاتين الحكايتين ـ وقد يكون بينهما تراخٍ، وقد يكون قرب ـ بما يرى من انقلابات وتغيّرات غير منظورة،هي جزء من هذا التاريخ العربي المزدحم ككلّ تاريخ بالشخصيّات الحافلة الجامعة أو الوقيفة مثل بن علي ومبارك طريدتيْن أعْيـَتـَا فوقفتا حيث لا فرارولا ردى،وفيه ما فيه من هذه الصفحات الموقوفة على سير اللصوص والدجالين ومكائدهم ودسائسهم على شعوبهم و ما أكمنوا لها من المكر والعداوة.

أمّا حكايتنا الأولى فقادحها هؤلاء العرب الذين رُزقوا ـ على ما نتوسّم فيهم ـ من البصيرة ما جعلهم ينفذون من غواشي البيئة والعصر،إلى حقيقة الحقائق: هذه الديمقراطيّة التي سيتوهّج لهبها وتتألّق أنوارها من تونس والقاهرة (وكان قد ذهب في الظن أنّها ستشعّ من بغداد يوم 9  أفريل[نيسان شهر الغبار والأكاذيب]2003 )، لتغمر كامل منطقة الشرق الأوسط.

كان السيّد 'م (الجمعة 14 جانفي2011 ليلا) يقفز ويصرخ:هل تريدون سماع حكاية ديوك تونس؟ ودون أن ينتظر جوابا،هرع إلى السور القيرواني،وانتصب فوقه..رفع رأسه، ونفش يديه مثل شراعين أو جناحين؛ثمّ أخذ يصيح: كو.. كو.. كوك... كان صياحه يتردّد في جميع أرجاء المدينة.. وإذا بصوت ديك ناعس كان قد ضمّ جناحيْه وأخلد للنوم، يجاوب مخترقا الظلام كما كانت تخترقه طائرة بن علي الهارب أو المُهَرَّب في تلك الليلة، وربّما في تلك الساعة بالذات..وتبعه ديك آخر فآخر..وهاج السيّد'م' واستوفز مثل عصفور يتهيّأ للطيران، وهو يتابع صياحه الدّيكيَّ.. وانتعش الليل العربي بصياح الديكة في كلّ العواصم،إلاّ في طرابلس الغرب حيث لا فجر، فقد ذبحوا الديكة جميعها .. واستيقظ العرب كلّهم ما عدا جارتنا البتروليّة .. وأخذوا يتنادَون وهم يمدّون أعناق ديوك لنهار موعود..

أجلس إلى مكتبي (الجمعة 11 فيفري2011 ليلا) وأنا أصغي بقلبي وسمعي لهذه اللآلئ الفضيّة :فجر ديمقراطيّ في القاهرة، وما تزال ديكته تتجاوب حتى هذه الساعة.. ولِمَ لا؟ فقد صار للتونسيّين والمصريّين فائض من الديمقراطيّة، سيصدّرون منه إلى العالم العربي وبقيّة العالم الثالث ... بل إلى أمريكا نفسها راعية هذا المشروع الضخم:تحويل العالم العربي إلى أنظمة'ديمقراطيّة' موالية للغرب.

أمّا حكايتنا الثانية فأسوقها،دون أن أعود إلى 'حيوان' الجاحظ؛ وربّما حذفت.. وربّما أضفت. يقول صاحبنا الأقدم إنّ العرب كانت تستهدي بالنباح. فقد يضيع العربيّ ليلا وهو في الصحراء حيث الريح تجرف أو هي تطمس المعالم التي أقامها نهارا.
ولا يجد هذا العربي الضائع بدّا من أن يستنبح، فقد تحلك الظلمة وتشتدّ؛ وذئاب الصحراء لا ترحم.. ويأخذ العربيّ في النباح، عسى أن يجاوبه كلب من هنا..  وكلب من هناك، فيقتفي صوت الكلاب، حتى يبلغ منازل قبيلته، فإن لم يكن فمنازل قبيلة أخرى لا بدّ أنّها ستأويه وتجيره ـ كما أجار أهلنا في السعوديّة الجنرال المهرَّب وفاء منهم لمبدإ إعاثة الملهوف حتى لو كان من لصوص الليل وسرّاق النهار. تلك هي حكاية الجاحظ مختصرة ً، وليس لها من دلالة غير التي سقتُ. بَيْدَ أنّ شبكة القراءة متعدّدة الكوى، ولنا أن نرى منها غير ما رأى الجاحظ:
كوّة (1): يتقمّص العربيّ الضائع هيئة الكلب، وينبح. ثمّ يسمع نباحا خافتا .. ويعلو النباح شيئا فشيئا. ويقترب من مصدر النباح، ليباغتَ بعربيّ ضائع مثله في الصحراء، كان ينبح أملا في الاهتداء إلى منازل قبيلته. يتنابحان، ثمّ يواصل كلّ منهما طريقه ونباحه.
كوّة (2):ينبح صاحبنا، ثمّ يسمع نباح كلاب كثيرة، فيقول في نفسه:'لابدّ أنّني اهتديت'؛ ويقترب ليباغَت بقبيلة بأكملها خرجت ليلا تنبح بحثا عن ابن ضائع.  ويحيط به أفرادها، ويتفرّسونه؛ ثمّ يتركونه وشأنه، فقد أدركوا أنّه ليس ضالّتهم ولا ملامحه ملامح ابنهم المفقود.
كوّة (3):ينبح العربيّ الضائع ويستنبح .. والظلمة تتكوّم .. وقد بدأ أفق ذئاب عاوية يعلو. ويسمع نباح كلاب، فيمنّي نفسه:'لعلّهم نفر من القبيلة خرجوا يسعون ورائي'. وإذ يقترب، يُباغتُ بكلاب حقيقيّة .. كلاب مسعورة سائبة .. فيولّي هاربا.حتى إذا ابتعد، وأمن شرّها، واصل نباحه.
كوّة (4):ينبح العربيّ الضائع ويستنبح.. لابدّ أنّ حلقه جفّ وصوته بحّ.. ولا شيء سوى صمت مريع يطبق على هذه المتاهة العربيّة الحالكة. حتى إذا تنفـّس الفجر،بحث عن أقرب غدير،وإذ انحنى ليشرب،رأى صورته في الماء الآسن: ودجان ناتئان.. لسان يتدلّى..شيء يشبه الذيل نبت في المؤخّرة.

وفي هذه اللحظة يصيخ.. لكأنّه يسمع ديوك تونس ومصر تتجاوب.. ولكنّ الوقت كان متأخرا جدّا.. فقد أحاطت بالغدير كلاب كثيرة... وتهيّأ له أنّها كانت تتكلّم.

شاعر من تونس