ثَوْرَةُ اللّوتس" وَرحيل آخر الفراعنة

قصة قصيرة

محمد سعيد الريحاني

أسبوع البشارة
في البدء، كان الغناء عند الفجر:
صباح الخير على الورد اللي فتح

في جناين مصر
صباح العندليب يشدي
بألحان السبوع، يا مصر
صباح الداية واللفة
ورشّ الملح في الزفة
صباح يطلع بأعلامنا
من القلعة لباب النصر.

تقرير الفجر مقروءً على مسامع "راع، كبير الآلهة الفرعونية":
أيها الإله "راع، كبير الآلهة الفرعونية"، ثمة رجل فولاذي السحنات تلفهُ هالة غريبة يجوب شوارع البلاد وهو يغني قبيل الفجر وسط الضيم المطبق:

سلامتك، يا ما يا مهرة
يا حبالة
يا ولادة
يا ست الكل، يا طاهرة
سلامتك
من آلام الحيض
من الحرمان
من القهرة...

وقد أثار بأغنيته هذه فضول عموم عبادك الصالحين الذين استيقظوا للاستماع إلى أغنية سبقت آذان الفجر ذاته فاشتعلت المصابيح في كل الطوابق، في كل العمارات، في كل الأحياء، في كل المدن في ربوع البلاد:

تقرير فجر اليوم الموالي مقروءً على مسامع "راع، كبير الآلهة الفرعونية":
أيها الإله "راع، كبير الآلهة الفرعونية"، ذاك الرجل العنيد عاد ثانية إلى ذات الشوارع من ذات الأحياء يغني ذات الأغنية لكن هذه المرة بسرب من الغربان تحوم فوق رأسه حيثما حل وارتحل:

سلامة نهدك المرضع
سلامة بطنك الخضرا
هناكي وفرخة الوالدة
تضمي الولد
يا والدة
يصونهم لك
ويحميهم
يكترهم
يخليهم
يجمع شملهم
بيكي
يتمم فرحتك بيهم...

تقرير فجر اليوم الثالث مقروءً على مسامع "راع، كبير الآلهة الفرعونية":
أيها الإله "راع، كبير الآلهة الفرعونية"، ما العمل مع هذا الشاعر المجنون؟ لقد عاد مرة أخرى تحت نفس السرب من الغربان قبل آذان الفجر لكن هذه المرة يصاحبه كورال كبير ينبعث من كل النوافذ من كل الطوابق من كل العمارات من كل الأحياء في كل مدن البلاد:

صباح الخير على ولادك
صباح الياسمين والفل
تعيشي ويفنوا حسادك
ويسقوهم كاسات الذل
وبلغ يا سمير غطاس
يا ضيف المعتقل سنوي
بصوتك ده اللي كله نحاس...

تقرير فجر اليوم الرابع مقروءً على مسامع "راع، كبير الآلهة الفرعونية":
أيها الإله "راع، كبير الآلهة الفرعونية"، لدي خبر جديد. إن الشاعر العنيد لم يظهر هذا الفجر في الأمكنة التي تعودنا مروره بها ويبدو أنه لن يظهر فيها أبدا إذْ ترك مكانه للغربان ولعبادك الصالحين الذين بدؤوا يتعودون على الاستيقاظ عند الفجر للتغني بالأغنية التي حفظوها عن ظهر قلب ولترديدها في كوال كبير يطفو على نسائم الفجر من كل النوافذ، من كل الطوابق، من كل العمارات، من كل الأحياء، في كل مدن البلاد:
صباح الخير على الثانوي
وأهلاً بيكو في القلعة
وباللي في الطريق جايين
ما دامت مصر ولادة
وفيها الطلق والعادة
حتفضل شمسها طالعة
برغم القلعة والزنازين...

تقرير فجر اليوم الخامس مقروءً على مسامع "راع، كبير الآلهة الفرعونية":
أيها الإله "راع، كبير الآلهة الفرعونية"، لم يعد عبادك الصالحون يكتفون بترديد أغنية الشاعر العنيد من نوافذ طوابقها في عناوين إقامتها بل نزلوا مع أسراب الغربان إلى الشوارع  وهم يُُغنون ويُموّلون:
صباح الخير على الورد اللي فتح
في جناين مصر
صباح العندليب يشدي
بألحان السبوع، يا مصر
صباح الداية واللفة
ورشّ الملح في الزفة
صباح يطلع بأعلامنا
من القلعة لباب النصر...

 

أسبوع الغضب
غضب "راع، كبير الآلهة الفرعونية" على نزول رعيته إلى الشوارع دون إذن منه:
الإله "راع": هل نزل عبادي إلى الشوارع دون إذني ولا حتى علمي؟
الراهب: نعم، أيها الإله.
الإله "راع": ولكن سلالتي تحكم منذ سبعة آلاف سنة ولم يسجل التاريخ أن ثار عبد واحد من عبادي ضدي أو ضد أسلافي؟!
الراهب: اليوم، فعلوها، أيها الإله.
الإله "راع": هل أصدر أعداء البلاد كتابا يفضحني فهبت رعيتي للتنديد بهم وبألاعيبهم؟
الراهب: لا، أيها الإله
الإله "راع": هل أنتج أعداء البلاد فيلما سينمائيا أو وثائقيا يُدين سياساتي؟
الراهب: لا، أيها الإله
الإله "راع": هل أصدر زوائد الخليقة ممن نفيت خارج البلاد بيانا يَعدُّون فيه العدّة للهجوم عليَّ والانقضاض على سلطتي؟
الراهب: لا، أيها الإله
الإله "راع": ما دام لا شيء يهددني، فلماذا نزل عبادي إلى الشوارع؟
الراهب: لقد نزلوا إلى الشوارع للمطالبة بالتغيير، أيها الإله.
الإله "راع": تغيير ماذا؟
الراهب: هُم ينشدون اختصارَ التاريخ ويطالبون بتغيير النظام، أيها الإله.
الإله "راع": ولكنني ما علمتهم أن يعبدوا غيري ولا أشَّرْتُ لهم على تبنّي عقائد تُغِيضُني، فما أُرِيهم إلا ما أرى وما أُهديهِم إلا سبيل الرشاد!...
الراهب: إن جحودهم بتعاليمك يتطلب حلول لعنتك عليهم، أيها الإله!
الإله "راع": وما هي مطالبهم؟
الراهب: يريدون نظاما جديدا ودستورا جديدا ؟
الإله "راع": حسنا، هات ورقة وقلما لأحرر دستورا جديدا!
الراهب: هُمْ يطالبون أيضا برحيلك، أيها الإله!
الإله "راع": ما هذا الغباء؟ من سيحرر الدستور الجديد إذا ما رحلت؟!
الراهب: ويطالبون أيضا بمحاكمتك، أيها الإله...

الإله "راع": الرعاع يطالبون بمحاكمتي؟! حسنا، سأواجه المتظاهرين المعارضين بمتظاهرين مؤيدين أجزل لهم العطاء!
الراهب: ولكن من ستجزل لهم العطاء لقاء التظاهر لأجلك سيفرون عند أول مواجهة مع الثوار لأنه لا قضية لهم بينما مقارنة مع خصومك الذين يدافعون عن قضية يعلنون استعدادهم للموت فداءً لها!
الإله "راع": وما هي قضيتهم؟
الراهب: الحرية.
الإله "راع": الحرية. سأفكر في قضيتهم هذه. الحرية قُلْتَ؟ نعم، الحرية! الحرية...
الراهب: الحرية التي أتحدث عنها ليست حريتك ولا قضيتك وإنما حرية خصومك وقضية خصومك
الإله "راع": اعتمد علي في فهم ما تقوله وما لا تقوله، أيها الراهب. أنا الإله "راع، كبير الآلهة"، فلا تنس ذلك وإلا حلّتْ عليك لعنتي. أفهمت؟
الراهب: نعم، أيها الإله.
الإله "راع": أنا فهمت بأن لخصومي قضية تحركهم وتكسبهم قوة يصعب الوقوف في وجهها. وهذا بالضبط ما سأفعله  ك"راع، كبير الآلهة" مع مؤيدي من المتظاهرين الذين سأختارهم واحداً واحداً وسأجعل لهم الحرية قضية تحركهم وتقويهم وتدفعهم إلى مقاتلة خصومي ممن يسمون أنفسهم "ثوارا" و"أحرار". سترى بأم عينيك مفعول تعويذتي!
الراهب: ومن أين ستختار مؤيديك، أيها الإله!
الإله "راع": من سجوني ومعتقلاتي ومخيمات التعذيب في خرائطي السرية...

السجن، بنك المؤيدين لمن يعتق الرقاب:
السجان: أيها السجناء، معتقلي الحق العام. فرصتكم في الحرية تطرق بابكم وتنتظر منكم الجواب النهائي.

السجناء: نحن نقبل قبولا مطلقا أية مبادرة نخرج بموجبها من السجن ولو تطلب الأمر أن نفتديها بأرواح آبائنا وأبنائنا!

السجان: أيها السجناء، إن "راع، كبير الآلهة" يقترح عليكم عفوا شاملا غير منقوص لقاء التنكيل بخصومه ومنافسيه خارج أسوار هذا السجن. فما قولكم: الحرية أم السجن؟

السجناء: الحرية! الحرية! الحرية! الحرية!...

السجان: إن نفذتم المطلوب منكم وانتصرتم على أعدائكم وأعداء "راع، كبير الآلهة"، نلتم حريتكم، وإن تقاعستم وقصرتم في مهمتكم وتخاذلتم وانهزمتم، ساقكم أعداؤكم مسلسلين إلى السجن وألصقوا بكم تهمتين: تهمة الجريمة الأصلية وتهمة إثارة الفتن الداخلية والتي تصل أحكامها إلى الحكم بالإعدام. فما قولكم؟!

السجناء: يحيا "راع"! يحيا "راع"! يحيا "راع"!...

السجان: حسنا، بالنسبة لتوزيع الأدوار التي ينبغي تكرارها والالتزام بها فهي كالتالي: من جهتنا، سنترك أبواب الزنازين موصدة ولكننا سنفجر الجدران والأسوار بالديناميت لنبعد عنا شبهة مساعدتكم على الفرار؛ ومن جهتكم، عليكم بحفظ هذه  الصفقة طيّ الكتمان وإظهار الولاء أمام الخصوم...

السجناء: أسرعوا بتفجير الأسوار! دعونا نتنسم الهواء! أين أنتم، يا أعداء حريتنا؟ الويل لكم إن كنتم تنتظروننا!...

المقابلة مع الابن البكر، وريث الألوهية:
- لقد وصل إلى عبادي رصيدي البنكي بالأرقام والحروف وعلموا ما لم أرده لهم في يوم من أيام حياتي. بل إن بعض الاقتصاديين خرجوا للعموم، عبر وسائل الإعلام، ليقارنوا بين حسابي البنكي وثروة قارون قبل أربع وثلاثين قرنا خلت!

- ائذن لي بالسفر، يا أبت، لإنقاذ ثروتك قبل وقوعها بين أيدي الغوغاء. إن كان هدفهم هو الضغط عليك لتنحيتك، فإنني أعدك بأن أكون أسرع من ضغوطاتهم مجتمعين وأن أهرب ثرواتك إلى حيث لن يستطيع أحد التعرف عليها ولو بالأقمار الاصطناعية!

- أعرف نجاعة خفتك ودهائك ولكنني كنت أهيئك لتطلق اليد في خزائن الدولة وليس في ثرواتي. لكن الرياح، يا بني، جرت على ما يظهر فيما لا تشتهيه السفن. حسنا، اخرج اليوم من مصر للتمويه على المتتبعين بحيث تدفع الإعلاميين إلى الكتابة على أن نظامي السياسي ينهار وبأن أبنائي هم أول الهاربين وبهذه الطريقة سيُبْطَلُ حذرهم...

- أنا ذاهب لتنفيذ وصاياك،  يا أبت، لكن دورك يبقى هو ربح أطول وقت ممكن ريثما أنقل ثرواتك من الحسابات البنكية التي تعرف عليها العالم إلى أماكن مجهولة. اربح الوقت بإجراء تعديلات حكومية والبدء في الإقالات والتعديلات والعروض والتبشير بالتغيير والتشهير بعقاب الفاسدين والتلميحات الغامضة وتوضيح التلميحات الغامضة بتلميحات أكثر غموضا. وحاول أن تباعد بين فترات إلقاء خطبك المتلفزة كي تمنحني فسحة إضافية لأنني سأتنقل بصناديق الأموال بين دول وليس بين أحياء سكنية وعبر حدود محروسة وليس في شوارع خالية محروسة ب"قوانين الطوارئ"...

- أنا "راع، كبير الآلهة"، يا ولدي. وأنا أعدك بإنجاح دوري. أما أنت، فلست سوى عفريت من عفاريت سليمان المسافر لإخراج عرش بلقيس من سبأ!

الخطاب الأول ل"راع، كبير الآلهة" الذي بثته مباشرة كل قنوات الأرض حتى سُمِعَ صداه من القمر الاصطناعي الذي يبثه
أيها المواطنون، نلتقي في هذا الخطاب على حب هذا الوطن الذي يعطيه كل منا اعز ما لديه: أنتم تعطونه من قلوبكم وأنا أعطيه من وقتي. وعليه، فلقد قررت أن أعطي هذا الوطن ملكية ثانية عزيزة عليّ. لقد قررت أن أسحب لقب "راع، كبير الآلهة" عمن يرث الحكم بعدي. فإنني أقسم لكم بألوهيتي بألا رئاسة مدى الحياة بعد اليوم ولا توريث بعد اليوم ولا فساد بعد اليوم ولا أي شيء بعد اليوم...

غليان الرفض الجماهيري في ميدان التحرير:
-...!
-...!
-...!

مكالمات من "الآلهة" المجاورة في البلدان المجاورة:
- هذه مؤامرة تحاك ضدك أولا وضدنا نحن لاحقا
- إنهم يصرخون: "الشعب يريد إسقاط النظام!" فهل ستسمح لهم بذلك وتورطنا مع ذوينا؟
- إن نظامك السياسي هو نسقك الديني أيضا. هل نسيت بأنك على رأس السياسة والدين؟ هل نسيت بأنك حاكم وإله؟
- إذا سقط نظامك السياسي، سقط دينك وسقطت معه ك "راع، كبير الآلهة
- وإذا قبلتَ بالسقوط الآن، عجلت بسقوطنا نحن بعدك. يجب أن تتحلى ببُعْد النظر وبالفكر التاريخي!

الأوامر بتفريق التظاهرات:
- فرّقوهم بالقوة!
- ولكن وسائل الإعلام تنقل كل كبيرة وصغيرة بالصوت والصورة وبالمباشر؟!.
- إذن أطلقوا عليهم كارثة لا يستطيعون ردها ولا مقاومتها مع ضمان خروجي منها بَريئا "بَرَاءَة النّمْلِ مِنَ المِلْح"!
- وماذا سنطلق عليهم، أيها الإله؟
- أطلقوا عليهم النيل فهو لا يبعد عنهم سوى بأمتار قليلة. حولوا مجرى النيل إلى "ميدان التحرير" ليجرفهم نحو البحر الأبيض المتوسط فَيُريحُوني وَيَسْتريحُونَ!
- ولكن ذلك غير ممكن، أيها الإله. الميدان يعج بالثوار ولا سبيل للعبور إلى  النيل والشروع في العمل على تحويل مجراه!
- إذن، جربوا الحل الآخر: أطلقوا عليهم قطعان الحمير الوحشية التي تحتفظون بها في حديقة الحيوانات فيتفرقوا مذعورين ويتشتتوا في كل اتجاه وينسوا الثورة والعصيان حين يستبد بهم هاجس النجاة بجلدهم من رفس قطعان الحمير الوحشية الهائجة!

الحصار الذي يولد الانتشار:
- حسنا، ما دامت الأمور خارج السيطرة، أوهموهم بالحق في التظاهر وامنحوهم ساحة واحدة من ساحات العاصمة ثم حاصروهم هناك حتى لا يتقوى نفوذهم ويتنامى تعاطف باقي عبادي معهم!
- لقد قمنا بهذا الأمر من قبل ولكن الثوار حولوا "ميدان التحرير" إلى  مركز انطلاق يديرون من خلاله للثورة في عموم البلاد. كما أقاموا برلمانا شعبيا وائتلافا حكوميا بديلا ينوون تنصيبه بعد إسقاطك هذه الجمعة، "جمعة الرحيل" كما سموها أو الجمعة القادمة، "جمعة الزحف" نحو قصورك وبرلمانك وإذاعاتك، ثم "جمعة التأبين والتكريم" والتي سيحتفون فيها بالشهداء وبانتصار الثورة!
- هل وصلت بهم الثقة في النفس إلى حدّ وضع برنامج للتظاهر وتسمية أيامه وأسابيعه والتنبؤ بحتمية رحيلي؟!
- نعم، أيها الإله.
- حسنا، أشعلوا الكاميرات واشعروا العباد بالجلوس أمام التلفاز لسماع تعليماتي الأخيرة.

أسبوع الرحيل
الخطاب الثاني ل"راع، كبير الآلهة":
أيها المواطنون، لقد قلت في خطاب سابق بأنني سأتولى التغيير بنفسي ضد الفساد. وهذا سيتطلب مني ثلاثين سنة قادمة. أنا بحاجة إلى فترة زمنية مريحة تسمح لي بإطلاق عملية التغيير وإنجاحه. ولا أعتقد بأنكم قرأتم أو سمعتم في يوم من الأيام عن تغيير حدث في بلد من البلدان عبر التاريخ خلال أربع وعشرين ساعة؟ فعودوا إلى مساكنكم آمنين وعوا التغيير سيبدأ أولى خطواته على النحو الذي يطمح إليه عموم العباد.

غليان الرفض الجماهيري في ميدان التحرير:
-...!
-...!
-...!

مناشدة رؤساء العالم ل"راع، كبير الآلهة" بالتنحي عن الحكم من خلال برقيات مذاعة بلغات العالم على قنوات العالم:
- قناة الشرق الناطقة باللغة السنسكريتية: "نناشدك الإنصات إلى نبض شارعك!"
- قناة الغرب الناطقة بلغة المايا: "نناشدك الإنصات إلى نبض شارعك!".
- قناة الجنوب الناطقة بلغة الإيغبو: "نناشدك الإنصات إلى نبض شارعك!".
- قناة الشمال الناطقة باللغة الفلامانية: "نناشدك الإنصات إلى نبض شارعك!".
- قناة الوسط الناطقة بلغة الإسبيرانطو: "نناشدك الإنصات إلى نبض شارعك!"...

الخطاب الثالث ل"راع، كبير الآلهة":
أيها المواطنون، يا من يعرفونني حق المعرفة. إن مصر هي المَحيى وهي المَمَات وأنا لن أستطيع التنفس بعيدا عن الأهرامات. لن أرحل. أقولها للتذكير فقط فأنتم أعرف العارفين بحيازتي "دكتوراه في العناد". فكما تعلمون، أنا أحكم البلاد منذ ثلاثين عاما، وسأبقى هنا لثلاثين عاما أخرى...

غليان الرفض الجماهيري في ميدان التحرير:
-...!
-...!
-...!

التلفزة الرسمية تواصل نقل أنشطة الإله "راع، كبير الآلهة" في معبده/ قصره:
"راع، كبير الآلهة" يخرج من المطبخ
"راع، كبير الآلهة" يمسك بجهاز التحكم عن بعد ويشغل التلفاز
"راع، كبير الآلهة" يبحث عن قناة أخبار تواكب الحدث
"راع، كبير الآلهة" يقع بالصدفة على القناة الرسمية وهي تواكب أنشطته اليومية مباشرة
"راع، كبير الآلهة" يبتسم لكنه يتمالك نفسه ما دام النقل مُباشر
"راع، كبير الآلهة" يهرول إلى المطبخ لدى سماعه تزايد طقطقة الذرة على الموقد
"راع، كبير الآلهة"  يخرج من المطبخ حاملا صينية من الذرة المقلية
"راع، كبير الآلهة" يجلس على الكنبة قبالة التلفاز
"راع، كبير الآلهة" يشاهد نفسه مباشرة على القناة الرسمية وهو يأكل بنهم الذرة المقلية...

مكالمة الابن، الوريث السابق في الألوهية، بعد إنجاح مهمته في مقابر الخارج:
- ألو، كيف تسير الأمور؟
- كما أردتها، يا أبت. لقد صرفت أموالك إلى سبائك ذهبية وهربتها إلى بلدان مختلفة ومتباعدة وطمرتها في مقابر متباينة لديانات متباينة في دول متباينة لكنني حرصت على كتابة عبارة مشفرة على شاهد القبر كي يسهل مرورنا عليها عند الحاجة
- وما هي العبارة المشفرة التي كتبتها على الشاهد؟
- أرجو أن تدع الأمر سريا، يا أبت، وإلا فسيضيع جهدي سدى.
- أعدك، يا ولدي.
- كتبتُ على الشاهد: "هنا يرقد المرحوم سوار الذهب المصري المتوفى بتاريخ 25 يناير 2011"!
- الآن فقط، لم تعد عفريت سليمان. لقد صرت عفريتي أنا. حسنا فعلت، يا عزيزي!

مفاوضات "راع" مع لجنة الحكماء على الرحيل:
ما أن وقعت عينا "راع، كبير الآلهة" على لجنة الحكماء من المفاوضين عند باب قصره حتى جرى إليهم حافي القدمين وعانقهم عناقا حارا ناسِياً طبيعته "الربانية" وسرعان ما تذكر فاستدرك:

- أنا ذراع البلاد وقوتها. أنا صدر البلاد وكاتم سِرّها
فَهمَ أعضاءُ لجنة الحكماء بأن في العبارة إشارة إلى حوار طرشان ينتظرهم، فولّوا مدبرين لكن" راع، كبير الآلهة" تعلق بأهداب جلابيبهم وبدأ يئنُّ ويتوسل إليهم البقاء إلى جانبه ومساعدته على الخروج من الورطة التي حشر فيها نفسه إذ قال:
- أنا، بصراحة، أبحث عن مخرج مشرف يليق بي ك"راع، كبير الآلهة الفرعونية". فهل لكم مقترح في الأمر؟

أجابه أحد الحكماء الشباب:
- يمكنك إلقاء خطاب متلفز لا رأس له ولا أساس،  تخلط فيه الأمور وتقلب فيه الأسماء والمهام... وبعد بثه، سنتدخل لنعلن بأن "راع، كبير الآلهة" قد أصابه خبل وبأنه سيعزل. وبهذه الطريقة، ستكون في منأى من المحاسبة والمحاكمة والعقاب. وبهذه الطريقة أيضا،  ستقضي بقية حياتك إما في حديقة بيتك ترقب الشمس والطيور والغيوم وهي تمخر عباب السماء؛ أو على الشرفة، تطل على قوارب الصيادين وهم ينصبون الشباك  وسفن المسافرين وهي تشق عباب البحر.

لم تعجب "راع، كبير الآلهة" الفكرة إذ انفجر:
- ومتى كانت الآلهة تصاب بالجنون؟ من سيصدق الأمر؟ "راع، كبير الآلهة" يصيبه مس من الجنون؟!

رد عليه حكيم أكثر نضجا:
- ولكنهم، الآن، لا يعتبرونك "راع، كبير الآلهة".  إنهم يعتبرونك مجرد "عائق" يحول دون انطلاقتهم!

طأطأ "راع، كبير الآلهة" رأسه وهو يهمهم خوفا سمعه كل مفاوضيه:
- سيقتلونني!

طمأنه الحكيم الأكبر سنا من بين أعضاء اللجنة من المفاوضين:
- إنهم لا يريدونك ولا يريدون محاكمتك. إنهم يريدون فقط رحيلك. لذلك، فالقلق الذي يساورك حول الخروج المشرف والخروج غير المشرف هو قلق لا يشاركك فيه أحد من رعيتك. أنت الآن تخشى المحاسبة والمحاكمة والانتقام والتشفي. ولكن الحقيقة ألا أحد يعبأ بالأمر. لن ينتقم منك أحد ولن يتشفى فيك أحد ولن يهتم بك أحد ما دمت خرجت من الحكم والوجدان والتاريخ. ونعدك بأنك، حين تعلن تنحيك عن سدة الحكم، ستفاجأ بكون الشعب لن يعبأ بعد ذلك حتى بالوجهة التي ستقصدها. لا شيء يهم الناس اليوم غير قرارك الرحيل. وبعد ذلك،  سينغمس الجميع في نشوة فرح ستدوم لسبعة آلاف سنة قادمة تماما كما رزحوا  تحت الاستبداد والظلم والقهر لمدة سبعة آلاف سنة خلت بُنِيَِتْ على ظهورهم خلالها الأهرامات والمسلات بالصخور التي لا تستطيع حتى شاحنات اليوم حملها. لن يأبه لك أحد إلا بعد سبعة آلاف سنة من الآن. وآنذاك، سيلتفت إليك من لا زال في مسامعهم صدى لاسمك ليجدوك قد ووريت الثرى في مقبرة واراها الزمن وضاعت في مجاهل الجغرافيا. تنح ولا تخف شيئا. دع الناس تحتفل بنصرها الأول على سلالات الفراعنة الممتدة على مدى سبعة آلاف سنة. الثوار، اليوم، لم يخلعوك لوحدك ولكنهم خلعوا، من خلالك، كل الطغاة الذين جلسوا قبلك على ذات الكرسي الذي تجلس عليه الآن. إن عمر حكمك، على طوله، لا يساوي شيئا، بالنسبة لهم، مقارنة بالآلاف السبعة من الوجود تحت الأقدام الضخمة التي خصّت بها الطبيعة الفراعنة دون سواهم!

الجمعة 18 فبراير 2011

 

(النص الحالي هو النص الثاني من المجموعة القصصية قيد التحرير "2011، عام الثورة" احتفاء بالربيع العربي)