السيرة الذاتية

يوسف الخطيب

أعلمني أبواي أنهما أتيا بي إلى هذه الحياة الدنيا في صبيحة اليوم السادس من شهر آذار من عام 1931، وكان ذلك في بلدتنا الفلسطينية الجميلة التي تلاصق مدينة الخليل من جنوبها الغربي، بإطلالة بانورامية فسيحة، تلتقي فيها السماء على خط الأفق البعيد بشريط الساحل الفلسطيني على مبعدة أربعين كيلومتراً، فيما بين مشارف يافا شمالاً، حتى مشارف غزة في أقصى الجنوب، وتحمل اسم واحدة من إلهات الحب والجمال اللائي لا حصر لهن في تراثنا الكنعاني السحيق.. هي قرية " دورا ".

ولا أدري، أكانت صرخة الميلاد التي أطلقتها في صبيحة ذلك اليوم من مقتبل الربيع، مجرد أداء عضوي لتلك الوظيفة الفيسيولوجية الكائنة في فطرة الإنسان، أم رجع صدى لصراخ وطن بأكمله، وشعب بأسره، واقعٍ تحت نير الاحتلال البريطاني، والاستعمار الاستيطاني اليهودي، في حين كانت مآذن فلسطين، وأجراسها، ماتزال تنعي بأسىً عميق " ثلاثة الثلاثاء الحمراء"، فؤاد حجازي،و عطا الزير، ومحمد جمجوم، وهم يتأرجحون تباعاً في أنشوطات إعدامهم في سجن عكا المركزي، يوم السابع عشر من حزيران من العام الفائت، (1930)، في أعقاب ثورة البراق. في ظل هذا المناخ، زماناً، ومكاناً، وُلِدتُ، وحَبَوْتُ، ونَمَوتُ ..  فما إن بلغت سن الخامسة حتى اقترن وعي الطفولة الأول عندي مع إضرابنا الفلسطيني الكبير عام 1936، كمقدمة للثورة الفلسطينية الكبرى في العام اللاحق 1937  وطبيعي جداً أن ذاكرة الطفولة في مثل هذه السن المبكرة لن تكون قادرة على اختزان الأحداث الكبيرة بمختلف مدلولاتها وأبعادها السياسية، ولكنها ستكون أكثر مقدرة مما هي عند الكبار، على التقاط بعض المواقف والتفاصيل الصغيرة جداً، واختزانها بالتالي مدى الحياة.

وهكذا، فإن مثل هذه التفاصيل الصغيرة التي تستوطن ذاكرتي ولا أستطيع نسيانها ما حييت، مشهد أمي وقد وقفت لصلاة الفجر أثناء ما كنت أنا وشقيقي الأصغر فيما بين النوم والاستيقاظ، وفجأة ينخلع باب بيتنا الخارجي بِجَلَبَةٍ وصراخ شديدين، ويندفع إلى داخل حجرتنا نفر من الجنود البريطانيين في بساطيرهم الثقيلة وبناطيلهم العسكرية النصفية (الشورت)، وهم يتصايحون برطانة كريهة كذئاب جائعة، ليس لاعتقال أبي لأنهم يعلمون أنه كان قد وجد لنفسه مَهْرَباً مؤقتاً إلى سوريا، وإنما بحثاً عن أية رائحة لأي سلاح حتى في حدود (الفشكة الفارغة)، تلك التي كانت في ذلك الزمان كافية للحكم على من توجد عنده بالأشغال الشاقة لسنوات وسنوات.. وأما إذا كانت رصاصة حيَّة حقيقية فمن غير المستبعد أن توصل من يحتازها إلى أُنشوطة الإعدام !!

ثمة تفصيل آخر لا أنساه، هو تلك الآلة الجهنمية الطائرة التي أحسّ كما لو أنها تعربد الآن فوق رؤوسنا.. ثم هاهي أخيراً تمزق بنيرانها جسد مواطن مطلوب كان قد التجأ إلى مقبرة البلدة الجنوبية، فتتركه جثة هامدة إلى جوار أقرانه في دار الآخرة!!.. ومن مثل هذه المواقف والمشاهد والتفاصيل الصغيرة ما ليس يتسع المجال لذكره في مثل هذا السياق.. ولكن، على اعتبار أن عهد الطفولة بالنسبة لكل إنسان هو حجر الأساس الذي ستنبني عليه شخصيته، إلى حد كبير، في مرحلة الوعي والإدراك، فإنني أستطيع أن أفسر الآن لماذا نشأت وترعرعت ساخطاً إلى حد الثورة والانفجار على جميع أشكال الظلم والتعسف والطغيان، خاصة من جانب أعدائنا التاريخيين هؤلاء، من صهاينة وصليبيين جُدُدٍ في لُحمة واحدة...

على أن طفولتي اتسمت في الوقت نفسه، وربما بالقدر نفسه، بعشق الجمال بجميع تجلياته في ذلك الزمان، سواءً بانسراح البصر في مفاتن الطبيعة الفلسطينية الخلابة إلى حد السحر، أو بانسراح الخيال مع حكايات جدتي لأبي "غزلان"، إذا أنا متكوِّرٌ في حضنها إلى جانب الموقد في ليالي الشتاء، وهي تسكب في مسمعي، بمرافقة موسيقى الرعد والبرق والمطر، قصائد شقيقها الشاعر الشعبي الأكثر شهرة في ذلك الحين " محمد كاشور "، مع ما يرافق ذلك الكلام المنغَّم الجميل، الذي يُعرَف "بالشعر"، من نوادر وطرائف وعجائبيات كانت تسافر بي خلف حدود الزمان والمكان.. ففي دِفء حضنها، إذنْ، كان أن سمعت الشعر لأول مرة في العمر، وبدا لي أنه أجمل بكثير مما يتبادله الناس من كلام عادي، ولعلي تساءلت أيضاً ما الذي يمنع كل الناس من أن يكون كل كلامهم على هذا القدر من الرقة والعذوبة والجمال؟!..

لاحقاً لذلك كان والدي يصطحبني أحياناً إلى بعض السهرات في ديوان القرية الذي كان يعرف في تلك الأيام باسم " الجامع "و الذي كان الآباء غالباً ما يصحبون إليه أبناءهم منذ نعومة أظافرهم لكي يزرعوا فيهم الرغبة في مجالسة " الكبار "، والاستماع بوعيٍ إلى أقوالهم "الناضجة، والراجحة "، إضافة إلى ما يتبادلونه حتى منتصف الليل من سير وأخبار وطرائف مثيرة للخيال.. على أن أكثر ما كان يطيب لي في تلك العشيات الممتعة هو حصة الشاعر الشعبي بما يسرده على السمار من مغامرات عنترة العبسي، وأبي زيد الهلالي، وغيرهما، وبما ينشده من الأشعار الشعبية على أنغام الربابة، وهي التي كنت أطرب لسماعها ربما أكثر من وقائع المغامرات ذاتها، وأحياناً كنت أحفظ بعض من أبياتها وأحاول تردادها.. وحقيقة الأمر أن شخصية " الشاعر الشعبي " خاصة عندنا في أرياف جبل الخليل، بدت لي أفضل بكثير من شخصية " حكواتي المدينة " كما عرفتها لاحقاً في بعض مقاهي القدس العتيقة، فالأول أطيب فطرة وسليقة، وأقرب إلى لغة بادية بئر السبع والنقب، التي هي أقرب بدورها إلى العربية الأصيلة، كما أنه يمتاز بقوة الارتجال فيعطيك الحكاية نفسها في كل مرة بلغة مختلفة عن سابقتها، بينما "حكواتي المدينة " يقرأها عليك كتلميذ جاهل من نصٍّ مكتوب بلا أي رونق أو خيال..

كان والدي العظيم، تغمده الله برحمته الواسعة، يقف في الطليعة تماماً من بين حفنة من الأشخاص كانوا لا يزيدون عن أصابع اليد الواحدة، ممن يقرؤون جيداً، ويكتبون جيداً، من بين سكان القرية وأكنافها البرية الذين كانوا يزيدون حتى في ذلك الزمن السحيق عن خمسة آلاف .. وهكذا .. وعلى مبدأ طلب العلم من المهد إلى اللحد، فوجئت به ذات يوم، وبدون سابق إنذار، وهو يمسك بيدي الصغيرة ويُودِعني في كُـتَّـاب "يوسف الشريف" القريب من منـزلنا على مرمى الحجر كما يقولون، ثم، لسبب لا أدريه، عاد فأودعني في كُـتَّـاب "عبد فقوسة" البعيد تماماً عن منـزلنا في حارة "المسالمة" بآخر القرية.. وكل من الكُـتَّـابين مجرد حجرة صغيرة يتكدَّس فيها الأطفال كما لو في علبة سردين، ويتمُّ فيها تأهيل " الصبية الذكور حصراً " لدخول الصف الأول الابتدائي في المدرسة النظامية عند بلوغهم السن القانونية لذلك، فيحفظون عن ظهر قلب جُزئيْ " عَمَّ " و" تبارك " من القرآن الكريم عن ظهر قلب، بإجادة لفظية لمخارج الحروف لا تسامح فيها، ويتعلمون الأبجدية، ويكتبون بعض المفردات على ألواح من الصاج تُعلَّقُ في أعناقهم.. ويا للحفاوة الكبيرة التي كان ينعم الصبي بها من جميع أفراد أسرته عند اجتيازه لعتبة "الكُـتَّـاب" هذه، فكان يحتفى به أكثر بكثير من احتفال أهله حتى "بطهوره"، تماماً كما لو كان عائداً إليهم لِتَوِّه بأرفع الدرجات العلمية من أكسفورد.

في تلك البرهة الوجيزة كلمح البرق التي التحقت فيها بمدرسة "دورا " الابتدائية، طرأت على جميع أرجاء الوطن الفلسطيني أحداث كبيرة مربكة، بدت لي في تلك السن الصغيرة المبكرة أكثراً اختلاطاً والتباساً من أن أستوعبها في حينها، ولكنني سأعلم في السنوات القليلة اللاحقة أن تلك الأحداث غير الاعتيادية كانت نتيجة طبيعية وحتمية لتذاري مرحلة " الإضراب الفلسطيني الكبير، لستة أشهر، سنة 1936 "، في حين كنت ما أزال في أول وعي الطفولة بأحداث الحياة العامة.. فها نحن نفتقر فجأة لرعاية والدنا العظيم على رأس أسرتنا المتحابة المتماسكة كقلب واحد، رغم أنها تتألف من تسعة إخوة وأخوات من زوجتين اثنتين حتى ذلك التاريخ، سيصبحون سبعة عشر أخاً وأختاً مع الزوجة الثالثة لأبي في زمن لاحق.. وأما الآن فقد أصبح والدي أحد المطلوبين الكثر لسلطات الاحتلال البريطاني بتهمة إيوائه أو إسناده لبعض الثوار المحليين في نطاق جبل الخليل، فلم يجد بداً من التسلل هارباً عبر شرقي الأردن إلى ريف دمشق، ملتجأً هناك عند بعض أقاربنا في بلدة " الكسوة "، وهي التي كان جدي قد غادرها نهائياً على زمن العثمانيين، لكي يزرع أسرتنا مجدداً في جبل الخليل.. لكن والدي لم ينجُ بنفسه على هذه الشاكلة إلا بعد أن كان قد وفَّر لنا ملجأً آمناً، ومَهْرَباً بعيداً نسبياً في أعماق برية جبل الخليل، عند بعض أنسبائنا من آل الشعراوي في " خربة مريش".. ولعل من الضروري الإشارة إلى أن مفردة "الخربة " هذه، بالمصطلح البلداني الفلسطيني، ربما كانت تشبه "العزبة" بالمصطلح البلداني المصري، مع فارق ما بين الطبيعتين الجبلية الوعرة عندنا، والسهلة المنبسطة المسترخية على ضفاف النيل.. وعلى أية حال، فإن عدد سكان الخربة الواحدة لم يكن ليزيد إلا نادراً عن عشر أسرٍ إلى ما هو أكثر من ذلك بقليل، وكانت كل أسرة تقريباً تتخذ لها مسكناً مؤقتاً، أو حتى دائماً أحياناً، إحدى المُغُرِ الجبلية الدافئة والآمنة من غوائل الذئاب والضباع، إضافة إلى غرفة أو اثنتين من حجارة البرية الخام المرصوفة بعضاً إلى بعض بدون أية هندسة أو نظام، وبجمالية متوحشة بدائية تعيد الإنسان إلى ما يقرب من فطرته الأولى في قديم الزمان.. ولست أستطيع أن أتذكر الآن ما إذا كانت المدة التي قضيناها مع تلك البرية الجبلية بكامل عذريتها، وتمام جمالها وجلالها، تقارب ستة أشهر، أو سبعة، أو ربما ثمانية.. لكن ما أستطيع أن أتذكره على الدوام هو أنني في هذه الفترة شاركت بعض الرعاة ممن التجأنا إليهم في رعاية الأغنام، فكنا " نسرح " مع القطيع قبل طلوع الشمس، ولا نعود أدراجنا ثانية إلا عند مغيبها.. لقد صعدت في تلك السن سفوحاً، وهبطت ودياناً، مجلَّلة ببسط خرافية خضر من الأعشاب، تزركشها في الوقت نفسه أنواع لا حصر لها من الزهور البرية بجميع ألوان الطيف، من الليالك، والسواسن، وشقائق النعمان.. في تلك الفترة أيضاً أكلت من مائدة الطبيعة المفتوحة قرون " الجلثون "، وأقماع الفطر الشهية، وحبوب " السعيسعة " الطرية اللذيذة، وسواءً عطشت أم لم أعطش فكم من مرة أمسكت فيها بضرع النعجة، أو العنـزة وحلبته في جوفي شراباً عذباً طهوراً إلى حد الري والشبع في آن.. كذلك شهدت في تلك الفترة، وبأم عينيّ هاتين، إغارة الذب على فلول القطيع المخلفة وراءه بعض الشيء، وأبصرت على الطبيعة مباشرة، لا من خلال أية شاشة صغيرة أو كبيرة، حميَّة كلاب القطيع، ودفاعها المستميت عنه، ومطاردتها للذئب إلى أن يختفي عن الأبصار، لدرجة أصبحت أتمنى معها (في وقت لاحق من الزمان)، لو أن حكامنا وزعمائنا العرب كانت لهم مثل حمية تلك الكلاب !!..

قصارى القول، لعل هذه الفترة من الحياة البرية الجبلية، في مطلع الطفولة، كان لها الأثر الأهم في تأسيس علاقتي الحميمة مع الطبيعة الفلسطينية إلى مرتبة العشق والهيام، كما سيظهر ذلك جلياً في غير قليلٍ من أعمالي الشعرية في سن الإدراك، وربما إلى سن الشيخوخة الحالي الذي أسرد فيه هذه الذكريات .. ثم في ختام فترة اللجوء المؤقت هذه، وجدتني، في عداد جميع أفراد الأسرة، نعود أدراجنا ثانية إلى بيتنا في دورا، كما وجدت هذا الكائن البشري الصغير الذي لم يكن أحداً سواي، يُعاد مرةً ثانية إلى كـتَّـاب " عبد فقوسة " في حارة "المسالمة".

*   *   *

بعد فترة أكاد لا أتذكرها، ولكن ذلك لا بد أن يكون في بداية السنة الدراسية النظامية في خريف عام 1936، وجدت أخي الكبير "علي"، يأخذني إلى مدرسة البلدة الابتدائية والوحيدة في ذلك الحين، لكي يسجلني تلميذاً في صفها الأول بين أيدي معلميها الثلاثة أو ربما الأربعة، وتحت رحمة مديرها "الأزرق الشريف" الذي كان ذائع الشهرة برصفه جَلاَّد جميع الطلاب الكسالى أو المشاغبين، فكان، يرحمه الله، يُنـزل عقوباته العادية المخففة بعصا لَدِنَةٍ من شجر الرمان يهوي بها على باطن كفِّ التلميذ عدداً من المرات، بينما في حالة العقوبة الاستثنائية المشددة كان على التلميذ أن يقلب راحته إلى الأسفل لكي يتلقى الضربات على ظهرها العظميّ، لا بعود الرمان هذه المرة، بل بحافة المسطرة الخشبية الحادة التي كانت كل ضربة منها تشوك أن تخلع القلب ألماً وصراخاً واسترحاماً، ولكنها في الوقت نفسه كانت تلك العقوبات الرادعة الزاجرة مرةً واحدة وإلى الأبد، مما وضع جميع التلاميذ في حالة شِبه انضباط عسكري، اسبارطيٍّ، في ساعات الدرس والجد.. بينما في ساعات اللهو والمرح استطاع مديرنا " الأزرق الشريف" إياه أن يوفر لنا، حتى منذ ذلك العهد البدائي السحيق نسبياً، جهاز عرضٍ سينمائياً خاصاً بالمدرسة، وهو غير أجهزة العرض الزائرة، العابرة، التي كانت تتردد علينا في ساحة "النبي نوح " على مقربة من المدرسة، بنوبة شهرية، أو نصف شهرية في بعض الأحيان، لكي تعرض علينا في العشيات الصيفية، وفي الهواء الطلق، وبالمجان بطبيعة الحال، بعضاً من سموم الدعاية العسكرية البريطانية في أوار الحرب العالمية الثانية ضد الألمان والطليان، مدسوسة بغير ذكاء في كثير من المواد الفلمية الدرامية، والغنائية، لعبد الوهاب، وفريد الأطرش، وأم كلثوم، وأسمهان، وألمع نجوم الشاشة الفضية في ذلك الزمان..و أما عن جهاز عرضنا السينمائي الخاص بمدرستنا الابتدائية (القروية)، فلقد كان أمراً مختلفاً تماماً، وربما غير قابل للتصديق بجميع مقاييس ذلك الزمان، حيث كان يؤدي وظيفة "وسيلة الإيضاح " المدرسية والتربوية والتنويرية عامة، بما يعرضه من مادة فلمية تطبيقية للطلبة الابتدائيين في مجال الزراعة والحدادة، والنجارة، وما إلى ذلك.. ولعله كان يجدر بي أن أشير من البدء إلى أن مدرستنا الابتدائية، القروية، تلك، لم تكن أمراً شائع المثال في أية قرية أو مدينة فلسطينية أخرى، بل كانت أنموذجاً باذخاً نسبياً لما ينبغي أن تكون عليه المدرسة الابتدائية العربية، في مقابل المدرسة الابتدائية (اليهودية) الأكثر تطوراً بوجه عام.. فمن هنا خطر لقائمقام الخليل عبد الله كردوس، المُعيَّن حديثاً آنذاك _(وهو عَلَمٌ فلسطيني ربما كان مقدسياً؟) _ أن يؤسس في قريتنا، وبإنفاق خالص من أهل القرية أنفسهم، مدرسة ابتدائية يبزُّ بها حتى أفضل مدرسة (يهودية) طارئة على أرض فلسطين. وحقيقة الأمر أنه نجح نجاحاً مذهلاً في تحدِّيه ذاك، ربما في أواخر عقد العشرينيات من القرن الفائت على ما أستطيع أن أتذكر الآن..

ذات يوم، ولا بد أن يكون قد انقضى ما يزيد عن عام من الزمان، فوجئنا مع عودة أبي من "بلاد الشام "، بطورٍ جديدٍ هانيءٍ ورائق من الحياة، سواءً على مستوانا العائلي الخاص بفضل ما تُوفِّره خيمة الأبوة من دفءٍ ورعاية وحنان لجميع أفراد الأسرة، أو حتى على المتسوى العام خارج البيت فيما يتعلق بيُسر الحياة وحسن العلاقات ما بين الناس.. فما أعلمه حالياً علم اليقين هو أنني أصبحت في الصف الثاني الابتدائي، بدلاً من الأول، بما يؤكد لي انقضاء ما يزيد عن سنة.. ولكنَّ ما سأعلمه لاحقاً، بعد بضع سنوات، هو أن السر في مثل هذا الانفراج العابر، على المستويين الخاص والعام، كان مردُّه إلى إعلان " الكتاب الأبيض " عن الحكومة البريطانية (سنة 1937)، في مسعىً لئيم منها لاستمالة العرب إلى جانبها، أثناء ما كانت نُذُرُ الحرب العالمية تحتشد بقوة.. في جميع الآفاق.. وهكذا فَمَن لم يكن سياسياً بطبعه، أو من هواة الشأن السياسي بوجه عام، فإن عليه ابتداءً من هذه الأيام أن يتعود على مقاربة هذا الشأن العويص والمثير معاً حتى لو كان ما يزال في سن الطفولة بعد، لأنه لن يمر من الوقت إلا ما يقل عن سنتين اثنتين حتى تقع الواقعة العظمى، وحتى تصبح أسماء إفرنجية غريبة من مثل هتلر، وموسوليني، وتشرتشل، تجري على كل لسان كما لو كانوا من أولاد الجيران..

بعد سنتين أيضاً سيكون عهد إقامتي الدائمة في بلدتنا الحبيبة " دورا" قد انتهى بحكم الضرورة، لأن مدرستها النموذجية الآنفة الذكر لم تكن في الحقيقة إلا " نصف ابتدائية " تتوقف الدراسة فيها مع ختام الصف الرابع الابتدائي، وعندئذ سيكون من الحتمي على كل راغب في مواصلة الدراسة أن يطلبها في مدرسة الخليل الثانوية على بعد ستة كيلومترات من " دورا " ولكنها ستة كيلومترات جبلية، وإن تكن في الوقت نفسه مفعمة بجمال الطبيعة وجلالها، لأنك ما إن تبتديء طريقك باتجاه المدينة الشمالي الشرقي حتى يكون عليك أولاً أن تضع " مزرعة السمقة " التابعة للمدرسة على شمالك، مجتازاً " واد أبي القمرة " بكل نمائه الطافر الخضرة، فمنعطفاً قليلاً على يسارك عند كَرْم " خَلَّة سِيرتا "، فصاعداً بعد ذلك " عَقَبة كنار " بمشقة بالغة، ثم ها أنت تنحدر من خلفها لتسير ما يقرب من كيلومترين عبر طريق متلولبة كأفعون على حافة وادٍ شديد الانحدار كأخدود عميق، إلى أن تبلغ " عين لُنقر "، فتبلَّ ريقك من مائها العذب، أو قد تحاول نوعاً من السباحة الهزلية في بركتها الضحلة التي لا يرتفع الماء فيها حتى "صابونة" الركبة، ثم تستأنف طريقك بشبه خط مستقيم باتجاه الشمال عبر مسافة هَيِّنة من عرائش الكرمة، وحقول التين، والزيتون، والسُمَّاق، والبُطم، والخرُّوب، وعشرات الزروع الأخرى، وقد أرخت جدائلها المثقلة بالثمار لنسائم لاصيف الرخية، مرسلة إليها مباشرة من بحر يافا على خط الأفق الغربي البعيد.. وأخيراً، فها أنت ذا عند نقطة "الحاووز" تماماً، من حيث تقع عيناك أول ما تقعان، على "وادي التفاح" الذي كان يشكل _(قبل نَيِّفٍ وستين سنة) _ إحدى ضواحي المدينة من جنوبها الغربي..

*   *   *

لكنني الآن، ولسنتين قادمتين _ سأواصل الدراسة في مدرسة القرية النموذجية، ولقد أحسن بناتها اختيار موقعها الفريد في قمة رابية " النبي نوح " إلى جوار جامعه هناك، من حيث تمتاز بإطلالتها البانورامية الفسيحة (التي أسلفت الإشارة إليها) ما يقرب من كامل الربع الجنوبي من الساحل الفلسطيني على خط الأفق البعيد، وما بينهما قرابة أربعين كيلومتراً من الطبيعة الفلسطينية الخلابة، المنحدرة تدريجياً من سفوح الجبال إلى أن تتصل غرباً بالسهل الساحلي الفسيح، أشبه ما تكون بقطعة من فردوس النعيم رسمتها أصابع الله على أرض فلسطين.. ويقيناً أنني لم أكن في أي يوم من أيام الدراسة تلك من فئة التلامذة الكسالى أو الخائبين، ولكن أبي أعلمني ذات يوم، وأنا في الصف الثالث الابتدائي أن معلم الحساب شكاني إليه بعدم التركيز والانتباه الشديد أثناء الدرس، ولم أكن لأعلم في تلك السن الطفولة الغضة، أنني سأنتظر نيفاً وستين سنة من العمر قبل أن تحين لي الفرصة، الآن، (في هذه السطور التي تقع حالياً تحت أعين القراء)، لكي أدفع تلك الشكوى بأنني، في الوقت الذي كانت فيه عيون التلامذة الآخرين تتسمَّر في أرقام اللوح الأسود، أو في دفاتر الحساب، فلقد كانت عيناني تفضلان الشرود من زجاج النافذة الفسيحة عن يساري، في مطالعة كتاب الطبيعة الفلسطينية المفتوح أمامي على دفتيه اعتباراً من أزاهير جنينة المدرسة نفسها بجميع ألوان الطيف، حتى التقاء السماء بخط فيروز البحر المديد في نهاية الأفق البعيد..

حتى ذلك الصف الثالث، كنا في جميع المدارس الفلسطينية نتعلم قراءة اللغة العربية وكتابتها، وبعض مبادئها الأساسية التي تناسب أعمارنا ومداركنا، من الجزء الثالث من كتاب أديبنا الفلسطيني الكبير " خليل السكاكيني " بعنوان "راس روس "، ولقد كان هذا المربي الجليل حقاً مسيحياً أرثوذكسياً غيوراً على عروبته، وعلمنا لاحقاً، في سنيِّ التمييز والإدراك، أنه قضى شطراً محسوساً من عمره يناضل باستماتة في سبيل استنقاذ الأرثوذكسية العربية الفلسطينية من هيمنة الكهنة الأجانب، الإغريق، الذي كانوا، وربما ما يزالون يحتكرون رئاستها ومراتبها الإكليركية العليا، منذ "عصر الامتيازات" الذي خنعت فيه السلطنة العثمانية بمذلة مخجلة لإملاءات فرنسا "الكاثوليكية "، وروسيا القيصرية " الأرثوذكسية ".. وكائناً ما كان الأمر فقد كان لهذه الكتب الثلاثة لخليل السكاكيني أعظم الفضل في تلقين أطفال فلسطين مبادئ العربية بصورة علمية ذكية، وتحبيبها إليهم إلى حد الافتتان بها والإخلاص لها على مدى الدرجات التالية من سُلَّمِ التربية والتعليم، ولعلي لا أجانب الصواب إن اعتقدت أنها ربما كانت أفضل بكثير من كتب تعليم الأطفال في هذه الأيام، برغم ما هي مكتظة به إلى حد التخمة من بهرج الألوان وتلك الرسوم الإيضاحية التي تغتال في الطفولة كل خيال !!..

في الصف الثالث الابتدائي أيضاً، كان عندنا معلم حسن الصوت اسمه " محمد العزَّة " من بيت جبرين، وكانت حصته من التدريس أن يعلمنا " تجويد" القرآن الكريم.. وإنها وحق الله لحصة عظيمة النفع، تَعَلَّمنا من خلالها، ومنذ نعومة أظافرنا، كيف ينبغي لنا أن نتكل لغتنا بلفظٍ جليٍّ مُبين، وبأداءٍ سليم لمخارج الحروف، وتناسب في الأبعاد الصوتية ما بين الحرف والحرف، والكلمة والكلمة، وذلك عن طريق الاستماع والمحاكاة، لا من خلال أية قوننة صارمة، أو تعقيد جاف، كما تفعل المناهج التدريسية بأطفالنا هذه الأيام، فتؤسس حالة مزمنة من العداء والكراهية ما بين الطفل ولغته الأم. هذا، على أن "محفوظاتنا الشعرية" الوجيزة، والبديعة، والمنتقاة لنا بعناية تربوية فائقة، كانت بدون ريب هي الأقرب إلى نفسي، والأحب إلى قلبي، لدرجة تمنيتُ معها أحياناً لو أ، كل مواد الدراسة، من ألفها إلى يائها، كانت تقتصر على حفظ الشعر وإنشاده، وانتهى الأمر.. لكن الحقيقة المرة لم تكن كذلك مع الأسف العميق، خاصة عندما تبلغ المرحلة الثانوية بعد سنوات قليلة، فتجد الخوارزمي كامناً لك داخل الفصلِ بمادة " الجبر "، ثم لاحقاً لذلك بطلاسم " اللوغاريتمات " كما لو كانتْ " خرابيش " أحجبة، لا تطرد الجن بقدر ما تجلبهم داخل رأسك.. فعند ذلك فقط ستتذكر مبلغ النعمة التي كنت تعيشها حتى مع امريء القيس، بل وحتى مع الشنفرى وتأبط شراً..

وأما خارج المدرسة، أو تحديداً في بيتنا الذي يتوسط الجانب القبلي من القرية، ما بين "حارة العمايرة " و" حارة العرجان "، فقد كان أبي يحتفظ في " العِلِّيةِ " الحجرية الخاصة به بخزانة خشبية متواضعة تضم رفوفها، إلى جانب أوراقه الخاصة، عدداً محدوداً من الكتب المختلفة، ومن بينها عدد من المصنفات الأدبية، ومجاميع المختارات الشعرية، من مثل " مجاني الأدب " للأب اللبناني " شيخو اليسوعي " في ستة مجلدات، و" جواهر الأدب " لأديب لبناني لا أتذكر اسمه الآن، ناهيك عن المعلقات السبع وما إليها، إضافة إلى كمٍّ وفير حقاً من الكتب أو المجلات الدورية التي كان يأتينا معظمها من نتاج المطبعة المصرية من مثل كتاب " إقرأ " الشهري، أو مجلة " المختار " الشهرية هي الأخرى مترجمة، بتمامها عن مجلة " Readers Digest " الإنجليزية.. زد على ذلك أشكالاً وألواناً من مؤلفات عباس العقاد، وإبراهيم المازني، وتوفيق الحكيم، وطه حسين، وعشرات الكتاب المصريين الآخرين، كنت نشتريها بأزهد الأثمان في تلك الأزمنة الطيبة الخيرة من مكتبة " كمال تفاحة " الواقعة مباشرة إلى يمين مدخل بيتنا الآخر في مدينة الخليل، وقبالة مكتب عمل والدي في منتصف شارع " باب الزاوية".

لم تكن هناك بطبيعة الحال " تلفزة " في تلك الأيام، ولعل تلك هي المنحة الإلهية العظمى التي أنقذت طفولتنا وخيالاتنا من الوقوع في أسر هذا الجهاز الجهنمي إلى حد العبودية الطيِّعة البلهاء.. لقد كانت تحكى لنا الحكاية في طفولتنا، أو نقوم لاحقاً بقراءتها في عهد الفتوة من مجلة أو كتاب، فتقوم أخيلتنا الحرة النشطة، بِرسم ملامح أشخاصها وبتمثيل حركاتهم وسكناتهم، وتصوير كل ما يجري لهم من وقائع عادية أو مغامرات وأهوال، وما يدور على ألسنتهم من حوارات الحب والبغضاء والأفراح والأحزان، بكامل استقلا ملكاتنا الذهنية، عن أية مؤثرات خارجية، في مجال التخيل المبدع الخلاق.. لقد كنا ببساطة نحن الذين ننتج عوالمنا الداخلية الخاصة بنا، لا عوالم الآخرين هو التي تنتج طفولتنا كيفما تشاء.

نعم، لقد كانت هنالك " الإذاعة " في طورها الطفولي الأول، ولكن، لأن التيار الكهربائي لم يكن قد وصل إلى مدينة الخليل نفسها في تلك الأيام، فمن المستحيل بالتالي أن يكون قد وصل إلينا في قرية، فلذلك كنت نُشغِّل الراديو البريطاني الصنع المتوفر لدينا من طراز "PYE " بواسطة بطارية سيارة نشحنها في المدينة، ونقتصد إلى أبعد الحدود في استهلاك مدة صلاحيتها قبل أن نبعث بها إلى المدينة لكي تشحن مرة أخرى.. وأما عن " الفونوغراف" الذي اشتراه والدي لأخي الأكبر " علي "، لنجاحه الطيب في شهادة الصف " الثاني الثانوي " بمدرسة " عين السلطان " في الخليل، فلم يكن بحاجة إلى تيار كهربائي نظامي، بل إلى مجرد تعبئته يدوياً بإدارة ذراعه الجانبية ربما عشر مرات أو أكثر، فإذا ما أحسست أن صوت محمد عبد الوهاب، أو أم كلثوم، أو غيرهما، قد بدأ يخبو تدريجياً، فما عليك سوى أن تسعفه ببضع تدويرات أخرى إلى أن يسترد عافيته، وحقيقة الأمر أنني ربما كنت أكثر استعمالاً لهذا الجهاز الجهنمي العجيب من أخي الأكبر نفسه وسائر أفراد الأسرة، لأنه كان يعني لي " لعبة " مسلية تماماً، بالإضافة إلى وظيفته الأساسية في فن التطريب..

وعلى أية حال، فإن كامل الوقت الذي كان باستطاعة هذين الجهازين العفريتين _(الراديو، والفونوغراف) _ أ، يختلساه من إنسانٍ قروي، في عهد الطفولة أو الفتوة، لم يكن بذلك الزمن المحسوس الذي يؤبه له، في حين يبقى لديك قدر هائل من " وقت الفراغ" الذي تحار كيف تقضيه.. فَهَبْ، مثلاً، أنك الآن قد ذاكرت دروسك جيداً، وأنجزت وظائفك المنزلة على أفضل وجه مستطاع.. ثم هَبْ أيضاً أنك قد لعبت " البنانير " مع أترابك، أو خرجت لِتَوِّكَ غالباً أو مغلوباً من إحدى مباريات الزقاق " بالطجة " _ (بما يعني كرة القدم بكتلة مخزومة جيداً من الخرق البالية).. أو قل أخيراً إنك قد شبعت من لعبة " الخِلال " _ (التي ستقرأ في أزمنة بعيدة لاحقة أنها كانت اللعبة المفضلة لنَبيِّكَ الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم وإني لأعجب لاتحاداتنا الرياضية العربية والإسلامية لماذا لا تحيي هذه اللعبة الرياضية الممتعة إن كانت على علم بها، فأنا شخصياً لم أعلم بأن الرسول كان يلعبها في فُتوَّته إلا عرضاً من خلال قراءة عابرة).. بل هَبْ فوق ذلك كله أنك قد " نكشت " التربة جيداً حول جذوع الأشجار في " حاكورة " الدار، أو ذهبت بِسَلَّة فارغة إلى كَرْمِكم في قعر " وادي نزار " وعُدتَ بها ملأى بعناقيد " العنب الخليلي "، والتين، والزيتون، وما إلى ذلك من غلال طيبة مباركة يفيض بها صدر فلسطين.. ثم.. ماذا بعد؟!.. إن تلك، بالنسبة لي، كانت هي المسألة !!..

لذلك سرعان ما أوجدت حلاً لمسألتي الخاصة هذه عن طريق تلك الخزانة الخشبية التي قد لا يزيد ما فيها من الكتب عن عشرين عنواناً، ولكنها التي تضم ما بين أغلفتها ألوف الأخبار والأشعار لمئات الناس من مختلف العصور.. وبدون أن أنتظر بضع سنوات أخرى لكي آخذ علماً بنصيحة أبي الطيب المتنبي بأن خير جليس في الزمان هو " الكتاب " فقد اهتديت بنفسي، ومنذ عهد الطفولة الباكرة، إلى هذا الجليس الرائع والصديق الوفي المؤنس والمزمن في آن.. ولربما كان من طبيعة الأمور بالنسبة لتلميذ صغير يقترب حالياً من الصف الرابع الابتدائي، أو لعله قد أصبح فيه، أن ينفر بقوةٍ من مصادقة هذا " الجليس " الذي يبدو ثقيلاً من فرط ما يختزن في إهابه من حكمة ووقار، أو فنونٍ وأشعار، هي بكل المقاييس ليست من شأن الصغار!!.. وبرغم ذلك أعترف بأنني أنا الذي كنت أسعى إلى مجالسته، وأخطب وده، وأنهل من ينبوعه العذب تلك الحَسَوات الصغيرة الرائقة، لأنه لم يكن في الوسع أن اجترعها دِهاقاً في تلك الأيام.. ولقد كانت مجلدات " مجاني الآداب " الستة، في إصدارها الأصلي الكامل عن المطبعة الكاثوليكية في لبنان، تبدو لي شبه قارَّةٍ عظمى مترامية الأطراف، تمتد من بدايات "الجاهلية السحيقة " إلى نهايات عصور التردِّي والانحسار، كيلا أقول " عصر الانحطاط"، وتشمل على ذلك الكم الهائل شبه الموسوعي من عجائب الأخبار، وفرائد الأشعار، وهنا عند هذه الأخيرة، يقع بيت القصيد..

في تلك السن تعرفت لأول مرة، ومن خارج المدرسة، على شيء من الشعر قائمٍ بذاته، بمنزلة رفيعة، يُعرف " بالمعلقات السبع "، وفي كتب أخرى " بالمعلقات العشر ".. ولقد طال لي إلى حدٍ بعيد أن أتعامل مع أسطر هذه المعلقات المتناظرة في أطوالها، وكلماتها المشكولة بتمامها تقريباً، وهوامشها المستفيضة في شرح مفرداتها ومعانيها، بنوعٍ من القراءة شبيهٍ بالدخول في مغامرةٍ لِفَكِّ رموز رسالة مُشَفَّرة، فلئن لم أظفر بأية حصيلة تزيد عن العشرة في المئة من مؤدى المعلقة العام، ونادراً ما كان يتحقق لي ذلك، فقد كان في متعة المغامرة، في حد ذاتها، ما يُعوِّض عن نتيجتها القاصرة.. على أن ثمة شيئاً آخر، أهم بكثير من " متعة المغامرة " هذه، قد وقع لي من جَرَّاء القراءات المتعاقبة لتلك المعلقات وغيرها من مختلف القصائد، لمختلف الشعراء.. فبما أنك الآن ما تزال صبياً دون سن العاشرة، ومعنى ذلك أن حبال حنجرتك الصوتية ما تزال في أوج عنفوانها على طبقة " الجواب " الحادة والمرتفعة..و بما أنك على معرفة طيبة بتجويد الكلمات وإعطاء كل حرف فيها كامل حقه من النطق السليم.. وبما أن الكتب التي بين يديك تعطيك جميع القصائد التي في بطونها كاملة التشكيل حرفاً، حرفاً على وجه التقريب.. فما الذي يمنعك، والحالة هذه، من أن تقرأ هذه القصائد بأعلى طبقة صوتية تستطيعها، بكلٍ من ضبط مخارج الحروف، والالتزام شبه الحنبلي بسلامة التشكيل؟!.. فلئن لم تتسع صدور أهلك، ولا باحة البيت، لكل تلك الجَلَبة، فأمامك الحاكورة المجاورة للدار اصرخ فيها كما تشاء.. أو إذا كنت ذاهباً في إحدى غدواتك إلى "وادي نزار "، فاصطحب كتابك معك، واصعد أعلى ما تستطيعه من فروع شجرة " الخروب " المطلة من علٍ على قعر الوادي السحيق، وأطلق العنان لحنجرتك من هناك كما لو كنت في أمسية شعرية استثنائية تلقيها في هواء الجبل الطلق على جمهورٍ أسطوري من الأشجار، والثمار، ودوالي السفوح..

تلك، في الحقيقة، كانت إحدى تسلياتي المفضلة في عهد الطفولة ومُقتبل الفُتوَّة، ولست أزعم الآن أنها كانت، في حينها، أكثر من "لعب عيال " بالتعبير المصري الشهير.. ولكن " لعب العيال " هذا سرعان ما سيكشف لي في زمن لاحق قريب عن أنه لم يكن مجرد عبث عابر غير ذي بال، لأنه قد ترتبت عليه في حافظة اللاوعي عندي نتائج بالغة الأهمية في إرساء حجر الأساس المكين الذي سأقيم من فوقه مشروعي الشعري الذي يخصني، شخصياً، بحقِّ معنى الكلمة.. فأولاً، تحقق لي من جرَّاء هذه " اللعبة " عشق طفوليٌّ للعربية، مخلصٌ لها، ملتصق بصدرها، مستعذب لمفرداتها وسائر جمالاتها كما لو كانت قطرات من حليب الأم، فأصبحت أتعامل معها، وهي تستجيب لي بالمقابل، بقدرٍ كبير من العفوية، والاستغناء بالسليقة والفطرة عن كثيرٍ جداً من حنائط القواعد والإعراب، والقوانين شبه العرفية للنحو والصرف.. وثانياً، ولا ريب أن هذا هو الأهم، توفَّر لي من خلال تلك القراءات " السليمة "، بصوت " مرتفع"، قدرٌ لا بأس به من استكناه السر في الموسيقى "الخارجية" للشعر، وهي التي سأتعلم لاحقاً، في المرحلة الثانوية، أنها تقع في علمٍ قائم بذاته يعرف "بالعَرُوض"، كما سأكتشف بنفسي في مراحل تالية أنها تختلف اختلافاً نوعياً بَـيِّـناً عن موسيقى الشعر " الداخلية " من تصوير، وترميز، وتخييل، وإكساء للفكرة الشعرية ذاتها بِحُلَّةٍ لغوية متناسبة متناسقة.. وأما حالياً، وفي أواخر العقد الأول من رحلة العمر هذه، فلعل أهم ما قد توصلت إليه، بحاسة السمع، هو أن "النغم العام"في هذه القصائد ليس واحداً، بل من الممكن جداً أن يختلف اختلافاً بيناً ما بين قصيدة وأخرى، أو جملة قصائد من هنا، وجملة قصائد من هناك، كما أحسستُ أيضاً بأنني في حالة ما إذا وقعت في أيما خطأ في قراءة هذا البيت أو ذاك، بمستوى جيدٍ من الإلقاء إلى مرتبة الإنشاد، فسرعان ما يظهر لي أن خللاً محسوساً قد وقع في سياق ذلك "النغم العام"، فأسعى إلى معاودة القراءة أكثر من مرة إلى أن أشعر بأن البيد الذي بين يدي قد عاد إلى سياقه النغمي الصحيح، وهو السياق الذي أعجبني، بقدر ما أطربني فيه، أنه يختلف اختلافاً شديداً في معلقة امرئ القيس، عما هو في معلقة عمرو بن كلثوم، وفي هاتين المعلقتين عما هو في معلقة الحارث اليشكري، ثم في هذه المعلقات الثلاث بأجمعها عما هو في معلقة عنترة العبسي.. فياله من عالم شعري غنيٍّ بتعدد ألوانه النغمية، ولا وجه للمقارنة ما بينه وبين شعر "الربابة" الشعبي الذي غالباً ما يجري على وتيرة واحدة، رتيبة، تدعو إلى الملالة والسأم كلما طالت السهرة في "الجامع" الذي هو الديوان !!..

ها أنذا الآن قد أتممتُ العاشرة من العمر، ودلفتُ إلى سن الحادية عشرة، ومعنى ذلك، عملياً، أنني قد أتممت دراستي حتى ختام "الصف الرابع"، والنهائي، في مدرسة القرية الابتدائية، وأصبح لزاماً عليَّ أن أنتقل من منزلنا في "دورا" إلى منزلنا في الخليل، لأستأنف فيها دراستي في ابتدائية "عين خير الدين"، في حين كان العالم من حولنا قد دلف بدوره في السنة الثالثة من الحرب الكونية الثانية.. وحياة المدينة اليوم، هي غير حياة القرية البارحة.. ففي هذه الأخيرة كنا نعيش في شبه عزلة عن العالم، لا نتصل به إلا لماماً من خلال جهاز "الراديو" الطارئ على حياتنا منذ سنوات قليلة، أولاً بافتتاح إذاعتنا الفلسطينية في القدس، ثم بافتتاح إذاعة القاهرة ربما في السنة التالية، فسائر إذاعات العواصم العربية الأخرى في سنوات لاحقة.. وأما في المدينة، فها نحن أكثر حضوراً في حالة الحرب، وأخبارها، ومظاهرها المادية والدعائية المختلفة، فإذا مررتَ بشارع المدينة الرئيسي، "باب الزاوية"، الذي نقيم فيه، فإنك سترى جميع الجدران مَكسُوَّةً تماماً بمئات الملصقات المتعددة الألوان والأشكال بما مؤداه أن "انتصار الحلفاء، على المحور، أمرٌ محقق"، وسوف تطالعك صورة "ونستون تشرتشل" عند كل منعطف، وعلى مدخل كل زقاق، وهو يرسم إليك إشارة النصر بإصبعيه، أثناء ما يتدلى "السيجار" من شفتيه المنفرجتين بابتسامة هادئة واثقة، في حين سترى كُلاً من هتلر، وموسوليني، في هيئة كاريكاتورية مزرية ويائسة.. ولسوف تنهال عليك عشرات المطبوعات أو النشرات الدعائية بالمجان.. وراديو "صادق العشي"، إلى جوارك القريب، مفتوح على استطاعته القصوى بجميع نشرات الأخبار، ومختلف أغاني الأفلام المصرية الطازجة، كأنما ليقوم بدعايته الخاصة هو الآخر منادياً على جميع من في الشارع من سابلة لكي يتذوقوا مآكله الشعبية الرخيصة والطيبة.. ثم ها هو "حسني"، بائع الصحف الأعرج، وقد انبرى منذ صياح الديك، يصيح بدوره على بضاعته الحافلة من الصحف التي كانت في أغلبها الأعمِّ، إما محلية فلسطينية، أو مغرقة للسوق تماماً من نتاج المطبعة المصرية دون غيرها من سائر المطابع العربية الأخرى، وكان من بينها ما هو أسبوعي ثقافي رفيع المستوى، كمجلة "الرسالة" لأحمد حسن الزيات، و"الثقافة" لأحمد أمين، أو ما هو أسبوعي عادي كمجلة "المصور" وجريدة " أخبار اليوم "، أو ما يقع في فئة الصحافة الإثارية الصفراء كمجلة "الاثنين".. زد على ذلك عدداً من المجلات والكتيبات الدورية الأخرى، من مثل مجلة "الهلال" أو كتيب "إقرأ" الشهري الواسع الانتشار لذلك الحد الذي ستتعجب معه إن كانت هذه المطبوعات وأمثالها أكثر توزيعاً في مصر مما كانت عليه في جميع أنحاء فلسطين.. وأما محلياً، على مستوى المطبعة الفلسطينية، فلقد كان التنافس على أشده ما بين جريدة " الدفاع "، وجريدة " فلسطين "، وكان والدي_ (ونحن في معييته بطبيعة الحال) _ أكثر ثقة بالأولى، من الثانية، ومن على صفحاتها المحدودة كنا نطالع أخبار الحرب، وما جرى وما سيجري من المعارك الطاحنة على مختلف ساحات أوروبا، ومؤخراً على ساحة الشرق الآسيوي الأقصى، وأخيراً وليس آخراً في عُقر دارنا العربية فوق رمال " العلمين ".. وهنا تحديداً، عند هذه المعركة الحاسمة على مقربة من أبواب القاهرة، وعلى التخوم الجنوبية الغربية من إقليمنا الفلسطيني، الأصغر حجماً، والأخطر دوراً، بما يشبه قطعة القلب من جسد الوطن العربي الكبير، فلقد تحولت فلسطين بأكملها إلى ما يشبه " غرفة عمليات عسكرية " لقوات الحلفاء من مختلف جنسيات الإمبراطورية البريطانية التي لا تغيب عنها الشمس، فكنت ترى إضافة إلى العساكر البريطانيين أنفسهم، ألوفاً أخرى من العساكر الهنود والأستراليين، والأفارقة، وحتى العرب الذين التزم جميع قادتهم بموالاة الحلفاء من قعر سلم التبعية العمياء، إما برغمهم، وإما بزعمهم أن " بريطانيا العظمى " آنذاك، تحتفظ لهم بجوائز سياسية مرضية فور تحقيق النصر على " المحور"، اللهم باستثناء قائدنا الفلسطيني التاريخي، محمد أمين الحسيني، الذي ظل طيلة سِنِيِّ الحرب لاجئاً سياسياً في كَنَف أدولف هتلر، ليس إعجاباً بعنصريته الجرمانية الطاغية، وإنما لأن هزيمة بريطانيا، في أية حرب، مع أي عدو، بدت له نافذة الأمل الوحيدة لإبطال " وعد بلفور " وما يستتبعه من اغتصاب فلسطين، وتأسيس " جريمة إسرائيل ".. إلا أن رياح الحرب العالمية الثانية جرت بما لا تشتيه سفينة "الحاج أمين"!

في هذه الأجواء المحتشدة بأجواء الحرب، كانت مدرستنا الابتدائية في حي "خير الدين" بالخليل لا يفصلها إلا جدار حجري واطئ عن معسكر للجنود البريطانيين يجاورها من جهة الشمال، ولك أن تتصور مبلغ الطرافة والسخرية معاً في مشهد هذا الجمع من التلامذة الابتدائيين وهم يؤدون تمارين الصباح الرياضية في باحة المدرسة الفسيحة، وعلى مرمى الحجر منهم ذلك الجمع الآخر من الجنود الأجانب الكريهين حقاً، وهم يقومون بتدريباتهم العسكرية في غير قليل من جَلَبةِ الإيعازات وضوضاء حركة السيارات.. وأمام باحة المدرسة مباشرة، من جهة الشرق، يمتد طريق الإسفلت الرئيسي الآتي من القدس شمالاً، ليتعرج قليلاً داخل المدينة، ثم لينطلق جنوباً باتجاه بلدة "بئر السبع "، وثمة مئات الآليات العسكرية التي تمر من أمامنا يومياً، تقريباً، ما بين ذاهبةٍ الجبهة المصرية، أو آيبة منها، وما أكثر ما كنت ننصرف عن " معلم الحساب " بوجه خاص، لكي نسترق النظر إلى مثل ذلك العرض العسكري على الطريق العام، من بين قضبان الحديد على شبابيك الصفوف، ذلك بأن بناء المدرسة في أصله كان " قشلاقاً" للعساكر الأتراك قبل اندحارهم شبه المجاني أمام هؤلاء الصليبيين الجدد، من بريطانيين وفرنسيين، وقل إيطاليين أيضاً، لأن هؤلاء مع الألمان هم المعسكر المقابل لجيوش الحلفاء على اتساع رقعة ليبيا، وحتى مشارف القاهرة الغربية في العلمين..

في الصف الخامس الابتدائي هذا، بدا لمدير المدرسة الأستاذ " عيد الخطيب "، وبعض معلميها الشبان كالأستاذ " مخلص عمرو " _ (الذي سيكون له لاحقاً شأن سياسي كبير الأهمية في إطار المعارضة الشيوعية، خاصة على عهد الحكم الملكي الأردني " للضفة الغربية ") _ أنني أتمتع بمزايا استثنائية عالية في حصة " اللغة العربية " وأنني أقوم بإلقاء " المحفوظات الشعرية " المقررة علينا بطريقة باهرة مثيرة لإعجابهم، وربما كان مَرَدُّ ذلك إلى عشرات القصائد التي كنت قد اكتسبت دُربة مبكرة بإنشادها من بين فروع الأشجار على سفوح " دورا"، فكانت أصداؤها البعيدة تتجاوب في الوديان، مختلطة بمواويل الحرَّاثين، أو الحصَّادين، أو بمزامير الرعاة المنسرحة مع الهواء الطلق في المدى البعيد. كنت أيضاً، وما أزال، شديد الإعجاب بما قد تفَرَّد به والدي العظيم من "خَطٍّ يدوي" أكاد أقسم الآن، في الثانية والسبعين من عمري، أنني لم أجد في حياتي خطاً يدوياً عفوياً أجمل منه، فهو سواءً كتب لي قائمة بحاجات البيت التي سأشتريها من السوق على ورقة صغيرة، أو راح يكتب مذكرة إدعاءٍ، أو دفاعٍ، سيتقدم بها إلى محكمة المدينة بوصفه "وكيل محامٍ" بمجرد مجهوده الشخصي، ففي كل الأحوال كان يرسل " سِنَّ ريشته " بطلاقة، وبمستوى من " خط الرقعة " نادر المثال.. وعلى العكس تماماً من أخي "محمد" الذي يكبرني بما يزيد عن عشر سنوات، والذي كان خطُّه اليدوي، وأخطائه الإملائية الصارخة، مثاراً، لفكاهات جميع أفراد الأسرة، وقضى بضع سنوات في المدرسة قبل أن يتخرج نهائياً من الصف الثاني الابتدائي (!!) فلقد سعيت جاهداً للسير على خطى والدي، ليس في مجال خطِّه اليدوي وحسب، بل وفي مجمل نشأته العصامية التي ظلت ردحاً من الزمان مضرب المثل في كل جبل الخليل..

على أن مسألة "الخط اليدوي" هذه تذكرني بواقعة لا أدري إن كانت طريفة أو سخيفة، ولكنني أسوقها إليكم على أية حال.. فلقد حدث في مقتبل فصل الربيع من تلك السنة أن أوعز مدير المدرسة بدهان بعض مرفقاتها، باللون الأبيض، بما في ذلك الجدار الخارجي لمرفق الحمامات، حتى لقد بدا لي الجدار كقطعة خيش هائلةٍ، وناصعة البياض تحت أشعة شمس الربيع النقية الهادئة، ولا ينقصها إلا رسامٌ عظيم من مستوى بيكاسو، لكي يرسم عليها لوحة فسيحة من مستوى "الغارنيكا"، ويا له من إغراء شديد قد تملكني في ذلك الحين لأن أترك أثراً فنياً مرموقاً على ذلك الجدار، ولكنني مع الأسف العميق لا أجيد الرسم حتى على مستوى قطةٍ أو غنمةٍ، أو مجرد جحشٍ صغير مما يركبه صغار الشعراء عادةً على "وزن الرجز"، وإنما كان التخطيط، بالحرف العربي تحديداً هوايتي المفضلة الثانية بعد إنشاد الأشعار بصوت عال. نعم .. كنا قد بدأنا نتعلم اللغة الإنكليزية منذ بداية السنة الماضية في مدرسة دورا، بما في ذلك تخطيط "حرفها اللاتيني" الذي تكتب به، بشروط شبه معجزة من الدقة والعناية الفائقة.. ولكنني أقسم الآن، وفي كل آن، أنني لم أجد في جميع أشكال الكتابة على مستوى الكون ما يمكن أن يرقى إلى مستوى "خَطِّنا العربي" من دقة، وجمال، ومنطق، وموسيقى داخلية حقيقية تترقرق في حروفه، وبرغم ذلك فإن عسكرياً مغولياً فظَّاً، هو كمال أتاتورك، لم يجد وسيلة يلتحق من خلالها بقشرة المدنية الأوروبية، الواقعة بدورها على سطح حضارة الإنسان سوى أن يعتمر "البرنيطة" بدلاً من "الطربوش"، وأن يكتب بالحرف "اللاتيني" بدلاً من العربي، فوقع له، نتيجة ذلك، مثل ما وقع للغراب في تقليده الأعمى.

وإذن، فإن خير ما يمكن أن "أَطلُس" به مساحة هذا الجدار، هو التخطيط عليه (بالبنط العريض) ببضع كلمات أخترعها، ويراها جميع التلاميذ، والأساتيذ، من أبعد مكان في ملعب المدرسة.. في أيامنا الأخيرة المتطورة هذه، تستطيع أن تشتري علبة "دهانٍ بخاخ" باللون الذي ترغب، والقياس الذي تريد، فتكتب ما تشاء على أي جدار حتى لو كان بطول عشرة أمتار.. ولكن مثل هذه الإمكانية السهلة المنال لم تكن متوفرة لنا في تلك الأيام حتى في الخيال، ومع ذلك، وبما أن الحاجة أم الاختراع، فلقد كنا نلجأ إلى أمنا " الطبيعة" التي لا تبخل علينا بأي عطاء، فيقوم الطفل أو التلميذ منا باحتشاش حزمة مناسبة من أعشاب الربيع الطرية والمفعمة "باليخضور"، ثم يثنيها مرةً، أو اثنتين، بحيث يتشكل لها رأس مضغوط على نفسه بقوة كافية، وبتمرير هذا الرأس بقوة ضاغطة أيضاً على أي جدار، فإن باستطاعتك أن تكتب، أو ترسم، ما تمليه عليك قريحة الطفولة العابثة، ويالها من نتيجة مذهلة بارتسام أخضر الطبيعة المشع على أبيض الجدار الناصع، كما لو كان مشتقاً من طيلسان دراويش الفيتورية في السودان !!..

وهكذا، وبحزمة العشب تلك في أيدي، وبما يشبه _ من بعيد، لا من قريب _ خط "الثلث" الذي كان الأكثر انتشاراً على لافتات الحوانيت في المدينة، كتبت في السطر الأعلى فوق الجدار الناصع البياض : " هنا مدرسة عين خير الدين الابتدائية "، ربما متأثراً في هذه الصيغة الإعلانية بأولئك المذيعين " الروَّاد" الذي كانوا ينادون المستمعين على بضاعتهم الدعائية لمصلحة "الحلفاء" بعبارتهم التقليدية، وفي غير قليلٍ من التنغيم والتفخيم : "هنا دار الإذاعة الفلسطينية في القدس ".. ثم، في سطرين متعادلين، وبالبنط العريض، والمديد، وجدتني أكتب بعبثٍ صبياني يغر محسوب العواقب.. " بيت ماء.. على خطِّ الاستواء ".. ولم أكن لأعلم مسبقاً أن متعة " التخطيط " العابرة هذه سوف يترتب عليها تغريم والدي " بستة وثلاثين قرشاً فلسطينياً" عداً ونقداً، لإعادة طلاء الجدار، دون أن يأبه أحدٌ من أعضاء الهيئة التدريسية بما قد بذلك من جهد فنيٍّ في تنميق هذه " الجدارية " التي ربما بدت لي في تلك السن كما لو كانت " جدارية الغارنيكا" في عين بابلو بيكاسو!!..

لكن أعضاء تلك الهيئة التدريسية، للأمانة مع الحقيقة، أخذوا يُشعرونني بين الحين والآخر بنوع من الاختلاف إلى حد الامتياز عن سائر التلاميذ الآخرين، خاصة في حصة اللغة العربية، وأكثر من ذلك في إلقاء ما يقترن بها من " محفوظات شعرية "، إلى الحد الذي كانوا يستقرئونني فيه بعضاً من تلك " المحفوظات" خارج حصة الدرس، فيما يتبادلون بينهم من النظرات و" الوشوشات " ما يَـنُمُّ عن إعجابٍ غير اعتيادي بطريقتي يف الإلقاء، وكان من بينهم ذلك الأستاذ النابه المرموق، مخلص عمرو، الذي سيصبح في زمن لاحق قريب من أبرز أعلام فلسطين، وهو الذي إن يكن في معتقده السياسي " شيوعياً حتى النخاع " فلقد كان محباً للعربية وتراثها الحضاري الحافل، ومسهماً برأس قلمه الحاذق بالعديد من الكتابات والمعالجات السياسية في غير قليل من صحف فلسطين ودورياتها المحلية، وإنما اعتنق الفكر الماركسي، على ركاكته وتفاهته، لأنه كان الأكثر اجتذاباً في ذلك الزمان لألباب الطامحين من الشباب، من حيث يَعِدُهم ويُمنِّيهم باستنزال جنات النعيم من غيوب السماوات إلى واقع الأرض، لكي يعيش البشر جميعاً كإخوة متحابين، مسالمين، مفعمين بالسعادة، في أفياء " جمهورية أممية " وارفة الظلال، تماماً كحكاية أطفال !!.. زد على ذلك أن الانتماء الشيوعي يف تلك الحقبة كان أمراً علنياً، وربما مرغوباً فيه أيضاً من جانب الانتداب البريطاني الجاثم على صدر فلسطين وكامل رقعة المشرق العربي، ما دام رب المادية الشيوعية، (الاتحاد السوفياتي)، في حالة تحالف مكين مع أرباب المادية الرأسمالية الغربيين، في حربهم الحاسمة ضد أرباب الاشتراكية القومية العنصرية في كلٍ من برلين وروما.. ولكن ذلك كله لن يجدي الشيوعيين العرب فتيلاً بعد أن تضع الحرب أوزارها بهزيمة دول المحور، وسيجدون أنفسهم وقد انتقلوا بسرعة قياسية من " نضال ما فوق المنابر "، إلى " نضال ما تحت الأرض "، إنتهاءً بتعذيبهم أو حتى بتصفيتهم الجسدية في معتقلات العرش الهاشمي على حدود الصحراء !!.. وعلى أية حال، أشهد الآن، أنه كانت لشخصية الأستاذ مخلص عمرو ألمعيةٌ خاصةٌ، جاذبة ومؤثرة، تمنيت معها، (حتى منذ يفاعة الصف الخامس الابتدائي)، أن أخرق مرحلة الطفولة والفتوة معاً، باستعجال أن أصبح رَجُلاً له كامل وزنه واعتباره فيما يخوض فيه الكبار من قضايا الحياة والناس وسائر مفردات الشأن العام..

حقيقة الأمر أن العمر لم يكن ممكناً أبداً أن يتقدم بي كل هذه السنوات العديدة في طفرة واحدة، فذلك هو رابع المستحيلات.. لكن إحدى الضرورات العائلية المُلِحَّة، من جهة أخرى، سرعان ما فرضت عليَّ فرضاً أن أظل سابقاً لعمري بسنتين اثنتين في كل ما يتعلق بالمواد الأدبية من مناهجنا الدراسية، كالعربية، والإنكليزية، والتاريخ، وحتى الجغرافيا بنسبة أدنى.. ذلك بأن حكومة الانتداب كانت قد أنشأت في مدينة الخليل مدرسة خاصة بجميع عميان فلسطين، عُرِفت باسم " المدرسة العلائية للمكفوفين" تيمناً بعبقرية أبي العلاء المعري، وكان أخي "موسى" الذي يكبرني مباشرة (بين الأخوة الذكور) بقرابة خمس سنوات، واحداً من تلاميذ هذه المدرسة في الصف السابع الابتدائي منها، حيث كان فاقداً نعمة البصر منذ سن الرابعة، وها أنذا الآن المرشح الوحيد بين جميع أفراد الأسرة لأن أكون عينه المبصرة في كل ما يتعلق بدراسته، لأن أخي "عيسى" الذي يصغرني مباشرة بسنتين لم يكن يؤهله صفه الثالث الابتدائي لأن يتحمل مثل هذه المسؤولية.. ومعنى أن أكون " العين المبصرة " لأخي الكفيف موسى، لم يكن ليقتصر على مجرد تلاوة دروسه على سمعه، بأداء لغوي وصوتي سليم لا تشوبه شائبة، بل كان يتعدى ذلك إلى واجب إملاء تلك الدروس عليه بما هو أبطأ كثيراً من سرعة السلحفاة، خاصة في مرحلة كتابة خَطِّ " بريل " بأسلوب المسطرة الحديدة المزدوجة، ففي هذه الحالة كان يتوجب على الكفيف أن يضغط بمخرزه الحديدي سِتَّ مرات مجتمعة في حيز واحد من ثقوب المسطرة، لمجرد أن يكتب حرف "الواو" على سبيل المثال.. ولكن، وربما بعد سنة أو اثنتين، جيء لجميع تلاميذ "العلائية" بآلات كاتبة سُداسية الأصابع، يستطيعون بواسطتها أن يدونوا الحرف الواحد، بمجهود واحد، فتظهر نقاطه المدببة على خلفية الورق المقوى الخاص بهم دفعة واحدة..

قصارى القول، كانت عملية الإملاء تلك تجمع ما بين المشقة الشديدة إلى حد الإرهاق.. والفائدة القصوى غير المحسوسة في حينها.. فهي، من جهة أولى، نازفة للوقت، وباعثة على السأم، لأن ما يمكنك إملاءه على مبصرٍ في مدة دقيقة واحدة مثلاً كان يتطلب منك ما لا يقل عن عشر دقائق لإملائه على كفيف.. ولكنك في الوقت نفسه ما إن تترفع إلى الصف السابع الابتدائي، فالأول الثانوي، فالذي يليه ويليه، فسوف تمتلئ نفسك غبطة وحبوراً وربما امتيازاً على سائر الطلبة الآخرين، لأنك ستكتشف ببساطة تامة، أن كامل منهاج " اللغة العربية" مثلاً، (وهو المشترك آنذاك ما بين المبصرين والمكفوفين)، قد سبق لك أن قرأته بدقة وأناة بالغتين، عندما أمليته قبل سنتين على أخيك، ومن قد ينضمون إليه من أقرانه العميان الذي كثيراً ما كانوا يهتبلون فرصة ثمينة كهذه، فيتحلقون من حولك تحت شجرة التوت الوارفة في باحة مدرستهم في "حارة الشيخ"، وينطلقون يطقطقون بمخارزهم الحديدية، أو آلاتهم الكاتبة الحديثة، كما لو كانوا أعضاء فرقة موسيقية عجائبية أنت قائدها المطاع..

كان من بين أولئك الأقران في الصف نفسه كفيف مقدسي حاد الذكاء اسمه " رجائي بصيلي"، ولن يكتفي مستقبلاً، كأخي، بمجرد الحصول على شهادة الدراسة الثانوية المعروفة آنذاك باسمها الإنكليزي " متريكوليشن _ Matriculation " وإنما سيمضي في دراسته الجامعية، فالعليا، إلى أن يحصل على شهادة الدكتوراة في الآداب من إحدى الجامعات الأميركية، فلقد كان هاجسه أن يصبح ذات يومٍ "طه حسين فلسطين " أو من يماثله في آداب الشعوب الأخرى.. وحقيقة الأمرة أنه ما من واحد من جميع أولئك العميان إلا كان يتقمص في نفسه شيئاً من روح " أبي العلاء المعري "، ويتغنى بالعديد من شواهده الشعرية البارزة، بل ويرتاب في كل شيء يجري من حوله، ليس كموقف فلسفي من الحياة والناس، كما هو الحال مع رهين المحبسين، وإنما بحكم عاهته المادية، العضوية، التي تعزله عن جميع مرئيات العالم من حوله.. وأما عن "رجائي بصيلي " على وجه الخصوص، فلقد وجدت فيه من ينافسني، أو ربما يفوقني في مبلغ عشقه للشعر العربي، ربما بحكم تقدمه المحسوس عليَّ في العمر والتحصيل المدرسي، فكان دائم الإنشاد للعديد من محفوظاته القديمة، والمعاصرة، بذلك الصوت الأبحِّ، والأغنِّ، في آن معاً، فأطرب له حقاً، ولكنني لا أعجب به كثيراً، لأن جميع أغراض الشعر كانت سواءً لديه في الأداء من المديح إلى النسيب إلى الهجاء.. وكائناً ما كان من الأمر فإنني اعترف الآن لهذا الكفيف اللطيف بأنه قد طرح عليَّ منذ تلك السن المبكرة تحدياً هاماً في التعلق بروائع شعرنا العربي، والاقتراب أكثر فأكثر من شطآن أوقيانوسه اللانهائي العذوبة والجمال..

كذلك أتذكر الآن من لطائف عالم العميان، تلك السويعات الممتعة من صباحات أيام..الجمع عندما كنت أقود أخي موسى ولفيفاً من أقرانه، من مدرستهم في "حارة الشيخ"، إلى منـزل مدير مدرستهم " صبحي الدجاني" في حيِّ "عين سارة" وهو مكفوف البصر أيضاً من أبناء العاصمة القدس، وقد نال حظاً من التعليم الجامعي في انكلترا، وها قد عاد الآن إلى عمله في الخليل متزوجاً من سيدة أجنبية، بيد لي، من وجها الأبيض وشعرها الأشقر، وعينيها الزرقاوين، وملابسها اللامألوفة عندنا في كل جبل الخليل كما لو كانت قطعة من الجمال الأخَّاذ قد هبطت علينا من عالم آخر.. وها هي الآن، بعد تفاهم قصير مع زوجها، تتخذ مقعداً لها قبالة جسم خشبي بديع الصنع، تنبثق من منتصف أصابع طويلة بيضاء، وأخرى قصيرة سوداء، ويُعرف "بالبيانو"، وتصدر عنه أصوات موسيقية يا لها كم تختلف اختلافاً بعيداً كما بين الثرى والثريا عن "ربابة " شاعرنا الشعبي في عشيَّات "دورا" الساهرة السامرة، أو عن الشبابة أو الناي ما بين أيدي الرعاة وفي مناسبات الأفراح..

وما هو إلا إيعاز خاطف متفق عليه مع المدير "الدجاني" حتى ينطلق لفيف التلاميذ في أداء محفوظاتهم من الأغاني والأناشيد المدرسية بمرافقة أصابع "البيانو" التي كانت أصواتها القوية الجليَّة تتعدى كثيراً أربعة جدران المكان.. ولست أستطيع أن أتذكر الآن _(ويا ليتني أستطيع)_ ما إذا كان ذلك المغترب اللبناني النابه الظريف "نجيب حنكش" قد وضع لحنه البديع لقصيدة جبران خليل جبران "أعطني الناي وغني" منذ ذلك الزمن البعيد في مطلع الأربعينيات، ثم جاء ثلاثي الأخوين رحباني وفيروز لينفخ فيها الروح بعد سنوات وسنوات، أم أن جوقة المنشدين المكفوفين هذه كانت تؤديها بلحن مختلف، إلا أن ما أستطيع أن أتذكره جيداً على الحالين كليهما، هو أنني كنت أتابع القصيدة، كلمة بكلمة، من كتيب صغير للمبصرين، فكان إعجابي الشديد بها، مبنىً، ومعنى، وصوراً شعرية خلابة، لا يعادله إلا امتعاضي من أصوات هؤلاء المنشدين التي كانت تجأر بأبياتها يميناً، وشمالاً، وخبط عشواء، مَنْ تُصِبْ!

وهنا تحديداً سأسجل اعترافاً آخر إزاء قصيدة "جبران" هذه.. فعدا عن التهامي لها المرة تلو المرة واختزانها بمنزلة خاصة في عمق الذاكرة، فلقد وقفت حيالها كما لو كنت أتعرف لأول مرة على عالمٍ شعري جديد ورائع هو الآخر، ولكن لا علاقة له بروعة كل ما سبق أن قرأته من شعر تراثي أو حتى معاصر في ذلك النصف الأول من القرن العشرين.. ثمة إحساسٌ بالعذوبة والجمال هنا، هو غير ذلك الإحساس بالجلال والفخامة هناك.. ولعلي قد اختزنت في اللاشعور منذ ذلك الزمن السحيق أن عالم الفن العجيب هذا، بقد ما يتسع لامريء القيس، فلا بد أن يتسع أيضاً لجبران خليل جبران.. وبقدر ما يتسع لشجن الربابة المرسل في ليالي الصيف تحت صمت النجوم، فلا بد أن يتسع كذلك لجهارة هذا البيانو الذي يهيج القلب رقة وألقاً على حدٍّ سواء.. وأن من يدعي لنفسه امتلاك الحقيقة الشعرية في تعليبه للقصيدة ضمن شكلٍ فني واحد دون سواه، فهو لا شك أشبه بثورٍ حزين، سمين، مصابٍ بعمى الألوان.. ولعل هذه القناعة المبكرة الكامنة في اللاوعي منذ عهد التلمذة الابتدائية، هي التي دفعتني لاحقاً في سِنيِّ الإدراك المتقدمة لأن أضع قصيدتي في "الشكل الفني" الذي أرى، بمحض حريتي واختياري، أنه يناسبها اكثر من غيره، مبتعداً إلى أقصى الحدود عن كثير من انفعالات النقاد الذهنية السقيمة والعقيمة فيما يملونه على المبدعين من مواصفات فنية جاهزة، وغير آبهٍ على الإطلاق بكل ما هو رائج ورديء معاً في سوق الحداثة الأدبية من "بالة" الحضارة الغربية، ساعياً من وراء ذلك كله إلى بابتداع حداثتي المستقلة التي تخصني بمفردي، دون أية استعارة من هنا، أو اقتباس من هناك، لأنه في الوقت نفسه الذي أضنى فيه العديدون من الشعراء قرائحهم الهلامية الرخوة في لهاثهم المستميت وراء ما يوصف اعتباطاً "بالشعر الحر"، خاصة في عَقْدَيْ الخمسينيات والستينيات فلقد جعلتُ هَمِّي، وأطلقتُ هِمَّتي، باتجاهِ غايةٍ أخرى مختلفة تماماً، هي أن أكون أنا "الشاعر الحر" في المقام الأول، فتأتي بعد ذلك حرية الشعر، والفكر، وسائر الحريات الأخرى، في موقعها الطبيعي كثمرة في شجرة، وكتتويج منطقيٍ وحتميٍّ لحرية الإنسان.

 

من موقع الشاعر يوسف الخطيب