العندليب يوسف الخطيب في رحلة اللاعودة

ذاكرة أتعبها البحث وحنجرة لم تتوقف عن مناجاة فلسطين

غياب المبدع لا يقتصر على فعل الغياب، ولا يخصه وحده وأسرته دون خلق الله، بل إن غياب المبدعين يمثل فاصلة في تواريخ الشعوب والبلدان، وربما في تاريخ جيل كامل من أجيال الأمة، وذلك يكون تبعاً لمكانة هذا المبدع وأثره فيمن يستقبل إبداعه ليحلق بأجنحة في عوالم الأحلام والكبرياء.. ويستمتع بقراءة مختلفة يعجز عنها شخص آخر غير شخص المبدع.. وبالأمس رحل يوسف الخطيب الشاعر الفلسطيني العربي القومي، فحمل هذه الدلالات وزاد فوقها بشامته وسمرته وصوته، فكان الرحيل مدوياً وإجماعاً.

خواتيم البقايا
لست ممن يقولون: رحل آخر واحد من جيل الكبار، فالكبار يولودون كل يوم، ولا ينتهي الكبار من الحياة ما دامت الحياة، وأحكام القيمة مرفوضة في النقد، ولدينا اليوم شعراء مهمون لكن الظرف تغير والذوق التعبيري تغير.. وكل شيء تغير، ولكن الأمر مع يوسف الخطيب مختلف.. فقد نادى أمة العرب طويلاً، استنكر صمت العرب، كسر حزيران ظهره مرتين، مرة عندما حدثت النكسة، وأخرى عندما أبى حزيران أن يغادر العام دون أن يأخذ الجسد معه فرحل الشاعر في الشهر الذي أدماه.
يوسف الخطيب الذي غنى القومية ولها لم تشأ الأقدار أن تطلبه إلا بعد أن جرّعته كأس المرارة بحبه القومي وعلى مراحل عديدة، كل واحدة منها كافية لإلغاء فكر وإنهاء مرحلة. يوسف الخطيب أدمته فلسطين، وها هو يودع الدنيا، وهو يحمل أسوأ ذكريات القضية والتشرذم والضياع والتقاتل.. وهل أصعب على المرء المبدع الحساس من أن يغادر، وهو غير قادر على رسم ابتسامة أمل يتركه للباقين خلفه لعلّ وعسى..؟

أين الرفاق؟
ذهب عبد الكريم الكرمي أبو سلمى وهو يغني داره التي أغفت على ربوة حالمة بالمجد والغار، وغاب حسن البحيري وهو يسأل عن حيفا وبلاده مستذكراً وادي النسناس والقطار ورامي والبيارات، وها هو هارون هاشم رشيد يردد أناشيد العودة أو أغنيات العودة أو نحيب العودة، وكل الأغنيات ضاعت وتماهت بين أيدي الغزاة والساسة، انتظر يوسف الخطيب، لكنه عندما أيقن أن اللاجدوى سمة الحياة حمل القشة التي خبأها الطائر من بيدر البلد حملها على جبينه ورحل.. سبقه أبناء جيل لاحق من العمالقة، لكن الخسارة بفقد يوسف الخطيب تتجاوز الحديث عن خسارة مبدع لتصل إلى الحديث عن خسارة ذاكرة ووطن، خسارة ما تبقى من الذاكرة الفلسطينية القومية التي لم يستهلكها التجاذب، وبقيت في مكان ما من القومية تستمتع بالقومية، والقومية تفخر بها..
وحسب الخطيب- إن وافقناه أو اختلفنا معه- أنه اختار الصمت، أو اختاره الصمت حتى لا يجرح نقاء روح مرآته القومية، وهو يشهد الخروج المتسارع لأبناء العقيدة من مغارة الروح والفكر لركوب عربات أخرى في قطار مختلف كل الاختلاف.. رحل يوسف الخطيب في الثمانين، وأنا أدرك خيبة الثمانين عاماً وهو يقلبها بين يديه، لكنه لم يشأ أن يلوثها بعد أن قتلتها وقتلته الخيبة.

من البيارات إلى المدن رحلة ضياع
يحمل عقدين من ذاكرة عندما وقعت الواقعة، فالذاكرة مثقلة بالهموم، ويحمل ذاكرة أطول وهو يسترجع ما قاله إبراهيم طوقان عن سماسرة البلاد، وعن الشهداء.. تجاوزت ذاكرته مرحلة الشباب وهو يغني موطني مع إبراهيم طوقان وعبد الرحيم محمود.. تجاوز العقدين وهو يشهد على الشاعر الشهيد عبد الرحيم محمود صدقه حين أراد أن يحمل روحه على راحته.. تجاوز العقدين، وجاء بذاكرة مكتملة بكل شيء، ناضجة حتى الثمالة.. كان رسول النكبة وأراد أن يستنجد، صرخ طويلاً، نادى الكبرياء كثيراً، وحين هزته المفاجأة وأدماه حزيران كما أدمى غيره من المبدعين استنكر هؤلاء الذين يقف أمامهم، وكأن هذه الملايين ليست أمة العرب التي كان يأمل منها الكثير.. وعلى منبر الأمة وقف يوسف الخطيب منشداً ومحمساً لعلّ ما خاب أمله منه يستيقظ! حمل منبره من مدينة إلى أخرى، وكان الهوى دمشقياً، جال كل المدائن بحثاً عن مدينة تشبهه، وحين أدركه التعب كانت دمشق السمراء التي تشبه الخطيب فألقى عصاه واستراح إلى صدره.. والخطيب من القلة من الشعراء العرب الذين غنوا المدائن العربية وخلدوها في أشعارهم.
وهل مثل حضوره مخاض بيروت وهي تستعد للولادة؟
بيروت.... يا دمعة ماس تتألق
في أزهار الموت، وأغصان الدفلى
بيروت.... يا نازفة ياقوت الجرح
وطالعة من وهج شرايين القتلى
ماذا تلدين الليلة يا بيروت؟!
أحشاء العتمة آزفة أن تلدا
خيلاً وصهيلاً وملائكة مدداً
ودنى تتأود من فرح أودا
وغداً يستبق إلى فجر الأحلام غدا
بيروت.... كوني الليلة برداً وسلاماً
أيتها الأم القاتلة الثكلى
ماذا تلدين، الليلة يا بيروت!... ماذا تلدين الليلة يا بيروت!
الوقوف على الأم القاتلة والثكلى من أقسى الأحاسيس، وما كنت لأقف عند هذه القصيدة وجمالياتها لولا أن الشاعر اختارها من شعره لتمثل نموذجاً عنه في معجم البابطين للشعراء والعرب المعاصرين، والاختيار دال على روح الشاعر.
انتظار كل ليلة والخلاص
الليلة ينبع من دمهم نهر الأردن
ثلاثة أودية من عسل قانٍ
لثلاثة أزمان
فيصيرون وضوء الأرض، وضوء الشمس
يصيرون الأب، والابن، وروح القدس
ثلاثة أثلاث في جمع أحد
الليلة هم آتون العرس ثلاثة عرسان
وثلاثة أقمار تتغسل في جدول بستان
فتضرجن الحناء نساء فلسطين
تطيبن الأنداء نساء فلسطين
تفتحن مروجاً خضراء نساء فلسطين
عليكن الليلة أن تحملن ثلاثة آلاف ولد..
ليجيء في هذي الليلة من لبن الحزن
الجيل المطلع، موسيقى الكون
الجيل التشكيل.. التأصيل
العربي اللون
الجيل الحب، الأشواق، الفرح، الإشراق..
الجيل الفاتحة الصادحة جروح الأرض
بلابل وجداول وحدائق شعراء
أن تلد امرأة قمراً أسمر
أن يرضع أن يلعب أن يكبر
أشهد أن الله جميل
والليلة وجد وحنان
يا امرأة عن دجلة تساقط ثلجاً
في أرض فلسطين
أيا نخلة غدق تشتعلين
تحلين جدائلك الذهبية في شمس الجرمق
يا امرأة من حلب
يا ساقية حليب ترتحلين
فتسقين بوادي الأردن بساتين الزنبق
يا امرأة من أعلى النيل
ومن أقصى المغرب والمشرق
أقرأتن وصيتهم؟
أكتبتن وصيتهم؟
أنتن الآن- نساء العرب- الوحدة، والحب
وأنتن الأرحام الأثلام وأنتن الخصب
وأنتن كروم الصبح
الواعدة خلاص الإنسان خلوص الإنسان

هذه القصيدة، وهي من اختيارات الشاعر لتعبر عن نفسه وروحه تعطي فكرة عن حلم الشاعر القومي، ذلك الحلم الذي انتقل من المشرق إلى المغرب، ومن الخليل إلى حلب والجرمق، وحين أدرك أن الشعر لن يستوعب المكان عاد إلى لفظ العموم نساء العرب، واختار النساء دون غيرهن، لإيمانه بالخصب والأمومة وانتقال الحلم بالأرحام النقية، ومن هنا كان ربطه المدهش بين الأب والابن والروح القدس، وكروم الصبح الواعدة خلاص للإنسان خلوص الإنسان أفبالقداسة آمن، وبالقدس حلم، سبيله إلى ذلك إنسان وامرأة ووحدة وعروبة، وكانت الفجيعة- للفكر على الأقل- أن الرحيل كان بعد اليأس..
قرأت يوسف الخطيب كثيراً، لكن شيئاً ما حال دون لقائي به، سعيت كثيراً، لكن لقاءاتي به اقتصرت على لقاءات عامة، ولم أتمكن من الحديث إليه منفرداً، لعل شيئاً من البوح يخرج، وربما كان اللقاء فسحة لتبديد وهم عاش في الفكر طويلاً، أو لتعزيز فكرة نبيلة طالما رددناها مع الخطيب..
طوى يوسف الخطيب الأوراق الراعفة بنفسه، ولم يدرِ أن كل الكتبة حتى وإن لم يكونوا ممن طلبهم الأب والابن والروح القدس سيحضرون للتأكد من أن أحد الحالمين قد رحل ولن يعود مرة أخرى..!
رحل العندليب الفلسطيني يوسف الخطيب، وقد يكون من المحظوظين إذ ترك وراءه قافلة من المبدعين الذين سيبحثون عن بقايا حلم ووطن.

 

جريدة الوطن