صخب البحيرة (رواية)

محمد البساطي

صياد عجوز

(1)

تتهادى مياه البحيرة لدى اقترابها من البحر. شاطئها البعيد الذي يغيب في الأفق ينبثق مسربلاً بالضباب، ثم يبين بلونه الرمادي الباهت كاشفاً عن تعرجاته ونتوءاته وينثني في انحناءة حادة داكناً بلون الطين.

تزداد كثافة الغاب والعشب باقتراب شاطئيها. يمضيان متعرجين. يشكلان مجرى قليل الاتساع يسيل الطين لزجاً على ضفتيه، ويختفي الغاب باقترابه من البحر حيث ينبسط شاطئه الرملي بصخوره الضخمة القاتمة.

تتلاحق أمواج البحيرة في فتور، صغيرة متناسقة مثل خطوط أرض محروثة، يجذبها هدير البحر عند المضيق، تنساب إليه وقد ضاقت بها الضفتان ويضطرب تشكيلها المنتظم الذي سارت به طويلاً، وحركة عنيفة تموج تحت سطحها الهادىء. تندفع مربدة عكرة، تنبعث من أعماقها أعشاب وطحالب ومسحة من طين وهدير خافت.

تكتسح أمواج البحر المضيق، يتردد صخبها عميقاً في المجرى، تستكين لها مياه البحيرة المرتعشة، يسفر التلاحم عن بريق ورذاذ ورغوة معتمة تطفو بحذاء الشاطىء الطيني وفقاقيع صغيرة تتناثر مضطربة وأسماك بلون الفضة تقفز وقد طوت زعانفها تأخذ قوساً وكأنما لتعبر الملتقى الصاخب ثم تغوص مرة أخرى.

ظل المكان زمناً طويلاً غير مطروق. كان البحر مجهولاً من الصيادين، لم يختبروه. يتوقفون بقواربهم الصغيرة عند حدود البحيرة وأحياناً يلتصقون بجانبي المضيق يتشبثون بعيدان الغاب، تضربهم أمواج البحر الصاخبة، ويحسون بقواربهم يُقذف بها وترتطم بالمياه الهائجة. كان الصغار من الصيادين يصرخون مهللين كأنما يقومون بمغامراتهم الكبرى، لا يستمرون طويلاً، سرعان ما يجدفون بقوة عائدين إلى عرض البحيرة. لقد ولدوا وشبوا بجُزُرها، ووجدوا الأمان في مياهها الهادئة. ينصبون شباكهم ويقفون على أطراف القوارب يتصايحون، وأحياناً يستلقون بها يشربون الشاي ويغفون ويتركونها على غير هدى. هم في النهاية يعدلون مسارها بضربات قليلة من المجداف.

 

(2)

كان صياداً عجوزاً جاء ذات يوم واستقر في المكان. رأوه دائماً عجوزاً ربما بسبب تجاعيد وجهه الكثيرة وانحناءة كتفيه. يقولون إنه كان مقطوعاً من شجرة، فلم يروه يوماً مع أحد، يتجول ليلاً ونهاراً بقاربه في البحيرة، وحين التعب ويشتاق للأرض يرمي بالهلب لأقرب مكان ويستغرق في النوم، وأحياناً يمرون بقاربه شارداً في عرض البحيرة، ويرونه راقداً بداخله، ورغم المجدافين القويين فهو قليلاً ما يستخدمهما، يرفعهما إلى سطح القارب ويفرد شراعه المتهالك برقعه الكثيرة. هو ليس متعجلاً، إنما يستظل به حين تكون الشمس حامية. كان قاربه بخلاف القوارب الأخرى في البحيرة – وكانت رفيعة مدببة الطرفين – عريضاً على شكل صدفة، مؤخرته مكشوطة. ثبت عصا بكل من طرفيه امتدا بينهما حبل علق عليه كل متاعه. على مقدمته شبكة خيطها رمادي تنتهي بقطع عريضة من الفلين، وهلب صغير (هم لا يستخدمون الهلب. مجرد أن يغرزوا المدرة على جانب القارب فتعوق حركته. وشباكهم من الخيط الأبيض بقطع مستديرة من الفلين) كان القارب مطلياً حتى حافته بالقار. هذا اللون الأسود الذي يتألق عن بعد في ضوء الشمس مثيراً الكدر في نفوس من يرونه. كان الصيادون في البحيرة وسكان الجزر يتمتمون بتعاويذهم كلما لمحوه، ويغضون النظر عنه كلما اقترب منهم. غير أنهم قليلاً ما كانوا يرونه، وقد تمر شهور طويلة قبل أن يعود إلى نفس المكان.

لم ير أحد قارباً شبيهاً له في أنحاء البحيرة العريضة. لذلك خمنوا أنه جاء من بلاد أخرى بعيدة، ولسبب ما أيقنوا أنه كان مُطارَداً، ربما سحنته المتجهمة وكأنه يحمل كل متاعب الدنيا، ونظراته العميقة التي تخترقهم، وقدرته العجيبة على التسلل. كانوا دون أن يحسوا به يجدونه فجأة يمر على بعد مجداف منهم ويكون عادة راقداً في بطن القارب وشاله كالح اللون على وجهه، كانوا يحسون بعينيه تنظران إليهم من بين ثنايا الشال، وما أن ينشغلوا عنه حتى يروه قد أبحر بعيداً.

قال أحدهم يوماً وقد سافر إلى العاصمة للعلاج من عضة كلب مسعور.. أنه رأى قوراب تشبهه في النيل، وأنه لابد تسلل يوماً خلال أحد الأنهار التي تتفرع من النيل وتصب في البحيرة. لم يبحثوا كثيراً في أمره. مجرد كلمات قليلة قالوها ذات يوم من سنوات، وتركوه في طوافة الذي لا يكل ولا ينتهي.

كان يميل إلى أقرب بلدة على شاطىء البحيرة حاملاً مقطفاً به ما صاده من أسماك يبيعها لأول من يطلب دون مساومة، وأحياناً يعطيها للبقال مقابل ما يحتاجه. كبريت. جاز. حلاوة طحينية. دخان.

في عودته للقارب يقف أمام البيت المفتوح الباب ليشتري خبزاً. هم لا يبيعون الخبز. كانوا يعطونه بعض الأرغفة ويملأون له برميلاً صغيراً من مياه الشرب يحمله على كتفه.

دخل قاربه يوما المضيق. انتبه من رقدته على رجفة القارب وانسيابه السريع، ورأى الأمواج الصاخبة في مواجهته. جدف مقترباً من الضفة ورمى بالهلب، واستقر ساكناً في بطن القارب. نظر حوله. ذاهلاً دامع العينين. أمواج البحر تنثني وترقَ ويتألق رذاذها في ضوء الشمس. مياه البحيرة تموج مضطربة عند الملتقى وخريرها يختفي وسط هدير الموج. الضفة الأخرى على بعد ضربات بالمجداف، ثناياها ونتوءاتها والغاب الأخضر الكثيف يكسوها. وكأنه طوال هذه السنوات كان يسعى لرؤية الشاطىء الآخر أمامه، تأمله مستغرقاً. صنع شاياً وشرب، وسار بعيداً عن شاطىء البحيرة مخترقاً الأرض البور الخالية ثم عاد، ومشى قليلاً على رمال شاطىء البحر، وجمع عشباً جافاً، وفي الليل أوقد ناراً ورقد في القارب.

في الصباح حفر خطاً على شكل مستطيل على بعد خطوات من ضفة المضيق، غرز في وسطه عصا قصيرة ورحل.

غاب ثلاث سنوات وعاد. كان شديد النحول وقد ذاد انحناء كتفيه. لم يجد أثراً للخط الذي حفره، غير أن عصاه كانت هناك. بعد أن أخذ دورة واسعة بالمكان جمع العشب وأوقد النار، وشرب الشاي ورقد في القارب. في الصباح غرز عصا أخرى وذهب.

غاب عاماً ونصف ثم عاد. كانت خطواته بطيئة، وقد خبا بريق عينيه، رمى بحمله من فروع الشجر بجوار العصا ورحل.

هو في طوافه كان يلتقط ما يلقاه من أشياء، وحين يتجمع منها الكثير في القارب كان يقصد إحدى الجُزُر الصغيرة التي لم تطأها قدم ويخفي ما جمعه بها، وأحياناً يحفر لها بشاطىء بعيد عن العمران.

كان يمر الآن على مخابئه الكثيرة المتناثرة بامتداد البحيرة مسترشداً بألفة يحسها حين يقترب من أحدها، يُحمَل قاربه ويمضي إلى المضيق. قضى شهوراً في ذهاب وعودة، وتكوم تل من الأشياء على ضفة المضيق، ألواح مختلفة الحجم من الخشب والصاج، أوتاد، لفات سلك، حبال وأسياخ حديد، فلقات جذوع نخل، قوالب طوب، قطع خيش وحصير، فوارغ علب وزجاجات، وسبعة أجولة من القوالح تلف الكثير منها لطول تخزينها.

ارتفعت العشة في بطء مهلهلة. أربع دعائم من فلقات جذوع النخل حفر لها عميقاً، وثلاثة جدران صنعت بخليط من ألواح الخشب وأعواد الغاب وفروع أشجار مضفورة بالحبال. السقف من ألواح الصاج – حين أخذت تهتز مع هبات الريح وضع فوقها بعض الصخور – وليَط الجدران بطين مخلوط بنُتَف القش، وأقام مصطبة عريضة من الطوب بالداخل. كان حائراً أمام الباب. وفي النهاية وضع سدة من فروع الشجر والغاب، وثبتها بدلاً من المفصل بقطع حبل إلى الجانب.

كان الوقت ليلاً عندما أغلق الباب ورقد في القارب. أبحر في الفجر. انطلق القارب سريعاً حتى الطرف البعيد من البحيرة قرب مصبَ نهر. قضى الليلة في الصيد. يسحب شباكه مهتدياً بضوء القمر.

في الصباح رسا قاربه بشاطىء بلدة كان قد قصدها من قبل مرتين، وفي المرتين أعطى السمك لامرأة كانت تُجلسه على حَجَر بجوارها في السوق حتى تبيعه، تعطيه رغيفاً طرياً وبصلة، وتطلب له شاياً من المقهى المقابل.

 

(3)

السوق مزدحم في مثل هذه الساعة من الصباح. تجار السمك من الرجال والنساء تحت تعريشة من الغاب والخيش أمامهم الطشوت وحلل ممتلئة بالماء ينثرونه من حين لآخر فوق الأسماك، وصيادون يأتون، يفرغون ما يحملوه مَن يعرفونهم من التجار.

لمحها في مكانها وسط الزحام بجلبابها وطرحتها السوداوين ولباسها البني المنقط بأخضر، حِجره الواسع يغطي ساقها الممدودة حتى منتصفها، والطشت فارغ أمامها بجواره الكوز الممتلىء بالماء. تقضم من رغيف بحَجرها. حين رأته علقت عيناها بوجهه كأنما تحاول أن تتذكره، ثم لمحت المقطفين والزبائن الذين يتبعونه، كانوا قد حاولوا إيقافه قبل أن يدخل السوق لرؤية ما معه من أسماك، غير أنه لم يلتفت إليهم فتبعوه. تهلل وجهها حين رأته يقصدها. نهضت وساعدته في إنزال المقطفين عن كتفيه وهي تقول:

-      "عاش من شافك".

جلس على الحَجَر بجوارها. كان الصيد ثميناً ووفيراً. بوري وثعابين وقشر بياض. لم تجد الوقت لتتفق معه على السعر. كان الزبائن يحيطون بها وهي تقف تفرغه في الطشت. قالت له: "عندك العيش". وأشارت إلى لفة بجواره. "وعندك الشاي". وأشارت للمقهى.

لم يستغرق البيع وقتاً طويلاً. ملأت عدة صواني بالسمك وزينت كلاً منها بثعبان، وتركت الزبائن يقلبون فيها، وعندما تفرغ إحدى الصواني تعيد ملأها من الطشت. وكانت تجمع النقود من حِجرها بعد أن انتهت حين حدثها عن الذهاب معه.

نظرت إليه مترددة. كان مطرقاً ينبش بعود قش في التراب.

جمعت ساقيها الممدودتين وغطتهما بالجلباب، وبحثت عن كوز الماء بجوارها. (كانت تدعك أسنانها من حين لآخر بالنشوق ليخفف ما بها من ألم، وقد ترك ذلك أثراً قاتماً عليها، وكانت تفوح من فمها رائحة العشب العطن). رفع رأسه عندما سمع صوت غرغرتها بالماء. أفرغت فمها جانباً وقالت:

-      عندي ولدان.

-      يأتيان معك.

تأملته صامته. كان وجهها يابساً كلحاء شجرة. قالت: والقارب؟

-      معي.

هي لم تقصد ذلك. أرادت أن تقول إنه وقاربه الأسود يخيفانها.

قالت: أين؟

-      هناك. وأشار بيده. قالت:

-      هناك. أين؟

-      عند المضيق.

-      ذهبت بعيداً.

-      غير بعيد.

-      لا أحد هناك!

-      سيأتون.

-      والبيت؟

-      سترينه.

أخذت تعد ما جمعته من نقود وترتبها. هى لم تعد صغيرة، غير أنها ليست عجوزاً مثله، شعرها الذي تخفيه الطرحة مازال أسود لامعاً، وحين تضفره... وابتسمت. جمعت الصواني الفارغة داخل الطشت وتحسست المكان حولها. قالت:

-      وأنت؟

رمقها صامتاً. قالت:

-      أولادك؟ طرفت عيناه لحظة. قال:

-      أنتظرك في القارب.

رمقته وهو يبتعد متجنباً زحام السوق. كان يسير منكفئاً، وقالت إن ذلك لانحنائه الطويل على المجدافين. وكان يدب بقدمين متباعدين أثناء السير، وقالت إنه نادراً ما تطأ قدماه الأرض. وابتسمت:

"يقولون قاتل. ويقولون مقتول. قاتل أو مقتول ماذا يخيفني منه؟".

عكف على قاربه ينظفه بعد أن سحبه إلى الشاطىء. حشر كل كراكيبه في السحارة بمقدمته وأغلق بابها، أخرج الفَرشة القديمة العطنة، جفف القاع وتركه قليلاً للشمس، فرشَ عيدان بوصٍ جديدة ودفعه للمياه، جلس على حجر بجواره.

رآها قادمة والشمس توشك على المغيب تحمل على رأسها الطشت تطل منه لفة الحصيرة واللحاف معقودة بحبل، الولدان خلفها يحمل أحدهما سبتاً والأخر جوالاً ممتلئاً. كانت بنفس الجلباب الأسود. غير أنها بدلاً من الطرحة كانت تعصب رأسها بمنديل أصفر. جلست في مواجهته والولدان وراءها يختلسان النظر إليه من فوق كتفيها.

كانا في العاشرة تقريباً، يصعب تمييز أحدهما من الأخر. نفس القسمات ولون الشعر والعين والطول. حين رأته يحدق إليهما ضحكت وقالت إنهما توأم. أحدهما يكبر الآخر بساعة زمن. حين رأت الناس تحتار بينهما وضعت للكبير حلقة في أذنه. يومها اختفيا النهار بطوله. وعادا يضحكان. كان الآخر يضع حلقة في أذنه.

-      آه. كان يراقبني وأنا أخرم أذن أخيه. وسرق الإبرة وفعلاها. قلت أمري لله. حين يكبران سيتغير شكلهما.

رأى الحلقة المعدنية الصغيرة في الأذن اليمنى لكل منهما، وكانا يميلان على جانبي القارب ليلمسا المياه. قالت إن أباهما مات من سنوات طويلة.

جدف صامتاً حتى خرج إلى عرض البحيرة فرفع المجدافين وفرد الشراع.

 

(4)

كان في القارب يصلح شبكة الصيد. يرى الدخان يتصاعد من الموقد خلف العشة، موجات متتالية تبعثرها الرياح، المرأة تذهب وتأتي، يحدق نحوها حتى تختفي. تجري أصابعه بالخيط بين ثقوب الشبكة. الدجاجات الثلاث تنقر الأرض – كانت قد جاءت بها مربوطة السيقان – الولدان ينبشان في كراكيبه التي نقلها من مخابئه، كلب ضامر ظهر فجأة بعد أن حطوا رحالهم يتبع الولدين أينما ذهبا، يهز ذيله وينبح خفيفاً، رآهما يوماً يسحبان من وسط الكراكيب أسياخ الحديد وفوارغ بكر الخيط الخشبية. يذكر أنه جمع منها الكثير. أدخلا الأسياخ في تجويفها ومدا فوقها ألواح خشب ثبتاها بسلك رفيع. في لحظات صنعا عربتين يجرانهما بالحبال. حملاها بما عثرا عليه من قطع الطوب. وأخذا يعدوان بهما. عادا لاهثين. أوقفاهما أمام باب العشة وأفرغاهما من الطوب، ووضعا فوقهما براميل المياه الصغيرة الفارغة، انطلقا يتبعهما الكلب. غابا طويلاً ثم عادا مبللين بالعرق والتراب. خرجت أمهما من العشة على صياحهما. البراميل ممتلئة. قالا لها أنهما عثرا على مجرى ماء عند الأشجار. نظر إلى حيث يسيران ولم ير أشجاراً. التفتا – بعد أن نقلا البراميل إلى الداخل – ونظرا إليه، قالت أمها:

-      تركت الزير هناك. لو تأتيني به!

قليلاً ما يقترب الولدان منه. يمران بقاربه حيث يجلس، يصمتان حتى يبتعدا. يأتيهما بالملبس والكراميل في عودته، يراهما يقفان بعيداً وأمهما تفرغ القارب، حين يمد يده بالقرطاسين لهما يتقدمان خطوة، ويظلان مكانهما حتى تعود أمهما فيتبعانها إلى داخل العشة، وسرعان ما ينطلقان خارجاً وكل منهما يحمل قرطاسه، وينظران إليه متمهلين ثم يتسللان إلى خلف العشة.

يختفيان وقت العشاء. النار موقدة أمام العشة تضيء الرقعة الممتدة إلى الشاطىء. تضع المرأة حلَة الأرز ووعاء السمك بجوار وهي تناديهما، ثم تسير قليلاً حتى تطويها الظلمة وينطلق نداؤها.

ينهض من قاربه ويتجه إلى العشة. يجلس أمام الحلَة والوعاء. هي بجواره لا تأكل، تنتظر عودة الولدين. تثرثر وتنتقي الأسماك الكبيرة وتضعها أمامه وتقشَر له البصل. يتناول منها الشاي، ويسترخي.

يغالب النعاس محدقاً إلى مقدمة القارب التي نالها الضوء. ترمي بقطع الخشب والقوالح إلى النار وتنظر إلى العتمة.

ينهض أخيراً إلى القارب، يرى الولدين حين يعودان، يجلسان جنب أمهما، وبعد العشاء يتمددان وقد توسد كل منهما إحدى ساقيها. كانت تحملهما واحداً بعد الآخر إلى داخل العشة. ويرى النار تخبو. وتظل الجمرات وقتاً تتوهج.

عاد إلى تجواله في البحيرة. يغيب يومين أو ثلاثة، ويقضى مثلهم في المضيق. تراه المرأة عندما يأخذ في السير بامتداد شاطىء البحر حتى يختفي عن عينيها، وتراه بعدها يخطو متمهلاً في بطن القارب ينفض الفَرْشة والأغطية، جلس مشدوداً متجهماً متلفعاً بجلباب قديم يحدق إلى المياه. في مثل هذه اللحظات يبدو كأنما قد شاخ مرة واحدة. هزيلاً، ضامر الوجه. تخشى الاقتراب منه. يتلفت إليها فجأة. عيناه الحمراوان وكأنه لم ينم الليل بطوله. وتقول.. الآن سيبحر، وتراه يبحر.

أحياناً يعود في الليل. يرسو القارب دون صوت في المضيق. ضوء اللمبة يتسلل كشظايا من جوانب العشة، رائحة الطعام التى رمت بها جانباً للدجاج. جذوات من النار تتوهج مع هبات الريح، الكلب رابض بجوارها لا يتحرك لمقدمه. تذهب إليه في الفجر. تقف عند رأسه ويدها على مقدمة القارب، تميل لتنظر إليه، هو وكأنما أحس بها تجد عينيه دائماً تحدقان إليها. عادة ما يكون مجهداً ملتفاً بالغطاء. تفرغ له حمولة القارب. أشياء طلبتها واشياء جاء بها من نفسه، يكوَمها في مؤخرة القارب. تسأله عن المكان الذي صاد منه، وأنواع السمك والبلدة التي باعه فيها والثمن الذي دفعوه. يجيبها بهمهمة كما لو أن النوم يثقل عليه، ويكون قد انتقى بعض الأسماك وجاء بها، تقلب فيها بيدها عائدة إلى العشة وضوء أغبش قد بدا يلوح في الأفق.

أحضر لها يوماً مرآة كبيرة بطول قامتها. حملتها مع الولدين فيما بينهم وجروا بها إلى العشة، وقفت أمامها وهما على جانبيها، ورأوا أنفسهم من الرأس للقدم.

يكون الولدان أمام العشة يتناولان طعامهما ويقولان فجأة: المرآة ويحملان حلة الطعام ويدخلان العشة. يجلسان أمامها ويداهما تغرفان من الحلة وترتفع في بطء إلى فميهما. وكانا يتعريان ويقفان متجاورين ينظران إلى صورتيهما. هي أيضاً، صار من عادتها أن تتربع أمامها كل يوم وتمشط شعرها. تتأمل وجهها والضفيرتين على صدرها، ترمي بإحداهما إلى ظهرها، ثم ترمي بالأخرى. في النهاية تفكهما وتلمَ شعرها تحت منديل الرأس الأسود.

وجاء بثلاثة مقاعد كل منها بذراعين وكسوة من الجلد. كان الجلد مشققاً، خرج الحشو من مزَقٍ في جوانبها، غير أنها كانت متينة. وضعتها داخل العشة بجانب الَمرآة. كان الولدان يخرجانها ويصفانها على الشاطىء – تلك الليالي التي يغيب فيها العجوز – يجلسان عليها عاريين مع أمهما وقد وضع كل منهما ساقاً فوق الأخرى، يمصون عيدان القصب التي كان يأتي بها.

وجاء أيضاً بمرتبتين مع بداية الشتاء وألواح صاج غلف بها جوانب العشة، فشاع الدفء بالليل في الداخل.

تتصاعد رائحة شواء السمك مع الغروب، ويكون راقداً في القارب، يرى جانباً من ظهرها عندما تنحني على الموقد. لقد امتلأ جسدها الهزيل في أسابيع قليلة وتورد وجهها، ويرى الولدين وقد امتطيا لوحيْ خشبَ يخترقان موج البحر الصاخب، جسداهما يتألقان في ضوء الغروب، يفتحان سيقانهما ويحركان أذرعتهما ليحفظا توازنهما. لانت لهما الأمواج، يعلوان ويهبطان، تقذف بهما أحياناً فيصهلان، ويراهما نقطتين بعيدتين، ويراهما يقتربان في لمح البصر. كانت عتمة الليل تسقط سريعاً.

 

(5)

لم يستغرق إعداد العشة وقتاً طويلاً. الأشياء التي جاءوا بها قليلة، رمت بها هنا وهناك. الولدان يسيران خلفها أينما ذهبت تركاها لينظرا إلى البحر ثم عادا، وتركاها مرة أخرى ليفتشا المكان خلف العشة. كان الوقت متأخراً، والظلمة شديدة. سارت إلى القارب ورأته مستغرقاً في النوم. وقالت الصباح رباح وعادت للعشة، نامت والولدان ملتصقان بها.

في الصباح كان قد أبحر، وعاد في المغرب. شوت السمك وتناولوا عشاءهم أمام العشة. جلست غير بعيد ترقبه بجانب عينها. كان مستغرقاً في صمته وذراعه ممدودة على ركبته يستقبل وهج النار في كفه، وعيناه شاردتان في البحر. شرب الشاي وعاد للقارب.

هي في قعدتها ترمق القارب الذي يتأرجح خفيفاً قرب الشاطىء. النار تخبوا. ألسنة صغيرة تندلع فجأة بين الجمرات المتوهجة. الولدان ناما على ساقيها. حملتهما إلى الداخل. سارت إلى الشاطىء. هزت القارب بيدها وجلست على حجر بجوار مقدمته. تلفتت حولها وقالت إن الولدين ناما.

فكَت منديل رأسها ورمت بالضفيرتين على صدرها. شمرت الجلباب حتى وسطها وخاضت في مياه البحيرة. القمر خلف سحب ثقيلة. المياه داكنة دافئة. الأمواج الصغيرة تضربها في شدة ويتناثر الرذاذ على وجهها. هدير البحر يتردد عميقاً في المضيق. شملتها رجفة خاطفة. كانت تغرف المياه بكفيها وتغسل فخذيها وبطنها وتحت ثدييها. في عودتها للشاطىء استندت لحافة القارب، هزته قليلاً وضحكت. وقفت على الحجر تمسك بيدها الجلباب المشمور عن جسدها حتى يجف. سمعته يهمس كأنما يحث نفسه أن زمنه ولى وأن الألم يمزق أحشاءه. رأته في وقفتها – وقد انحنت قليلاً – راقداً في بطن القارب، رأسه العاري من العمامة صغير أصلع. يرقد على جنبه ويداه تحت ذقنه.

قالت إن البحيرة لا ترحم في الليل. وإن الكثيرين يشكون نفس الوجع. وقالت إنها ستضع له ردَة ساخنة فيفك الوجع. ذهبت إلى العشة وعادت بلفة الردَة. أحست بجسده صغيراً بين نهديها. أحكمت اللفَة حول وسطه وجذبت عليه الغطاء.

في الشتاء قالت له أن يأتي لينام في العشة. قال إنه اعتاد النوم في القارب، وأخرج من السحارة عباءة من صوف الغنم أضافها للغطاء، وشالاً بلون بني كان يلفه حول كتفيه.

اعتادت أن تذهب إليه في القارب ومعها براد الشاي. تجلس على الحجر، وتكون الشمس ساطعة، وتراه قد عرى ساقيه النحيلتين ومدهما للأشعة الدافئة مستنداً برأسه لحافة القارب. هي قد أنِسَت إليه حَكَتْ له سرها.

قالت إن زوجها لم يمت.

أخذت رشفة من كوب الشاي ورمقته بجانب عينها. كان ينظر إلى الولدين ينزلقان بين أمواج البحر فوق لوحيْ الخشب.

ابتسمت، قالت إنه لم يكن زوجها.

ابتسمت مرة أخرى. كانت تجلس خلف رأسه ترى الولدين تخفيهما الأمواج الهائلة ثم يظهران يتناثر حولهما الرذاذ.

قالت إنه كان مقاول أنفار رحل بها ساعة العصر بعد أن انتهوا من شتل الأرز في الحوض. البنات عدن في الجرار إلى البلدة. هي اختفت تحت القنطرة الخشبية كما قال لها، ركبت معه القطار.

-      اشترى لي شبشباً وقميصاً وجلبابين وقرطة.

قال لها إن أخته تقيم في البلدة المجاورة.

سارت وراءه حين نزلا من القطار. البلدة تشبه بلدتها. غير أن كل ما فيها مختلف، نفس الشارع المتعرج الطويل، ودكاكين على الجانبين. جزار وبقال وتفصيل جلابيب، ومقلى اللب. اشترى لها قرطاساً منه أفرغته في جيب جلبابها. وجاء بصندوقه وكان يحفظه في مقهى، وضع فيه ما اشتراه وحملته على رأسها.

سارا على طريق خارج البلدة. لم تر على الطريق أية ركوبة.

وجاء الليل وهما يسيران، استراحا تحت شجرة على شط قناة، وأكلا من لفة كان يضعها في الصندوق. عيش وحلاوة وطعمية، أرقدها بعد الطعام على شط القناة، كانت تبكي، قال لها لا تبكي. قفزت صارخة حين جرت الضفادع على وجهها. كتم فمها بيده، أرقدها مرة أخرى.

اغتسلت في مياه القناة. قال إنه سيغفو قليلاً وعليها أن توقظه عندما تسمع أذان العشاء. نام مستنداً بذراعه للصندوق.

كانت تخاف الظلمة والخلاء والدم الذي يسيل منها. اغتسلت مرة أخرى. رقدت بجوار الصندوق ونامت. استيقظت حين رفسها. كان الفجر يضيء، وكان غاضباً. أخرج ملابسها الجديدة من الصندوق وأخذ القديمة ورماها في حوض ذرة قريب، حملت الصندوق وسارت وراءه.

-      قال لأخته أنه يوصلني لبيت الحاج عمران في البندر لأعمل عنده.

تقف منتظرة على باب البيت، رأت طفلاً يحبو أمام العتبة وتراب لزج حول فمه. سمعته يناديها من الداخل:

-      أخته حداية. بصَتْ لي من فوق لتحت. عيناها على صدري.

صدرها كبير. اعتادت منذ انتبهت إليه وهي في الثالثة عشرة أن تسير مشدودة الكتفين فتبرز استدارتهما، تلمح رجرجتهما أثناء سيرها، وعندما تختلي بنفسها تتحسسهما فرحة بهما. ترى عيون الرجال تنظر إليهما، يوقفونها ويقولون أى كلام:

-      بنت مين يا بت؟

-      بتشتغلي مع مين يا بت؟

تضحك وترمي بضفيرتها للوراء وتبتعد. أمها خاطت لها "سُتيان" من جلباب قديم، أحست حين لبسته أنه يكتم نفسها، غير أنه لم يوقف رجرجتهما. الأولاد في عودتها من مكنة الطحين يتركون البنات الأخريات ويسيرون بالقرب منها. ولدان أو ثلاثة ينتظرون عودتهن على طريق الترعة الخالية، مختبئين في الليل وراء قمينة طوب مطفأة. يقولون كلاماً يجعلها تغضب، ويمدَون أيديهم يلمسون ثدييها ويجرون. تنهرهم وتشتمهم، يلاحقونها وقد شمروا جلابيبهم وشدوها حول وسطهم، وعيونهم تلمع في العتمة، تسمع صوت لهاثهم والواحد منهم يقفز وراء الآخر أمامها. هي لا تخافهم، تتحاشى أيديهم الممدودة، أحياناً تصل يد منها إلى صدرها وتعصره فتصرخ، يظلون في ملاحقتهن حتى يصلن إلى أول بيوت البلدة.

-      تغذينا وتعشينا عندها.

أكلت وحدها في الحوش. كانت تسمعهم يأكلون ويثرثرون في المندرة المضاءة.

-      كنست لها البيت. وغسلت الغسيل والمواعين.

ابنها البكر يلاحقها بعينيه. رقبته طويلة نحيلة، ووجهه في صفرة الليمون. يذاكر تحت اللمبة متربعاً فوق الكنبة. السرير بأعمدته السوداء في مؤخرة الحجرة. أخواه يذاكران حول الطبلية في الفراغ أمام السرير. أمه ممدودة الساقين على الحصير والطفل في حجرها. تجلس عند قدميها تخيط ما تمزق من جلابيب أولادها. سألتها عن أهلها وبلدتها وما يفعله أخوها عندهم.

-      لابد أن لساني أفلت بكلام.

أحست بذلك حين رأتها تسكت فجأة. كانت قد أعدت فرشتها للنوم في الحوش كما قالت لها، ثم عادت وقالت أثناء نهوضها أن تأتي بفرشتها لتنام معهم في المندرة. زوجها وأخوها ينامان في مندرة أخرى. هي والولدان والطفل صعدوا إلى السرير وقالت لابنها البكر وكان سينام على الكنبة أن يطفىء اللمبة بعد أن ينتهي من المذاكرة، تمددت بجوار الحائط المواجهه للكنبة، وجذبت الغطاء على وجهها.

أحست بالولد حين جاء واندس تحت الغطاء بجوارها. أذنها للسرير حيث ترقد المرأة وقد أعطت ظهرها للحجرة وصوت تنفسها الثقيل يأتي مرتفعاً، وانتبهت – قبل أن تترك نفسها للولد – للصوت وقد توقف وكأنما كانت تنصت لهما.

رحلا في الصباح. أخته أوصلتهما للباب. ربَتت على ظهرها أثناء خروجها، ووضعت في يدها لفة طعام.

الصندوق أثقل مما كان، جمع كل ملابسه التي كانت عند أخته. ركبا القطار. وسارا مرة أخرى على السكة.

-      السكك شبه بعض.

قال إنهما سيذهبان إلى أخته الأخرى ليأتي بأشياء تركها عندها. له أربع أخوات. كان يسير متمهلاً، يضرب طرف جلبابه بخيزرانة وينظر إلى الشمس في طريقها للغروب.

خرجا من الطريق إلى سكة جانبية. كان يقصد ساقية مهجورة رأتها بعد أن خلفا أحواض الذرة. جلسا على كومة قش بجانبها. فتح لفة الطعام. فرخة محمرة وأرز. أعطاها فخذ الفرخة. ترددت في تناوله. هي لم تحصل على فخذ كاملة في حياتها. تذبح أمها الفرخة حين تمرض ولا يرغب أحد في شرائها، ويكون منابها قطعة من الفخذ. أعطاها أيضاً الرقبة والرأس، هما مناب أمها دائماً. حبات الأرز علقت بشاربه الكث، كانت تظلم، وكان يرمقها بعينين عكرتين وقد تهدل فمه. تكون جالسه وتحس أنه ينظر إليها، تلتفت وترى عينيه العكرتين بلون التراب وفمه الممتلىء باللعاب وأنفاسه الثقيلة اللاهثة، وتفهم أنه يريدها، ويكون عليها أن تترك كل ما بيدها وتغسل وجهها وتذهب إليه قبل أن يرفسها. رقدت على جنبها فوق القش وانتظرته، بعدها تبعته لتغتسل في مجرى ماء بالجانب الآخر من الساقية. الماء رطب، تمددت على ظهرها وتركت جسدها يغطس ويداها تتشبثان بالقاع.

حين عادت وجدته نائماً وذراعه على الصندوق. القش رطب، والظلمة شديدة عن بعد. تحدق فيها وترتعش. أيقظته مع أذان العشاء وسارا.

تحرك العجوز في القارب مغيراً من رقدته، وتمتم بكلمات لم تلق لها بالاً. عيناه نصف مغمضتين ينظر إلى الولدين وقد اصطدما وسقطا وسط الأمواج. لوحا الخشب طافيان يتأرجحان والولدان لا أثر لهما، ثم ظهرا بعيداً والرذاذ يتناثر حولهما.

رمقته بجانب عينيها. تجلس على الحجر مستندة بكوعيها إلى ركبتيها تنظر حيث ينظر، ثم لمحت الولدين.وقالت إنها طول الوقت كانت تنظر إليهما ولا تراهما. وانتبهت. هي لا تحكي له كل شىء. يرتفع صوتها من حين لآخر ليصل إليه في القارب، ثم يخفت كالهمس، إصبع قدمها الكبير يحفر أرض الشاطىء اللزجة، تصمت وعيناها تحدقان في تموجات المياه بالمضيق. لم يحدث من قبل أن استعادت ما مضى، وكأنما كانت تجري لاهثة. هذا العجوز الذي انشقَت عنه الأرض، ويرقد في القارب لا ترى حتى وجهه. قالت:

-      أخواته البنات الأربع. وأقاربه. يوم هنا ويوم هناك.

يجمع أشياءه من عندهم حتى امتلأ الصندوق على آخره. وابن عمه الموظف يلبس البيجامة، ويترك رأسه عارياً كأنما يعجبه شعره الأسود وهو يلمع بالزيت. عينه لا يرفعها. ينظر إلى صدرها خطفاً. كانت منحنية تصب الماء ليتوضأ. تلبس جلباب امرأته الكستور. كان ضيقاً نَسَلَ قماشه عند الصدر. وبان قميصها البفتة مثقلاً بثدييها.

سألها إن كانت اشتغلت في البيوت من قبل؟

-      لأ.

-      أول مرة؟

وقالت إنها أول مرة. أشار برأسه نحو المندرة حيث يجلس ابن عمه:

-      هو؟

-      ماله؟

-      يوصلك؟

-      أيوه. يوصلني.

ينفض يديه من البلل. لمس صدرها وكأنه لا يقصد.

-      لا يعجبني هذا الصنف من الناس. يفعل شيئاً ويتظاهر بأنه لا يفعله.

بيته نظيف واسع. به كل شيء. أجولة الأرز والقمح مصفوفة في مندرة وزلِعُ السمن والجبن. وعشة فراخ وبط وبرج حمام فوق السطح. قال لها اصعدي للسطح. كانت تكنس الحوش، وصوت امرأته يأتي من الحارة تكلم جارتها. التصق بها من الخلف. ابتعدت. تنظر إليه حائرة. تلفَت حوله وهمس: اصعدي للسطح، وصعدت إلى السطح، السور حوله بارتفاع متر، ربطات قش وحطب. الغسيل منشور على الحبال. مدت ساقيها وراحت تنظر إلى الفراخ داخل العشة. وكانت ترقد ساكنة خلف السلك. رأته حين خرج من فوهة السلم. أسرع نحوها منحنياً مُتخَفياً بالسور، سقطت على ركبتيه بجوارها. مد يده إلى صدرها، أحست بيده الأخرى تجري تحت جلبابها. كان يلهث، ثم تركها وهرول نازلاً.

الشمس ساطعة تؤلم عينيها، نفضت نتف القش العالقة بشعرها وجلبابها، الملابس المنشورة جفَت، والهواء يهزَها خفيفاً.

كانا يسيران على السكة، وقال لها إن ابن عمه الذي رأته وسخ. ونظر إليها، كان الصندوق ثقيلاً على رأسها، والعرق يسيل على وجهها. جلسا تحت شجرة توت، مجرى ماء بجوارهما، مبلط ونظيف. تأتيه المياه من ماسورة فوهتها واسعة. رمت بنفسها عارية تحتها. تتلقَف المياه ضاحكة. يُشير إليها أن تخرج. تستمر في ضحتها. دفقات المياه على رأسها تصيبها بالدوخة فترمي بنفسها بعيداً عن فوهة الماسورة وتعود إليها. أحياناً يكون طيباً ولا يضربها.

في مثل هذه اللحظات يبدو كأنما شرد بعيداً وذراعه ممدودة فوق ركبته. يكتفي بجذبها إلى جواره. كانت ملتفة بجلبابها الذي خلعته. وضع الصندوق بين ساقيه. القفل ضخم معلق بالرزَة. أعطاها ملابسه وملابسها المتسخة وقطعة صابون. وكان ينكش في الصندوق حين ذهبت إلى مجرى الماء. غسلت الملابس وعلقتها بفروع الشجرة. الصابونة رائحتها حلوة. عادت إلى المياه واغتسلت بها. أخرج لها غياراً جديداً. لبسته. القميص ناعم كالحرير. الجلباب الجديد لا يزال في يده. ينظر إليها. كتفاها عاريتان، ونصف صدرها، القميص بحمَالتين رفيعتين. أشار لها أن تقترب. الجلباب بلون أصفر ونقوشه المطبوعة بلون أخضر في شكل أوراق شجر الصفصاف.

يبدو أحياناً وكأنه يهزر معها. يبتسم خفيفاً بجانب فمه وعيناه ترمقانها وكأنما يكتم سراً. تنسى حَذَرَها. تحس به قريباً إليها، تقول إنه مثلها ضربه الزمن. تضحك. تنثر شعرها وتقفز هنا وهنا. يُخرج من الصندوق عقداً بلون أزرق يعلقه بطرف إصبعه وثلاث غوايش من نفس اللون يضعها بإصبع يده الأخرى. تضحك وتدور حول نفسها، تتمايل على طرفي قدميها مقتربة منه.

اهتز القارب في عنف مرتطماً بالشاطىء، ورأت العجوز يجلس فجأة ملتفتاً إليها، بدا كأنما استيقظ من غفوة. الولدان وسط الأمواج متباعدان. سعل وعاد إلى رقدته. انحسرت الموجة واستقر القارب في رجرجته الخفيفة.

قالت إنه ليس أباهما.

تأهَبت القيام، ثم عادت وفردت ساقيها. عيناه عالقتان بالولدين في البحر.

قالت إنه أسكنها البيت الذي رآه في البلدة. حجرة بحوش. قال إنه اشتراه لها، وفيما بعد عرفت أنه كان يستأجره. وقال إنها امرأته.

-      ومن يشك في كلامه؟

يلبس الجلباب الصوف والبالطو الكشمير والشال الحرير على كتفيه ويحلق ذقنه. خداه ممتلئان يدعكهما بالعطر، يجلس معهم على المقاهي.

-      يصدقونه. لا أعرف ما قاله لهم. ولم لا يصدقونه!

يأتي مرة في الأسبوع. أحياناً مرتين. لم يكن له موعد. يقضي ليلة أو ليلتين ويمضي. يأتي ومعه لفة خوص بها اللحم والكوارع. هو متعب يخلع ملابسه دون أن ينظر إليها أو يكلمها. تتلقَف الملابس التي يقذفها بها. تُعلقها على مسامير بالحائط حيث ألصق أوراق جرائد. يسترخي بملابسه التحتية فوق الفراش. مصطبة عريضة بامتداد الجدار. القش فوقها تُغيَره كل أسبوعين. وعباءة من الصوف فردت فوقها ملاءة سرير. توقظه لتناول العشاء. يكون قد استراح وينظر حوله. تحكي له عما فعلته في غيابه وما اشترته من الدكان ليسدَد ثمنه. يفتح الصندوق. يخرج قميصها الستان الأحمر وجلبابه الخفيف وزجاجتي عطر واحدة لها وأخرى له، وشبشبها القطيفة الأزرق بالوردة الحمراء. والفوط الصغيرة التي تستخدمها يضعها بنفسه تحت المخدة.

يقول لها إنه تعب من الدنيا، والناس لا ترحم. يقولها دائماً في كل مرة يأتي. هي بجواره لا تنبس. يأخذها على ذراعه. يقول أنه من صغره لا يكف عن المشي، من بلد لبلد ومن عزبة لعزبة وأن عمله الذي يحسده عليه الكثيرون يُهلكه، ولم تعد ساَقاه تتَحملان.

الباب الصغير المفتوح على الحوش يتسلل منه ضوء أغبش. عيناه عالقتان بالضوء. صوت تنفسه الثقيل وفمه المفتوح. يوقظها في الفجر. تراه في الطشت عند عتبة الحوش يستحم. جسده الضخم وقد أعطاه ظهره. يقول إن الكنيف ضيق، يخشى الأبراص التي تُعشَش فيه. ينهض من النوم عكر المزاج. يُفْطِر ويلبس ويشرب الشاي وينتظر طلعة النهار. هي صامتة. تخشى الصعود إلى الفراش لتستكمل نومها. تجلس على الحصيرة مستندة بظهرها إلى المصطبة. حين قالت له إنها حبلى ضربها. ظنته أباهما. استدار فجأة ولطمها. كان يصبح: "وأنت أيضاً". هي وقد ارعبتها غَضبْته زحفَت بعيداً عن يديه. كان يتابعها وقد اربدَ وجهه والتوى، والرذاذ يتناثر من فمه. قال إن هذا ما توقعه. طول الوقت وهو ينتظر، ويقول لنفسه لعلها غيرهن، ويقول لابد أن تكون غيرهن فمثلها تريد البيت والستر، ولأنه لا يُنجب فعليه أن ينتظر، مكتوب عليه أن يرقب وينتظر. وكل مرة يترك البيت والبلدة، آه. ولم لا يستر عليهن أيضاً!! وحتى زوجاته الأربع، كلهن. تقول الواحدة ابنك. بنت القحبة. ابني. ينهال عليها بكفيه. هي مكومة في الركن. الدم يسيل من أنفها وثقل شديد بعينيها. تنتفخان. رفسها. كان يقصد بطنها، غير أنها انثنت فجاءت في كتفها. ابتعدت عن قدميه. وكان يفتش عن شىء يضربها به حين اندفعت إلى الحوش. تصرخ وتجري. يتبعها. يقذفها بما يعثر عليه. ينحني لاهثاً ويشتمها. هي تقف عند السور، تتأهب لتسلقه. ظلَ منحنياً ينظر إليها، ثم عاد إلى الحجرة. رأته في الداخل يجمع أشياءه. طوى البطانية التي جاء بها في المرة قبل السابقة والعباءة الصوف فوق المصطبة بعد أن نفضها من القش العالق بها. تقف على بُعد خطوات من باب الحوش. فتح الصندوق وأخذ يرمي داخله ما تلتقطه يداه. قميص النوم الستان. الكوب الذي يشرب فيه الشاي. الطرحة الجديدة التي اشتراها لها، والشبشب القطيفة الأزرق، وغياراته المنشورة على الحبل. جرت بعيداً حين خرج إلى الحوش ليجمعها. كانت لا تزال مبتلة.

أغلق الصندوق وحمله على كتفيه، والبطانية والعباءة تحت إبطه وذهب.

نظرت إلى العجوز وأرهفت أذنيها. كان راقداً على ظهره متوسداً ذراعه.

الولدان في البحر اعتليا لوحي الخشب مرة أخرى وأمسك كل منهما يد الآخر وأخذا يتأرجحان فوق الموج.

نهضت ودخلت العشة، عادت بمخدَة ووضعتها تحت رأس العجوز.

قال لها إن الولدين ابتعدا. وأشار إلى البحر. نظرة مرتعشة في عينيه، ومسحة من اللون الرمادي زحفت على جانبي وجهه. ينظر إليها كأنما يريدها أن تقول شيئاً، قالت إنهما سيعودان، وسألته إن كان يحب أن يجلس جنب النار عند العشة. وقال إنه مستريح في القارب.

جلست على الحجر. ارتفعت المياه في البحيرة حتى فاضت على الشاطىء وبللت قدميها. كانت أمواج البحر تتدفق في المضيق، ورذاذها – وقد ضاق بها المجرى – يتناثر عالياً.

قالت إنه حمل صندوقه وذهب.

-      البيت البعيد. أنت شفته. خارج البلد تسمع أصواتهم مع طلعة النهار حين يعودون من البحيرة. ولا تسمعها بعد ذلك.

تقف في آخر الحوش فوق برميل قديم مقلوب. تستند بذراعيها إلى حافة السور المرتفع، ترى البحيرة عن بعد. ألق الضوء هناك على صفحة المياه، يختفي باختفاء النهار، أحواض الزرع الممتدة، بعدها مساحات واسعة من الأرض البور تجري فيها كرات الشوك الجاف ثم تدفعها الريح أخيراً إلى البحيرة، تطفو قليلاً وتختفي في المياه.

في الليل يترامى السكون عميقاً، يتخلله نقيق الضفادع الكثيرة، وفي لحظات صمتها كانت تستطيع أن تميز فحيح مياه البحيرة وهي تلعق الشاطىء.

-      من خوفي كنت أترك الباب موارباً. أقفل باب الحوش وأترك باب الشارع موارباً. الشارع لا يخيفني مثل البحيرة. سرتُ على شاطئها مرة أو مرتين. مالا أعرفه أخاف منه.

عندما بدأت تفكر في إغلاق باب الشارع أيضاً – بعد أن سمعت نباح الكلاب وشجارها الذي كان يمتد أحياناً إلى داخل الحجرة – جاءوا. وحين وجدوا الباب موارباً دخلوا. كانوا أغراباً. لم ترهم في البلدة وحتى لو رأتهم ما كانت لتعرفهم. يأتون من البحيرة في الليل. تكون نائمة وتصحو على صرير الباب الخافت. يأتون لقضاء السهرة في مقاهي البلدة. لم يكن لهم موعد. وقد تمر أيام طويلة لا تراهم. يسحبون قواربهم إلى الشاطىء. يمرون بالبيت في طريقهم للبلدة. يتخلف واحد منهم، ويواصل الآخرون السير. تراه – وقد جلست في الفراش – يضع المقطف الممتلىء بالسمك خلف الباب ويغلقه، ويطفىء اللمبة ويفتح باب الحوش. يتدفق الضوء الرمادي إلى الحجرة. يفك الشال عن رأسه. يتحركون في البيت بألفة، يعرفون مكان كل شىء. طلب واحد منهم يوماً أن تشعل قوالح للجوزة، وقالت إنه ليس لديها قوالح. نظر إليها متعجباً ونهض. جاء بها من تحت ركام قطع الخشب بركن الحوش وقال:

-      "حتى لا يتلفها المطر".

وقالت يومها إنها لا تستطيع أن تصل إلى السور المرتفع. قال:

-      والبرميل؟

-      أي برميل؟

قفز من جوارها وسحبها وراءه إلى الحوش. أزاح جانباً من ركام الخشب وأخرج البرميل. دحرجه إلى ركن السور ورفعها فوقه.

قال إنه بيت الخالة سكينة.

كان أمام الموقد في الحوش يشعل القوالح. هي في الفراش ترقب ظله الممتد في ضوء القمر أمام فتحة الباب، تحس بنشوة تجتاحها والظل يتأرجح شمالاً ويميناً، وتضحك في نفسها.

قال إنهم ظلوا سنوات يأتون للخالة سكينة وكانوا غلماناً. كانت عجوزاً طيبة تحتفظ لهم دائماً بالعسلية في كيس من القمَاش تعلقه بمسمار على الحائط في متناول أيديهم، تعرف أجدادهم واحداً واحداً. تصفهم وتحكي عن عاداتهم وما كانوا يحبونه من طعام، في كل مرة تحكي تُضيف جديداً لم يسمعوه من قبل. ينصتون إليها في دهشة. بعضهم لم يروا أجدادهم. تحكي دائماً عن جد – لم يعرفوه ولا سمعوا به حين سألوا آباءهم عنه لم يتذكره أحد – تقول إنه اختبأ عندها يومين. جروحه كثيرة. في رأسه فقط جرحان طويلان تغوص فيهما عقلة الإصبع. كانوا يطاردونه في البلدة. يشرق وجهها العجوز حين تحكي كيف كان يطيح بهم في المقهى حيث نشب العراك. مزقوا ملابسه. هو مستند للحائط يرد ضرباتهم والدم يغطيه. يشدونه من ملابسه ليبعدوه عن الحائط، ويسقط سرواله. حين رأوا أنه غير مختون فزعوا.

-      براَوي!

تكاثروا عليه وأرادوا أن يزفوه. مرق من وسطهم نصف عار والضربات تنهال عليه، جروا وراءه. يتفادى البيوت والناس. اختفى في حوض ذرة. أحاطوا بالحوض يصيحون به أن يخرج. العتمة شديدة. لم يستطيعوا رؤيته في الداخل. وقفوا مترددين. كانوا يخشون دخول الحوض من غير أن يعرفوا مكانه. ظلوا في وقفتهم على الشطوط ينتظرون طلوع الفجر وكان يقترب. تسلل من الطرف البعيد إلى حوض آخر. يتنقل من حوض لحوض حتى ابتعد. اكتشفوا هروبه مع ضوء الفجر. أسرعوا إلى شاطىء البحيرة، وحين عثروا على قاربه حطموه، وانتظروه هناك. تجلس على عتبة الباب وأمامها صينية الأرز تنتقي منها الحصى. يمرون بها وترد على تحيتهم. الجرح في رأسه ينزف. انتظرت الليل وأغلقت عليه الباب وخرجت. جاءته بالحلاق. تبعها عن بعد مُتخفياً بالظلمة. خاط له الجرح. كانت تضع اللمبة على رأسها وتساعده. تضغط جانبي الجرح حتى يلتصقا والحلاق يشد الخيط. لف له رأسه بالشاش وقال لابد من الغيار على الجرح كل يوم. كان يجلس على طرف الفراش يشرب كوب الشاي مُنتشياً كذكر إوز خرج لتوه من الترعة. قال إنه سمع بالشجار في المقهى، وسكت منتظراً. الجدَ يستر نفسه بملاءة يلفها حول وسطه. عينا الحلاق تختلسان النظر إلى حِجْر الجد الذي يجلس متربعاً. قال وهو يناولها كوب الشاي الفارغ:

-      "إذا كان ولا بد أجري لك الختان".

الجد وكأن لا أحد يكلمه. سكنت حركته لحظة وهو يرشف شوربة الفرخة من سلطانية في يده. مدها إليها فارغة. تجشأ في صوت ممتلىء ونظر إلى الحلاق متأملاً، ثم استلقى في الفراش وجذب الغطاء على وجهه. الحلاق نظر إليها ونظر إليه، ووضع يديه في جيبي البالطو وخرج.

سرقت له الخالة سكينة سروالاً من غسيل منشور أمام أحد البيوت، وخاطت ما تمزق من جلبابه. حين جاءته بالسروال لبسه ونهض. قالت له أن ينتظر مجيء أحد من البحيرة فيعود معه. كان يترنح وعيناه عكرتان من الحمى، أزاحها وخرج.

قالت إن الليل سيخفيه.

سارت وراءه. التفت وقال لها: ارجعي.

وعادت.

هم هناك لم يتوقعوا ظهوره. كان ما تبقى منهم على الشاطىء ثلاثة أو أربعة لم يعترَضوا له. قذف بنفسه إلى البحيرة. ورأوه يسبح ويختفي في المياه المعتمة، وظلوا وقتاً يسمعون ضربات ذراعيه.

تصمت الخالة سكينة. أحياناً تكتفي بما قالته، أو تهمس: ما كان لعشرة منهم أن ينالوا منه.

قالت لهم مرة – وكانوا قد ألحوا عليها لتحكي ما حدث له – إنه لم يصل أبداً وحين سألوها كيف عرفت؟

قالت: كان سيأتي ليراني.

عندما تعبت جاء آباؤهم وأرادوا أن يأخذوها إلى البحيرة. قالت إنها ستموت في بيتها. واشتد بها التعب فحملوها إلى القارب. كانت كالطفلة على أكتافهم، ملتفة في البطانية. حين أرقدوها في القارب أفاقت من غيبوبتها. قالت:

-      أعيدوني للبيت.

وقفوا حائرين، ثم حملوها وعادوا بها إلى البيت. وضعوها في الفراش، وقالت إن الحلوى في الكيس، وأشارت بيدها إلى الكيس. وماتت.

-      آه. ماتت. ما من مرة يأتي واحد منهم إلاَ ويحكي عنها.

تتأمل الوجه في الضوء الخافت. تقول إنهم يتشابهون. نفس الملامح، الطول، والعرض. الصوت يختلف، والكلام أيضاً.

في عودتهم من المقهى يسعل أحدهم عندما يقتربون من البيت. ينهض من جوارها محاذراً أن يوقظها. هي غير نائمة. تحس به حين يخرج، صرير الباب يجذبه وراءه، وخطوته السريعة ليلحق بهم. الصمت الثقيل يحتوي الحجرة والحوش. وفئران تمرق في الضوء الرمادي. أصواتهم تبتعد في طريقهم إلى البحيرة. تغلق الباب. تتذكر وجوه أولاد لعبوا معها في الحواري، وتقول إن ما تبقى من طعام لا يزال في الحلة فوق الموقد. رائحته تجذب القطط، وسيوقظها رنين الحلة حين تقع على الأرض، وترى الكلب الشارد من تحت عقب الباب حين يأتي ويرقد على العتبة في الخارج.

كان بخلافهم. نحيلاً. منحنياً. وأنفه مدبب. ولولا أنها سمعت أصواتهم عندما مروا بالبيت ما ظنته واحداً منهم.

وقف متردداً بفتحة الباب ثم خلع مركوبه وسار متمهلاً. جلس على حافة الفراش. قال إنهم حين عرفوا بمجيئه إليها أرسلوا معه مقطف سمك – وأشار إلى المقطف عند الباب – وطبخوا لها ذكَر بط – وأشار إلى سَبَت صغير بجوار المقطف رأت داخله حلَة بغطائها. يحدق إليها بعينيه الواسعتين. هي تحت وطأة نظراته نهضت لتُسخَن البطة والأرز. وكان مخلوطاً بالفاصوليا والطماطم.

-      لا يطبخ الأرز المخلوط غير أهل البحيرة. لا يطبخون الأرز وحده أبداً. سألته عمن طبخه. تحس بعينيه على ظهرها وهي أمام الموقد. هي لا تحب مَن يراقبها أو يحدق في وجهها، تضطرب وتحتار.

قال إن أمه طبخت ومعها أم سالم.

-      ابنها سالم يأتي البلدة كثيراً.

وصفه لها. لم تعرفه. وقالت إنها ربما رأته.

يخيفها الوجه حاد التقاطيع. كلمته واحدة دائماً، لا يرجع عنها أبداً. يجلس هناك يتحسس جانبيه. وجهه هزيل كصاحب مرض. تناولا عشاءهما على الحصير. يأكل في بطء ويمضغ الطعام طويلاً. غسل يديه ثلاث مرات، كانت تصب عليه الماء في الحوش، ورفع وجهه ونظر إليها وهو يتغرغر.

جلس مستنداً بظهره للمصطبة وقد ثنى ساقه ومد ذراعه فوقها. هي حائرة لا تعرف ماذا يريد. يبتسم وهو ينظر إليها. تذهب وتأتي. تبحث عن شيء في الحوش وتعود. جلست في النهاية غير بعيد.

قال إنه نادراً ما يأتي البلدة. سكت قليلاً. وعدل فردة شبشب مقلوبة، وقال إن له سنوات لم يغادر البحيرة. أرادت أن تسأله عما يمنعه ثم أحجمت. خافت.

قال إنه هناك يُسلِي نفسه. يجد دائماً ما يفعله. نظر حوله متأملاً الحجرة، ومال قليلاً ليرى الحوش من خلال الباب المفتوح. قال إنه لم يأت معهم عندما كانوا يأتون وهم صغار للخالة سكينة. مجرد أن يُسمَح لهم بركوب القوارب وحدهم كانوا يُجدفون قاصدين إليها.

سألها إن كانت تحتاج شيئاً؟

وقالت إن عندها ما يكفيها.

كان صوته واهناً. وبدا أن الطعام يثقل عليه. لم يقل بعدها شيئاً، ظل جالساً مكانه يغفو من حين لآخر حتى مروا وأخذوه.

الولدان اختفيا بين الأمواج. اللوحان يتأرجحان بدونهما. رأتهما بعد ذلك وقد احتضن كل منهما لوحة بذراعه وراح يجدف بالذراع الأخرى. كانا متباعدين ثم اقتربا. نهض العجوز قليلاً متكئاً على ذراعيه، ثم عاد إلى رقدته.

قالت إنها تحمل مقطف السمك إلى السوق، ما تكاد تصل حتى يتخاطفوه منها، لم تر مثله من قبل. من أين كانوا يصيدونه؟

-      لا أعرف. يشبه السمك الذي يأتي به.

ويسألونها من أين جاءت به. وتضحك.

-      سمك كبير. فصه مليان. وبطنه نظيف.

قالت إنهم عندما رأوا الصندوق سألوها: أهو صندوقه؟

وقالت: هو.

يحمله الواحد منهم على كتفه ويسير به. ويقول: ثقيل.

وتقول: آه ثقيل. يقصم ظهري عندما أحركه لأكنس حوله.

يسير به خارجاً إلى الحوش. ضوء القمر يسطع هناك. يصل إلى السور ويعود. يضعه مكانه ويقول: يشبهه.

-      يشبه مَن؟

-      يشبه صاحبه. كل واحد فيه شبه من حاجاته.

قالوا لها إنهم رأوه مرة في البلدة. عرفوه من البالطو الكشمير الذي قالت إنه يلبسه دائماً. وقالوا إنه حين يلتفت يستدير بكل جسمه. وقالت إنه هو. يشكو آلاماً في الرقبة. حين سألوها عما يبقيها معه. سكتت. هي نفسها لا تعرف. لم يكن يخيفها. كان يضربها وتتلقى الضربات في صمت. وحين يشتد بها الألم تندفع إلى الحوش. بعدها تتسلل إلى الحجرة ويكون نائماً. تحسَ بالراحة لدى رحيله وكأن ثُقلاً انزاح عنها. غير أن صندوقه كان معها دائماً. تلك الألفة الغريبة التي تحسها مع الصندوق. هي لم تفتحه أبداً، ولا رأت ما بداخله. مغلق بالرزة والقفل الضخم الأسود. صنعت له يوماً مفرشاً من قميص قديم لها بلون قشر البصل، وطرزَت حوافَه بخيط أخضر. وفي المنتصف دوائر من الخرز والترتر أخذتها من قرطتها. ويوم أخذ الصندوق وذهب كانت تبكي وتلطم وظنت أنها ستموت. أغلقت البابين وارتمت على الحصير. تقول إنه كان يعرفها ويعرف بلدتها وأهلها. والآن لا أحد يعرفها.

تقف على البرميل تنظر إلى الخلاء. ضوء الشمس ينعكس على المياه البعيدة، لم تعد البحيرة تخيفها، وكانت تترك باب الحوش مفتوحاً. بطنها الممتلئة وقد أخذت في التكور تحت الجلباب.

يتحسسونها. يضع الواحد منهم أذنه عليها مُنصتاً. وتقول إنه يتحرك. ويقول إنه يسمعه.

لا يمكثون الآن طويلاً بالبيت. يحدثونها واقفين، ينظرون إلى بطنها ويبتسمون، ويضحكونها، وأحياناً لا يدخلون. يدقون الباب في مرورهم ويتركون مقطف السمك.

جاءوها بالصابون والسكر والشاي وزلعة سمن ونصف "توب" قماش فصَلت منه خمسه جلابيب لك ولد غير اللفف.

يقولون: ولدنا.

جاءت الداية قبل الولادة بأسبوع لتقيم معها. قالت: أرسلني أقاربك.

سألتها عن موعدها. قالت. إنها لا تعرف. تحسست بطنها وقالت: أسبوع . اثنان. لا بزيد.

أرقدتها في الفراش. كانت تغسل وتكنس وتطبخ وتذهب بالسمك إلى السوق. يمرون الآن كل يوم. يتركون الدجاج المذبوح والسمك والبيض ووعاء اللبن. يوم ولادتها قالت الداية: أقاربك في الخارج.

كانت ساعة مغرب. تحاملت على نفسها واتجهت للباب. الآلام بدأت مع العصر. لابد أن الداية عرفت بالموعد قبل يوم أو يومين وأخبرتهم به. وقفت بفتحة الباب تنظر إليهم. العرق يُبللَها، والأشياء تتمايل أمام عينيها. رأتهم هناك يجلسون غير بعيد على شط قناة جافة بجانب السكة. مًن يراهم يظنهم يستريحون قليلاً في ظل الأشجار. تأملتهم واحداً واحداً وابتسمت. تستند لضلفة الباب ورعشة تسري في ساقيها. أربعة منهم تذكرت ملامحهم. الآخرون بدت وجوههم مألوفة لها.

خرجت الداية إليهم ببراد الشاي والأكواب والجوزة ووعاء النار. ضوء اللمبة ضعيف يثير ظلالاً كثيرة تتراقص في الحجرة. عندما جاءوا "بالكلوب". أطفأت الداية اللمبة.

تسأل الداية إن كانوا لا يزالون بالخارج.

وتقول: إنهم هناك.

وتقول لها: إن "العيش" في القفص المعلق على الجدار بالحوش وإن الجبن والعسل في الَصندوق.

وتقول الداية: إنهم لا يريدون.

تصرخ وتلتقط أنفاسها لاهثة. تحسَ بمن يقف خارج الباب والداية تهمس له ثم ترد الباب.

كان الوقت متأخراً حين ولدت، وكانوا لا يزالون في الخارج.

ظلوا يأتون من يوم لآخر. يقف الواحد منهم أمام الباب منادياً. تقول له: ادخل. يضع ما يحمله جانباً، يداعب الولدين قليلاً ويذهب. ثم انقطعوا فجأة عن المجيء.

-      لا أعرف أين ذهبوا.

اختفت الشمس أخيراً. وتألق ضوء الشفق بعيداً فوق أمواج البحر. وسرت برودة خفيفة. ضمت ساقيها وأحكمت الجلباب حولهما. كان الولدان عائدين. يجلس كل منهما على لوح الخشب مُدلياً ساقيه ويجدف بذراعيه. الأمواج اشتد صخبها. وأخذت مياه البحيرة تضطرب. وانطفأت النار أمام العشة. لم تعد تنفث دخاناً. والكلب يحوم أمام باب العشة. صاحت به أن يبتعد. استندت إلى جانب القارب كعادتها حين تريد أن تنهض. ورأت العجوز يتقلب مع حركة القارب منكفئاً على وجهه.

 

(6)

الولدان يحفران غير بعيد عن الشاطىء. غائصين في الحفرة حتى منتصفهما، يتبادلان سنَ فأس عثرا عليها بين كراكيب العجوز. وكانت معبأة في زكيبتين خلَف العشة. يجرفان التراب اللزج ويقذفان به على الجانبين. الجثة مغطاة بملاءة قديمة ناحلة، مسجاة على ألواح خشب بجانب الشاطىء حيث قاموا بغسلها. كانت المرأة تغرف المياه بالحلة من البحيرة. والولدان يدعكان الجسد بالليفة والصابونة.

أشارت للإبطين وفتحتي الأنف والأذنين. فرد الولدان أذرعتهما. كانا يدوران حوله مقرفصين. الجسد ضئيل بارز العظام، وحين عجزا عن قلبه ليغسلا ظهره ساعدتهما المرأة، وقلبوه على جنبه. ظلت ممسكة بكتفيه حتى انتهيا. ثم تركوه قليلاً ليجف قبل أن يغطوه بالملاءة.

أشعلت المرأة ناراً كبيرة أمام العشة. بددت الظلمة حولها. كانت تغذيها بالكثير من قطع الخشب، وبدا القارب في الضوء يتأرجح مع لطمات أمواج المضيق. سحبت المرأة القارب والولدان يدفعانه من الخلف حتى أستقر على الشاطىء.

جلس الولدان على جانبي الحفرة وسيقانهما مدلاة داخلها. سارت إليهما المرأة. قالت لهما إنها صغيرة، وابتعدت. نزل الولدان إلى الحفرة وعادا يحفران.

تناولوا عشاءهم بجوار النار. جاءت المرأة بحلة الأرز من فوق الموقد. والسمك المشوي على غطائها. أكلوا في صمت، والكلب يرقد ساكناً غير بعيد عنهم. عاد الولدان بعدها إلى الحفرة، وظلت المرأة بجوار النار تشرب الشاي.

غسلت الحلة في مياه المضيق. ووقفت على الشاطىء تنظر في اتجاه البحر كانت محلولة الشعر، والريح شديدة، والعتمة تُخفي موج البحر الهادر. وقفت طويلاً ثم استدارت عائدة. ضمت ذراعي العجوز إلى جانبيه وكان الولدان قد تركاهما مفرودتين، وأحكمت الملاءة حوله.

صعدت إلى القارب وأخرجت كل ما فيه. الأغطية والمخدة وفرشة البوص العطنة. عثرت على صندوق في سحارة القارب. حملته والولدان فيما بينهم إلى العشة. كان يشبه صندوق مقاول الأنفار. نفس الحجم المتوسط. وحافة الغطاء البارزة، واللون الأخضر القاتم. القفل المعلق بالرزة يعلوه الصدأ. بحثوا عن المفتاح في جيوب الجلباب الذي خلعوه عن العجوز وفي جيبي الصديري وفي القارب. في النهاية حطمه الولدان بسن الفأس.

جلسوا حول الصندوق واللمبة معلقة بالحائط فوق رؤوسهم. أخرجت المرأة جلباباً بلون أزرق من الصوف، نخرت العثَة صدره وكتفيه، وصديرياً احتفظ قماشه بلمعته، عَلِق بعُروة منه سلسلة تنتهي بساعة في الجيب، فتحت غطاءها المعدني ووضعتها على أذنيها ولم تسمع صوتاً. ناولتها للولدين وكانا متكئين على فخذيها ينظران إليها. وضعها كل منهما على أذنه، ثم أعادها لها. أخرجت حذاءً أسود. حُشرَ في مقدمته خرقة، وطقماً من الملابس الداخلية. سروال طويل وفانلة بكٌمَين، ومحفَظة ممتلئة بالأوراق. فردَتها على حجرها. كانت مهترئة، مكتوبة بالقلم الكوبيا. بدأ الخط في بعض السطور التى نالتها رطوبة بلون بنفسجي، وفي ذيل الأوراق أختام سوداء صغيرة وكبيرة وبصمات أصابع، وعثرت في قاع الصندوق على لفَة ورق صغيرة وكبيرة وبصمات أصابع، وعثرت في قاع الصندوق على لفَة ورق صغيرة بها حبات مسبحة تنقصها حبتان لتكون "التلت". وخاتم من الفضة بفص أسود.

نظرت إلى الصندوق الفارغ وجوانبه المكسوة بالورق، وثقب صغير في الركن حيث تناثر قليل من مسحوق الخشب. الولدان بجوارها وضع كل منهما فردة حذاء في قدمه، همست: "كل هذه السنين"؟

التفتت إلى الولدين. قالت: أعيداها إلى الصندوق.

-      والساعة؟

-      والساعة.

أخذ الولدان يرتبان الأشياء في الصندوق. قالت: كان يحتفظ بها لعودته.

-      أين؟

-      الله أعلم.

-      وما منعه؟

-      العلم عند الله. ربما لم يَئِنِ الأوان.

-      أي أوان؟

-      كل شيء وله أوان.

أغلقت الصندوق، وعلقت القفل المكسور بالرزة، وحملوه إلى جانب الحفرة. سحبوا الجثة بألواح الخشب. نزل الولدان إلى الحفرة وتلقَفاها ووضعا الصندوق بجوارها، وأهالوا عليها التراب. بعدها أخذا يدكان القبر بقدميهما. كانا يقفزان والظلام حولهما متماسكي الأيدي، وجلست أمهما بجوار النار.

 

(7)

يأتي الفجر ويذهبون. ينصبون خيامهم غير بعيد عن البحيرة مستأنسين بالعشة والمرأة والغلامين. الًمْعز هزيلة ترعى العشب على الشاطىء، وتتبع الغلامين في مسيرتهما اليومية إلى مجرى الماء. وكان يتسع يوماً بعد يوم في طريقه للبحيرة. ثمة عمال يحفرون. وعلى مدى البصر بدت قمم أشجار وأرض مقسمة إلى أحواض تغرقها المياه، وشتلات أرز تميل أطرافها مع هبات الريح.

يقضي الغجر أياماً، ثم يفكون خيامهم المهلهلة ويرحلون.

تأتي القوارب للمضيق. ثلاثة، وأحياناً خمسة. مهتدية بالضوء الخافت على الشاطىء. يشوي أصحابها السمك ويأكلون متحلقين حول النار، الولدان بالقرب من الوهج يغفوان بعد الطعام وقد توسَدا ساقي أمهما.

أبحرت القوارب ذات ليلة. قطرت القارب الأسود وبه المرأة والولدان. وأختفت في عتمة البحيرة الواسعة.

في الشتاء عصفت الريح بالعشة وقذفت بألواح الصاج بعيداً، ظلت أعمدته – فلقات جذوع النخل الأربعة – تقاوم في عناد. كان قد حفر لها عميقاً.

***

 

نــــوَّة

(8)

زحف العمران شمالاً باتجاه البحيرة. بيوت صغيرة من دور واحد بُنيت على عَجَل من المسلّح بمصاطب عريضة وأحواش ضيقة وسقوف لم يكتمل الكثير منها. برزت منها أسياخ حديد نالها الصدأ. علقت بها قطع حبال وخَرَق قذفت بها الرياح. الدكاكين تأخذ زوايا البيوت، وأحياناً نافذة بجدار، تميزها براميل الزيت والجاز المركونة أمامها. المقاهي مفتوحة على الخلاء حيث سُوَّيت مساحة صغيرة من الأرض زُرعَت بها شجرة أو شجرتا توت توقّفَ نموها قبل أن تُثمرا. زحف العمران مع مجري الترعة، متجاورين، بينهما طريق ترابي بعرض ثلاث خطوات. حين يتوقف الحفر في الترعة يتوقف زحف العمران أيضاً. يستمر التوقف سنوات طويلة. تتدفق المياه من النهر إلى الترعة في ساعات الصباح عندما تُفتَح بوابة الهويس، ساعات قليلة ثم تُغلّق.

تشحّ المياه أحياناً في الترعة. يهبط الأهالي الشاطىء بجرادلهم وحللهم، يخوضون في الوحل إلى المياه القليلة المستقرة في القاع.

يبحثون عن "عفيفي" ليفتح بوابة الهويس. ينتظرونه على السكة حين يكون في مشوار ما. يقول لهم إنه لا يستطيع فالمياه قليلة أيضاً في النهر، ويقول لهم إنها الأوامر ولو مرّ أحدهم – وهم دائماً ما يمرون – ورأى البوابة مفتوحة في غير الموعد:

-      ماذا تظنون أنه سيحدث؟

راكباً حمارته صغيرة الحجم، وساقاه المنحسر عنهما الجلباب مطويتان على جانبيها حتى لا تلمس قدماه الأرض. يسيرون بجواره في صمت، وعندما يصل إلى بيته ينظر إليهم وقد أطبق فمه الخالي من الأسنان وتجعّد وجهه:

-      وحتى لو فتحتها طول اليوم!!

محدقاً بغضب في الوجوه القريبة منه: الأمر لله.

ويستدير بحمارته وهم حوله متجهاً إلى الهويس.

عندما يُعاد الحفر في مجرى الترعة يتحرك العمران أيضاً، ويتوقف المجرى أخيراً وقد أوشك أن يصل إلى البحيرة، ينتهي بسدّ مرتفع من المسلح.

تطل البيوت على البحيرة، يبعدها عنها مساحة واسعة من الأرض البور تكسوها طبقة هشة من الملح تتناثر بها أعواد الغاب التي تذوي سريعاً ونباتات الشوك التي تقتلعها الريح في هبوبها وتقذف بها مهشة نحو البيوت والسكك.

البلدة هناك في حضن النهر، على بعد ميلين من البحيرة تظلها أشجار الصفصاف والكافور. بيوت واسعة بأعمدة وشرفات وواجهات من الجص الملون على جانبي النهر، خلفها في العمق أزقةّ وحواري ضيقة ملتوية.

ظلت البلدة سنوات تمد الضاحية الجديدة أثناء زحفها نحو البحيرة بكل ما تحتاجه، التجار الكبار تحولوا من تجارة القطن إلى تجارة الأراضي – وقد ازدهرت بعد شق الترعة – والأسمنت والخشب وحديد التسليح. لقد اكتسبوا جيلاً بعد جيل تلك النظرة العميقة للمستقبل، ووقفوا على حدود المساحات المترامية من الأرض البور ورأوا فيها الامتداد الطبيعي للبلدة، واشتروها قبل أن ينتبه أحد برخص التراب وتركوها للزمن.

***

يأتي أهل البحيرة ليتزودوا بالمياه من ترعتنا. يبحر بعضهم – القادمون من الجزر البعيدة – نصف يوم بمراكبهم الشراعية ليصل إلينا. عادة يأتون ساعة العصر. قالوا إن الترعة في بلدتنا بخلاف التُرَع في البلاد الأخرى المطلة على البحيرة أصبحت قريبة من الشاطىء فلا يُضطرون إلى السير طويلاً على اليابسة حاملين براميل المياه.

يطوون أشرعة المراكب، ويدفعون بها حتى تنغرز مقدمتها في طين الشاطىء، يدحرجون البراميل الفارغة أمامهم فوق المدقات التي صنعتها أقدامهم وسط الأرض البور. قطع الملابس التي تسترهم قليلة مهلهلة، البعض منهم يمضون إلى الدكاكين القريبة لشراء ما يحتاجونه من سكر وشاي ودخان وحلاوة طحينية، ويستمر الآخرون بالبراميل إلى الترعة.

كانوا بعد أن يحملوا المراكب يجلسون على شاطىء البحيرة حول نار صغيرة يدخنون الجوزة ويلتهمون بعض علب الحلاوة الطحينية. ويقذفون بفوارغها إلى المركب. هي ساعة أو ساعتان ويرحلون.

نادراً ما نراهم في شوارع البلدة. حتى أيام السوق، وقد تمر شهور طويلة ثم نرى ثلاثة أو أربعة منهم يبيعون عِجلاً في السوق. نُميزّهم عن الآخرين القادمين من البلاد المجاورة ببشرتهم المحروقة ونظراتهم المستقرة الهادئة وخطوتهم المرتبكة. هم لم يعتادوا الجلباب الطويل الذي يلبسونه حين يأتون إلى البلدة، كان ذيله يلتف حول سيقانهم عندما تهب نسمة من الهواء ويعوق حركتهم. يختارون دائماً مكاناً نائياً عن زحام السوق، عادة ما يكون مرتفعاً قليلاً. يقفون مستندين بأذرعتهم إلى ظهر العِجل دون أن يلقوا بالاً إلى الضجة حولهم، لا يستجيبون لأية تحرشات من جانب الصبية الذين يسعون في السوق بقصد العبث. يقولون سِعراً لا يتزحزحون عنه. يشتد زحام وهم في وقفتهم لا يغيرونها. ينصتون قليلاً لمحاولات الشارين لتخفيض سعر العِجل ثم لا يلتفتون إليهم بعد ذلك. تميل الشمس إلى الجانب الآخر، وتخف حدة الزحام وهم لا يزالون في وقفتهم. يوشك السوق أن ينفض، والشاري الذي عرض سعراً يقل قليلاً لمجرد الرغبة في المساومة يتلكأ غير بعيد منتظراً أن ينادوا عليه، وحين يمرون به عائدين إلى البحيرة يهمس لهم بموافقته على السعر الذي طلبوه. غير أنهم لسبب ما يرفضون البيع له، ويستمرون في طريقهم ساحبين العِجل وراءهم.

***

الجُزُر كثيرة بالبحيرة. مساحات واسعة قليلة الارتفاع بلون داكن. لم تنفض عنها البلل تماماً. ترتفع المياه مع المد في الليل فتغطي جانباً من أطرافها. ومع الصباح تكون قد انحسرت مُخلفة حُفراً ممتلئة بالمياه وأسماكاً قليلة مضطربة. جوانبها التي تنحدر تدريجياً مغطاة بعشب قاتم الخضرة وعيدان غاب صغيرة نضرة تسيل عصارتها في قطرات لزجة على سيقانها النحيلة. ماشية كثيرة ترعى. تنساق أحياناً وراء العشب على الجوانب المنحدرة، وحين تتعذر عليها العودة تخور عالياً. قوارب نحيفة ترسو في المياه الضحلة وسط أعواد البوص، تتأرجح مع حركة الأمواج الرتيبة.

تعمق مياه البحيرة مع ابتعادها عن الجُزُر، تشفّ أحياناً عن بروز داكن تتلاطم فوقه الأمواج الصغيرة. ينبسط تحت الماء متدرجاً في انحداره والعشب القاتم اللون يتمايل على جوانبه مع تيارات الماء. هي جزيرة أخرى تنتظر انحسار المياه عنها.

يتحدثون عن النَّوَّة قبل أن تأتي كشيء ينتظرونه دائماً. نذروها وقد بدت في الأفق، وموج البحر المترقب، وأمواج البحيرة المتراخية وكأنما مستها رعشة، تذهب وتأتي وقد ارتبكت مسيرتها المنتظمة ثم يستقر اتجاهها إلى الداخل نحو الشطوط والجُزُر. يُخيّم على سطحها السكون فجأة كأنما تمسك أنفاسها. ويلوح الهدير عن بٌعد في الفجر.

تأتي النوة كاسحة يتردد صداها في عمق البحيرة. تجتاح أمواج البحر المضيق، جبال من المياه المزبدة تتلاحق، يتفتت لها جانبا المضيق. تمتلىء أمواج البحيرة وتضخم، تشتد حركتها وتتلاطم، يُصبح لها رذاذ وظلال ورغوة هشة. ترتفع المياه في البحيرة عكرة وقد تفجرت أعماقها. تغطي في ارتفاعها وكأنها لن تتوقف أبداً. تختفي جزر صغيرة كانت قد بدأت تطل من عمق المياه. البيوت القليلة فوق الجزر الكبيرة – وقد تجمعت في بقعة صغيرة اختاروا لها الأماكن المرتفعة – تبدو وكأنما تطفو على سطح المياه، وأصحابها يقفون أمامها ومعهم الماشية يرقبون المياه تسعى حثيثاً نحوهم.

تأتي النوة في موعدها دائماً، قد تتأخر قليلاً، وقد تُبكّر، غير أنها تأتي. تُخيفنا نوة الشتاء. هذا السكون المفاجىء وكأن كل شيء توقف مترقباً. سحب كثيفة قاتمة تتجمع. رياح باردة توشك أن تنفجر، وصوت مكتوم أشبه برجفة في جوف الأرض. في كل مرة نقول إنها عاصفة قادمة ستأخذ وقتها وتمضي، غير أنها تظل كامنة في الأفق، نسمع دمدمتها دون أن تأتي. نحس بالخواء، وحزن غامض يجثم على نفوسنا، والكلاب على عتبات البيوت تزوم ولا تنبح.

هبة خاطفة من الريح تسوطنا وتمضي. تأتي غيرها وغيرها. يتألق ضوء السماء في صحوة مفاجئة. تبدو السحب المعتمة كأنما تلملم نفسها لتبتعد. حين يكون الوقت ليلاً نرى الشوارع وقد احتواها ضوء فضي. ونقول إنها إحدى خدعها لتسحبنا من مكامننا. يُبهرنا الضوء الناعم. نتخلى عن حذرنا ونخرج يحدونا الاطمئنان الذي أشاعه الضوء حولنا. نسمة رقيقة دافئة تسري في الجو. وسكون نخشى أن نخدشه بأصواتنا، يأتي الانفجار على غير توقع. قعقعة السماء، والمطر الغزير، وهدير البحر الصاخب. أمواج عاتية ظلت تتثنى طويلاً دون صوت، تندفع في زمجرة ملتاثة، تبتلع الأرض البور وتجري في الحواري وسط بيوت الضاحية، مياه برغوة سوداء. تقذفها بحطام حملته من بعيد وجثث حيوانات وأسماك ميتة.

 

(9)

كانوا يأتون في الهزيع الأخير من الليل وقد بلغت النوة ذروتها، والمطر يهطل عنيفاً جارفاً.

عرفنا بعد مرات من مجيئهم أنهم يأتون من الجزر. كيف كانوا يُبحرون وسط النوة؟ قواربهم النحيفة ما كانت لتصمد. قالوا إنها ألواح الخشب التي يَسْهُلُ انزلاقها فوق الأمواج. يسلكون الطريق المألوف عبر البحيرة حيث اعتادوا أن يأتوا إلى المضيق ببراميلهم الفارغة ليتزودوا بالمياه من الترعة. البعض منهم وقد أطلقوا العنان لنزوتهم. كانوا يشقون طريقهم إلى البحر خلال منفذ آخر يقال إنه بأعلى البحيرة. يمتطون موج البحر الصاخب، وفي دورة أشبه بالقوس الواسع يحطون في المضيق. يتلاقون .

ظلوا لمرات عديدة لا يراهم أحد. وحين رأوهم بعد ذلك قالوا إنهم كانوا يلبسون الهلاهيل التي يصيدون بها. نصف جلباب مهترىء بدون أكمام من قماش التيل ملتصق بأجسادهم يقطر منه الماء. يبدون كالعرايا في ضوء البرق الخاطف، يحملون الشوم وقضبان الحديد، يمرقون في الحواري. يلتصقون بالجدار لاهثين وقد شَهَروا ما يحملون وكأن هناك من سيُفاجئهم. يكمنون بمداخل البيوت فوق المصاطب. يختلسون النظر شمالاً ويميناً عند التقاطعات ثم يعبرونها، وعندما يسمعون صوتاً ينتشرون مطوقين الحارة وقد توهجت عيونهم كالقطط، يتسللون إليها من الجهتين، يتقابلون في منتصفها ويتفرقون.

تجذبهم الأنوار التي تتسلل من بعض البيوت. يقصدونها رأساً. يقتحمونها بركلة عنيفة للباب الذي يُفتح على سعته. تندلع الصرخات في الداخل. وجوههم مكفهرة لاهثة يقطر منها المَاء. يحدقون في الوجوه الفزعة المتطلعة إليهم وقد أسكتها الرعب، وكأنما لم يعثروا على بُغيتهم. كانوا يتقهقرون بظهورهم إلى الخارج ويختفون.

في المرات الأولى كانوا يكتفون بالضاحية الجديدة. ينطلقون من المضيق إليها. يجوسون خلالها ويخرجون. يقفون في الخلاء تعصف بهم الرياح والأمطار ومياه البحر تتدفق بين أقدامهم، يحدقون إلى البيوت وقد استكانت في وداعة لقصف الريح وزخات المطر الرعدية ووميض البرق المتلاحق. يعودون إلى اقتحامها ثم يخرجون، ويقفون مرة أخرى في الخلاء يحدقون إليها لاهثين.

تستمر غزوتهم حتى يظهر الضوء الأغبش خلف الغيوم الثقيلة في الأفق فيتعلقون بألواحهم ويمضون.

عرفوا بعد ذلك الطريق إلى البلدة. كانوا بعد أن ينتهوا من الضاحية، يجوسون في حواريها مرة أو مرتين ينطلقون إليها. يقطعون مسافة الميلين التي تبعدها عن الضاحية رَمْحاً بمحاذاة الترعة. يلاحقهم الرعد والبرق، يبدون في ضوئه الخاطف مبعثرين بين الأشجار القليلة المتفرقة ورذاذ الوحل يتطاير حولهم. يقفون لاهثين على مشارف البلدة. يرونها كتلاً صامتة معتمة مستغرقة في سُباتها والأمطار تنهال فوقها. يندفعون إلى شارع السوق الواسع الممتد أمامهم، يبعثرون ما يصادفهم من أقفاص وصناديق فارغة أمام الدكاكين المغلقة. يتفرقون في الحواري المجاورة. ينفجر الصراخ فجأة وسط الجو العاصف. يخرج الأهالي القريبون إلى الشوارع تعوقهم الأمطار والوحل. وعندما يصلون إلى مكان الصراخ يجدونهم اختفوا. نقف بالحواري ننصت. نتابع حركتهم السريعة إثر الصراخ الذي يُدوي من حين لآخر في أماكن متفرقة. نراهم أحياناً يعبرون التقاطعات خطفاً. نلهث وراءهم تائهين وسط الجو العاصف. نحس بهم قبل أن نراهم عندما يمرقون من بيننا، زمجرة لاهثة تلفحنا وتختفي. نكمن لهم وقد ضاق بنا على جانب على جانب الطريق المؤدي للبحيرة. يمر الوقت ولا أثر لهم. السحب القاتمة الكثيفة تحجب السماء. لا نميز الفجر عندما يقترب. نقول إننا لم نخسر شيئاً. ولم يلحق الأذى بأحد. بعض الأبواب والمقاعد والأقفاص المحطمة. ليكن. فَزِعْنا والأمر لا يستحق. وإذا كانوا يريدون أن يجروا في العاصفة فلَيجروا ما شاء لهم. ولو أطفأنا النور في البيوت ما أحس بهم أحد.

نطفىء النور مع مجيء النوة، ونقبع في بيوتنا. نسمعهم عندما يأتون. دبّات أقدامهم في الوحل، وزمجرتهم وهم يجوبون الشوارع بلا كلل، وأنفاسهم اللاهثة عندما يلتصقون بالأبواب المغلقة.

نتساءل: ولِمَ بلدتنا؟

ويقولون: حيث اعتادوا أن يأتوا ليتزودوا بالمياه.

ترق الظلمة قليلاً في الأرض البور حيث الخلاء الفسيح. الوحل كثيف، وبرك المياه واسعة. البعض من أهالي الضاحية وقد أطلوا من مداخل البيوت يرقبون جريان المياه في الحواري كانوا يرونهم في عودتهم عندما يخرجون إلى الخلاء يخوضون في المطر الغزير قاصدين المضيق. لا أحد يتحمس لملاحقتهم، ربما الأمطار والوحل، وربما مشيتهم المنهكة مستندين إلى عصيهم يجسون بها عمق البرك التي تقابلهم. يُشكّلون في لحظة طابوراً مهلهلاً يتعرج متفادياً المياه العميقة. وفي لحظة أخرى يتجمعون متلاصقين، يسيرون في مهل، يتوقفون قليلاً ثم يعاودون السير، ويرونهم عندما يلمع البرق يتلفتون حولهم وقد تناثروا كأنما أفزعهم الضوء الساطع.

 

(10)

اعتادت امرأة جمعة أن تخرج إلى الشاطىء أيام النوة. كانت قد عثرت في صباها الباكر على إسورة من الفضة وسط الركام الذي لفظه البحر. علقتها بمعصمها ولم تُفرّط فيها، ورغم مرور ما يزيد على العشرين عاماً ظلت محافظة على عادتها ولم تفُتها نوّة واحدة. كان بيتها الصغير القريب من البحيرة مكدساً بأشياء عجيبة التقطها من على الشاطىء. أصداف مجوفة ومسطحة. حجارة صُلبة بألوان زاهية. زجاجات بأشكال وألوان مختلفة. فوارغ علب. ملاعق وأطباق وسكاكين. أجزاء من مقاعد وقوارب من المطاط مُفَرغَة.

تخرج في عزّ النوة إلى الشاطىء، لا أحد يحس بها في عتمة الفجر المكفهر، الزَكيبة الفارغة مطوية على كتفيها. حين يكون الصيد وفيراً تمتلىء الزكيبة سريعاً. تسحبها وراءها فوق المياه. زوجها على عتبة البيت وقد أحس بعودتها مُلتفاً بلحاف قديم، يتناول منها طرف الزكيبة. تسبقه إلى الحوش. تقف بجوار النار تعصر جلبابها المبتل حتى يُفرغّ الزكيبة، وتعود مرة أخرى إلى الشاطىء، وحين تكون النوة شحيحة تقضي نصف النهار وتعود بربع الزكيبة ممتلئاً.

تراها النسوة من الجيران عقب النوة بأيام تخرج بأشياء جديدة. فهي مرة تلبس خُفاً من الجلد مزيناً بوردة. الجلد مُشقق. والوردة تهشمت جوانبها، غير أنه كان يخطف البصر في قدميها بعد أن دعكتها بالحجر. ومرة أخرى رأينها تلفّ رأسها بطرحة ملونة شفافة ناعمة الملمس. هن لم يرين في حياتهن غير الطرح السوداء، تحسسنها في دهشة. بها نقوش دقيقة بألوان مختلفة. أحمر وأصفر وأخضر. حقيقة أنهن لمحن أطرافها المنسولة وثقوباً صغيرة ملفوفة بخيط مثل الخيط الذي يستعملنه، غير أن كل ذلك كان يختفي عندما تضعها على رأسها والنسمة الخفيفة تموجها، وقد غسلت شعرها لهذه المناسبة وفَرَقَتـْه من النصف وضَفّرتهُ. هي من نظراتهم تبتسم وتجذبها خفيفاً لتمسكها بشفتيها. ورأين عقود الخرز أشكالاً وألواناً على صدرها ودبابيس شعر لم يرين مثلها من قبل. مرة على شكل ورقة شجر ومرة على شكل قارب وسمكة.

خرجت يوماً إلى سوق البلدة مع زوجها. كانت تلبس فستاناً من الحرير يصل إلى ركبتيها لونه أصفر بخطوط مائلة لونها بني وسوستة من الخلف وفي قدميها حذاء أسود برقبة، زوجها يتقدمها فوق الحمارة. سارت النسوة معها قليلاً، ركبتاها العاريتان قاتمتا اللون، وعروق خضراء نافرة في بطنيهما.

قلن لها إنه يشبه حذاء العسكر. لم تلتفت إليهن.

وقلن إنه ضخم في قدميها، كانت قد وضعت حشواً في مقدمته، لذلك لم تلتفت إليهن.

وقلن إن الفستان منسول حول السوستة ومُمزّق عند الإبطين وخياطتها ظاهرة تراها كل عين. أوسعت من خطوتها ولحقت بزوجها.

أخذتهن يوماً إلى بيتها، وكان جمعة بالبلد، كن قد أبدين إعجابهن بصدرية من الصوف تلبسها فوق الجلباب بلون أخضر وأصفر. كانت ضيقة عليها. غير أنها جميلة، ولها جيب صغير بخَرزة على الصدر. تجمعهن في الحجرة وواربت هي الباب.

نافذة صغيرة قرب السقف تضيء قليلاً. رأين ملاءة قديمة تنسدل على جانب من الحائط. كانت على ما يبدو تغطي أشياء معلقة عليه. كان بروزها واضحاً. رفعن طرفها لينظرن. أبعدتهن. قالت إنها أشياء جمعة لا يحب أن يراها أحد، اتجهن نحو الأشياء المكومة بركن الحجرة. نكشن بين الزجاجات الفارغة. والأصداف. التقطت واحدة منهم فردة حذاء أحمر بكعب طويل، وكانت تتأملها حين أخذتها امرأة جمعة ورمتها فوق الأشياء. قالت:

-      لا يوجد غيرها. حتى أعثر على الفردة الثانية.

ضحكت وراحت تنظر إليهن، ثم شمرت جلبابها إلى وسطها، ورأين اللباس، صغيراً في حجم الكف لا يكاد يستر شيئاً. صرخن منبهرات. ملمسه ناعم بنقوش زاهية. مشدود بأعلى فخذيها، فبدت استدارتهما جميلة، ورباط يسقط وحده، وجذبت الرباط من الجانبين ورأينه يرتخي من الأمام والخلف. قالت إنها عثرت على اثنين في النوة الماضية. درات حول نفسها ثم أرخت الجلباب، وكانت تتقدمهن إلى الخارج. وقالت إنه ما من مرة تمر بجوار جمعة إلا ويُشلحها، وضحكت. ورأين جمعة أيضاً عقب النوة يخرج هو الآخر بأشياء جديدة. فهو مرة يلبس حذاء. ولأنه لم يلبس حذاء من قبل كان يمشي في تثاقل ويرفع قدمه أكثر مما يجب، ومرة أخرى يضع نظارة بلون بني على عينيه ويتحدث عن الشمس الحارقة التي تؤذي البصر، ومسبحة في يده لم يرين في مثل استدارة حَبَاتها ولا في لونها مع أحد. ومطواة صغيرة مغلفة بالعاج يفتحها ليكشط بها عوداً من الغاب أو الحطب. وخرج يوماً مشمراً كُمّيه والساعة في معصمه ممتلئة بالمياه التي تترجرج تحت زجاجتها، غير أنها مجرد أيام وتتبخر المياه. ورأين أطباقاً من معدن لا يصدأ ومقعداً صغيراً هزازاً يصلح لغلام وضعته امرأة جمعة على عتبة البيت وقالت إنه للزينة، وبعدها بعام رأين المنضدة الصغيرة بجواره، ورأين أيضاً الفانوس تحيط بزجاجته المستديرة شبكة من السلك الرفيع نالها الصدأ قليلاً تعلقه بمسمار بمدخل البيت، يحمله جمعة في الليل حين يذهب لشراء الدخان أو للسهر في المقهى، له مفتاح بالجانب يُخفض شُعلته. يجلس مسترخياً والفانوس بجوار قدميه والعيون تحدق إليه. تهب زوابع الهواء وشعلته ثابتة لا تهتز. يتحدث جمعة عن الليل المعتم والحفر وفضلات البهائم والآدميين التي تملأ الحواري. تشم رائحتها ولا تميز مكانها في الظلمة. تحس بها عندما تغوص قدمك فيها وتلتصق به وتتحرك معه، والقمر لا يُسعفك، فهو لا يظهر عندما يظهر عندما تريده، ولا يظهر في البلاد التي حل عليها غضب الله.

أوقف جمعة الحمارة أمام عتبة البيت. وضع فوقها البردعة والخُرج، امرأته تدخل البيت وتخرج مُحمّلة بالأشياء. ملأت فتحتي الخُرج، ووضعت مقعدين ومنضدة وقارباً من المطاط فوق ظهر الحمارة، ربطها جمعة بحبْل ثم رمى فوقها بعباءة قديمة فأخفاها عن العيون.

النسوة أمام البيوت يرقبن ما يفعلان. كل يوم سوق بعد النوة بأسبوعين أو ثلاثة يُحمّلان الحمارة ويقطعان الميلين إلى البلدة. وخلال الأسبوعين يجففان في الشمس أجزاء المقاعد والمناضد التي عثرت عليها امرأته على الشاطىء ومع بعض الإضافات من قطع خشب مهملة يتشّكل المقعد والمنضدة ، ويجلو المواعين والأدوات المعدنية بتراب الفرن المخلوط بمسحوق الطوب الأحمر مع لمسة خفيفة من الزيت فتعود لها لمعتها، ويُصَنْفر ما يحتاج منها لصنفرة، ويلصق الثقوب في القوارب والعوامات، جاء باللحام من المركز. اشتراه له سائق سيارة نقل، ويملأها بالهواء يوماً بليلة ويصفها بمدخل البيت. القارب يسع اثنين بلون أزرق وأحمر، والعوامات بلون أصفر وأخضر. والأولاد تجمعوا وافترشوا الأرض أمام البيت. يرمقهم جمعة منتشياً. حين يضيق بهم ومن إلحاحهم ليجربوها في البحيرة يُفْرِغُها من الهواء.

يقطعان الميلين إلى البلدة في الصباح الباكر. هو ممسكاً برأس الحمارة يقودها متحكماً في خطوتها وامرأته خلفها تحمل مقطفاً كبيراً ممتلئاً. يفرش جمعة بضاعته في طرف السوق بعيداً عن الزحام.

الزجاجات تجذب الأنظار بألوانها وأشكالها التي لم يألفوها. بعضها بأذنين أو أذن واحدة، وبعضها أشبه ببرميل صغير بيد من الجانب. زبائنه من المدرسين والموظفين، الأصداف يطفئون فيها السجائر، وفوارغ العلب لشراء الجاز والزيت من الدكان. الزجاجات الغريبة للزينة على قواعد النوافذ والمناضد بحجرات الضيوف، الزجاجات العادية يعبأ بها الدواء السائل في المستشفى الأميري، الولاعات وأقلام الحبر التي لا تعمل لها زبونها أيضاً. يقلبها الموظف في يده ويقول:

-      لا يهم. يكفي شكلها.

يعودان مع ظلال المغيب. لا يرى أحد ما يحملانه. المقطف الممتلىء على رأس امرأته دخلت به إلى البيت، والخُرج بفتحتيه الممتلئتين حمله على كتفه وصعد به إلى العتبة منحنياً من ثقله. يغلقان الباب مبكراً. لا أحد يسمع لهما صوتاً.

ترى النسوة في الصباح الباكر قشر البطيخ والشمام المنحوت. وقطع العَظم متناثرة أمام البيت. تَقْلبُ واحدة منهن العظم بإصبع قدمها الكبير وتقول:

-      ضاني.

-      آه ضاني.

-      فخذة. وزِند. هذه عَظمة الزِند.

-      مَن يسمعك يظن أنك تأكلينها كل يوم.

-      آه. في بيت أبي. قبل الزواج.

-      هو وهي ولا ولد لهما ويأكلان كل ذلك.

***

يجلس جمعة وامرأته في ليالي الصيف على مقعدين فوق العتبة يشربان الشاي وفوق رأسيهما الفانوس معلقاً بشراعة الباب يضيء خافتاً تلتف حوله سحابة من الناموس. البراد المطلي بلون أصفر نٌقشَت على جانبيه حروف من لغة أجنبية. يمر واحد أو اثنان من الجيران يلقيان بالسلام. يدعوهما جمعة للشاي. يجلسان على حصيرة مفروش فوق العتبة. يتأرجح جمعة في المقعد الهزاز، جسده محشور في المقعد الصغير. تصب امرأته الشاي للضيفين. يتحدث جمعة عن الشاي الذي يحتفظ بمذاقه حين يكون البراد صناعة جيدة، ويلعن الزمن الذي جعل صناعة المواعين في متناول كل واحد.

تأتي النسمة طرية من ناحية البحيرة يهتز لها الفانوس:

-      الخواجات أولاد حرام.

ويبصق جانباً: حين يصنعون شيئاً يصنعونه تمام التمام.

***

-      جمعة لم يعد كما كان.

كانوا يرونه مبتعداً، منطوياً، ينصت لهم شارداً، ويقول كلمة أو كلمتين بلا معنى متخذاً سَمْت العاقل الحكيم وفصّ الأفيون تحت لسانه والرائحة تفوح من فمه تصفع وجوههم.

لم يعد يذهب إلى المقهى. هذا ما بدأوا يلاحظونه. يقضي سهرته على عتبة البيت، تُعدّ له امرأته الجوزة حجراً بعد حجر. يلمحون وهج النار في العتمة وهو يشد الأنفاس وبجواره صينية بها الفول السوداني المحمص. يسمعون طقطقة القشر وسط السكون المترامي وهم على عتبات البيوت.

ما كان أحد يلتفت إليه من قبل. مثل كثيرين غيره يذهب إلى البلدة في الصباح ويعود مع صلاة العشاء. لا حرفة له أو عمل منتظم. يومان هنا ويومان هناك. والبلدة تغص بدكاكين الإسمنت والحديد وشوادر الخشب. مزدحمة دائماً، وعربات نقل كثيرة تنتظر دورها على شاطىء النهر.

يُحَمّل العربات طول النهار بشكائر الإسمنت والجبس وأسياخ الحديد، وأحياناً لوقت متأخر من الليل. يقضي ما تبقى من الليلة في الدكان. العمل كثير لا يتوقف. عربات تخلي مكانها لعربات أخرى. يتعبه العمل في دكان الإسمنت. غُباره الثقيل يكتم أنفاسه. عندما يتوفر معه مبلغ يكفي لعدة أيام قادمة ينفض يديه فجأة. يأتي ذلك في بداية اليوم أو منتصفه. مغادراً الدكان تتبعه شتائم صاحبه. يتسكَع يوماً أو يومين وسط الحركة الدائبة ثم يعود للضاحية. يستلقي على العتبة ويغطّ في النوم والشال على وجهه وامرأته تدعك ظهره وتنشّ عنه الذباب.

حين يخلو البيت من العيش يتحامل على نفسه ويذهب إلى البلدة.

تقول امرأته إن صحته لا تُساعده. غير أن أحداً لا يُصدقها، وكانوا يضيقون بها حين تُكِثرُ من هذا الكلام، فلم يروه يوماً يشكو من تعب، ويتساءلون عما يَجعلها تستدين من طوب الأرض وتتركه راقداً كالنعجة على العتبة.

تنتابه الصحوة عقب النوة فلا يراه أحد. مختفياً داخل البيت مغلقاً الباب، منكباً هو وامرأته على ما جاءت به من أشياء. يفرزانها. يضعان جانباً ما سيبيعانه في السوق، وفي جانب ما سيستخدمانه. الأشياء التي تخصه يلتقطها ويضعها بجواره. امرأته وقد عرفت ما يعجبه كانت تأتي بها كلما عثرت عليها، لا تهملها مثل أشياء كثيرة لا نفع فيها.

عنده الآن مجموعة يُعلقها على الحائط. تلك الليالي حين يصفو الجو. يدخل الحجرة تتبعه امرأته تحمل الفانوس. كان قد أعد لنفسه فرشة بداخلها، حصيرة فوقها عباءة من صوف الغنم ومخدة. الحجرة تعبق برائحة عطن البحر التي تفوح من الأشياء. طحالب كانت عالقة بها رمتها امرأته جانباً. بعضها لا يزال طرياً في الركن البعيد قاتم الخضرة.

يتربع جمعة على الفرشة وتجلس امرأته بجانبه وقد طوت ساقيها. عادة يغتسلان قبل دخول المندرة ويلبس كل منهما جلباباً نظيفاً. تفوح منها رائحة الصابون المعطر، ولمعة البلل بشعرها القصير المجعد. يشربان الشاي في صمت.

يسحب جمعة الملاءة عن الحائط في رفق. سيف معلق من مقبضه يميل قليلاً. يرتكز طرفه على مسمار. الجَراب تُغطيه نقوش كثيرة ذهب لونها، بقيت منه بقع صغيرة صفراء وحمراء. المقبض من معدن انطفأت لمعته. يسحبه جمعة ببطء. كان نصف سيف مثلوم النصل. يُدخل يده في المقبض ويضم قبضته. تستقر أصابعه في المجري الناعم. يمد المقبض إلى أنف امرأته:

-      رائحة عَرَق صاحبه. حتى لو مرّت مئات السنين. مَن تظنين آخر واحد حمله؟

-      مَن؟

-      لا أعرف. لابد أن هذه النقوش تُشير إليه. ربما كان محارباً عظيماً. لا يتحطم السيف إلا من كثرة العراك.

يمر بإصبعه على النصل المثلوم:

-      وكم من رقاب قطعها!

يعطيها السيف. تتأمله قليلاً ثم تُعيده إليه. يضعه في الجراب ويمسح بخرقة ما علق به من غبار. يتناول غَداّرتين مُعلقتين خّلف خِلاف:

-      زخارف أيضاً.

مقبضاً الغدارتين من الخشب تآكلت حوافهما. عليهما نقوش بارزة. أنبوب إحداهما مهشم الطرف. قال:

-      كل الأشياء القديمة زخارفها كثيرة.

-      وحلوة.

-      كان بالهم رايق. صبر طويل. يعملون بمزاج. نقوش ليست أي كلام. تحكي عنهم وعن أيامهم. يُعلمونهم الآن في المدارس كيف يفكّون أسرارها، الأشياء في أيامنا تُشبه بعضها. بُصّي – مد إليها أحد المقبضين – خط قصير. وخط مائل. وخط متعرج. ودائرة. لابد أنها علامات كانت معروفة على ايامهم حفرها صاحبها. وهنا أيضاً يبدو أنهما حرفان. كان بعضهم على ما عرفت يضع الحرف الأول من اسمه على أشيائه. الأخرى – مد إليها مقبض الغداّرة الثانية – لا يوجد عليها أي حروف. يبدو أن صاحبها كان مثلنا.

-      أحسن ناس.

-      آه. عندما يخلو جيبه يبيعها أو يرهنها. وبعد أيام يستردها. مرة في مرة حتى يقتله أحدهم.

يسحب درعاً من فوق الحائط. يضعه على ذراعه:

-      كانوا يتقاتلون وجهاً لوجه.

الدرع نالته ضربة قوية شقّت جانبه. وأكل الصدأ حوافه وزحف إلى وسطه فطمس معالم نقش كان محفوراً على سطحه. لم يبق سليماً منه غير جناح طائر مفرود.

-      صلب. صلب متين. من أين جاءه الصدأ؟ لا يقطعه غير فأس، وأي ضربة. خذل صاحبه. أكان يركب فرساً؟ وربما على سطح مركب. أو على قدميه.

-      على فرس.

-      ولِمَ الفرس؟

-      يهرب به.

-      لن يقاتل بعد أن انكسر درعه. يرمي به. وما حاجته إليه. يُصبح خفيفاً. يمسك اللجام بيديه معاً. لن يلحق به الآخر.

يُعيد الدرع إلى مكانه على الحائط ويمسك بقطعة من زّرّد أشبه بشّبّكَة غُربال. يُقلبها في يديه ويستغرق في الصمت. هي مستندة بذراعها إلى فخذه. تقول فيهمس:

-      لو أنها كانت سليمة؟

-      وما حاجتنا لها وهي سليمة؟ مَن يقاتل بالسيف في أيامنا؟ الخدوش والكسور؟ ما عيبها؟ كل خدش أو كسر له حكايته. يميزها. يجعل لها طعماً.

يبدو لها وكأنه غير جمعة الذي تعرفه. من أين يأتي بكل هذا الكلام؟ عيناها عالقتان بوجهه الشاحب يتلون حين يأخذه الحماس. وهج عينيه، وعرْق بارز ينبض في رقبته، تود لو تلمسه حين ينتفخ ويزداد نبضه، تخشى أن ينتفض من لمستها. لا تُعجبها أشياؤه. الأشياء جميلة حين تكون منها فائدة. كل ما يجمعه لا نفع فيه. وحتى لو عرضه في السوق فلن يشتريه أحد. غير أنها اللحظات التي يروق فيها مزاجه يجلسها بجواره. يتكلمان. يضحكان. يده تداعب وجهها وصدرها. يجذبها أحياناً إليه متلمساً جسدها. تَصُده. في كل مرة تستسلم له في هذه المندرة تحس به شارداً في حضنها. يغمغم فجأة:

-      ينظرون إلينا من فوق الحائط.

يتناول ثلاثة غلايين يُعلقها من فوهتها. يمد مباسمها نحوها:

-      أسنان أصحابها. كانوا يمسكونها بأسنانهم ويتكلمون. واللعاب. أثر لعابهم هنا. بُصّي. اجْرَبَّ لونها.

إناء خزفي مهشم الأذنين، وبعض القدور مكسورة الحافة، يصفها بجوار الحائط:

-      وهنا أيضاً. أثر احتكاك الملعقة. وربما أظافرهم. وهذا السواد في الجانب. لابد أن الأكل احترق على النار.

يمد ذراعه ويأتي بالتعويذة – كما يسميها – من فوق الحائط يُعلقها على بٌعد قليل من الأشياء الأخرى. أربع حبات خرز. اثنتان بلون أسود في جانب، واثنتان بلون أزرق في الجانب الآخر. ملضومة بخيط من شعر مبروم. تحسّسه بين إصبعيه:

-      ذيل حصان؟

-      ربما حيوانات لا نعرفها.

يتوسطها وجه حيوان يُكشّر عن أنيابه، منحوت من خشب، مدهون بلون أسود، نابان بارزان مدببان بلون أبض تشوبه صفرة. قالت:

-      من العظم؟

-      وربما أسنان حيوان. فئران كبيرة.

يضعها في كفه ويُقربها من ضوء الفانوس:

-      كانوا على ما سمعت يُعلقونها برقابهم لتمنع عنهم الأذى.

-      حجاب؟

-      كانوا يعيشون وسط الأشجار. فوقها. وتحتها. وماذا تفعل التعويذة؟ سيوف. وغداّرات. وحيوانات.

-      عندما رأيتها خِفت أن أُمسِكّها وتركتها ثم عدت لها وقلت ربما كان جمعة يريدها.

ويأتي بالنيشان. كان من الفضة في حجم الريال. معلق بقطعة قماش بلون أحمر باهت نَسَلت حوافها، عليه رسم محفور لوجه رجل تآكلت ملامحه:

-      نيشان. انتصارات. سيوف تلمع وتطيح بالرؤوس.

يأتي أخيراً بالحجر من فوق الرف الصغير. يحتفظ به دائماً للنهاية. في حجم نصف قالب طوب. خشن. بلون الجير المطفأ. له جانب أملس. تتذكر يوم جاءت به. تقول:

-      لم أر الكتابة عليه. وقلت أدعيك به قدمي.

الكتابة محفورة على الجانب الأملس. يقسمها خط مستقيم رأسي. يومها حك جمعة الجانب الأملس بقطعة بلاط فأصبح ناعماً. ونظف مجرى الحروف بطرف مسمار، وحين قالت له أن يلون الكتابة قسماً بالأحمر وقسماً بالأزرق لم يسمع كلامها. وقال: "نتركها على حالها".

يُقرب الحجر من ضوء الفانوس. ويمر بإصبعه على الحروف. يقول:

-      حروف عجيبة.

-      معقول يا جمعة؟

يلتفت إليها. تقول:

-      معقول أنه كلام يكتبونه على القبور؟

-      ومَن قال؟

-      أنت. من يومين. قلت إنهم يكتبون أسماءهم على القبور.

-      أنا قلت ذلك؟ ضعي إصبعك فوقها.

مرت بإصبعها فوق الحروف. قال:

-      القسم الأول حروفه صغيرة ومجراها ضيق وعميق.

-      آه.

-      والثاني...

-      حروفه كبيرة.

-      وممدودة.

-      آه ممدودة والحَفْر على السطح.

-      مختلف عن القسم الأول. لابد أنهما اثنان كانا يكتبان.

-      الثاني كتبته امرأة. آه امرأة. أخذت راحتها في مد الحروف. ويدها لا تحتمل الحفر العميق.

-      طيب. والأول؟

-      الأول رجُل. يحفر كما يشاء. وكلامه كثير.

-      ربما كتباه في وقت واحد.

-      آه. كانا معاً. رجل وامرأته.

-      ولماذا يكتبان على الحجر إذا كانا متزوجين؟

-      آه.

-      يُودِعَان الحجر سرهما. ويُلصقانه بصخرة ويمضي كلُ لحاله.

-      ولا يرى أحدهما الآخر بعدها؟

-      كتباه حين عرفا أنه لن يرى أحدهما الآخر.

-      كلمتين هنا. وكلمتين هنا.

-      حتى الحروف نهايتها مبتورة. لم يهتما بمدها قليلاً.

-      شبه الشقوق في الجدار.

الحجر فوق كفه. أعاده إلى الرف. نظرا إليه قليلاً في صمت. أسدل الملاءة ومدها لتغطي الأشياء الأخرى المصفوفة بجوار الحائط. تسأله إن كان يريد شاياً. ويقول إنه لا يريد.

يجلسان بجوار وعاء النار. يهمس مُحدقاً في اللهب.

-      حين أنظر إليها طويلاً يخطر لي أنها ستنطق. تتكلم مثلنا. آه. شكلها تريد أن تتكلم. ربما لو انتظرنا عليها قليلاً.

***

يقولون إنه حتى بعد أن عرف الطريق إلى السوق وجرى القرش في يده كان لا يزال جمعة الذي يعرفونه. يهش في وجوههم ويسهر معهم. يحدثهم عن الناس الذين عاشوا فيما مضى ويُصغون إليه ويتعجبون.

ومنذ عثرت امرأته على الصندوق تغيرت أحواله. لم يعد جمعة الذي ألفوا أن يروه. حكت امرأته فيما بعد أنها لو عرفت أن كل ذلك سيحدث لتركت الصندوق تعيده الأمواج إلى البحر. في كل مرة تحكي كيف عثرت عليه. كانت تضيف كلاماً لم يسمعوه من قبل. فهي لم تره عندما مرت به. لمحت شيئاً يلمع وظنته كوب زجاج مكسور. ترى الكثير منه. له نفس اللمعة. مرت به في ذهابها وفي عودتها أيضاً. وابتعدت. وكان يمكن أن تعود للبيت بدونه. غير أن شيئاً جعلها تلتفت وراءها. كانت الموجة مقبلة، ودفعت بالمياه التي تغرق الشاطىء فأخذت تتماوج، ولمحت الصندوق يتقلب مع حركة المياه. لا تدري لم انقبض قلبها، عادت إليه. لمسته بعصاها أولاً. في كل مرة تلمسه يهرب منها. يغوص ويختفي. تظل في وقفتها حتى يطفو. في النهاية مدت يدها وأخرجته. فتحته وكان فارغاً. لم تسمع صوتاً. سمعت صوته بعد ذلك عندما جففه جمعة على النار، ولو عرفت لحظتها أن له صوتاً لرمت به في البحر.

قليلون مَن رأوا الصندوق مع جمعة. كان في طريقه يوماً إلى البلدة حين التقوا به. وقفوا يتحدثون معه، ولاحظوا الخرقة الملفوفة تحت إبطه، وخمنوا أنه الصندوق الذي سمعوا عنه. كان لا يزال يتحدث بود مع الجميع، وطلبوا أن يروه. تردد قليلاً محدقاً في وجوههم ثم فك الخرقة ومد يده بالصندوق إليهم.

الصندوق صغير. انطفأ بريق معدنه. مستطيل الشكل. منمنم بزخارف محفورة وأخرى بارزة. أركانه ومقبضه من العاج. وضعوه على أكفهم، قلّبوه، تحسسوا قوائمه الصغيرة النحيلة وأعادوه إليه.

ضغط بإصبعه زراً بجانب الصندوق فانفتح الغطاء. انسابت موسيقى ناعمة. أنصتوا، وعندما بدا لهم أن يقولوا شيئاً أشار لهم أن يصمتوا. توقفت الموسيقى، وترامى إليهم صوت رخيم تحدث قليلاً وسكت. الصوت لا يزال يحلق فوقهم. نبرته حزينة، يذكرهم بضباب البحر الكثيف المعتم. تساءلوا إن كان صوت امرأة؟

وقال جمعة إنه صوت رجل.

-      وماذا يقول؟

-      ومَن يعرف.

لفه في الخرقة، وقال إنه في طريقه للبلدة يبحث عن مدرس الإنجليزية ليخبره بما يقول. بدا لهم في هذه اللحظة مسلوباً مشتتاً. وقالوا إنهم سيذهبون معه فليس لديهم ما يفعلونه.

واحد منهم كانت معه حمارته دفع بها إلى جمعة ليركبها. رمقهم لحظة متردداً ثم ركبها. كانوا أربعة. لبسوا جلابيبهم وكانت مطوية على أكتافهم وساروا بجواره.

ظل طول الطرق مستغرقاً في صمته وأشفقوا عليه حين رأوا شحوب وجهه. وقفوا معه أمام باب المدرسة المغلق. خرج إليهم البواب. سألوه إن كان يوجد بالمدرسة مدرس لغة إنجليزية؟ نظر إليهم البواب متعجباً:

-      وفيم تريدونه؟

-      نريده.

تأملهم قليلاً وعاد إلى الداخل، وقبل أن يغلق البوابة قال لهم أن يبحثوا في المدرسة الثانوية.

ساروا إلى المدرسة الثانوية وكانت على شاطىء النهر. البواب يجلس على مقعد صغير بفتحة الباب الموارب. قال لهم إن عنده حصة. جلسوا مقرفصين بجواره.

أنصت المدرس للصوت ثم أغلق الغطاء.

قال إنها ليست إنجليزية. وكان يتأمل الصندوق وقال:

-      ربما كانت فرنسية.

وسأل جمعة إن كان يبيعه؟

وقال جمعة إنه لن يبيعه.

-      وماذا تفعل به؟

جمعة ممسكاً بالصندوق بين يديه سأله إن كان يوجد بالمدرسة مَن يعرف الفرنسية؟

غاب المدرس قليلاً وعاد ومعه ثلاثة.

أنصتوا للصوت مرة وأخرى، وقال واحد منهم إنها ليست الفرنسية.

وقال آخر:

-      ولا الألمانية.

-      أتعرفها؟

-      قليلاً. النطق مختلف.

تبادلوا الصندوق. وتهامسوا وأصابعهم تتحسس النقوش. جمعة يُحدق في وجوههم صامتاً.

قال واحد منهم إن اللغات كثيرة في العالم.

وقال آخر إن النساء في الخارج تحفظ مصاغها في مثل هذه الصناديق. تفتحها فيصدر موسيقى، غير أنه لم يسمع بصناديق تتكلم.

وسألوا جمعة مرة أخرى إن كان يبيعه؟

وقال جمعة إنه لن يبيعه.

عندما أصبحوا على الطريق خارج البلدة قال إن هذا ما توقعه.

وحين سألوه عما كان يتوقعه، قال:

-      لا أحد سيعرف كلام الصندوق.

كان متجهماً. وقال إنها ليست صدفة.

وسألوه: أي صدفة يا جمعة؟

وقال أن يأتي الصندوق إليه.

وحين سألوه عما يقصد؟ التفت إليهم في غضب. هم لم يقولوا ما يغضبه. ينظر إليهم واحداً واحداً كأنما سيشتمهم وقال:

-      سترون. الأيام قادمة.

وأوسع من خطوته مبتعداً. أدهشتهم غضبته ولحقوا به. ساروا بجواره صامتين، وعندما اقتربوا من الضاحية، قال:

-      نسمع الصوت مرة أخرى.

وقفوا في ظل شجرة على جانب الطريق وفتح الصندوق. الصوت رغم نبرته الحزينة يتدفق بحيوية. يُذكرهم باندفاع المياه في القنوات حين تُفتَحُ السدود. نفس التألق والخرير، تلتقطه آذانهم وهم وسط الأحواض، يميزونه من بين كل الأصوات حولهم. يحلق الصوت ويلتصق بهم كالرائحة.

وقالوا إنهم في كل مرة يُنصتون إليه يتخيلون شيئاً مختلفاً.

وقالوا أيضاً إنه يسحبهم كالنداهة. حين يبدو لهم أنهم كادوا أن يمسكوا به يفلت فجأة، ولا يتركهم على حالهم.

وكانوا يقتربون من بيته حين توقف فجأة ونظر إليهم، تلك النظرة المُشتّتة التي لازمته بعد ذلك. وقال واحد منهم إنهم فقط لو فهموا الكلام؟

وقال جمعة في حدة: لا يهم أن نفهم الكلام. ولا أحد سيفهمه. أنصتوا فقط. أنصتوا.

وأخرج الصندوق من الخرقة. كانت إصبعه تتحسس مكان الزر وعيناه تنظران من فوق رؤوسهم في اتجاه البحر. بدا لهم وكأنه الصوت تغيرت نبرته، ولاحظوا فيما بعد أنهم كانوا بجوار البحر. انساب الصوت عميقاً متهدجاً يظلله هدير خافت وكأنه موج بحر يتهادى عن بُعد، وقبل أن يتوقف الصوت تركهم جمعة فجأة ومضى إلى بيته.

-      هو وصندوقه.

بدوا في وقفتهم كأنما أفاقوا من نوم ثقيل، وظلوا ينظرون إليه حتى اختفى داخل البيت.

***

جاء مدرس الإنجليزية بعد أيام بالحنطور. كان برفقته مدرس الفرنسية ورجل آخر أكبر سناً يلبس سترة متهدلة ولحيته مدببة رمادية. كان الوقت عصراً حين أوقفوا الحنطور أمام بيت جمعة. سحب الحنطور وراءه الكثيرين من أهل الضاحية.

خرجت إليهم امرأة جمعة. نظرت إليهم واختفت، ثم خرج جمعة ووقفت وراءه بفتحة الباب، نظر إليهم جمعة تائهاً. بدا أن امرأته أيقظته من قيلولته.

قال له مدرس الإنجليزية إن الضيف سمع بالصندوق وجاء ليراه، وأضاف في نبرة زهو أنه مفتش الإنجليزية بالمنطقة ويعرف الكثير من اللغات وسافر إلى الخارج.

كان بالضيف شيء غير مألوف، ربما فرحته الشديدة التي يبديها لوجوده بينهم وتطلعه المستمر هنا وهناك وكأنما عثر على شيء نادر. يتحسس أوجه الصغار حوله وشعر رؤوسهم، وينظر في دهشة إلى البحيرة والبحر والأرض البور وواجهات البيوت، همس لمدرس الإنجليزية:

-      موقع عجيب.

تساءل مدرس الإنجليزية: أي موقع؟

-      التقاء البحر والبحيرة. ومتى تسنح فرصة لرؤية هذه الأماكن؟

 نظروا إلى جمعة. كان يقف على العتبة مائلاً بكفيه للجدار، هزيلاً شاحباً. قال له مدرس الإنجليزية أن يأتي بالصندوق.

جمعة ينظر إلى الغليون في فم الضيف وكان ينفث دخاناً رقيقاً. اثنان من الجيران كانا قد انسلاّ من الجمع، عادا بثلاثة مقاعد ومنضدة. جلس الضيف والمدرسان. وسألهم الجيران عما يشربون. اعتذر المدرسان. وقال الضيف:

-      وماذا لديكم؟

-      كل ما تطلبونه موجود.

ضحك جذلاً وقال: شاي.

التفت مدرس الإنجليزية ورأى جمعة لا يزال في وقفته، وقال له أن يأتي بالصندوق. سأل جمعة الضيف إن كان يمكنه أن يرى الغليون؟

بدا الضيق على مدرس الإنجليزية. مدّ الضيف يده بالغليون وتناوله جمعة. كان مصقولاً لامعاً بغطاء مُذهّب على فوهته وتقوّس خفيف بمبسمه الأملس الناعم. قَلَبهُ جمعة بين أصابعه ثم أعاده للضيف والتفت إلى مدرس الإنجليزية وقال إنه ليست لديه صناديق يُريها لأحد.

مدرس الإنجليزية وقد صعقه كلام جمعة قفز فجأة مُكشّراً إلى العتبة ليضربه، غير أن مدرس الفرنسية أمسك بذراعه.

استدار جمعة ودخل البيت وأغلق الباب.

***

"هو وصندوقه في البيت"

الصوت يترامى في الخلاء الواسع ورعشة تسري في نبراته، يعلو ويخفت، تُحلق به الريح بعيداً. يسمعونه على عتبات البيوت في هدأة الليل. يقولون إنه هناك بجوار نافذته المعتمة مستنداً بذراعه إلى قاعدتها كما اعتادوا أن يروه كلما مرَوا من هناك.

وكانوا يرون النافذة خالية، ويتلكأون قليلاً. يسمعون صوت الصندوق في الداخل ويرون أعمدة السرير السوداء تقشَر طلاؤها ونالها الصدأ. وبقايا ناموسية عالقة بأطرافها لَصقَ بها غبار لَزِج ومُخلفات ذباب ورِيَش فراخ. وإذا شبّوا قليلاً لينظروا داخل الحجرة كانوا يرون السحَارة السوداء بامتداد الجدار تبدو من فوهتها المفتوحة أرغفة العيش وعلى سطحها كومة ملابس يميزون منها جلباباً لجمعة وطرحة سوداء لامرأته، ويرون أيضاً وعاء الفخار بجوار ضلفة الباب ممتلئاً بالرماد جمعة في ركن السرير القريب من النافذة، يُغلق الصندوق حين يراهم، يلتفتون إليه ويتبادلون النظرات، ثم يبتعدون.

تجلس امراته على العتبة من خلال فتحة الباب الموارب إلى الخلاء. يأتيها صوت الصندوق، يفتحه ويغلقه، يوماً بعد يوم، تبرطم في صوت خافت:

-      يقطع الصندوق واليوم الذي جاء فيه.

هو على السرير، بجواره الصندوق مستغرقاً مع الصوت كأنما يتلمس ما خفي في نبراته، شارداً في الفضاء الواسع خلال النافذة المفتوحة، يقول إنه يقترب ويبتعد، يوشك أن يضيء ثم يعتم.

تهمس امرأته على عتبة البيت وعيناها ترقبان كرة عُشب تتدحرج في الخلاء.

-      "يا جمعة واللى جرى لك. كان مستخبي فين".

توارب الباب أمام هّبة هواء باردة ثم تفتحه مرة أخرى. يأتيها صوت جمعة من داخل الحجرة: "غطيني يا وليه".

تراه منكمشاً في ركن يرتعش. كان قد حفظ ما يقوله الصندوق. يرطن به وهو يمشي. يسألونه حين يمر بهم يدفعهم الفضول وقد اختفى طويلاً في البيت:

يرمقهم بنظرة خاطفة. يبتسم قليلاً في وجوههم، وأحياناً لا يبتسم، موسعاً من خطوته المضطربة كأنما يهرب من نظرتهم المتفرَّسة في وجهه، محني الكتفين، متلفعاً بشاله وقد خبا زهوه وإحساسه بأنه يفعل ما يشاء، أكثر هدوءاً وتسامحاً، عيناه وديعتان وهو يتأمل أوراق النباتات العريضة المستقرة في كفه، يتحسس خطوطها الدقيقة في رفق، متربعاً على شطوط القنوات يرقب الضفادع في قفزاتها القصيرة، وأسراب السمك الصغير تمرق بين الحشائش في المياه.

يبتعد أياماً عن الصندوق ثم يعود إليه. نقل جلسته إلى المندرة بجوار أشيائه المعلقة على الحائط، ووضع الصندوق بين القدور تحت السيف المائل. يرمقه مسترخياً في رقدته ويده تتحسس الزخارف.

يقضي سحابة النهار في الداخل يستعيد الصوت مرة وأخرى ويزفُرُ ساكناً. طاوياً ساقيه، ينبشُ بظفره أرض الحجرة. تقف امرأته بالباب المغلق، تنصت قليلاً. تقول:

-      إيه يا جمعة وآخرتها؟

النوة تقترب. هلت بشايرها في الأفق. هو كالمحموم يذهب ويأتي داخل البيت، يقف على العتبة محدقاً في الأفق المعتم، يهمس في صوت تسمعه امرأته في الحوش:

-      وطول الوقت كان بالقاع، وعندما يخرج لا يجد غيري.

امرأته تخيط ما تمزق من الزكيبة التي ستحملها في ذهابها إلى الشاطىء أيام النوة، تلم ساقيها بعيداً عن طريقه. أحست من نبرة صوته أنه يدعوها للكلام معه، غير أن غضبه الذي ينفجر أثناء الكلام وشتائمه تجعلها تغلق فمها وتسكت، وإن كان حاله لا يعجبها ولا يعجب أحداً. وكم مرة تجد نفسها ستقولها له ثم تمسك لسانها.

-      سنوات وسنوات. يذهب ناس ويأتي ناس. يطوف بحار العالم. مرة هنا ومرة هنا. وحكايته لا تنتهي. أتظنين حكايته انتهت! سترين.

يعود إلى المندرة ويُغلق الباب. ويترامى إليها بعد قليل صوت الصندوق.

***

أيقظها صوت جمعة من النوم. شيء ما في صوته غير مألوف:

انتظرت في رقدتها أن تسمعه مرة أخرى. كان في الأيام الأخيرة يتحدث كثيراً في الليل بالمندرة. ليلة بعد ليلة، تنصت له قليلاً ثم يغلبها النعاس.

النار بجوار عتبة الحجرة تخبو. غبشة الفجر تلوح من ثقوب بالشباك. سمعت صوت الصندوق يأتي من المندرة. له رنين لم تسمعه من قبل، ونبرة صارمة متوعدة، وقالت إنه الصوت الذي أيقظها. جاء صوت زوجها بعد ذلك مبحوحاً خافتاً:

-      ومَن أكون؟

أرهفت سمعها. صوت الصندوق. رنين يطغى على صوته الحاد النبرة، ثم يسكت. زفيف رياح خفيفة بالخارج. فأر ينبش تحت عُقب باب المندرة المغلق حيث يتسرب بصيص من الضوء. صوت زوجها يأتي هامساً كأنه نائم بجوارها يحلم:

-      آه. تعجبني.

صمت قليلاً وهمس: السيف. التعويذة. النيشان. كلها. أنظر إليها وتشطَحُ رأسي. الناس هم الناس. وماذا يغيرهم. بلاد تختفي. تأتي أخرى. ناس يذهبون، يأتي آخرون. السيف. النيشان. ماذا تغير؟

تخيلته راقداً على جنبه متوسداً ذراعه وركبتاه مثنيتان إلى بطنه:

-      حين سمعت صوتك. كأن أحدهم يناديني. وحين قال المدرسون إنهم لا يفهمون كلامك. آه. وحتى وهم يأخذونك مني ليسمعوك وأجدك لا تريد أن تترك يدي. قلت انتظر يا جمعة. آه. انتظر.

ساد الصمت. جاءها صوت الصندوق هامساً بلا رنين، غير أن نبرته ظلت صارمة، زوجها منفعل. تسمع زفرته وهمهمته الغاضبة. لابد أنه استوى فجأة جالساً متلفتاً حوله:

-      ومَن تظُنني؟ هه. مَن تظُنني؟

تكاد تسمع أنفاسه اللاهثة. تعرف أنه سيهدأ سريعاً. يتحسس ما يكون بجواره من أشياء ويرقد. صوت سعلة خفيفة.

-      وفيم يهمك الناس؟ يُفْسدون أو لا يُفْسدون. وحتى لو كانوا؟ مَن يشفق عليهم؟ في البحيرة. على الشط. في البلدة. في أي مكان. وماذا يفعلون؟ الكلام سهل. ما أكثر ما يتكلمون.

صوته يخفُت ويعلو كأنما يتقلّب في رقدته. لا يطيق أن يرقد على جنبه طويلاً، سرعان ما يتمدد على ظهره ويداه تحت رأسه وقدماه متعانقتان، يهز واحدة منهما حين لا يأتيه النوم:

-      وما أدراك. مئات السنين. آلاف وأنت في القاع. ما أدراك. كم مرة خرجت فيها؟ كم واحداً رأيت السيف يقطع رقبته؟ كم واحداً رأيته يتقيأ الدم؟ آه. بعد أن حمل ما حمل من شكاير الإسمنت، قطعّ من الدم تقفز من فمه في ركن الدكان المظلم. حملته على كتفي إلى العربة. لم ير دمه حتى خرج إلى نور الشارع:

-      دم يا جمعة.

أه دم. والحصان لا يريد أن يتحرك.

-      جلبابي في الدكان يا جمعة.

-      سأحضره لك.

ومَن يبحث عن الجلباب في العتمة؟ والحصان سمع نباح كلب ولا يريد أن يتحرك. آه. من يهتم بما تقول؟ الناس فيهم ما يكفيهم. أتظنهم ينتظرون كلامك؟

رنين الصندوق الصاخب. لا تكاد تميز صوته. زمجرة جمعة:

-      ما يُغضبك؟ هه. ما يُغضبك؟. ما أن يقول الواحد شيئاً لا يعجبك حتى تغضب. أقل شيء. مَن يحتملك؟

صوتاهما معاً. لا تميز أحدهما من الآخر. صوت جمعة وقد طغى على صوت الصندوق. أشبه بالصياح. تنفُر عروقُ رقبته عندما يصيح ويقف، ملتفتاً وقد مدّ عنقه الطويل مُحدقاً نحو الأشياء المعلقة مُتجنباً النظر إلى الصندوق.

-      آه سمعتك. وحفظت ما تقول. أردده لنفسي كل يوم عشرات المرات. وأنا أمشي في الشارع. وأنا في البيت. آكل. أشرب. حتى قبل أن أنام. وتأتي الآن لتسألني؟ ما هو الذي تقوله؟ هه. ما هو؟. طيب. إن سمعتك بعد ذلك!

صوت حركة في المندرة كأنه يمشي داخلها مزيحاً بقدمه ما تدحرج من زجاجات. تنهض من رقدتها. تغذي النار بكِسَر القوالح وتنفخ فيها حتى تنبعث ألسنة اللهب الصغيرة، تعرف أنه سيأتي ليرقد بجوارها مرتعشاً بارد الأطراف يتلمس دفئها. في كل مرة يخرج من المندرة تلتفت على سَعْلته، وتراه في ضوء الفانوس الذي يحمله منكمشاً بفتحة الباب. ثم يخطو متمهلاً إلى الحوش. يقف أمام الحائط يتحسسه مرة وأخرى بحثاً عن المسمار. يعلق الفانوس ويعود، ينظر إلى داخل المندرة التي خرج منها. يٌحسّ بدفء النار حين يمر بها في طريقه للفراش، يستدير ويمد يديه إلى الوهج. يفرد طوله كأنما استعاد جسده. أهو الدفء القليل؟ أم أنه أخذ يتنبه لما حوله؟

تضمه إليها. تحكم الغطاء حوله. تدعك له ظهره حتى تُسكِتَ رعشته. يبعُد عن المندرة مُغلقاً بابها. يذهب في النهار ليبحث عن عمل في البلدة. يبدو ساعتها وكأنما ترك الصندوق للأبد. يقضي أمسيته معها جالسين على العتبة. يومان أو ثلاثة وتراه يدخل المندرة. لا يلتفت إليها حين تناديه. وتراه بعد ذلك حين يأخذه الغضب، وتراه يخرج من المندرة مترنحاً. وتكون على عتبة البيت تنظر من فتحة الباب الموارب إلى الخلاء وقد سكنت الريح. وتقول:

-      لن يتركه الصندوق حتى يقضي عليه.

ولسوف يأتي يوم غير بعيد، يرحل حيث لا يعرف مكانه أحد، وستُعدّ له امرأته رغيفين وقطعة جبن وبصلتين وقد ظنت – بعد أن لم يعد يُفصح لها عن مشاويره – أنه سيتأخر في العودة. تمدها إليه وتظل في وقفتها على العتبة تنتظر أن يأخذها، وبعد أن ينتهي من وضع البردعة على الحمارة يتناولها منها ويضعها في فتحة الخُرج، وسيدهشها قليلاً أن تراه يأخذ الصندوق معه ملفوفاً في خرقته التي لم يُغيرها منذ عَثَرَت عليه. ويسوق حمارته مُغلّفاً بالصمت، هدوء عجيب تتسم به حركته. لا ينتبه لما حوله، يمتطي حمارته حين يبلغ رأس الحارة ويختفي، وتُحكم امرأته لف الطرحة حول رأسها وتغلق بابها.

ولن تراه إلا بعد سنوات، هزيلاً رثاً. ذّبُل جلدُ وجهه وتهرّأ ونتأت عظامه، يصحبه رجلُ يحمل عصا طويلة. وتكون الضاحية قد تغيرت. بيوت كثيرة عالية تُغطي الأرض البور وتحجب الشاطىء، وستبحث عيناه عما ألِفَ أن يراه فلا يجد، وأعمدة خرسانية تلوح أطرافها السامقة من وراء البيوت، وبيته وقد انزوى وتهدم جانب من مصطبته، وشروخ ملتوية بالجدران رُمّمَ بعضها بالإسمنت، وبعضها ما زال مفتوحاً، ولطخَت الأمطار واجهته بما جرفته من أتربة وقاذورات من فوق السطح ينظر إلى امرأته وقد شاخت في غيبته ولا ينطق.

يأتيان بعد العصر والشمس توشك على المغيب، ونسمة باردة تسري في الجو، امرأته تقف بالجانب السليم من المصطبة مستندة بكتفيها للجدار. تقول:

-      رجعت يا جمعة!

تقولها في هدوء وتأخذه من تحت إبطه بعد أن يعجز عن صعود المصطبة، تُرقُده في الفراش. تنفُسُه العميق وكأنما استراح، وربما يبحث عن رائحة الأشياء التي كان يألفها. تغطيه كما كانت تفعل باللحاف والعباءة، وتوقد ناراً في الوعاء، عيناه محمومتان ترمقانها في صمت.

وستجلس مع الغريب في الحوش. يقول لها إنه أراد أن يموت في بيته. وإنهما سارا بلاداً وبلاداً:

-      بيتكم بعيد.

يجلس على الحصيرة ماداً ساقيه. وجهه بلون الصدأ، قدماه مفرطحتان يلصَقُ بهما زفت ووحل جاف. تسأله عن الحمارة والصندوق. كوب الشاي بين يديه. يأخذ رشفة وأخرى، ويحكّ قدميه فيتفتت الوحل. يقول إنه سمع بالصندوق قبل أن يلتقي وجمعة، وعندما لقيه لم يكن معه حمارة أو صندوق. ومن لحظتها وهما معاً.

وتسأله عما كان يفعله جمعة فهي لا تعرف لرحيله سبباً.

ويقول إنها أسبابه لا يعرفها غيره.

وتسأله إن كان يحك له عن شيء.

ويقول إنه حكى الكثير. فهو رأى الكثير. ولم يبخل بما رآه. وأحبه كلُ مَن عرفه.

-      لم أسمعه يوماً يندم على رحيله.

ويصمت قليلاً ثم يقول إنه كان يذكُرُها دائماً بالخير.

وتسأله عما يمنعه عن الكلام.

ويقول إنه كان يتكلم. وسكت منذ اقتربا من البلدة.

ويسألها إن كان يستطيع أن يرى أشياءه التي بالمندرة؟

وتقول إنها في مكانها منذ رحيله.

تحمل الفانوس وتتقدمه إلى المندرة. يُزيح الملاءة ويتمتم:

-      آه. السيف. الغدارة. وأين النيشان؟ آه. والتعويذة.

يتأملها قليلاً دون أن يلمسها ثم يُرخي الملاءة.

يسألها أين كان يجلس ليستمع إلى الصندوق؟

تُشير إلى المكان حيث يقف. يتراجع خطوتين وينظر حوله، ثم يعود إلى الحوش. وتكون صلاة العشاء قد انتهت، والليل يعمُقُ، والأصوات تختفي في الخارج، يجلسان صامتين في الحوش. يسند رأسه للحائط، يُغمض عينيه من حين لآخر. وتأتي المهمهة ضعيفة من الحجرة، يَعقُبُها أنينّ خافت. تهم بالقيام. يقول لها:

-      دعيه يموت في هدوء.

-      ربما يُريد شيئاً.

-      لا يريد.

تعود إلى جلستها. وسيبدو لها كل ما يحدث غريباً، حتى جمعة نفسه كأنها لم تعرفه أبداً.

ويسكت الصوت أخيراً في الحجرة. وينتبه الغريب من غفوته يتحسس عصاه بجواره وينهض. تقول له أن ينتظر للصباح غير أنه يذهب.

(11)

تأتي النوة بصخبها المعتاد. تخرج امرأة جمعة في غبشة الفجر والزكيبة على كتفها. الجو قاتم وأمطار رعدية استمرت دون توقف يومين متتاليين ثم هدأت قليلاً، غير أن قصف الرعد لم يتوقف. البحيرة وقد ضاع صوتها وسط قعقعة الأصوات الأخرى استكانت لتدفق الأمواج الهائجة، واندفعت مياه البحر، تخطت الشاطىء وجَرَت في الأرض البور.

نسوة متربصات بمداخل البيوت القريبة من بيت جمعة، رأين عودها النحيل يٌخّوض في المياه والوحل وقد شَمّرَت جلبابها إلى ما فوق الركبتين. انطلقن وراءها. أحست بهن حين بلغت الشاطىء والمياه تصل إلى وركيها. انتظرت حتى اقتربن منها ثم واصلت طريقها. تتمايل أجسادهن في المياه التي تعمُقُ كلما تقدمن. حين وصلت المياه إلى بطونهن أحسسن بالقاع يتحرك تحت أقدامهن. ينحنين ويفردن أذرعتهن. تفاجئهن الحفر فينكفئن، يكتمن صرخاتهن. ينتفضن وقد ابتلّت وجوههن وشعورهن. دفء المياه في القاع يسري في سيقانهن، يرتعشن كلما انتبهن إليه وتصطك أسنانهن. يتوقفن بين حين وآخر، المياه تتماوج حولهن، وأمواج على مدى البصر تعلو وتهبط ورذاذها يلمع، تمتد خلفها الظلمة عميقة، يُبددها البرق فجأة فتلوح عن بعد في الضوء الخاطف أمواج هائلة تتحفز، وينظرن إلى البيوت وراءهن. ويرونها معتمة مطموسة المعالم، ويتقدمن. تُفرَّقهُن لطمات المياه المباغتة. يتعثرن وسرعان ما يتجمعن، تمسك كل منهن يد الأخرى، الطُرَح السوداء على رؤوسهن ابتلت والتصقت بوجوههن.

امرأة جمعة أمامهن تتحرك في يسر كما لو أن المياه تنشقُ لها. الطرحة على رأسها خفيفة لم تلمسها قطرة ماء واحدة. يميل جسدها خفيفاً لتتفادى موجة متكسَّرة دون لأن تلتفت إليها. تتمهَل حتى يقتربن منها. تشير لهنّ أن يتفرقن. يرمُقنها في صمت ويزددنَ التصاقاً.

كانت المرة الأولى لهن. يومها عثرت امرأة جمعة على المحفظة طافية بالمياه الضحلة تكاد الرغوة العكرة والأعشاب أن تخفيها. انطلقت الصيحة رغماً عنها. اندفعت النسوة نحوها. بدا من حركتها أنها تريد أن تُفلت بها. تخلين عن حَذَرِهن. يتعثرن. يتقلبن في المياه وينهضن. المياه حين ابتعدن عن الشاطىء أقل عمقاً. انتشرن. قَطَعْنَ طريق عودتها. كن يقطُرْنَ ماء وقد عَلِقَت أعشابّ وأصداف بطُرَحِهن السوداء، توقفت امرأة جمعة. تَلفّتَت حولها ثم اندفعت في الاتجاه الآخر. جَرَيْنَ وراءها، ولَحِقْنَ بها.

قلن إنهن رأينها قبلها.

قالت إنهن كن بعيدات.

قلن: خرجنا معاً ونعود معاّ.

وقالت: لم نخرج معاً.

كن يُحطن بها. مدت القريبة منهن يدها إلى المحفظة. تراجعت امرأة جمعة خطوة واستماتت ذراعها على المحفظة. انهالت فوقها اللكمات. تَلَقّتْها مُنحنية مُخْفِيةّ وجهها.

-      عشرين سنة. أخذت ما يكفيك من البحر.

لَوَيْن شعرها وطوّحن بها. سقطت ومعها المحفظة في المياه. غطس رأسها حتى أفلتَت يداها المحفظة.

كانت تمسح وجهها من الوحل ورأتهن يبتعدن. المحفظة من الجلد بطول ذراع، لصقّ بركن منها حرفان من المعدن، مغلقة بلسانٍ فضي داخل عروة. بداَخلها قلم ونظارة وحلقة من البرونز بها مفاتيح وأوراق تحولت إلى عجينة بمجرد أن لمسنها، وعثرن على بطاقة في جيب صغير لّصقَت بها صورة رجُل، نظرن وضحكن، وتبادلن رش الماء، وجرين بامتداد الشاطىء.

في ذلك اليوم اتّفقن على أن يقتسمن ما يعثرن عليه بالتساوي، ولم يعترضن حين طلبت امرأة جمعة نصيباً زيادة، فهي التي قادتهن إلى الشاطىء، وهي أيضاً تعثر على أشياء تخفى عليهن. قالت لهن إن هناك أشياء تطفو يعثرن عليها في الأيام الأولى من النوة ولو تأخرن عن ذلك تعود إلى البحر.

وقالت أيضاً إن هناك أشياء يعثرن عليها عقب انتهاء النوة مباشرة والمياه تأخذ في الانحسار ولو تأخرن قليلاً تجرفها المياه مع الرمال إلى البحر. قالت إنها أشياء صغيرة تنغرس عادة في الرمال ويظل طرف منها يلمع، وأشارت إلى حَلَقٍ في أذنيها، قالت إنه من الذهب الخالص عيار 24 عَثَرت على فَردة واحتفظت بها، وبعد عامين عثرت على الفَردة الأخرى. تحسَسن الحَلَق في أذنيها ووجدنه ثقيلاً، وكان النقش واحداً في الفردتين، قلن:

-      أُختها.

قالت:

-      آه. أُختها. لا شيء يضيع في البحر.

يخرجن في اليوم الثاني للنوة وقد بدا ألق الفجر واهناً تحت السحب الكثيفة الملبّدة يتجمعن أمام بيت جمعة، تمسك كل منهن عصا. تنساب مياه البحر – حين تكون النوة شديدة – وتجري بين البيوت.

يخُضن المياه وقد دَسَّتْ كلٌ منهن طرف جلبابها داخل اللباس. يتحسسن بالعصى عُمق الحُفَر المختفية. يُخلفن شاطىء البحيرة الطيني. يُميزّنه – وقد ابتلعت المياه – بأطراف الغاب الأخضر تميل مع الريح. ينتشرن بعرض شاطىء البحر. صخور ضخمة تقطعه على بُعد وتمتد كلسان في البحر يُغلفها ضباب كثيف والموج الهائل يَلطُمها متفجراً في رذاذ. يمدُدن العصى تحت سطح الماء العكر، طرفها يدور ويبحث. حين يصطدم بشىء ينتشلنه ويُلقين به في زكيبة تسحبها واحدة منهن. أصداف وزجاجات وقطع ملابس. تلتفت امرأة جمعة على صيحاتهن حين يعثرن على شيء. تقول إنهن كالبقر لا يميزن وأن ما جمعنه هو نفسه الذي تركته في النوة السابقة، فلا أحد يشتري زجاجات بفم مكسور والأصداف مسطحة وصغيرة.

أمواج تأتي على غفلة تُطيحُ بهن، يُلملمن أنفسهن سريعاً ويَعصرنَ الطُرَحَ وشعورهن ويعُدن للسير. يتوقفن عند الصخور تبطىء حركتهن قبل أن يصلن إليها ويصمتن. أمواج عكرة تسرع متلاحقة، تتجمع في موجة هائلة تقصد الصخور. صوت ارتطامها، ورذاذها كالشظايا يُحلق عالياً.

تقول واحدة منهن وقد أخذتها الرجفة إن المكان شديد البرودة. وتقول أخرى: آه. ويخيف.

يعُدن.

امرأة جمعة أول من رأت الجثث. عيناها المدرّبتان لا تتوقفان عند الأشياء التي لا فائدة منها. تتقدمهن دائماً. عصاها تحت إبطها تمدها من حين لآخر تلمس بطرفها شيئاً، هن يُقلبن بعصيهن كل ما يرونه حتى أكياس النفاية يمزقنها باحثين.

الجثث مُنكفئة رؤوسها متقاربة وأطرافها متباعدة، عدا واحدة شردَت بعيداً مستلقيةّ على ظهرها تتأرجح أكثر من الأخريات مع حركة الماء. عشبّ وأصداف استقرت طافية في التجويف بين سيقان الجثث الأربعة. الهلاهيل التي يلبسونها مشمورةّ حتى الكتفين، تندفع المياه وتنحسر مُخلفة رغوة ورمالاً ناعمة على الأجساد العارية. الأكتاف عريضة، عضلاتها ممتلئة مسترخية كأنهم في غفوة.

همست امرأة جمعة وكانت تقف عند الجثة الشاردة:

-      غير مختون!!

قَلَبْنَ الجثث الأخرى على ظهورها، وانطلقن عائدات. قُلن للرجال إنهن لمحن على بعد ما يشبه الجثث على شاطىء البحر. ذهب الرجال إلى الشاطىء وعادوا. قالوا إنهم على ما يبدو من المجموعة التي تأتي عن طريق البحر، ورمي البعض منهم يمين الطلاق على نسائهم إن خرجن بعد ذلك إلى الشاطىء، وتهامسوا فيما بينهم:

-      أولاد قحبة. ولا حتى لباس يستر عوراتهمم.

-      وغير مختونين.

-      آه.

-      مَن كان يصدق؟

النسوة بمداخل البيوت، ورجال تجمعوا في باحة المقهى المطل على الخلاء، وكانت غارقة بالمياه. الجو مكفهر. لا يميزون الصباح من الظهر. تبدو النوة في النهار أقلّ صخباً، حتى الأمواج الضخمة وكأنما يخفّ ضجيجها.

قالوا: إذا لم يأتوا حتى المغرب ليأخذوا جثثهم فسيقذفون بها من حيث جاءت.

-      إذا عادت للشاطىء؟

-      سنرى.

كانوا بعد كل نوة يقولون إنهم لن يسكتوا، وتمضي الأيام وينسون. هذه المرة بدوا مُصممين. وقفوا وظهورهم لجدار المقهى بعيداً عن مياه المطر التي تسقط من الفراغات بسقف الباحة وكانت من فَلْقَات جذوع النخل. عيونهم على البحيرة. المياه تغطي كل شيء. ابتلعت كل ما اعتادوا رؤيته من ضفاف وجُزُر صغيرة كانت تتناثر هنا وهناك. البحر ينساب إلى البحيرة دون عائق.

-      سنين طويلة ونحن نتحملهم.

-      آه. كل شيء له حدود.

-      ومن أين جاءوا؟ لا تعرف. من هنا. ومن هنا. لا أصل، ولا بلد، ولا عائلة، ولا أي شيء.

-      وعُمَّروا طويلاً. جيل كامل. الآن يُفرَّخ الجيل الثاني.

-      وكان أجدادنا يَعُدونهم على أصابع اليدين ويقولون "لن يتحملوا". فليأتوا الآن ويروا.

خمّنوا أن الوقت بعد العصر عندما رأوا القارب الكبير يخرج من ظلمة البحيرة دون شراع، يدفعه رجال بالعِصِي. كانوا على ما يبدو يعرفون حدود المضيق التي اختفت، أوقفوا القارب بعيداً عن البحر ونزلوا. وقف اثنان منهم يمسكان بجانبي القارب، الآخرون وكانوا أربعة تقدموا قليلاً والمياه تصل إلى بطونهم ثم توقفوا ينظرون حولهم، صاح رجلُ من المقهى ويداه كالبوق أمام فمه. حين التفوا إليه أشار بذراعه حيث توجد الجثث. استداروا واحدا وراء الآخر، واختفوا مع انحناءة الشاطىء خلف نتوء رملي، وظهروا بعد قليل يحمل كل منهم جثة على كتفه وضعوها في القارب، استداروا مرة أخرى، غير أنهم لم يبتعدوا كثيراً. كانوا ينزعون أعواد الغاب والبوص من جوف المياه. عادوا بما حملوه إلى القارب ونثروه داخله.

أنساب القارب مبتعداً واختفى في الضباب الكثيف الذي يجثم على البحيرة.

***

انحسرت النوة أخيراً. خَلَفَتْ وراءها بِرَكاً ممتلئة وقنوات رفيعة وفروع أشجار وجيَفَ حيوانات منتفخة وأسماكاً كانت تقفز حين هُرعَ إليها البط والإوز ينقُرُها. زحفت الغيوم إلى الأطراف البعيدة. وتألقت الشمس واهنة.

كان نهاراً دافئاً. الرجال في المقهى لمحوا الشراع وكان لا يزال بعيداً في عرض البحيرة. تركوا ما بأيديهم واستداروا في مقاعدهم. الشراع يقترب على مهل منتفخاً بالهواء. المركب صغير. الرجال فوقه طووا الشراع وقصدوا المضيق.

نهض رجالنا وانطلقوا إلى الشاطىء. النسوة خرجن من البيوت ووقفن على النواصي، ورجال كانوا يرقدون على العتبات أوسعوا من خطاهم ليلحقوا بالآخرين.

رسا المركب في المضيق، ونزل منه الرجال ومعهم البراميل الفارغة. دحرجوها أمامهم في المدق المتعرج وسط الأرض البور. كان مبتلاً ومعالمه كادت تختفي إثر النوة.

كانوا خمسة يسيرون متجاورين متلفعين بجلابيبهم. رجالنا بعد أن ساروا قليلاً وقفوا ينتظرونهم، صاحوا حين رأوهم على مرمى الكلام:

-      عودوا بها.

استمروا يدفعون البراميل بأقدامهم. وصاح رجالنا.

-      عودوا بها.

أوقفوا البراميل بأقدامهم. تبادلوا النظرات ثم نظروا إلى رجالنا. تركوا البراميل مكانها وتقدموا.

-      ما الخبر؟

-      ابحثوا لكم عن ترعة أخرى.

-      وماذا جرى؟

-      جرى ما جرى.

كبيرهم وكان عجوزاً ضامراً. قال ضاحكاً.

-      لابد وأن أحداً أغضبكم.

زمجر البعض من رجالنا ولم يردوا على كلامه. كانوا متجهمين، لا يريدون أن يبدوا كمن يشكُونَ. في وقفتهم كانوا يسدون الطريق. قال العجوز إن لهم سنوات يأخذون المياه من ترعتنا ولم يعترضهم أحد:

-      وتأتون الآن وتقولون لنا...

-      آه نقول.

سحب العجوز جلبابه من فوق كتفه. نَفّضَهُ. بدا كأنما سيَلَبسُه ثم أعاده إلى كتفه:

-      سنوات ونحن نأتي...

صمتوا بعدها طويلاً، وبدا أنها النهاية. الرجال القادمون من البحيرة التفتوا وأخذوا ينظرون إلى المركب، والبعض من رجالنا أُقْعَوْا. لا أحد من الجانبين يريد أن يترك مكانه، وقفوا هادئين متأملين ولسعة برد بدأت تسري في الجو.

تمتم العجوز فجأة وكأنما يحدث نفسه: آه. سنوات.

-      آه سنوات. وماذا يعني؟

-      أبداً.

اندفع واحد من رجالنا مزمجراً. وقال إننا تحملناهم بما يكفي، فهم لا يراعون حرمة، يأتون عرايا. وحكى منفعلاً عن جريهم في الحواري والجثث التي عثرنا عليها.

أنصت العجوز هادئاً وقال إن الجُزُر كثيرة بالبحيرة. وأشار إلى السراويل الطويلة التي يلبسونها: هل جئنا يوماً بدونها؟

ونظر إلى رجالنا واحداً واحداً وقال: نحن نأتي يوماً بعد يوم. وتروننا في كل مرة. ونشتري من الدكان. هل رأيتمونا مرة بدونها؟

تمتم واحد من رجالنا وهو يشيح بذراعه: وغير مختونين.

تبادل رجال البحيرة النظرات. وقال العجوز: اختاروا من تشاؤون.

حَلّ صمت ثقيل.

كانت لحظة سريعة أشبه بالهذيان. الوجوه مأخوذة وكأنما توقفوا فجأة على الحافة. هم فيما بعد كانوا يستعيدون ما حدث ويضربون كفاً بكف. يقولون إنه كانت تكفي كلمة يقولها العجوز وينتهي الأمر. غير أن الجميع وقد خمنوا أن الأمر لن يتطور إلى الاشتباك انساقوا وراء الكلام ولم يشعروا إلا والعجوز يقول:

-      اختاروا.

ووقف ومعه الرجال، مشدودي القامة وكأنما يتقبَلون كل ما يراه رجالنا، غير أن وجوههم كانت تنطقُ بالتحدي. وحتى هذه اللحظة كان يمكن لواحد من رجالنا أن يحسم الموقف بكلمتين، غير أن "عبد السميع" – ذلك الماجن الذي لا يكف عن العراك مع النسوة ويقذفنه بالطين حين يمر بهن على الترعة – ركبه العِفريت حين سمع كلمة العجوز وزمجر غاضباً:

-      إيه.. إيه..

وأزاح رجُلين كانا أمامه، وأشار – وقد انطلقت ذراعه في عنف إلى فتىً منهم يقف خلف العجوز. كان أصغرهم سناً تبدوا على وجهه ملامح الغضب.

وتقدم عبد السميع يتبعه واحد من رجالنا ليصحباه. ظل الفتى واقفاً ينظر إليهما دون أن يتحرك من مكانه. قال العجوز: اذهب معهما.

لم يتحرك الفتى وعيناه لا تفارقان وجه عبد السميع. وقال العجوز: اذهب معهما.

استدار الفتى فجاة مبتعداً، وسار عبد السميع ورفيقه وراءه.

ابتعدوا حتى قاربوا الشاطىء، وهناك أنزل سرواله. عاد عبد السميع ورفيقيه وتركاه يواصل طريقه إلى المركب.

في عودتهما انحرف عبد السميع فجأة يتبعهُ رفيقه، خاضا في الطين اللزج بالأرض البور. كانوا يرقبونهما وقد شمَرا جلبابيهما والوحل يصل إلى منتصف سيقانهما، يسيران دون أن يلتفتا قاصدين البيوت.

استدار رجالنا عائدين. يتبعهم رجال البحيرة يدحرجون براميلهمن ويقولون:

-      الجُزُر كثيرة. لابد أنهم من أعلى البحيرة.

-      آه. هناك منهم للبحر. والتيارات عنيفة حولهم.

-      لا أحد يُعاني منهم مثلنا.

-      لا يتركون أحداً في حاله. ولا يستقرون على حال.

-      أنتم هنا في بيوتكم لا تعرفون ما يجري في البحيرة.

رجالنا حين بلغوا المقهى صعدوا إليها. واستمر رجال البحيرة يُدحرجون براميلهم إلى الترعة.

***

تأتي النوة وتذهب. تُخلف وراءها ما تُخلف. ومياه عكرة تُغطي المساحات الشاسعة من الأرض البور بامتداد الشاطىء سرعان ما تجف. ونفايات تذروها الرياح، وجثث يتناقص عددها من نوة لأخرى.

ويقول رجالنا: سيُريحنا البحر منهم.

يصفوا الجو وتهدأ البحيرة بعد أن انحسرت عنها أمواج البحر. تتلاحق أمواجها في كسل. الشواطىء والجُزُر الصغيرة المُخضرّة وقد عادت للظهور تنفُضُ عنها البلل. الأرض البور تكسوها طبقة جديدة هشَة من الملح، تبدوا بِكراً وكأن الأقدام لم تطأها من قبل.

***

 

بــــــراري

(12)

يتحدثون أياماً عن النوة وقد انتهت ثم ينسونها. يقولون حين يأتي ذِكرُ ما لحق بأهالي الضاحية من خسائر أن "كراويه" صاحب المقهى و"عفيفي" البقال أكثرهم، ويرونهما يُخوّضان في المياه والوحل ويقفان غير بعيد وسط الخلاء وقد شمّرا جلبابيهما، يقفان ساكنْين ينظران إلى البحر وقد هدأت أمواجه. يُحيرهما ما حدث.

المقهى والدكان على ناصيتَيْ شارع ضيق يفضي إلى الخلاء. يبرز المقهى قليلاً بباحته الواسعة عن صف البيوت. يأتيان معاً في الصباح الباكر. يتبادلان كلاماً عبر الشارع الضيق وهما يفتحان المقهى والدكان. يُخرج كراوية المقاعد والترابيزات ويصُفَها بالباحة. ويُزيح عفيفي براميل الزيت والجاز جانباً ويكنسُ مصطبة الدكان.

يشربان شاي الصباح معاً. ولا يرى أحدهما الآخر بعد ذلك حتى نهاية السهرة. يكتفي عفيفي في الليل بأضواء المقهى التي تمتد إلى داخل الدكان. يغالب النعاس على مقعد ملتفاً في عباءته وقد تأخر الوقت، منتظراً كراوية ليعودا معاً.

حين تلوح بشاير النوة يُغلق كراوية المقهى الذي يخلو مبكراً من الزبائن. هو في عجلته وقد أظلم الجو ودوي هدير البحر ينسى أن يُطفىء الفانوس المعلق خلف النَصْبة. كان بعد أن يُدخِلَ المقاعد من الباحة ويرش الماء على القوالح المشتعلة يفتح محبس الكلوبات الأربع المدلاة من السقف ويتركها تنطفىء على مهل. ما كان لينتبه إلى ضوء الفانوس الضعيف وهو يُغلق باب المقهى. يتذكره فجأة حين يسمع الصراخ يُدوي وسط ضجة النوة ورجال البحيرة يندفعون كالشُهُب في الشوارع. يقول: "لابد أنني نسيته ككُل مرة. عَوَضي على الله".

يتسرب ضوء الفانوس من جوانب باب المقهى المغلق ضعيفاً شاحباً وسط الجوّ المكفهر المعتم، كان رجال البحيرة يقصدونه مباشرة بمجرد أن تلمس أقدامهم اليابسة، وربما لمحوه قبل ذلك وهم فوق الأمواج. كانوا يخلعون الباب بمفاصله بعد أن يركلوه طويلاً، ويطوحون المقاعد جانباً. يبحثون وينقبون.

ينتظر كراوية حتى تخفَ حدة المطر ويلوح الصباح في الأفق. يهرول في الوحل والجو لا يزال عاصفاً. عادة يكون عفيفي قد سبقه إلى الدكان. يلمحه منحنياً يرفع ضلفة باب الدكان من الوحل. يولول عفيفي حين يراه:

-      أخذوها. آه. أخذوها.

كراوية لم ير مَقهاهُ بعد. كان يساعده حتى يُسِندَ ضلفة الباب إلى جدار الدكان.

-      كرتونة كاملة يا كراوية. غير العُلب التي كانت على الرف.

يلمح كراوية وهو يندفع إلى المقهى علب الحلاوة الفارغة طافية فوق المياه التي تغطي الخلاء، ثم يرى عفيفي يُخوض وراءها يجمع ما تناله يده منها وصوته الشاكي:

-      لا يصبرون حتى يرجعوا. آه. ويرمون الفوارغ.

كانوا على ما يبدو يقتحمون الدكان في عودتهم. تنبههم رائحة الزيت والجاز التي تفوح دائماً من مصطبة الدكان. يتعقّب عفيفي الفوارغ حتى تصل المياه إلى ركبتيه. العصا الطويلة بيده يمدها لأقصى ما يستطيع يصيد بها الفوارغ. لا يتقدم أكثر من ذلك خشية الحُفر. يمتلىء حِجره. يرمق الفوارغ تبتعد. تقفز خفيفة على المياه مع هبات الريح في اتجاه البحيرة. تعيدها موجات المياه المتدفقة. تقف غير بعيد تهتز وتدور وتنقلب.

-      هم الذين لا يرمون شيئاً. يلتقطون حتى المسمار. الآن يرمون فوراغ الحلاوة.

ينهر الأولاد ليبتعدوا وقد انبثقوا من الظلمة وهرعوا نحو الفوارغ، ويلعن أهاليهم حين يراهم يسبحون إليها دون أن يهتموا بصياحه.

في عودته يقف مع كراوية ينظرون إلى المقهى والدكان بعد أن نُزعَ باباهما فبديا كفُوهتين مُعتمتين. الشوارع خالية. حتى الأولاد كما ظهروا فجأة اختفوا فجأة. يقول كراوية مشيراً إلى حِجر عفيفي الممتلىء:

-      وماذا تفعل بها؟

-      أهو.

-      كنت تركتها للأولاد!

-      أخذوا ما يكفيهم.

الريح تُصَّفر داخل المقهى، والبراميل الفارغة تهتز أمام الدكان. يقول كراوية:

-      لا أحد غيرنا. أنا وأنت.

-      آه.

-      كل مرة.

ويمخُطُ لاعناً:

-      وهم في بيوتهم. ماذا يخسرون؟

-      صحيح ماذا يخسرون.

-      ولا يكفيهم جعلونا نكتةّ على لسانهم.

-      آه. سمعتهم.

-      ولو حدث لواحد منهم ما يحدث لنا؟

يتعاونان في تركيب البابين ويغلقانهما ويعودان.

***

تسطع الشمس دافئة، وتعود للسماء زرقتها. سحب بيضاء تتناثر في الأطراف البعيدة. أمواج البحر فاترة تتكسر على فوهة المضيق. البحيرة ران عليها السكون. أمواجها الصغيرة تنساب إلى المضيق، يصدر عنها خرير ناعم وهي تصُد أمواج البحر.

التقيا ذات صباح باكر أمام المقهى وانطلقا إلى البحيرة. كان شقيق امرأة كراوية ينتظرهما في قارب. عفيفي يحمل على كتفه كرتونة بها عشرون علبة حلاوة طحينية، وعلى ذراعَيْ كراوية عنز ممتلئة سوداء الشعر. كان يبدو أنهما اتفقا على كل شيء، وكانا في الأيام الأخيرة لا يفترقان إلا قليلاً. كراوية – حين يخفّ الزبائن في المقهى – يُساعد عفيفي في الدكان خاصة أيام توزيع حصص بطاقات التموين. يقف خلف برميل الزيت مُشمراً عن ذراعيه والمكيالُ في يده والنسوة حوله. وعفيفي بعد أن يغلق الدكان يتّخذ طريقه إلى خلف النصبة في المقهى، يُغير ماء الجِوَز ويُسلكُها ويُنظف أحجارها ويُطفىء معه الكلوبات آخر السهرة.

سارا متجاورين إلى الشاطىء. قال كراوية:

-      لو أنك أخذت لهم أيضاً شوية دخان. كلهم يدخنون.

عبس عفيفي، رمق كراوية بجانبي عينه وأدهشه مرحه المفاجيء، كان يضُم العنز إلى صدره ثم يبعدها، ويترك ذقته لشفتيها. قال عفيفي:

-      تكفي الحلاوة. لا يريدون غيرها.

-      آه. صحيح. يحبونها. لا أظن أن لديهم مَعْزاَ؟

-      عندهم عجول.

-      والمعز؟

-      وماذا يفعلون بها؟

-      وماذا يفعلون بالعجول؟ وماذا يفعلون بأي شيء؟

كانا يقتربان من الشاطىء. القارب يهتز خفيفاً في المياه الهادئة. بحث كراوية فيما حوله عن قريبه. لمحه مُحتجباً بالشاطىء لا تبدو منه غير عمامته. كان على ما يبدو يقضي حاجته هناك. قال عفيفي:

-      ولم يجد غير هذا المكان؟

التفت إليه كراوية في حدة. قال غاضباً:

-      هذا المكان أو غيره.

تمهل عفيفي حتى سبقه كراوية بخطوتين. حدّق في قفاه الغليظ القاتم وقال:

-      لم أكن أعرف يا كراوية أنك تُربّي مَعْزاً!!

تصلب ظهر كراوية واستدار في بطء:

-      وأنا أعرف يا عفيفي أين يذهب زيت التموين الذي لا يصرف أصحابه غير نصفه!!

هرع فجأة خلف العَنْز التي سقطت من بين ذراعيه أثناء غَضبته. تبادلا النظرات في صمت، واستدار عفيفي عائداً. وتبعه كراوية بعد قليل.

تخاصما شهوراً. كل منهما كان يتجنب الآخر. وأرسل كراوية صبي المقهى بحمارة إلى البلد ليشتري تموينه اليومي من المعسل والجاز والشاي والسكر. الولد وقد عرف بخصامهما كان يوقف الحمارة المحملة بالبضاعة وسط الشارع أمام الدكان، وينحني تحتها ليُحكمَ رباط البردعة، بعدها تفتح الحمارة ساقيها الخلفيتين، ويسحبها الولد صائحاً وكأنما ليمنعها، غير أنها تكون قد أغرقت المكان وتطاير الرذاذ إلى المصطبة.

وعندما أوقف الولد الحمارة في المرة الرابعة، اندفع عفيفي قبل أن ينحني الولد تحت الحمارة وأخذ كفين، وانهال ضرباً على الحمارة فهرولت مبتعدة، وهدّد في صياحه بأنه سيدلق البضاعة في الشارع المرة القادمة.

كان حين يلمح كراوية قادماً يدفع باب الدكان ليفتحه على سعته وينتظر حتى يراه يمر أمامه فيبصق جانباُ في صوت مدوٍ.

ويوماً رمى كراوية بتفل الشاي جنب جدار المقهى في مواجهة الدكان بدلاً من الحفرة على الشاطىء. فوجىء عفيفي لدى مجيئه في الصباح بجيوش من الذباب تحط على التفل. فتح الدكان وقال للزبائن الذين كانوا ينتظرونه أنه لن يغيب، والتقط "خشبة" كان يسند بها برميل الجاز المائل واندفع إلى المقهى. خرج إليه كراوية من خلف النصبة، غير أن الزبائن أوقفوهما قبل أن يتماسكا.

استمر خصامهما حتى النوة التالية. كان عفيفي يُخوّض في المياه وراء فوارغ العلب. الجوّ عاصف مكفهر، والعلب زاغت بعيداً. وصلت المياه إلى ركبتيه، ومدّ عصاه، غير أنه لم يلتقط غير ثلاث. فوجىء بغابة طويلة تمتد بجواره. التفت ورأى كراوية غير بعيد عنه، كان يرفع العلبة بطرف الغابة، عاليةّ تقطر ماء، ويُنزلها ويرمي بها إليه. استطاعت غابته الطويلة أن تلتقط في سرعة ست فوارغ بعيدة. قال كراوية:

-      لا أعرف ماذا تفعل بها؟

-      تنفع.

لحقت الغابة الطويلة بعلبة كانت تنط مع الريح نحو البحيرة. وقفا في عودتهما يُحدقان إلى فوّهتي الدكان والمقهى. وقال كراوية:

-      مع أنني هذه المرة أطفأت الفانوس.

-      فانوس أو غير فانوس. تعّودوا عليها وانتهى الأمر.

وكانا يعيدان تركيب البابين. وقال كراوية:

-      يا عفيفي لن تجد غيري وقت الجد.

-      صحيح.

-      الناس تشمت فينا. حين رأونا كل واحد في جانب . طبعاً بلغك كلامهم.

-      بلغني.

-      ولا يحدث لواحد منهم ما يحث لنا.

-      آه.

-      طيب نتوكل ونروح مشوارنا.

-      يهدا الجو ونروح.

-      ستكون مفاجأة حين يروننا أمامهم.

-      إلا مفاجأة.

-      ونعرف الحكاية.

أغلقا بابْي المقهى والدكان وعادا إلى بيتيهما.

 

(13)

تقابلا في الصباح عقب النوة بأيام، وسارا إلى الشاطىء. عفيفي يحمل كرتونة الحلاوة وكراوية يحمل العَنْز. قال عفيفي:

-      أهي نفس العنز؟

-      الأخرى كانت سوداء.

العنز على ذراعه صغيرة الحجم، بيضاء الشعر، وخصلة بلون أسود في جبهتها. جلسا في القارب متقابلين، ووضع كل منهم حمله أمامه. خرج بهما القارب إلى عرض البحيرة. كان قريب كراوية يجدّف صامتاً وطرف الشال في فمه.

لاحت لهم جزيرة عريضة، كانت قريبة حتى أنهم استطاعوا رؤية الدخان يتصاعد خلف البيوت القليلة فوقها. سألهما قريب كراوية عن الجزيرة التي يقصدانها؟ تبادلا النظرات. الجزيرة أمامهما مألوفة، رأياها كثيراً عندما كانا يسيران بامتداد شاطىء البحيرة. قال كراوية: أي جزيرة غيرها.

الشمس حارقة تلسع وجوههم، والعنز لَبدَت في حضن كراوية. فك الشال الخفيف عن رأسه وغطاها به. بدا رأسه في الطاقية الصوف صغيراً مستديراً مبللاً بالعَرقَ. قال وعيناه غائمتان. "الحلاوة تسيح".

قطرات لزجة ترشح من جوانب الكرتونة، مسحها عفيفي بكفه. تزداد حدة الشمس، والعَرَق له طعمُ الملح. رفع كل منهم ظهر جلبابه كخيمة فوق رأسه.

بدت المياه حين أصبحوا في عمق البحيرة شديدة الزرقة، أمواجها الصغيرة تضرب جانب القارب في صوت مكتوم. قال كراوية:

-      لم أدخل البحيرة من قبل أبداً.

-      ولا أنا.

-      حتى في صغري لم أقترب منها.

-      أنا أيضاً.

-      مثلنا. الذي عمل من صِغَره لم يذهب لا هنا ولا هناك.

-      آه والله.

-      كلهم وجدوا الوقت ليلعبوا. ونحن؟

-      حتى البحيرة القريبة منا لم نراها إلا كل سنة ومن فوق الشط.

بدت في الأفق بقعة داكنة. اتجه القارب إليها. استند كل منهما إلى كتف الآخر وهما يتحسسان بأقدامهما الصخور الصغيرة الزلقة وانتظر قريب كراوية في القارب.

أرض الجزيرة موحلة داكنة، منبسطة بلا مرتفعات، استطاعا رؤية طرفها الآخر في وقفتهما. سارا قليلاً، وعلى مدى البصر لم يلمحا أثراً لمخلوق. رأيا حفراً غير عميقة ممتلئة حتى منتصفها بالمياه وأسراب سمك البلطي تسبح داخلها في هدوء. تلفت كراوية حوله:

-      كما لو أن المياه انحسرت عنها من يومين.

شد قبضته على العنز وكانت تُحاول القفز من فوق كتفه. قال عفيفي:

-      وربما كنا أول مَن يمشي عليها.

كُتَل من الطين علقَت بأقدامهما وكانت تعوق خطوتهما. قال كراوية:

-      نعود؟

-      آه نعود. بُصّ البياضة.

-      أما بياضة!!

كانت أكبر سمكة بياض رأياها في حياتهما، تسبح وحدها في بركة واسعة. قال كراوية:

-      لو صدناها؟

السمكة تذهب لطرف البركة وتعود، حين تلتقي بظلهما المنعكس على المياه. تقف وتفرد زعانفها وتهز ذيلها ثم تمرُقُ منه سريعاً. قال كراوية:

-      لو صدناها!

-      وماذا نفعل بها؟

-      نشويها.

-      لابد من فرن. حجمها كبير.

-      أمْسِك العنز.

خلع جلبابه ووضعه على كتف عفيفي. المياه ضحلة غير أن قاع البركة غاص به حتى وسطه. في فزعه انحبس صوته ورفرفت ذراعاه. تعكّرت المياه حوله. ووقفت سمكة البياض بعيداً عن العكارة وشَهَرَت زعانفها في تأهب. نقل قدمه في صعوبة وقد مال بجذعه حتى لمست المياه وجهه فعطس. رمق السمكة لحظة وجاهد حتى خرج من البركة.

غادر الجزيرة والطين اللزج يُغطيه حتى الكتفين. أقعى في مياه البحيرة غير بعيد عن القارب، خلع ملابسه وغسلها ونشرها على الصخور بجواره. أشعل قريبه ناراً بين صخرتين ووضع وعاء الشاي. زحف كراوية جالساً حتى بلغت المياه صدره. أشار لعفيفي ليلحق به. خلع عفيفي ملابسه وجلس بجانبه في الماء. احتواهما الصمت وهما يحدقان في المياه الزرقاء الممتدة.

قال كراوية إنه لو تعلم السباحة في صغره لكان الآن يعوم داخلها. وقال عفيفي إنها المرة الأولى له.

انقلبا على بطنيهما، واتكأ كل منهما على كُوعَيـْه، وتركا الماء يجري على ظهريهما.

تساءل كراوية عما كان يعمله عفيفي في صغره؟

وقال عفيفي: كثير.

صخور بلون رمادي تتناثر على جانب الجزيرة نبت العشب كثيفاً بينها. قال عفيفي: من بلد لبلد. أولها جمع الدودة. وثانيها شتل الأرز. بعدها كثرت الدكاكين في البلد. كنت في العاشرة.

-      أي دكان؟

-      نجارة أبو سالم.

ضحك كراوية وضرب المياه بقدميه: كنت أمامك.

التفت عفيفي مُحدقاً في وجهه. قال كراوية:

-      آه. دكان عمك شاكر.

-      وأعطيتك مرة قرصين طعمية ونصف رغيف. فاكر؟

-      آه.

-      وكنت تلبس جلبابً زفيرٍ على اللحم. كان طويلاً عليك. وكانت أمك تربطه بحبل حول وسطك وتشمره.

-      جلباب أخي أحمد.

-      وعِبـُك دائماً مليان. بصل وكَسْر عيش وفتافيت جبن وزلط.

-      زلط.

-      آه. زلط صغير مستدير وملون.

-      افتكرت. كنت ألعب به بدلاً من البِلي.

-      ومَن سيلعب معك ببلي زلط؟

-      ألعب به وحدي في الدكان.

-      وأبو سالم؟

-      يكون مشغولاً مع الزبائن أو في الشارع.

غطسا وجهيهما في الماء، وقلدا في رقدتهما حركات السابحين، وقال عفيفي ضاحكاً:

-      آه. صحيح. وأنت؟ ببنطلون بيجامة كستور مخطط أزرق وفانلة بكُم.

-      بنطلون الأستاذ عبد الدايم. أصبح الآن محامياً قد الدنيا. تنتظر أمي إجازة المدرسة وتذهب إليهم. أمه لا تعطى الحاجة كاملة أبداً. مرة بنطلون البيجامة وتقول إنها ستبحث عن الجاكتة. تبحث شهوراً ثم تعطيها لك بعد أن يكون البنطلون نَسَل وأصبح شوارع. حتى الجزمة.

-      لم أرك بجزمة أبداً.

-      آه. فردة واحدة. حين أعطتنا الثانية كانت الأولى ضاعت.

-      وكان شعرُك أحمر.

-      كان. طيب فاكر يوم ما ضربك أبو سالم ورمى بك إلى الشارع. آه. شالك من رجْل وذراع ورمى بك. الشارع مبلول. وأنت تبصّ لجلبابك المطين وتصرخ وأبو سالم يرميك بحتة الخشب ليبعدك عن الدكان. وأنت ولا هنا. واقف تصرخ ولا تتحرك. آه. وبربورك!

-      مَن يسمعك يظن أن عم شاكر لم يضربك أبداً.

-      يووه. ولا مرة يشوفني إلا ويلسعني على قفاي. اجري شوف حاجة أعملها. وماذا تعمل في محل حديد غير أنك تشيل الحديد وتحط الحديد. إنما أنت اختفيت مرة واحدة.

-      آه. سافرت. ابن عم أمي عنده دكان بقالة. أخذني عنده. سنوات.

-      وبعدها؟

-      خاف على بناته حين رآني كبرت. وأنت؟

-      أبداً. بعد عمك شاكر اشتغلت في قهوة بالبلد.

حين أشار لهما قريب كراوية خرجا يعدوان وأيديهما تستر عورتيهما. وقفا في المياه الضحلة على جانبي القارب ولبسا هدومهما. وانطلقوا بالقارب.

***

الجزيرة الثانية التي توقفوا عندها كانت أكثر اتساعاً. داروا حولها. لمحوا ثلاثة أكواخ بطرفها على حافة الانحدار. أوقفوا القارب بجانب لسان يمتد داخل البحيرة. الأرض رطبة مدكوكة. سار كراوية حاملاً عنزته وخلفه عفيفي يحمل كرتونة الحلاوة. كان قد وضع لفة من أعواد البوص على كتفه تحت الكرتونة، غير أن الزيت ظل يرشح منها إلى أن ظهر الجلباب والبقعة الداكنة تزداد اتساعاً.

صعدا مدَقاً نحيلاً على جانب الجزيرة. كان متدرجاً. الدرجات منحوتة تآكلت حوافها. انبسطت الجزيرة أمامهما عريضة جافة خالية من الأعشاب والغاب. ترددا قليلاً، نقل كل منهما حمله إلى الكتف الأخرى وتقدما. لمحا أوتاراً كثيرة، وأفراناً من الطينَ تهدمت فوهاتها بداخلها رماد قليل تكوم جانباً. وبقايا جدران نُزعت منها الحجارة، سارا بينها يتخطيان فواصل الحجرات. تمتم عفيفي:

-      مهجورة.

-      آه. هجروها.

قلبَ عفيفي بقدمه فيما تبقّى من الجدران، سأله كراوية عم يبحث؟

-      أوقات يترك الواحد شيئاً وراءه.

-      هم يتركون؟ حتى الطوب أخذوه.

-      لا أقصد أشياء لها قيمة.

-      وماذا تقصد؟

-      يعني. أشياء تخبرك عنهم.

-      تخبرني؟ وما حاجتي لما يخبرني عنهم؟

-      لأننا لا نعرفهم.

-      كل هذه السنين ولا نعرفهم؟

-      الواحد لا يعرف الواحد إلا بعد أن يدخل بيته. كل شيء فيه يظهر ويبان.

-      يا سلام. ومَن علمك هذا الكلام؟

-      تعلمناه من أهالينا.

-      عفيفي. لا أحد في الدنيا كلها يعرفك مثلي. قل إنك كنت تبحث عن خاتم، معلقة، غطاء حلة، يقوم يمشي الكلام.

ضحك وانطلق قاصداً الأكواخ الثلاثة. كانت متجاورة من الصاج المضلع، جوانبها اهترأت من الصدأ. أبوابها مُغلقة بسُقاطة. عثرا بداخلها على شباك صيد قديمة ومربعات صغيرة من الفِلين وقطع رصاص ومجاديف مكسورة.

وقفا أمام الأكواخ ينعمان بالظل وهواء رطب كان يهب شديداً. نظرا إلى البحيرة تحت أقدامهما. جزر صغيرة كثيفة الخضرة بدت كبقع داكنة تطفو وتتحرك على سطح المياه الزرقاء. قال كراوية:

-      ولا تفهم لم يهجروها. إن كان على العشب للبهائم فهو حولهم في الجُزُر الصغيرة.

-      لا يستقرون طويلاً في مكان.

-      آه. يبنون بيوتاً ويهدمونها.

-      كراوية. نعود لبيوتنا

-      بعد كل ما فعلنا يا عفيفي!

-      الوقت يسرقنا.

-      لا يضايقني غير الذي يأتي في نصف المشوار ويقول نرجع.

كان قريب كراوية نائماً في القارب وقد غرز المجدافين على جانبيه ليوقف حركته. تناولوا غذاءهم من لفة بسَحّارة القارب. عيش طري وجبن وفول أخضر، وأطعم كراوية العنز عَلفة من التبن والفول.

كانت الشمس قد مالت إلى الجانب الآخر عندما انطلقوا إلى عرض البحيرة. قال كراوية:

-      يظهر أننا تُهنا. لا أظنهم يبحرون كل هذه الساعات ليصلوا إلينا.

دار قريبه بالقارب نصف دورة، وشمر عن ذراعيه قائلاً "نجرب اتجاه آخر". وقال إنه لم يدخل البحيرة من قبل. يطرح شبكته دائماً غير بعيد عن الشاطىء. ما يصيده ليس كثيراً. غير أنه يكفي. وقال إن البحيرة تبدو سهلة لمن لا يعرفها وهي غدارة مثل كل المياه، وكثيرون تاهوا فيها ولم يُنقذهم غير أهل الجُزر.

-      آه. أكثر من مَنفذ يصلها بالبحر. الدوامات هناك لم ترَ عين مثلها. تبلع قارباً بما يحمله.

سكت فجأة حين رأى رأسيهما يميلان على صدريهما. كراوية يحتضن العنز وعفيفي يستند بذراعه إلى الكرتونة.

أيقظتهما الضجة والصباح. حين رأى كراوية قريبه واقفاً ظن القارب يغرق. ثم انتبه للحجارة تنهال عليهم وعفيفي يتأوه خلفه – مزق القارب لدى اقترابه شبكة صيد منصوبة تحت الماء بمدخل خليج صغير لا يظهر منها غير فلّين تُخفيها تموجات المياه – الأولاد فوق الجزيرة يقذفونهم بالحجارة والريح تحمل صياحهم وشتائمهم إلى عرض البحيرة. خلع قريب كراوية ملابسه وقفز إلى الماء. خَلص مقدمة القارب من الشبكة ودفعه للوراء.

ابتعدوا قاصدين جانباً آخر من الجزيرة. رسا القارب بجوار الشاطىء الطيني. الأولاد فوق الجزيرة يرقبونهم. ثبت قريب كراوية القارب للشاطىء ولحق بهما. الأرض جافة مستوية. كراوية يُوسِع من خطاه، يتبعه عفيفي، جانب كبير من ظهر جلبابه تَيبسَ كجِلد مشدود، الأولاد وراءهم عرايا يمسكون عيداناً من الغاب الأخضر. مروا بقطيع من العجول الصغيرة ترعى وسط عشب أخضر يتكاثف مع انحدار الجزيرة، وحوض من الإسمنت ممتلىء بالمياه يرقد حوله سرب من الإوز والبط. هتف كراوية:

-      أخيراً...

البيوت على الطرف الآخر في هيئة قوس. تسعة بيوت لها نفس الشكل. حجرتان بحوش مُسور، النصف السفلي من الطوب الأحمر، النصف الآخر من الطوب النىء تغطيه قشرة طينية. السقف مائل من الصاج المضلع. ظهر سبعة رجال عجائز. جاءوا متفرقين من خلف البيوت حيث الظل. كانوا عرايا ضامرين. سيقانهم كأعواد الحطب، يسترون أنفسهم بخرق تلفت بين أفخاذهم، كراوية وقد انتشى فجأة أسرع نحوهم ضاحكاً:

-      آه يا والدي. نصف نهار لنأتي إليكم.

تقدم واحد منهم خطوات قليلة. مال بوجهه جانباً لينظر إلى كراوية. فمه متهدل يرتعش. أخذه كراوية تحت إبطه وسار به إلى الآخرين، يقفون متجاورين. ملامحهم تكاد تكون واحدة، تجاعيد الوجه الكثيرة. عيون صغيرة غير مستقرة. شعيرات خفيفة برؤوسهم. أخلى كراوية العجوز وتلفت حوله: آه. ولا نراكم في البلدة.

العجائز ينظرون إليه، ثم يجلسوا على أحجار كبيرة مستوية. أحجار أخرى خالية أمامهم، جلس كراوية على واحد منها والعنز بين ساقيه. ظل قريبه وعفيفي واقفين وراءه.

خرجت نسوة من البيوت. عجائز يتلفعن بالطرح السوداء. جلسن في الفراغات بين الحجارة خلف الرجال العجائز. أشار كراوية لقريبه وعفيفي أن يجلسا. وضع عفيفى الكرتونة على ركبتيه المضمومتين وجفف عَرَق وجهه بطرف الشال.

-      صاحبي عفيفي. لابد أنكم تعرفونه. لا يوجد على الشط دكان غير دكانه به كل ما تريدونه من إبرة الخياطة للصنارة.

نهض عجوز وتقدم من كراوية. انحنى وأمسك وجه العنز بكفه:

-      ذكَر؟

-      لأ. لم تلد بعد. خُذها. جئناكم بها. والحلاوة الطحينية أيضاً.

مد يديه إلى الكرتونة على ركبتي عفيفي، غير أن العجوز كان يتعثر عائداً إلى الحَجَر. قال كراوية: جئناكم بها.

حمل العنز ووضعها في حِجر العجوز الذي أمسك وجهها مُحدقاً إليه وسأل:

-      ذكَر؟

-      نتاية.

ووضع عفيفي كرتونة الحلاوة أمامهم، فتحها وأخرج علبة. قفز الأولاد صائحين حين رأوا العلبة في يده، وتسللت النسوة من بين الأحجار. أخذ كل ولدين علبة وانطلقا بعيداً، وتناول كل من النسوة علبة. كن يغرِفنّ الحلاوة بأصابعهم ويُطعمن الرجال. استدرن بما تبقى في العُلب وجلسن خلفهم. نُتَف من الحلاوة حول أفواههم يتصيدونها بطرف اللسان. مدّ عجوز عصاه وسحب الكرتونة الفارغة إلى جواره. نهض آخر كان الذباب يغزو وجهه أعطاهم ظهره. يمسك بيده الخرقة حول وسطه التي تهدلت كاشفة عن مؤخرته العجفاء وكانت بلون أبيض شاحب يُغاير لون جسده المحروق. فكَت العجوز الجالسة وراءه الخرقة من وسطه ونَفَضَتهْا ثم أعادَت لفها بين فخذيه، مشى بعدها مبتعداً تبعه العجائز واحداً وراء الآخر. تمتم كراوية: أين يذهبون؟

ساروا في وهن حتى البيت القريب منهم. اختفوا داخله. على واجهة البيوت عُلقت عرائس من الطين، يهزها الهواء خفيفاً، شعر رؤوسها من القش. وعلى الأبواب المواربة، وكانت تُفتح للخارج، طُبِعَت كفوف كبيرة أصابعها منفرجة بلون الطين الجاف.

النسوة خلف الأحجار يدعكن فوارغ علب الحلاوة بالتراب، والأولاد انطلقوا بالعنز إلى الحوض، عاد العجائز وقد غسلوا وجوههم من آثار الحلاوة. جلسوا غير بعيد أمام شباك صيد مفرودة بين عيدان غاب واقفة. أخذوا يفكون ما تعقد من خيوطها ويخلصونها من العشب والأصداف العالقة بها. ينظر إليهم كراوية من خلال الشِباك مُحتداً ويلتفت إلى عفيفي. صاح فجأة:

-      وأين الرجال؟

العجائز خلف الشباك لم يلتفتوا إليه. أصابعهم تتحرك في سرعة ودُربة بين الثقوب. قالت عجوز: عمن تسأل؟

-      أولادكم. أين؟

أشارت بيدها إلى عرض البحيرة.

-      ومتى يأتون؟

-      وقت ما يأتون. إن كنت تريد عُجولاً فلن نبيعَ قبل شهرين.

-      لا نريد عجولاً.

التفتت إليه العجوز. رمقته لحظة في صمت. قالت:

-      وماذا تريد؟

-      نريدهم.

-      من فيهم؟

-      كلهم.

-      لن يأتوا الآن.

-      ومتى يأتون؟

-      لا موعد لهم. من حين لحين يمرون.

-      يمرون؟ ألا يقيمون هنا؟

-      يُقيمون في بيوتهم.

-      أين؟

-      هناك.

أشارت بيدها إلى عرض البحيرة.

-      بعيد؟

-      جزيرتين. ثلاثة.

-      ظننتهم معكم.

-      يمرون. يُحضرون لنا الماء وكل حاجة.

عيناها تحدقان في وجهه. قال:

-      لنا كلام معهم.

-      وفيم تكلمونهم؟

نظر كراوية إلى عفيفي، صاحت العجوز في حدة:

-      إيه الحكاية؟ كل مرة أكلمك تبصَ لصاحبك. إيه الحكاية؟

لم ساقيه الممدودتين: أبداً يا حاجة. خير. كل خير.

عجوز كانت تدق شيئاً في الهون. دقات رتيبة يتردد رنينها بعيداً. مرق الأولاد في صياح من جوارهم، وقفوا على حافة الانحدار يُلوحون بأيديهم. لحق بهم كراوية وعفيفي. لمحا عدداً من القوارب منطلقة كالريح في عرض البحيرة وقد فُرِدَت أشرِعَتُها الصغيرة، اختفت في لمح البصر خلف جزيرة كثيفة الخضرة ثم عادت للظهور. أشرعتها تميل من جهة لأخرى منتفخة بالهواء الذي يوشك أن يمزقها. استمرت في اندفاعها حتى اختفت بين الجزر البعيدة. كانت الشمس تميل للغروب حين أبحروا عائدين. تمددا في القارب خلف خلاف واستغرقا في نوم ثقيل ورأساهما يترجرجان مع هزات القارب.

بلغوا الشاطىء بعد العشاء، وحمل قريب كراوية قاربه ومضى إلى بيته. سارا متمهلين في الخلاء يركلان ما يقابلهما من كُرات الشَوك. الدكان والمقهى على بُعد مظلمان، والبيوت أيضاً مُطفأة الأنوار. ضوء صغير يتحرك بينها وكأن أحدهم يسير ومعه لمبة.

 

(14)

تجلس على عتبات البيوت أياما طويلة. العمل لا يسير دائماً في البلدة. هو أيضاً هو أيضاً له مواسمه مثل كل شيء حولنا. نصنع أقفاص الجريد وأواني الفخار ونبحث لها عن زبائن. ننظر للرايح والجاي. نحسّ الحر الشديد والبرد الشديد، ونراهما – كراوية وعفيفي – يأتيان ويذهبان، يوغلان في الابتعاد، يذوبان في الأفق البعيد، وننساهما، ثم نفاجأ بهما أمامنا، شيء ما جعلنا نلتفت إليهما. ربما الصداقة العجيبة التي تجمعهما وتجوالهما الذي لا يكل، ذهاباً وعودة على الشاطىء. كانا كغلامين يعبثان، لا يفترقان إلا وقت النوم، لا يتحرج أحدهما من التعري أمام الآخر حين ينزلان إلى البحر وقد اختارا مكاناً بعيداً على الشاطىء يجلس عفيفي خلف النصبة في المقهى، ويجلس كراوية في الدكان يبيع للزبائن، يلبسان نفس القماش ويمسك كل منهما نفس العصا، ملساء ناعمة بيد مقوسة ولون بني غامق. أوقفا امرأتيهما في الدكان والمقهى وانطلقا. تلك القدرة على المشي ساعات طويلة، وفيم كل هذا الحديث الذي لا يفتر أبداً وقد مال أحدهما على الآخر ويده على كتفه وضحكاتهما الهادئة تترامى في الخلاء. يسيران على شاطىء البحر حتى لسان الصخور، يجلسان على طرفه ويدليان أقدامهما إلى الماء، ورذاذ الموج يتناثر فوقهما، وأخذا معهما صنارتين، يقضيان هناك نصف النهار، يجمعان ما يصيدانه من سمك فوق أعواد بوص أعداها بجوارهما، وبعد أن يأخذا كفايتهما من الصيد ينهضان، لا يلتفتان إلى ما صاداه، واقتنيا قارباً صغيراً ينطلقان به ساعة العصر داخل البحيرة، لا يبتعدان كثيراً، يرفعان المجدافين ويتركان القارب تؤرجحه الأمواج الصغيرة.

الدكان والمقهى أخذا يزدهران. كثر زبائنهما من وافدين جُدُد قدموا للإقامة وعمال جاؤوا لتوسيع مجرى الترعة، وأعيد طلاؤهما، ومدت امرأة عفيفي سياجاً من الغاب المضفور بجوار الدكان وعرشَته بالجريد والخيش، وضعت به براميل الزيت والجاز، واستطاع عفيفي بعد نقاش عنيف مع امرأته أن يتناول غذاءه مع كراوية ساعة الظهيرة داخل التعريشة. كان لا يزال بصحبته، وقد نالتها رفسة منه أطاحت بها من فوق مصطبة الدكان ودحرجتها إلى الشارع، وكان صاحبه كراوية يقف غير بعيد مستنداً إلى عصاه يهز رأسه في أسف. تُعدّ لهما المرأتان الطعام وهما تُبرطمان وتدعوان الخالق أن يأخذهما في يوم واحد. ويعودان من جولتهما على الشاطىء في الظهيرة فيجدان الغذاء بانتظارهما، مُغطى بجلباب قديم داخل التعريشة ويشربان الشاي ويسترخيان على مقعدين وسط البراميل السوداء يرمقان ما يجري في الشارع خلال فتحات الغاب المضفور يكاد المارة ألا ينتبهوا إليهما.

أنصتت لهما يوماً امرأة عفيفي بعد أن أغلقت باب الدكان من الداخل، وقفت على مقعد، ونظرت خلال قضبان نافذة صغيرة بأعلى الحائط. لمحت سيقانهما. كراوية يضع ساقاً على الأخرى ويهز قدمه.

ساق زوجها ممدودة وإصبع قدميه الكبير ينفذ إلى الشارع من بين عيدان الغاب المضفور.

قال زوجها: يا كراوية. نحن لا نحسبها بالميزان والمسطرة. ولو فعلنا.

-      نهلك يا عفيفي.

-      تمام. نهلك. وكم من الناس هلكوا.

-      كثير.

الإصبع الكبير تحتضن عود الغاب الذي ترتكز عليه وتعتصره. هي تعرف عادات زوجها. أحست من حركة إصبعه مدى ما يعانيه من ثقل وانتفاخ في بطنه. قال:

-      وحتى ما نصل إليه

-      ولا طعم له.

-      تروح منه عصارته.

-      كعيدان الذرة الناشفة

صمتا. انتظرت أن يقولا شيئاً آخر، غير أن الصمت طال بينهما. فتحت باب الدكان بهدوء ورأتهما على المقعدين وقد مالت رأساهما. وتأتي امرأة كراوية بعد الغذاء، وتتبادل المرأتان الوقوف على المقعد.

-      كراوية. لم تظن الله خلقنا؟

-      حكمة لا ندريها.

-      آه. الكلام الذي حفظناه من صغرنا.

-      لم نسمع غيره.

-      ملايين السنين كما يقولون. يولد ناس ويموت ناس. ساقية تدور. ولا أحد يدري الحكمة في ذلك. تأتي أوقات يأخذني التفكير. يسحبني وأجدني أفهم. آه أفهم. وفجأة يصعب الفهم. كما لو أن باباً أُغِلق.

-      يضحك عليك مَن يقول أنه يفهم كل شيء.

-      طيب والحل؟

-      أي حل؟ الدنيا كلها أسرار.

صمتا طويلاً حتى ظنت المرأتان أنهما نعسا. ثم جاءهما صوت عفيفي:

-      طيب والأنبياء؟

-      مالهم؟

-      كثيرون. حتى أنني لا أعرف أسماءهم.

-      أعرفها يا عفيفي.

-      وأنت؟

-      أعرف ستة منهم.

-      يأتون ليقولوا لنا اعبدوا الله. طيب أنا أعبد الله.

-      غيرك لا يعبده. تأتي سنوات وسنوات وينسى الناس مَن خلقهم، فيرسل لهم مَن يُذكرهم.

-      كل ما تقوله أعرفه.

-      وماذا تريد؟

***

-      والغربان يا عفيفي؟

-      إلا الغربان.

-      على قد ما الناس تكرهها وتتشاءم منها على قد ما هي جميلة.

-      جميلة وجميلة!

-      شوف لونها. أسود وكُحلي. لا تجده في أي طير.

-      ومنقارها. صحيح مقرفة في أكلها. إنما منقارها. سبحان الله.

-      عمري ما كرهتها يا عفيفي.

-      ولا أنا.

-      كنت أربط رِجلها بدوبارة. هي تطير وأنا أجري.

-      وتخرج للخلاء؟

-      آه. في الخلاء تُرخي لها الدوبارة. تُحلق فوق. ويتهيأ لك وأنت تقفز البِرك والحُفَر أنك تطير معها. شُفت في حياتك طير بهذا اللون؟

-      ولا غير طير

-      أحَبّ لونين لنفسي. حتى الجلباب ألبسه إما أسود أو كُحلي. وأنت؟

-      الأبيض.

-      الأبيض ليس لوناً.

-      طبعاً لون. مثل الأحمر والأزرق.

-      لم أرك تلبس جلباباً أبيض أبداً.

-      إنما أحبه.

-      كلام. أنت تحب الكُحلي والأسود مثلي. جلابيبك كلها. آه يا عفيفي لو أنك بقيت في البلدة ولم تترك دكان أبو سالم. كنا الآن أصحاباً من صغرنا.

-      وما لفرق؟

-      كثير. كل ما نقوله الآن من كلام كنا قلناه من سنوات.

-      كراوية. لو ذهبنا مرة ثانية.

-      آه نذهب. انتظر حتى تكبر العنز. شهران ونذهب. لن يفلتوا منا. وأين يذهبون؟ البحيرة ومهما قُلت بحيرة. والجزر حتى لو كثر عددها كم جزيرة؟

-      ونمر على العجائز؟

-      ونُعطيهم الحلاوة.

-      آه. البياضة.

-      ربما صادها أحد؟

-      ومن يَصيُدها!

***

حين يطول الصمت في التعريشة تجلس المرأتان جني المقعد تبكيان دون صوت.

-      وآخرتهاّ

-      ربنا يلطف.

هما بعد شهور وقد استنفدا على ما يبدو كل الأحاديث الممكنة كانا يتجولان صامتين، يضم كل منهما ذراعيه تحت إبطيه. أهي لسعة البرد التي راحت تسري في الجو؟ اقتصر تجوالهما على ساعات الظهيرة، وصارا يقضيان جانباً من الليل في المقهى أو داخل التعريشة لا يُسمع لهما صوتّ، وظهر على وجهيهما – ربما من التجوال والإرهاق – شحوب وقتامة ونظرة شاردة، هي سمات كنا نراها على وجوه مَن سبقوهم للمتاهة، وكنا نقول إنه بقيت خطوة صغيرة ويلحقان بهم، وكانوا يظهرون فجأة في البلدة من عام لآخر، اثنان أو ثلاثة. هادئون دائماً. ينزوون بمداخل البيوت حين يلمحون شجاراً، لا يكفّون عن السير، يقفون لحظات وقد أثار انتباههم شيء ثم يواصلون، يكلم الواحد نفسه في صوت لا يُسمع، نقاش حاد لا يهدأ ويده تلوح في تساؤل، وتأتي النهاية سريعاً. نفسُ الميتة لا تتغير. كانوا لسبب ما يُنهونَ تجوالهم في عمق الليل عند الحقول. يذهبون فْرَادى، ويقفون متفرقين على نواصي حوض زرعُهُ قصير أخضر تهتز أطرافهُ في وهَن، يتخفون وراء سياج عيدان التيل التي تُحيطُ بالحوض، تميل رؤوسهم وكأنما يرهفون السمع، يختلسون النظرات إلى المكان المرتفع حيث مدار الساقية عارٍ من الأشجار وقد خَفَت الظلمة حوله. ويخطوا القريب منهم متجهاً إليها، ويتبعه الآخران، يستلقي واحدّ على "الهُدْية" ويهز قدميه. ويدفعه آخر. ويكون الثالث قد امتطى "الطمُبوَشة" ماداً ذراعيه للأمام مُدلياً ساقيه على جانبيها، وتدور الساقية، وتغطس به الطمبوشة في البئر، ويخرج معها يقطرُ ماءً، وفي الدورة الثانية تخرجُ بدونه، وتُواصل الساقية دورانها، يترامى إلينا صريرها في الهزيع الأخير من الليل. كنا حين نلحظ اختفاء واحدٍ منهم نمضي إلى البئر، وننتشل الحُطام المنتفخ.

قُلنا إنها مسألة وقت ثم نراهما في المتاهة. غير أن هذا لم يحدث أبداً، فقد أفلتا، وكنا حائرين معهما، نراهما يستعصيان على الفهم. قل حديثهما حتى كاد يختفي، وران عليهما هدوء عميق، كانا يكتفيان بنظرة يتبادلانها أثناء سيرهما أو وسط صخب الزبائن في المقهى. يبتسمان بعدها ويسبلان عيونهما وقد يعبسان ويطرقان وكأنهما قالا كل ما يريدان.

 

(15)

رحلا ذات صباح باكر. ظنّ مَن رأوهما أنها إحدى جولاتهما في البحيرة، وكانا يحملان ما اعتادا أن يأخذاه كل مرة، عفيفي معه قُلّتَا الماء، وكراوية معه لفة العيش الطري والغموس.

انطلق بهما القارب إلى عرض البحيرة، وغابا عن الأنظار.

انتظرت امرأتاهما عودتهما على الغذاء، وكان مٌعَداً في التعريشة ومُغطى بالجلباب غير أنهما لم يعودا. بحثوا عنهما أياماً في البحيرة، وسألوا عنهما أهل الجُزُر حين كانوا يأتون ليتزودوا بالمياه. وما من أحد رآهما. وتوقف البحث بعد شهر من رحيلهما. ونسيهما الجميع.

وسوف تمضي خمسة أعوام قبل أن يعودا للظهور. غير أن البعض من الأهالي سيرونهما قبل ذلك. هؤلاء الذين بهرتهم غزوات رجال البحيرة لشوارع البلدة والضاحية، ويَصفُون بإعجاب عَدوَهم السريع واختفاءهم الخاطف ومهارتهم في تحريك الشوم. وكانوا ينتظرونهم من نوة لأخرى خلف النوافذ والأبواب المواربة.. يقولون إنهم رأوهما مع رجال البحيرة يلبسان نفس الهلاهيل ويمسكان الشوم أيضاً ولم يخطر لهم أنهما عفيفي وكراوية. لفت نظرهم جريهما المرتبك البطىء وسط الأمطار الغزيرة ومسكهما الشومة بغَشَم، ورأوهما أكبر سناً من الآخرين بذقنيهما كثيّ الشَعر ورأسيهما الصلعاوين، وكانا أثقل حركة، ينكفئان في برك المياه الصغيرة التي تصادفهما، وكان الأمر مُغرياً لاصطيادهما، غير أنهم ترددوا قليلاً فاختفى الأثنان في الحواري المظلمة وتحدثوا عنهما ضاحكين عقب النوة. وسيرونهما في النوة التالية، وولن يخطر لهم أيضاً أنهما كراوية وعفيفي، وسيقولون فيما بعد أن وجهيهما كانا مألوفين لهم، ولو رأوههما عن قُرب أو حتى بعيداً عن الأمطار لعرفوهما، سيقولون ذلك بعد أن تتكلم "زكية". وهي أرملة في الخمسين، مات زوجها من سنوات طويلة، وتقيم مع أم زوجها في بيت صغير بالقرب من دكان عفيفي، كانت تُوارب الباب أيام النوة، وتنتظر عودة رجال البحيرة من البلدة. كانوا يقتحمون الدكان في عودتهم، وتراهم ينطلقون بعلب الحلاوة إلى الخلاء، وتنتظر قليلاً حتى يبتعدوا،  وقبل أن يٌطلّ أحد من الجيران أو يخرج على صوت ضجتهم تكون قد قفزت إلى الدكان وخطفت قطعة صابون بريحة من فوق الرف الذي لا تراه في العتمة غير أنها تعرف مكانه لكثرة ما نظرت إليه. كان لديها أربع عشرة قطعة بورقها المصقول الناعم تحتفظ بها في جلباب قديم دسته في ركن من صندوق هدومها، تخرجها حين تستغرق أم زوجها في النوم أو تذهب لزيارة أحد، تشمها وتتحسس الورق الناعم وتمررها على رقبتها وصدرها ثم تعيدها للصندوق. قليلون في الضاحية مَن يستعملون هذا الصابون، عرفت ذلك من عدد القطع على الرف في الدكان. كانت تنتظر في صبر موت العجوز أم زوجها حتى تستحم به دون أن تسمع كلمة لا تريدها. وكل ليلة، وقبل أن تغط في النوم تتخيل تلك اللحظة والرغوة الكثيفة تُغطي جسدها وتسيل بين قدميها برائحتها النفاذة التي تملأ البيت. وسيكون قد مضى عامان على اختفاء كراوية وعفيفي حين تقف ببابها الموارب ترقُبُ عودة رجال البحيرة من البلدة.

الشارع موحل على الجانبين والمياه حفرت لها مجرى وسطه. تسمع صوت ارتطام أقدامهم بالمياه الجارية، يمرون ببابها خطفاً، يقتحمون الدكان، ينطلقون بعلب الحلاوة إلى الخلاء. يختفون عن نظرها، تندفع إلى الشارع والجلباب مشمور إلى ركبتيها. ضَلفة الباب ملقاه جانباً. تدوس فوقها وتقفز إلى العتبة. ترى عفيفي أمامها خارجاً من عتمة الدكان، تموت الصرخة في حلقها. في هرولتها تسقط على ظهرها بالشارع. تعجزُ عن الوقوف. تحبو في الوحل، وتراه بجوارها ينظر إليها، معه آخر يغرفان بيديهما من علبة حلاوة وينظران إليها، تستمر في زحفها، تلمس جداراً، تتشبث به وتجري إلى بيتها. ولن يراودها الشك، ومهما طالت ذقنه. تلك السحنة التي كرهتها دائماً. تتكتم الأمر. ومَن يُصدقها؟ غير أن رعبا قاتماً يجثمُ على نفسها، وعندما تسمع ما يرددونه عن عجوزين يأتيان مع رجال البحيرة تبوح بسرها. وسُيدهشها أن تجد الكثيرين يصدقونها، فالملامح كانت مألوفة لهم دائماً.

-      ومن ينساهما؟

وتصيح زكية: آه. كراوية. والنبي ما عرفته من غير العمة.

وتتصدى امرأتا عفيفي وكراوية لما يقولونه، وستكونان حازمتين وطويلتي اللسان في ردهما على ما يقال. وستقول امرأة عفيفي لنسوة تجمعن على عتبة الدكان:

-      إذا كان عفيفي كما يقولون فلمَ لم يدخل بيته؟ ومن أغضبه؟ وحتى لو أغضبناه؟ هل رأيتن في الدنيا رجلاً مهما كانت صفَتهُ يمر على بيته كالغريب؟

-      معك حق. يمكن الست آه. إنما الرجل لأ. يموت ويقول بيتي.

وتقول امرأة عفيفي:

-      ولو قلنا أن عفيفي وكراوية كما يقولون. فهل يساعدان في تكسير المقهى والدكان؟ لم نسمع أبداً عن رجلُ يُحرق بيته.

-      كله إلا دي.

ويتحول الكلام إلى همس بعيداً عن المرأتين، ويعلن البعض عن نيته اقتناصهما النوة القادمة، وستمر نوة وأخرى ولا يأتيان.

وستخرج بنات عفيفي وكراوية إلى الشارع. ثلاث في سن الزواج واثنتان أصغر قليلاً، لم ينجبا غيرهن، يتلفعن الطرح السوداء، حتى الصغيرة منهن، يسرن إلى الدكان. الشباشب في أقدامهن تصدر صوتاً كالفرقعة. يجلسن في التعريشة حيث اعتاد عفيفي وكراوية أن يقضيا فترة الظهيرة. يراهن الذاهب والآتي خلف الغاب المضفور، يأتين في الصباح ويعدن مع المغرب. هن لا يفعلن شيئاً، ولا يساعدن امرأة عفيفي حين يشتد الزحام في الدكان. يجلسن ساكنات وعيونهن على الشارع. يتبادلن القليل من الكلام في همس، ونادراً ما يتركن مقاعدهن المصفوفة بامتداد السياج. وسيسكت وجودهن الدائم الكثير من الغمز والتلميح وما يفعله الصغار أمام الدكان من تقليد لحركات عفيفي وكراوية أثناء سيرهما أو وقوفهما مستندين للعصا.

وفي اليوم التالي لخروجهن سيتمهلن قليلاً أمام بيت زكية. يرونها جالسة على العتبة تنظر إليهن وتبتسم، وربما بدا في ابتسامتها ظل من الشماتة، وقبل أن تعي ما يحدث سيكون قد طٌرحّ بها إلى الشارع. وستقاتلهن بشراسة، وتَسقط الطرحة عن شعرها المصبوغ بالحناء، ورغم محاولاتها المستميتة يستطعن أن يُشًلحنها، ويبدو للجميع لباسها المرقع، ويتركنها مهلهلة وسط الشارع تلملم نفسها وتلطم، ويسرن في خطوتهن المعتادة إلى التعريشة.

ويلتم شمل الأسرتين في بيت كراوية الأكثر اتساعاً. وتختفي البنات في البيت مرة أخرى، ويعود الأهالي لما كانوا عليه، لا يتذكرون من الحكاية غير العلقة الساخنة التي نالتها زكية ولباسها المرقع.

وتبدو النوة في الأفق. تغلق المرأتان المقهى والدكان، وتمضيان في الشارع المظلم. الريح تُصَفر، تهتز لها الأبواب والنوافذ. تهمس امرأة عفيفي:

-      أتعرفين ما أخشاه؟

-      أعرف.

-      لو أن ما رأته زكية!

-      آه.

-      أتصدقينها؟

-      ولم لا أصدقها.

-      أنا أيضاً.

تبطئان من خطوهما وقد اقتربتا من البيت، وتترامي إليهما ضحكات البنات، وتقول امرأة كراوية:

-      وافرضي أنهم مسكوهما كما ينوون؟

-      يكون أرحم.

تتوقف امرأة كراوية محدقة إليها. وتقول امرأة عفيفي:

-      ولو خطر لهما أن يأتيا عن طريق البحر كما يفعل بعضهم!

-      يا خبر!

تتبادلا النظرات في صمت، وتقول امرأة عفيفي:

-      وحتى لو كانا تعلما العوم هناك!

وتقفان لحظة واجمتين تحدقان نحو نافذة البيت المضيئة.

وستكتمان مخاوفهما، تتهامسان بها حين تصبحان بعيدتين عن الأعين، وسيرعبهما أكثر من أي شيء أن تعثر النسوة اللاتي يخرجن للشاطىء أيام النوة على جثتيهما عاريتين، وينظرن إلى عورتيهما، وربما مددن العصي إليهما كما يفعلن مع الجثث الأخرى.

وتُخفض امرأة عفيفي عينيها ويحمر وجهها وتهمس في صوت مبحوح.

-      لأ. عيب.

-      آه. عيب.

وستكون قد مضت أكثر من نوة دون أن يلفظ البحر جثثاً. غير أن ذلك لن يطمئنهما وستنتظران مجىء النوة. وتخرجان. تطوي كل منهما ملاءة تحت إبطها، تتفاديان الخلاء أمام المضيق حيث اعتادت النسوة أن يتجمعن للذهاب إلى الشاطىء، تمضيان إلى الجهة الأخرى وسط كثبان الرمال في خط مائل يصل بهما إلى الصخور على شاطىء البحر، وستذكران دون دهشة أنهما لم تذهبا الشاطىء من قبل. وسيفزعهما البحر الهائج والهدير الصاخب وجبال الأمواج الرصاصية التي تلوح عن قرب، ترتعشان في وقفتهما، تكاد الريح العاصفة أن تطيح بهما. تتحركان. تتشبث كل منهما بالأخرى، حذرتين في خطوهما، بعيدتين عن المياه، تغوص أقدامهما في الرمال المبتلة، ورذاذ حاد يلسع وجهيهما. تفاجئهما حفر ممتلئة فتسقطان، الجو معتم غير أنهما تريان ما يطفو على المياه القريبة. تقطعان الشاطىء من الصخور حتى تقتربا من المضيق ويلوح لهما الخلاء أمام البيوت غارقاً بالمياه، وتصعدان كثبان الرمال عائدتين.

وستخرجان مع كل نوة تأتي، يدفعهما هاجس لا يهدأ، وتكون قد مضت خمسة أعوام على رحيلهما، ونسيهما الأهالي بعد أن ترقبوا مجيئهما مع رجال البحيرة دون جدوى، وستراودهم الشكوك فيما سبق أن رأوه، ويقولون إن الأمر لابد اختلط عليهم وسط الأمطار والشوارع المظلمة، ولولا ما قالته زكية ما ذهب بهم الظن إليهما.

وتخرج المرأتان في الجو العاصف قاصدتين الشاطىء. وتقول امرأة عفيفي:

-      قلبي يحدثني، أنها النوة.

-      ربك يُلطف.

وتجنبان المياه المتدفقة وقد أمسكت كل منهما عصا تتفادى بها الحُفر المختفية، وتلمحان الفجوة في الرمال حيث تجمعت المياه في بركة صغيرة، وتنحرفان للدوران حولها. وتقف امرأة عفيفي مُحدقة في البركة، وتهمس امرأة كراوية من ورائها:

-      هما؟

-      هما.

يطفوان متباعدين، وقد التصق كل منهما بجانب من البركة، تهزهما دفقات المياه. الهلاهيل التي يلبسانها مشمورة إلى الكتفين. تسحبانهما واحداً بعد الآخر وتمددانهما على الرمال الجافة، تُفرغان فميهما من الطحالب، وتُنظفان أنفيهما وأذنيهما وتلُفان جسديهما العاريين بالملاءتين، وتجلسان عند رأسيهما.

***

 

ورحــلــــوا...  

(16)

كانوا قد جاؤوا من قبل. نصبوا خياماً على الشاطىء، وأقاموا سداً من الخرسانة على فوهة المضيق من ناحية البحر، وبعد أيام أقاموا سداً آخر وراءه تفصلهما خطوة. كان الأولاد يسيرون فوقهما مفتوحي السيقان إلى الضفة الأخرى. ورحلوا.

ثم عادوا. نصبوا خيامهم يوماً واحداً، وأحرقوا الحشائش والعشب على ضفتي المضيق وبامتداد شاطىء البحيرة. خَلُفَ الحريقُ بقعاً سوداء تنفث دخاناً يومين متتاليين. أمواج البحر الهائجة تضرب السد في عنف وترتد مُزبدة. تأتي متلاحقة يتردد صوت ضرباتها في عمق البحيرة. تفتر أحياناً، تتهادى في كسلٍ أمام السد، تلعقه في صوت كالفحيح وتمضي.

ضَحل المضيق وركدت مياهه، وتعرى جانباه بما فيهما من فجوات كثيرة وشقوق وأحجار سوداء، تفوح منه رائحة عطن. وتملأه طحالب تقذفها البحيرة من حين لآخر.

ورأينا الخيام مرة أخرى منصوبة عند الصخور على شاطىء البحر. كانت الأعمدة الخرسانية تنمو هناك بعيداً عن أعيننا. رأيناها صغيرة كالأوتاد، ثم كبرت وأصبحت سامقة تقطعها أعمدة أخرى جانبية. كانت كالهياكل والجرافات تجري حولها، وانتظرنا أن تمتلىء الفراغات بينها ويصبح لها شكل.

نجلسُ في العصر أمام البيوت ننظر إليها، ونرى ظلالها العملاقة تمتد بعيداً على الشاطىء. كانت تزحف نحونا تتقدمها الجرافات.

رسا قارب أسود ذات يوم بمدخل المضيق. نزلت منه امرأة تتوكأ على عصا يتبعها رجلان. ساروا على ضفة المضيق، ثم جلسوا هناك. كانوا ينظرون إلى الجرافات وما تُثيره من غُبار كثيف. جلسوا ما يقُرب من الساعة ثم أخذوا يحفرون. أخرجوا عظاماً وضعوها في جوال وجمجمة مسحت عنها المرأة التراب بذيل جلبابها، وتبادلوا النظر إليها قبل أن يضعوها في الجوال. وأخرجوا صندوقاً لم يفتحوه. سُووا الحفرة وساروا عائدين ومعهم الجوال والصندوق، والتفتت المرأة قبل أن تصعد القارب وأشارت بعصاها نحو البيوت، ونظر الرجلان حيث تُشير.

وانطلق القارب إلى عرض البحيرة.

***