نوافذ صغيرة

محمد البساطي

توقفت حركة المرور. كانت الشوارع الأربعة المزدوجة تتقاطع في ميدان صغير تتوسطه نافورة جافة تهدم حوضها. فزعت الفئران المختبئة بها وقفزت هاربة. أربعة من ضباط المرور برتب كبيرة وقفوا على رأس الشوارع المكدسة بالعربات يصدرون أوامرهم بأجهزة لاسلكي كانت في أيديهم، وضباط برتب صغيرة وجنود انتشروا على النواصي. كانوا قد افرغوا أحد جانبي شارع من العربات والمارة، وقيل أن مسئولا على وشك أن يمر به، وموتوسيكلات يسبقها صوت " السارينة " تمرق من حين لآخر تستكشف الطريق.

الوقت صباحا. رغم ذلك كانت الشمس ساخنة. جففت عرقي وهبطت من الأتوبيس، قلت ـ وقد بدا أن التوقف سيطول ـ آخذها مشيا إلى مكان عملي وكان يبعد بمسافة خمس محطات. مثلى كثيرون. وازدحم الرصيف. معي فطوري بكيس من الورق، قلت أتناوله أثناء سيرى بدلا من المكتب. مررت في طريقي بأتوبيس حضانة. الصغار داخله يغنون ويهللون، وبعضهم وقف على المقاعد ينظر من النوافذ، وعندما يرتفع صوت سارينة موتوسيكل قادم يتوقفون عن الغناء ويهتفون:

- يعيش. يعيش. يعيش.

ركاب التاكسي والعربات الملاكي خرجوا من داخلها ربما بسبب الحر ووقفوا على الرصيف في ظل الجدران وراحوا يتصفحون ما معهم من جرائد.

كنت أقترب من عربات السجن الأربعة، وكانت في وقفتها تكاد أن تلتصق بالرصيف، لونها الأزرق لفت نظري وأنا على بعد. صناديقها الكبيرة من الحديد، ونوافذها صغيرة مرتفعة عليها قضبان، وشرطي يجلس على مقعد بجوار بابها الخلفي والترباس الضخم المغلق في متناول يده. في قعدته كان ساكنا وفوهة البندقية بين ساقيه تلمع في وهج الشمس.

جففت عرقي للمرة الثانية وواصلت السير، أمضغ فطوري في بطء مفتقدا جرعة ماء، مررت بعربات السجن الثلاث الأخيرة متجنبا النظر إلى نوافذها وقد التصقت بقضبانها وجوه من الداخل، كدت أتجاوز العربة الأولى حين سمعت نداءً هامسا:

ـ يا أستاذ..

التفتُ. ذراع ممدودة من بين قضبان نافذة العربة وورقة نقد بين أصابعها. كنت على بعد خطوتين، ترددت، انسحبت الذراع إلى الداخل، ثم عادت للظهور وورقة النقد ما تزال بين أصابعها. أبحث بعيني في النافذة عن صاحبها، وانتبهت إلى انه يصعب أن ينظر من النافذة ويمد ذراعه في وقت واحد. وجه آخر ملتصق بالذراع الممدودة كان هو من كلمني:

ـ لو سمحت علبة سجائر كليوباترا وكبريت.

لمحت كشكا للسجائر وكان بعيدا، ربما لا يسمح الوقت، حين عدت بنظرى للنافذة كانت الذراع اختفت، اقتربت نصف خطوة، عادت للظهور والورقة النقدية بطرف إصبعين، همس الوجه الملاصق لها:

ـ لا تؤاخذنا. يرانا من الكابينة. في المرآة.

تذكرت علبة السجائر في جيبي، دسستها والولاعة في اليد الممدودة التي اختفت في لمح البصر.

ـ ممنوع يا أستاذ.

صرير باب العربة، وأطل وجه ممتلئ شديد السمرة، رتبة صول، بيده كوب شاي نصف ممتلئ، تلاقت نظراتنا، وعادت رأسه إلى داخل الكابينة تاركا الباب مواربا.

ـ لا تهتم به. مجرد كلام.

ـ كل وقفة يقوله لمن يقترب.

 أطوي الكيس الورقي بما تبقى من فطوري، وأنظر للوجوه المتزاحمة على النوافذ، هم على ما يبدو فهموا ما أقصد:

ـ فطورك يا أستاذ. إحنا فطرنا.

صرير باب الكابينة، وأطلت ركبة الصول المثنية وكأنما يتأهب للنزول، وظل الباب نصف مفتوح.

ـ وكيف الحال ؟

ابحث بين الوجوه عمن سأل. وأرى وجها يبتسم. همست في صوت خافت:

ـ ماشى.

ربما قرأ حركة شفتي. همس في صوت أعلى من صوتي:

ـ آه ماشى. ومن يمر ؟

أشرت بيدي أنني لا أعرف. همس:

ـ صحيح بعد أن يمر نعرف.

ـ وعملك بعيد ؟

ـ هنا غير بعيد.

ـ وزارة ؟

ـ آه. وزارة المواصلات.

ـ أعرفها. مبنى كان لونه أصفر. والسور. آه كان له سور نص حجارته وقعت.

ـ هو.

ـ تأخرت ؟

ـ يعنى.

ـ الميعاد كان الساعة الثامنة.

ـ ومازال.

ـ ولا حاجة تغيرت ؟

ـ سجائرك خفيفة.

صرير باب الكابينة. خرج الصول متمهلا، سوى أطراف سترته. تجاهلني ومشى بامتداد العربة. ضرب جانب الصندوق بعصا في يده ضربات متلاحقة. وصل إلى نهاية العربة ورجع، وقف بجوار الباب المفتوح.

الوجوه اختفت من النوافذ، ودخان السجائر يتسرب منها فيما يشبه حلقات تتماوج خفيفا، ظلت في تماسكها حتى ابتعدت عن القضبان.

استدرت مواصلا طريقي.