حوار مع محمد البساطي

أكتب عن العالم الذي عشت فيه وشخصياتي من المهمشين

فتحي عامر

فاز الروائي محمد البساطي  بجائزة العويس للابداع الروائي والقصصي، وتقاسم معه الجائزة القاص السوري زكريا تامر. ويأتي فوز البساطي بالجائزة تتويجا لرحلة أدبية عمرها حوالي 35 عاما، بدأت عندما لفت الأنظار اليه بصدور مجموعته القصصية الأولى الكبار والصغار في منتصف الستينيات.
وخلال هذه الرحلة الأدبية أصدر البساطي 7 مجموعات قصصية و8 روايات ويكاد عالمه الأدبي أن يكون واحدا في قصصه ورواياته فهو شديد الاحتفاء بالشخصيات المهمشة التي تواجه مصائرها في الحياة، غير مكترثة بزيف المظهر الاجتماعي الخادع،
وغير معتدة بعادات وتقاليد تطمس الحقيقة الانسانية، وتحيل الانسان الى كائن آخر غير نفسه.. ومعظم أعمال البساطي تدور عند أطراف القرى والمدن، حيث يلتقط شخصياته الأثيرة، ويدخل بها في مواجهة أقرب الى المحنة، وقد تكون المواجهة في عرض البحر أو في مغارة من مغارات الجبال، حيث المتاهة التي تمتحن المصير الانساني وتصهر الشخصية في أتونها.
وينتمي البساطي الى جيل أدبي أطلق عليه النقاد جيل الستينيات، وهي الفترة الزمنية التي بدأوا فيها الكتابة الأدبية، وينتسب لهذا الجيل أدباء مثل ابراهيم أصلان، ويحيى الطاهر عبدالله، ويوسف القعيد، وإدوار الخراط، وغيرهم. وتعكس أعمالهم بشكل أو بآخر دراما التحولات الكبرى التي عاصروها منذ صعود ثورة يوليو حتى انكسارها، عاشوا توهج الحلم الوطني والقومي وانفعلوا به وعاشوا إنطفاء الحلم ومتاهة السير في ليالي الانطفاء.

وتتميز أعمال البساطي في سياق جيله بعدم الزعيق، فهو ينحاز أولا للفن ويعبر عن المأساة الانسانية من خلال هموم شخصياته البسيطة ومن خلال أحلامها، وهو يكتب بلغة منتقاة بعناية: تهمس ولا تزعق، تومئ وتلهم ولا تبوح، ولعل روايته الأخيرة ليال أخرى قد تجاوزت هذا المنهج قليلا عندما تناولت شخصيات كان لها وجودها العياني في الواقع الثقافي مثل صالح جودت وفتحي رضوان وحلمي مراد. والرواية في عمومها مكتوبة عن مرحلة التحولات العاصفة التي وقعت في السبعينيات، عندما عصف السادات بالمثقفين واختار الصلح مع اسرائيل والتحول بالاقتصاد والمجتمع الى وجهة مغايرة لما كان عليه الحال قبل ذلك.
وقد يختار البساطي مجموعة من النسوة العجائز اللائي فقدن أزواجهن في الحرب، ويصنع من زوجات الشهداء روايته أصوات الليل التي تدور أحداثها في قرية مصرية عن عجائز تتزايد أعدادهن ثم يركبن القطار الى المدينة لصرف معاشهن عن الشهداء، وتدور الرواية كلها في عالم العجائز فيعدن بالذاكرة الى أزواجهن ويفتحن جراحا كبيرة. وقد تغري البساطي فترة الحرب العالمية الثانية فيدخل في أتونها ويحكي سيرة تبدو للوهلة الأولى سيرة صبي في القرية كما في روايته القطار التي تتطور الى سيرة وطن بأكمله يتلظى بنيران حرب لا ناقة له فيها ولا جمل. وهكذا يصنع البساطي الذي ولد في قرية تطل على بحيرة المنزلة قبل 60 عاما عوالمه وفي هذا الحوار الخاص لـ «بيان الثقافة» سألنا فأجاب:

ـ ما هو أثر فوزك بجائزة العويس على مشاعرك وما هو رأيك في الجائزة؟
ـ فقال: أنا سعدت جدا بحصولي على جائزة العويس وأعتبرها تكريما حقيقيا لمسيرتي الأدبية وانتاجي الأدبي أما عن الجائزة في حد ذاتها فأرى أنها أهم الجوائز في العالم العربي وأكثرها احتراما، وهذا ما تأكد للجميع خلال السنوات الماضية منذ وجود الجائزة، فقد اكتسبت مصداقية كبيرة من اختياراتها ومن لجان التحكيم التي تمنحها، فهي لجان محايدة ونزيهة وتمنح للأديب والكاتب على أساس جودة انتاجه
وأثر هذا الانتاج في الثقافة العربية بغض النظر عن الانتماء السياسي أو الايديولوجي للأديب وبغض النظر عن المدرسة أو الاتجاه الفني الذي يتبناه، فالجائزة هدفها تكريم الكتابة الجيدة ويكفي أنه قد فاز بها أهم وأكبر الكتاب والأدباء والمفكرون في العالم العربي ويشرفني أن أكون بين هؤلاء.

ـ قلت ان الجائزة تكريم للكتابة الجيدة، ودعنا نتوقف عند طريقة الكتابة الأدبية بالنسبة لك.. كيف تبدأ كتابة العمل الأدبي - قصة أو رواية - وكيف يأخذ هذا العمل مساره؟ هل يسير وفقا لخطة تضعها في البداية؟
ـ الأصل في كتابة العمل الأدبي بالنسبة لي أنه ينحرف عن أي تخطيط مسبق، هذا إذا كانت هناك خطة من الأصل، وكتابة القصة غير كتابة الرواية، وقد قلت غير مرة أنني كاتب قصة أولا أما كتابة الرواية فإنها تأتي بمحض الصدفة بمعنى أنني عندما يسيطر على نفسي هاجس أو فكرة فإنها تتشكل دون تخطيط في شكل قصة قصيرة، ثم بعد فترة أجد أن هذه القصة لم تعبر بشكل كامل عن العالم الذي أريده،
فالفكرة أو الهاجس الذي تشكل في البداية في شكل قصة قصيرة يتطور، وتتفتق منه أفكار وهواجس وعوالم أخرى لم تكن في الحسبان منذ البداية، بمعنى أن الأحداث والشخصيات تتطور أو تنبثق منها أحداث وشخصيات أخرى مختلفة، وهكذا أجد نفسي بإزاء عالم آخر، أو امام عالم جديد متسع، يأخذ شكل الرواية وبداية هذا العالم الجديد تنبع من ذروة متطورة مفتوحة الاحتمالات في نهاية القصة القصيرة.

ـ وماذا عن البداية؟
ـ البداية قد تكون فكرة أو هاجسا يطارد الانسان أو قد تكون ضوءا خافتا يحيلك الى أغوار الذاكرة أو قد تكون واقعة طريفة حدثت بالفعل في الواقع. وأذكر على سبيل المثال، أنني كنت أجلس مع صديقي الناقد فاروق عبدالقادر، وكان يتحدث عن واقعة سرقة طريفة حدثت في محافظة الشرقية عندما سرق اللصوص ذيل تمثال حصان البطل أحمد عرابي من ميدان عرابي بمدينة الزقازيق، وهو تمثال من النحاس لعرابي الذي يمتطي حصانه ووضع في الميدان ليذكر الناس بثورة عرابي ووقفته أمام الخديوي توفيق راكبا حصانه ومطالبا بمطالب الشعب. المهم أن هذه الواقعة التي رواها فاروق عبدالقادر ظلت معي وكتبت حولها قصة ثم انبثقت عنها قصتان أخريان ونشرت في مجموعة ساعة مغرب.

ـ من الملاحظ أنك كتبت أعمالا كثيرة عن الريف بالرغم من أنك تعيش في المدينة منذ ثلاثين عاما فكيف تكتب عن الريف؟
ـ أكتب عن الريف الذي عشته والذي هو باق في الذاكرة، وأنا لا أطرح مشاكل الريف بالمعنى الطبقي الاجتماعي، مثل العلاقة بين الفلاح والاقطاعي، أو بين المالك والمستأجر، فهذه الأمور استهلكت في الكتابة وكتبها باستفاضة عبدالرحمن الشرقاوي في رواية الأرض وكتبها يوسف إدريس وكتبها غيرهما. أنا أختار نماذج إنسانية من الريف وأعبر من خلالها عن الهم الانساني العام، ودائما ما يكون الاختيار من الفئات المهمشة في الريف أو التي تعيش على أطراف الريف، وهذه الفئات تعيش عالما إنسانيا ثريا من الحكايات والوقائع والثقافة الشعبية وهو عالم غني للأديب اذا ما اراد أن يتزود به.
وبشكل عام فإنني أحب أن أكتب عن عالم عشت فيه أو عايشته وعاينته فتكون قد نشأت بيني وبين وقائع العمل وأحداثه وشخصياته علاقات حميمة، فرواية التاجر والنقاش عن أناس عشت بينهم في أسوان، والمقهى الزجاجي عن وقائع وأحداث عشتها في المنيا، فأنا مع المعايشة الحياتية للعمل الأدبي لأنك عندما تعايش العمل الأدبي يخرج وحده بشكل طبيعي وتلقائي وبعيداً عن الافتعال
.

ـ يبدو أن هذه المعايشة كانت أكثر وضوحا في رواية ليال أخرى وهي روايتك الأخيرة. فقد ذكرت فيها أسماء بعينها من الحركة الثقافية والسياسية في عقد السبعينيات، مثل صالح جودت وفتحي رضوان وحلمي مراد؟
ـ ليال آخرى كتبتها عن لحظة تاريخية محورية في تاريخ مصر السياسي والثقافي، وهي لحظة التحولات التي وقعت في عقد السبعينيات، وكانت بمثابة الانقلاب على ما قبلها وعندما ذكرت الأسماء التي ذكرتها في العمل فلأن لها مواقف معينة، أو ارتبطت بوقائع تاريخية مثل واقعة الشاعر صالح جودت وحديثه مع السادات في نقابة الصحفيين، فقد كان هناك موقف تمثيلي بالفعل، وكأنه معد سلفا، عندما وقف السادات يتحدث - وكأنه يمثل - عن الميراث الثقيل الذي يحمله على كاهله بعد رحيل عبدالناصر، كان السادات يبدو مهموما الى درجة تثير التعاطف الشديد، وهنا برز صالح جودت من بين الصفوف ووقف يقول للرئيس: يا سيادة الرئيس دعنا نحمل عنك قليلا من هذا الهم الثقيل الذي تحمله وحدك .. فقال له السادات: إجلس يا صالح .. هذا قدري وأنا كفيل به .. وكان الجميع يعلم أن السادات بدأ يسير على عكس خط عبدالناصر، وكان صالح جودت ضمن الكتاب الذين شنوا حملة هجوم ضد عهد عبدالناصر ومهدوا الطريق الآخر للسادات.

ـ تبدو روايتك القطار وكأنها سيرة ذاتية؟
ـ الحقيقة أنا كتبتها بايقاع السيرة الذاتية، لكنها في النهاية ليست سيرة ذاتية لشخص، صحيح أن القارئ يمكن أن يلاحظ مسيرة ذلك الصبي الشقي في القرية ونمو الشخصية وتطورها مع الأحداث، وصحيح أن في شخصية هذا الصبي أحداثا حصلت لي وأحداثا وقعت لأصدقاء وأناس أعرفهم، ولكن رواية القطار في الاجمال مكتوبة عن سنوات الحرب العالمية الثانية، وما وقع فيها لمصر من أحداث، وكانت فترة خصبة وعاصفة وهي فترة تحولات أيضا تغري بملاحظة المشهد كله وآثار الحرب على مصر وعلى العالم إذن هي في النهاية سيرة وطن في مرحلة مهمة من تاريخه أكثر مما هي سيرة فرد.

ـ نعود الى الريف الذي كتبت عنه عدة روايات، وهذا يشكك في المقولة النقدية التي ترى أن الرواية هي فن المدينة أو هي التعبير الفني عن الطبقة الوسطى في المدينة.. ما رأيك؟
ـ الروايات الكبرى - كما يقول جونتر جراس - تنبع من الريف وعلى هذا الأساس فإن القول ان الرواية هي فن الطبقة الوسطى في المدينة هو قول مشكوك فيه ولا مانع من أن تتناول الرواية حياة الطبقة الوسطى في المدينة، ولكن ليس معنى هذا أنها مقصورة على حياة هذه الطبقة أو على المدينة، وربما يكون هذا القول منبعه أن حياة الطبقة الوسطى في المدينة كثيرة التناقضات وبالتالي فهي حياة ثرية ومتنوعة وتغري بالكتابة.

ـ ما الفرق بين النصوص التي كتبها جيلكم والنصوص التي تكتبها الأجيال الجديدة؟
ـ الفرق يأتي من الحياة التي عاصرها جيلنا والحياة التي تحياها الأجيال الجديدة، فجيلنا كان مهموما بقضايا سياسية واجتماعية وتحولات عاصفة لأننا عشنا مآسي الوطن، عشنا قبل الثورة وعشنا انكسارها وعشنا نكسة 1967 وعشنا الارتداد على الثورة، أما الأجيال الجديدة فلم تعاصر هذه الأحداث والمآسي وبالتالي ليس مطلوبا منها أن تكتب نفس النصوص التي كتبناها. وربما تكون الأجيال الجديدة معاصرة لما هو أسوأ مما عاصرناه، فهي تعيش حياة مليئة بالفساد والركود وتشعر بالانهزامية أمام الأجنبي ويظهر هذا في كتاباتهم، فهي مليئة بردود الأفعال المحبطة والانطواء على الذات والتوقف عند الرغبات القريبة جدا وهذه المرحلة سوف تتلوها مراحل أخرى.

ـ هل هناك كتابات جيدة فيما تكتبه الأجيال الجديدة؟
ـ هناك كتابات جيدة بالفعل على المستوى الفني وهناك كتابات رديئة، وضمن الكتابة الرديئة أن يقلد الكاتب كتابا آخرين ويستمر في هذا التقليد دون أن ينتبه الى صوته الخاص أو اسلوبه الخاص، كأن يقلد نجيب محفوظ فيظل أسيرا لطريقته في الكتابة ولا يتحرر منها.

ـ ما هي شروط الكتابة الجيدة؟
ـ الكتابة الجيدة تفصح عن نفسها فيما تومئ به وفيما تهمس وتوحي به، وفيما تشع به من جمال، وأنا لا أميل الى الكتابة الزاعقة، التي تفضح نفسها بالكشف مباشرة عن مضمونها، والتي ليس لها غير دلالة واحدة، فهذه أراها كتابة فقيرة لأن القارئ لا يعود اليها مرة ثانية. انظر مثلا الى ما كتبه تشيكوف، هناك قصة عنوانها موت موظف هذه القصة قرأتها عشرات المرات وفي كل مرة أقرأها قراءة جديدة وأخرج منها بدلالات جديدة دون ملل، تلك هي الكتابة الجيدة.

 

بيان الثقافة - ديسمبر 2001