الأسئلة المقلقة في رواية «دق الطبول»

ماجدة حمود

أسئلة العنوان:
تأخذ رواية
"دق الطبول"(1) لمحمد البساطي بيدنا إلى عالم مقلق يثير الفزع، أشبه بعالم اللامعقول، رغم أنه شديد الواقعية! إنها تنذرنا بضياع حياتنا، حتى بات الإنسان أشبه بآلة انتـزعت روحه منه (لا يستطيع التعبير عن ذاته، يدوس كل القيم النبيلة،...) إنه يغفو على إيقاع حياة رتيبة كئيبة، مشدودة خيوطها براتب آخر الشهر يتقاضاه الغريب في بلد لا مزية له سوى المال!! بلد يستلب روح الإنسان مقابل أجرته، لهذا لن يقرع الروائي جرس إنذار عادي، إذ لن يكون بإمكانه إيقاظنا من غفوتنا وبؤسنا، فنحن أحوج ما نكون إلى دق طبول تعيدنا إلى براءتنا الأولى، فنستطيع تحقيق معجزات، تمكننا من تجاوز ضعفنا وانهيار كيوننتنا الإنسانية!

أسئلة التوطئة
نسمع صوتا أرهقه الألم يناجي "هو بعيد، ويزداد ابتعادا كلما كبر، أكتفي بمشاهدته عن بعد ، ربما كان اقترابي لا يريحه
."

أعتقد أن مثل هذه التوطئة المؤسية استمرار للعنوان الذي يدق طبول الإنذار علّ الإنسان العربي المهووس بدنيا الدولار يستيقظ من دماره! كما أنها تستدعي أسئلة جوهرية: من هو هذا الكائن البعيد" أ هو إنسان أم حلم؟ تأتي الجملة التالية لترجح الحلم فهو بعيد، وكلما كبر يزداد ابتعادا، لكن جملة "ربما كان اقترابي لا يريحه" تؤكد أن ثمة إنسانا ما نتشوق لمعرفته، لذلك تثور في داخلنا أسئلة من هو المتحدث امرأة أم رجل؟ من هو صاحب الضمير الغائب؟ ولماذا لا يرتاح لاقتراب هذا الآخر منه؟

وبذلك تمكن الروائي عبر العنوان والتوطئة من جذب المتلقي إلى عالم روايته، التي يبدو أستاذا في تقنية الجذب والتشويق، فقد استطاع أن يشوق المتلقي، ويجعله يتساءل باستمرار، ما الذي سيحصل بعد ذلك؟ مما يحفّزه على متابعة القراءة! أسئلة الشخصيات لن تتحدد معالم الشخصية إلا حين يخلو الفضاء المكاني (الإمارة) من سكانها الأصليين الذين رحلوا جميعا إلى فرنسا لتشجيع فريقهم في كرة القدم، ولم يبق فيها سوى العاملين من جنسيات مختلفة (عرب، هنود باكستانيين...) كأن وجود أصحاب المكان هو نفي لحياة هؤلاء الذين يعيشون في خدمة السكان الأصليين، لهذا ما إن يعودوا حتى تختفي هذه الشخصيات، فيجعل الروائي خاتمة الرواية تعلن عودتهم، التي هي نهاية لحياة المهمشين والغرباء!

لهذا يجد المتلقي نفسه يتساءل مجموعة أسئلة مقلقة، لماذا لا تتسع الأرض بما فيها من ثروة لكل الناس؟ ألا يقتل الإسراف الروح كما يقتلها الفقر؟ ألا يشبه البذخ العوز في انتـزاع إنسانية الإنسان؟

سنجد تصديقا لهذا القول عبر شخصيتي السيدة أم سالم (وهي تجسد نقيضا لاسمها فهي معطوبة جسديا وروحيا) وجليستها زاهية (القاتمة النفس تجسد أيضا نقيضا لاسمها) قد يبدو الفارق بينهما شكليا (الأولى كبيرة الحجم إلى درجة لا تستطيع الحركة فقدت قدرتها الحركية وبالتالي فقدت صلاحيتها الزوجية، في حين نجد المرأة التي تعمل لديها جليسة رشيقة القوام تعيش بعيدا عن زوجها وأولادها سنين عديدة) بدت المرأة السيدة أشبه بركام لحم يجتر الطعام والذكريات، وقد استقالت من الحياة، في حين بدت المرأة (الجليسة: الخادمة) أشبه بصدى يردد ذكريات السيدة، فقد ضيعت الغربة ذاتها وخصوصيتها، فباتت دون روح!

تثير الشخصية سؤالا هاما: ماذا يفعل الإنسان حين يفتقد ذاته أي حريته؟ ألا يعيش حياة أشبه بالعبث، لا تعرف الفرح ولا العطاء؟ وهذا ما حصل لـ(زاهية) فقد عاشرت زوج سيدتها بناء على أوامرها! ثم أنجبت للزوجين طفلا بناء على صفقة مع سيدتها؟!!! في زمن يتيه فيه المعقول باللامعقول، نتساءل: كيف بلغنا هذا الدمار حتى وجدنا الزوجة ترتب عشيقة لزوجها، فتختار ملابسها وعطرها؟ والسؤال الأفظع:كيف تستطيع أم أن تجعل ابنها صفقة للبيع؟ كيف تلغي الحاجة المادية إنسانية المرأة، فتقبل أن تكون أداة متعة للرجل، ثم أداة إنجاب له ولزوجته؟

أ إلى هذا الحد تدمر الحاجة المادية الإنسان، فتنتقل المرأة من فضاء العمل الشريف إلى درك العهر!!؟ فتسلخ منها إرادتها التي هي حريتها! لقد تحول الإنسان في هذه الإمارة إلى عبد، عايشنا ذلك عبر نظام العمل الذي بات نظاما للعبودية، إذ لا يحق للعامل أن يعترض، أو أضعف الإيمان أن يطلب إجازة، ليرى أهله! لقد سلبه الأسياد الأغنياء إنسانيته، وسلخوه عن أهله ومشاعره الإنسانية!!

كيف تستطيع المرأة أن تخطط لخيانة زوجها، وتتجاوز مشاعر الغيرة التي تبلبل المرأة عادة، وتكاد تقتلها، أو تدفعها لارتكاب الجريمة! لقد تشيّأت المرأة، حتى إنها تساءل العشيقة عن التفاصيل الحميمة بينها وبين زوجها؟! المدهش في رسم هذه الشخصية السيدة، أنها تنقض مقولة أن من يملك المال يملك كل شيء، لأننا حين نتأمل حياتها نجدها فقدت أهم ما يميز البشر، وهو الإنسانية بكل ما تعنيه من كرامة وإحساس! لقد دمرت الغربة من أجل المال العلاقات الإنسانية، حتى رأينا المرأة الباكستانية (ريشيم) تهرب من زوجها، ويهرب منها، حتى بعد أن سافر الأسياد، لأنها ذكرت في عقد العمل أنها غير متزوجة!

هنا نتساءل: ألم تفقدنا الغربة الدولارية أرواحنا؟ فاخترنا عبوديتنا، وتنكرنا لذواتنا، فقد تاهت ذاكرتنا منا وبتنا نردد ذكريات أصحاب المال، وننسى ذواتنا، أي أهم ما نملك في الحياة، لهذا نسمع (زاهية) تحدث الراوي البطل"كان في نيتي أن أحكي عني، وحتى قبل أن ألمحك، وقلت لو جاء سأحكي عن نفسي، يكفي ما حكيته عنها." لكنها لم تستطع الإفصاح عن أوجاعها، فقد تحولت ذكرياتها وحتى أوجاعها إلى مرآة تعكس فيها حياة الأسياد!!!

أسئلة الفضاء المكاني والزماني:
يتساءل المتلقي: كيف يمكن
أن تتحول الإمارة، في غياب أهلها، إلى ما يشبه المهرجان؟ كيف يمكن أن يتحول زمن الغياب (شهر) إلى عيد يومي، بدأ برحيل الأسياد وانتهى بقدومهم! كيف تتحول المدينة بغياب أصحابها إلى ما يشبه المدينة الفاضلة، فيشيع الفرح والأمان إلى درجة يلغى فيها دور الباعة، فنجد الزبون يشتري ويحاسب بنفسه دون أي رقيب أو محاسب! يملأ الفرح المكان بغياب السادة، فتشيع الفرحة في القلوب، ويعم الرقص وتنتشر المآدب الجماعية في كل حدب وصوب. لكن ثمة من أنهكته الغربة حتى وصل حد ضياع الروح، والرغبة في الحياة (زاهية) فلم يعد الغياب أو الحضور يعني شيئا.

في شهر الغياب هذا عايشنا بؤس سنين مضت، انتـزعت مخالبها أفراح الحياة، وبات معنى الزمن محصورا في اليوم الأخير من الشهر، حيث يتم قبض الراتب! وإرساله إلى الأهل!

أسئلة البناء واللغة:
يذهلنا البناء الروائي
المتخيل بأسئلته، فقد بنيت الرواية على حدث غير عادي وهو تأهل فريق الإمارة للدوري النهائي لكأس العالم، فيشيد الروائي بناءه على هذا الحدث التاريخي، حيث يختفي سكانها راحلين إلى فرنسا لتشجيع فريقهم من أجل أمجاد كروية، هي كل إنجازاتهم؟ ولكن السخرية تطل برأسها في خاتمة الرواية حين يهزم الفريق، لكن الإعلام يحول الهزيمة إلى نصر كالعادة!! وبذلك تبدو الإمارة صورة لكل بلد عربي مهموم بأمجاده الكروية ناسيا الهم الحقيقي! أليس أمراّ مفزعا أن تنـزاح لغتنا المقدسة "إن ينصركم الله فلا غالب لكم" عن مدلولات العزة والكرامة ليتمّ توظيفها من أجل النصر على أعدائنا الكرويين؟!! لهذا لن نستغرب ذلك الدعاء الذي أطلقه الإمام إثر الصلاة، ولن نستغرب انحرافه عن حاجات إنسانية أساسية، يلتمسها الإنسان من ربه، وبات الدعاء محصورا بهم النصر الكروي على الأعداء "اللهم انصر فريق الإمارة!!لهذا وجدنا جموع المصلين متثائبين ألهاهم النعاس عن الخشوع!

أدهشتنا لغة التصوير التي تماثل بين الإنسان والحيوان، فتجعل الموات نصيب كل من يجرؤ على التفكير بحاجاته الإنسانية، فقدم الكاتب معادلا فنيا للإنسان عن طريق تصوير مصير الحيوان الهائج "الذي يندفع نحو كل من يمشي على أربع، كانوا يخصونه أو يذبحونه، فيعود الهدوء إلى القطيع"(ص36)

برع الكاتب في تقديم اللغة المشهدية المليئة بالإيحاءات، فحين أمرت السيدة جليستها (زاهية) بالنـزول إلى الطابق الأرضي، لتتجسس على زوجها، وهي بقميص النوم، اتجهت لغرفتها لترتدي ثوبا فوقه، فزجرتها سيدتها بحركة من يدها، فنجدها تحدث نفسها "أعرفها عندما تظهر ضيقها أو قرفها، ضايقني ما فعلته، وهي تفعل الكثير وأعذرها، إنما القصد، وقفت ساكنة، وهي التفتت نحوي:- مالك؟ البسي الروب، وحتى لو لم تلبسي، وأشا حت بوجهها، لابد أن وجهي احمر، وكنت أمسك نفسي، حتى لا تطفر الدمعة من عيني."

اختزل الروائي الحوار _صوت السيدة كان عاليا، في حين بدا حوار زاهية أشبه بحوار داخلي، إذ لا تجرؤ على المواجهة، لهذا بدا هذا المشهد مختزلا في أضيق الحدود اللغوية، ومع ذلك كان مشحونا بدلالات موحية توسع الهوة بين السيدة والعبدة (البسي الروب، حتى ولم لم تلبسي) فأنت لست امرأة وإنما شيء يقوم بخدمتنا، لهذا لم تعد لجسدها أية حرمة! وبذلك تبدت النظرة للآخر الذي يعمل من أجل المال، لابد أن يسفح كرامته الإنسانية على أعتاب الأغنياء! ويقبل بعبوديته، كل ذلك اختزل في جملة (وحتى لو لم تلبسي) ولكن كنا نتمنى لو أن الكاتب توسّع في رصد عالم المرأة الداخلي وما فيه من صراعات، إذ ليس من المعقول أن يفقد المرء ذاته دفعة واحدة!

بدت لغة البساطي شديدة التكثيف، لذلك لم ينطلق صوت المرأة حراً ليسمعنا نعيش تفاصيل المعاناة، فبدت لنا لغة لماحة شبيهة بالبرق! تومض دون أن تصرح، لعل هذا من أسباب اختراقها القلب دون استئذان.

 

(1) محمد البساطي "دق الطبول" روايات الهلال، عدد (682) تشرين الأول، 2001