جدارية فرعونية من كتاب الجوعى

رواية «جوع» للبساطي.. الكتابة تشكيلا

حاتم حافظ

في البيان السريالي الأول كتب أندريه بريتون عام 1924 مشيرا إلى رواية كنوت هامسون "الجوع"، وخصوصا إلى مقطع يمدح الجوع باعتباره محفزا لحالة من الصفاء النادر، أما البلجيكية اميلي نوثومب فقد كتبت فيما بعد رواية "بيوغرافيا الجوع" وتقوم فيها اميلي بتعريف الجوع باعتباره هو السلم المفضي إلى الحب. كما ترى أن الكائنات التي تولد شبعانة لن تعرف يوماً ذلك القلق الإنساني الباهر الجمال. وتتعدد الروايات التي يحمل عنوانها دال "الجوع" فيكتب يوهان بوجر  "الجوع الكبير" ويكتب جورج أمادو "دروب الجوع"، إضافة إلى روايات عديدة لا تحمل في عنوانها دال الجوع وإن كانت تتخذ من الجوع موضوعا لها. ورغم أن مختار الصحاح والمعجم الوجيز يُعرِّفان الجوع على أنه: خلو المعدة من الطعام. كأنما هو ـ أي الجوع ـ محض تغير بيولوجي في صيرورة الكائن. إلا أن مقارنة "الجوع" في الروايات المختلفة ومقارنته أيضا بالرواية الجديدة للكاتب الكبير محمد البساطي "جوع" الصادرة عن قطاع الثقافة بدار أخبار اليوم تدلل على حقيقة أنه حتى الجوع ليس إلا موقفا أيديولوجيا!. ويبدو أيضا أنه حتى البيولوجي ليس إلا ـ في الحفريات البعيدة ـ أيديولوجيا.

في روايته يدلل البساطي على أن قسوة الواقع وخشونته يمكن بسهولة أن "تجلط" الجلد الرقيق لحداثة بريتون وتخدشه، فالنخبوية التي كانت تدعم السريالية كمدرسة فنية تضرب فرشاتها في أوعية الأحلام، ربما تنهار أمام اختبار الجوع في الجدارية الفرعونية بأطرافها الحادة وسطحها الوعر والتي يقيمها البساطي كصفحة في كتاب الجوعى. وهي جدارية بحق إذا ما فهمنا أن فصول الرواية الثلاثة إضافة إلى الخاتمة تبدأ ـ وربما تنتهي ـ بقعدة سكينة الأبدية على المصطبة تحسب حسابات الجوع وتقيم لوغاريتماته محاولة فك شفرة واقع أدار ظهره من زمن. في الفصل الأول "كعادتها حين ينفد العيش من البيت تصحو سكينة في البكور وتقعد على المصطبة" وفي الفصل الثاني "سكينة في قعدتها على المصطبة، ضاقت من انتظار طلعة النهار" وهي ـ أي سكينة ـ في الفصل الثالث "في قعدتها على المصطبة" وهي أخيرا في الخاتمة "في قعدتها على المصطبة تنتظر طلعة النهار التي اقتربت" رغم أن طلعة النهار تلك على المستوى الدلالي لا يبدو أنها اقتربت بعد!.

الزمن
ورغم هذه القعدة الأبدية التي يفتتح بها البساطي فصوله الثلاثة (الزوج ـ الزوجة ـ الابن) فإن ذلك لا يعني أنها قعدات ثلاث وإنما هي قعدة واحدة تشكل مفردة في تشكيل الصورة التي يرسمها البساطي بجدارة، سكينة الزوجة على المصطبة في انتظار ذلك الذي لا يجيء، في حجرها ينام الصغير منهكا، بينما زغلول يمص أعواد القش، وعلى مقربة منهم الصبي زاهر يعارك قلق الإحساس بفقدان الحماية. إن هذا التشكيل المرئي للصورة في مفتتح كل فصل إضافة إلى تجاور زمن الأحداث في الفصول الثلاثة وتداخله يدلل على أن البساطي لم يسرد حكاية بقدر ما قام بالحفر في الجدارية التشكيلية. إن الزمن يمكن اعتباره زمنا ثابتا، فالرواية لا تتقدم إلى الأمام مع تقدم السرد، حتى أنها لا تتقهقر إلى الخلف مع تذكارات الشخوص، إن الزمن ثابت ثبات الصورة، وما يحدث مع تقدم السرد ليس إلا تقريبا لعدسة السرد في الصورة التشكيلية وفي ثبات الزمن. أشبه ما يكون بحركة الزووم إن المكبرة التي تكشف تفاصيل الأديم فتظهر بثرة كانت مخفية بظلال ما، وبقعة لونية نجح عدم الاكتراث في إخفائها.

 جاع يجوع فهو جائع
تفتتح الرواية بفاصل قصير عن تفاصيل البيت الذي يأوي شخوص الرواية، وهو بيت "جائع" على نحو ما كأصحابه، فقد انتفخ أسفل واجهته بسبب الرطوبة وتساقطت حجارتها، والحقيقة الأهم في تفاصيل البيت هو جملة مكتوبة فوق الباب بفرشاة في لون أبيض: "أدْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمِنِينَ". هذه العبارة القرآنية التي وردت تبشيرا للمتقين بجنة الخلد، وباستدعائها لعبارة أخرى هي: "وقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ"، يوحي وكأن هذه الجملة هي مفتتح كتاب الجوعى، في إشارة إلى الاجتماعي من جهة، وفي تبطين الدلالة بنغمة ساخرة من جهة ثانية. إلا أنها في مجمل الرواية تشير إلى أن الجوع الذي تتكلم عنه الرواية ليس الجوع بمعناه المعجمي، وإنما الجوع الذي يؤرق الشخصيات هو جوع اجتماعي في أساسه، هو جوع إلى السلام والأمن، السلام الاجتماعي، والأمن الاجتماعي ـ كما سوف نرى ـ وما الجوع إلى الخبز والحب والمعرفة إلا تمظهرات لهذا الجوع إلى السلام الاجتماعي.

وتتوزع فصول الرواية بعدها ما بين الزوجة (سكينة) والزوج (زغلول) والابن (زاهر)، و هذا لا يعني أن لكل منهم حكاية قدر ما يعني أن حكايتهم (حكاية البيت الصغير) لها عدة أوجه، وما مسار الحكايات في الفصول إلا تعبيرا عن استراتيجية كل منهم في مواجهة الجوع، ومساهمة كل منهم في التساند لحماية البيت والأسرة، وأعتقد أن توزيع مساحات السرد بين الشخوص الثلاث جاء تعبيرا عن حصة كل منهم في هذا التساند، فزغلول يخصص له مثلا نصف الرواية، ولكن إذا ما أخذنا في الاعتبار هيمنة سكينة على السرد في الحكايات الثلاث فقد نخرج بنتيجة مفادها أن الزوج هنا يلعب دورا محوريا في حدث الجوع باعتباره رب الأسرة وعائلها رغم أن الأسرة هي أسرة أمومية بامتياز كأغلب الأسر في الريف المصري ربما بالأخص فيما قبل الانفتاح الساداتي.

تبدأ الفصول بالزوج زغلول الذي ما أن يأخذ كفايته من الكسل والتسكع حتى يبدأ رحلة جديدة للبحث عن عمل، وما عمل زغلول؟ "هو يجيد أي شيء. قهوجي، مبيض نحاس، شيال. أعمال بناء، سمكرة. لا يبحث طويلاً. يقبل بأول ما يقابله، يشتغل بثلاثة رجال. في المقهى يعمل ورديتين متواصلتين، وينظفها في الفجر بعد السهرة، وينام داخلها، ساعتان كل ما ينامه" غير أن عمل زغلول نادرا ما طالت فترته لأنه ببساطة لا يقبل أن يشتم أحدهم أمه، في وسط ناس "شتيمة الأم مزاج عندهم"، ويبدو أن سكينة التي لا ترى في هذه الشتيمة ما يسوء فإنها على نحو ما تعجب بزوجها، وبكرامته رغم الضيق، هي لا تقول، ولكنها لا تتذمر، ففي كتابة الحذف لا الإضافة التي يعتمدها البساطي، وفي تقشف الواقع الذي تعيشه سكينة والذي ينعكس على تقشف اللغة التي تتحدثها وزوجها، فإن المسكوت عنه في كلامها يكون أكثر بلاغة مما تقوله فعلا باقتضاب.

وزغلول (الذي يمص أعواد القش) لا يشعر بخلو معدته من الطعام فحسب، ولكنه أيضا يشعر بخلو رأسه من المعرفة، وبخلو حياته من الأصدقاء، إن فترات كسله وتسكعه فيما بين عملين ليست إلا محاولة لإشباع جوعه المعرفي والإنساني، خصوصا وأنه في محاولته لفهم كلام الأفندية طلاب الجامعات العائدين لدورهم في إجازة قد لقط عبارة هنا وجملة هناك، لقد سمعهم مثلا يقولون "الواحد المفروض ما يشتغلش كل يوم زى الجاموسة في الساقية. لابد يكون عنده وقت يفكر. طب يا جماعة يفكر في إيه؟ ما قالوش. وعايز أسألهم، وأبص عليهم، وأسكت" كما أنهم سألوا أسئلة غريبة على زغلول "الواحد عايش ليه؟ وأقول في نفسي إلا عايش ليه؟ عايش وخلاص... كلام كتير. وبعد ما مشوا أنا مشيت. ودماغي فيها زيت بيغلي ويطرطش". كما يتكلمون أيضا في السياسة ولكنه "يحس أنهم يتكلمون عن بلاد أخرى لا شأن له بها"، إن كلام الأفندية الذي سمعه يشبه على نحو ما تعليق بريتون على رواية هامسون!. ويبدو أنه كلام لا يؤخر ولا يقدم ولا يشبع من جوع، خصوصا حين يتحول فجأة من الوجودي والسياسي إلى كلام عن النسوان "كلام يقوله أي واحد، ويتحمسون أيضاً، ويصيحون"، ساخرا طبعا من المثقفين الذين يلوكون نظرياتهم بعيدا عن الواقع الخشن، وفي انعزالية شديدة، ثم ينتهون إلى كلام كزبد البحر.

إن العلقة التي نالها زغلول ـ وهي العلقة الوحيدة ربما ـ كانت بسبب غليان عقله بكلام الأفندية، ذلك أنه سأل الشيخ رضوان أستاذ الفقه والشريعة "إن كان سبحانه عايزهم يعبدوه. طيب، يبان بالشكل اللي عايزه ويقول أنا خلقتكم اعبدوني. وساعتها ما حدش حايقول لأ". إن الطريقة التي واجهه بها الشيخ رضوان حين سأل سؤاله المشروع إضافة إلى الطريقة التي أثير بها السؤال في رأسه عن طريق الأفندية يشي بالسخرية من موقف المثقف بكافة صوره، التنويري والتكفيري على السواء، وهو موقف يغترب تماما عن الواقع اليومي للـ "الجائع" الذي حين يسأل زوجته عن الغموس فإنه لا يعني سوى "بصلة أو حبتين ملح"!

أما سكينة ـ التي تشبه شقيقتها في رواية فردوس ـ المعنية دوما بجوع زوجها وجوع أولادها، فتعرف دائما كيف تدير هذا الجوع، كأنما هناك "فن إدارة الجوع"، إنها في أيام كسل زغلول، الأيام التي تفصل بين عملين، تستلف من جاراتها، ولكنها ترد دائما ما تستلفه كي يمكنها الاستلاف مرة أخرى، في دورة أخرى من دورات الجوع، كما أنها "حين يتوفر عندها لا تقصر مع واحدة أبداً"، إن فن إدارة الجوع يعتمد أساسا على آلية التضامن الاجتماعي التي ابتكرها الشعب المصري لمقاومة جوعه التاريخي.

 أما الجوع إلى الجنس فيبدو وكأنه جوع كالرفاهية في عالم سكينة وزغلول، ورغم كم الذكريات التي تنهال على رأسيهما فإن إشباع الجوع الجنسي لا يأتي خبره غير مرة واحدة، لا استحياءً، ولكن لأنه فعلا يأتي على هامش الحياة في كتاب الجوعى، رغم أنه في نفس الوقت هو الفاكهة المتاحة في عالم متقشف، ورغم المرات القليلة التي دعت سكينة زوجها فإنهما لا يتساندا لدخول البيت غير مرة، وهي المرة التي كانا يراقبان فيها العربات المحملة بالخير الوفير في طريقها لأبناء البندر، فيتجاوزان جوع البطن بامتصاص رحيق الحياة الرطيب. وينعكس الموقف في مشهد تال حين يبيتان في البيت الكبير فحين تقول سكينة لزغلول "ولا حتى الواحدة ييجى لها مزاج تعمل حاجة معاك فإنها تستدرك بسرعة "أدينا بنلاقى لقمة كويسة يا زغلول"!

الفضاء السوسيوجغرافي
يكشف التنظيم الجغرافي لفضاء السرد عن الاجتماعي ويدلل عليه، وهي حيلة يعتمدها البساطي في أغلب أعماله، (البحيرة والبحر والعمران في صخب البحيرة) و(رسوخ بيت فردوس في مواجهة البيت الصاخب لزوجها وعياله) وهو هنا ينظم الفضاء جغرافيا جاعلا من البيت الكبير مركزا للقرية ببيوتها، فيقول عن البيت الكبير "حوله خلاء واسع أوقف زحف بيوت الأهالي الصغيرة باتجاهه، كما لو أن هناك خطاً غير مرئي لا يجوز أن تتخطاه"، إن هذا الخط غير المرئي الذي أوقف زحف البيوت الصغيرة يكتسي بالسياسي فتصبح جغرافية القرية هي جغرافية سياسية بالمعنى العام. خصوصا وأن سكينة وزغلول كثيرا ما يجلسان في مراقبة البيت وسكانه وسيارات نصف النقل التي تنقل منه خير القرية للأبناء في المدن البعيدة بينما يمص زغلول أعواد القش!.

إن هذا التنظيم الجغرافي له مدلول اجتماعي واقتصادي بالطبع، فالفصل بين البيت الكبير من جهة والبيوت الصغيرة للجوعى، يوازيه فصل في الأدوار الاجتماعية لأصحاب البيوتات، ورغم ان البساطي يقدم سكان البيت الكبير كأنما هم في طريقهم للزوال، من جهة لأنهم طعنوا في السن وأصابهم المرض، يموت الحاج عبد الرحيم الذي كان زغلول يساعده على دخول الكنيف، وتموت الحاجة صاحبة الدار التي تعمل بها سكينة وفي أثرها زوجها، بينما أولادهم في بلادهم البعيدة، وتغلق الأبواب على خواء في النهاية، ولكن هذا الزوال لا يعني زوال طبقة بقدر ما يعني انهيار العلاقة الأبدية بين الشبعانين والجوعى، وهي علاقة يمكن أن نسميها علاقة تكافل على نحو ما، إن الجوعى لا يسدون جوعهم إلا بتقديم الخدمات إلى أصحاب البيوت الكبيرة، والعناية بهم، بل وحمايتهم إذا لزم الأمر، في مقابل بعض لقيمات وبقايا طعام تسد الجوع إلى حين، وبزوال أصحاب البيوت الكبيرة تنهار علاقة التكافل، وبالتالي فإن الجوعى يعلقون في الفضاء الاجتماعي. ولعل هذا هو السبب في أن سؤال الرواية والذي تنتهي به هو سؤال الفران لزاهر الابن: ايه يا زاهر .. آن الأوان" وكأنما الترحال الذي يقوم به الفران سوف يكون قدر زاهر بعدما يتغيب أصحاب البيوت الكبيرة سواء بالموت أو بالهجران. خصوصا مع امتناع الأمل في تغيير الوضع الاجتماعي الذي يكون له سمت الحتمية، إن زاهر يمكنه أن ينتظر رغيف عبد الله صديقه ولكنه لا يمكن بحال من الأحوال أن يصادق هذا الذي يأكل بمواعيد، إن العلقة التي يلقاها زاهر من والد صديقه لتجاوزه طبيعة العلاقة بين الشبعانين والجوعى والتي تشبه بالطبع علقة تلقاها زغلول فيما قبل دليل على هذه الحتمية وتمظهرا من تمظهراتها.

 لغة المتون

يتقشف البساطي في لغة الرواية إلى أقصى درجة، فتشبه لغة الرواية لغة متون الأهرام، أو اللغة التوراتية، وهي لغة تتقشف تقشف العالم الذي تتكلم عنه، فاللغة هنا كعلامات تسعى كي تتخلى عن طبيعتها الرمزية في سعيها لتحقيق أيقونية شديدة، كي لا تكون دال على، بل تكون هي الشيء ذاته، إن جملة مثل "الشمـس بانت في الأفق، وأشعتها تلمس طرف مئذنة الجامع، والندى فوق تراب الحارة أخذ يجف، وصوت سعلات يأتي من هنا وهناك" لا توحي ولا ترمز ولا تعبر ولا تدلل بل إنها تجعل الشمس والندى والسعلات التي تأتي من هنا وهناك حاضرة لا في السرد فحسب ولكن في الواقع أيضا، إن خشونة أعواد القش التي يمصها زغلول تترك مرارة في حلوقنا. مرارة قد لا نحس بها طالما نحن خارج جدارية كتاب الجوعى الذي لا نعرف عنه شيئا، والذي خبره البساطي، واستدعاه ليمثل أمامنا. عاريا ككتف زاهر من بين مزق جلبابه.