رواية «جوع» لمحمد البساطي

محمد محمد السنباطي

قرأت “جوع” بعد “دق الطبول” فأخذتني الدهشة. لكأنني لم أخرج من واحدة لأدخل في أخرى! بل وكأنني مازلت في “نفس” العالم، “نفس” التناقض، “نفسالرؤى وإن اختلف الأشخاص وتباينت الأماكن. ثمة هاجس يلح على الكاتب، يتملكه وينفلت منه لتظهر أشجاره في أرض غير الأرض وناس غير الناس، ولا أدري إن كنت سأقارن بين الروايتين في هذا المقال أم إنه سيطول ويضطرني لتأجيل المقارنةن إلى مقال آخر منفصل.

بضعة أسطر تمهيدية للرواية بثلاثيتها: الزوج- الزوجة- الابن. بضعة أسطر كأنما تقول لنا هذا هو الحال بالنسبة للأغلبية الساحقة في بلد”ادخلوها بسلام آمنين” ، حيث يصف لنا البساطي ذلك البيت الذي انتفخ أسفله بفعل الرطوبة رغم أن “اللون” مازال زاهياً أما المصطبة فتأخذ تجويفاً عريضاً أشبه بـ “كهف”، ورمزية الكهف لا تخفى على أحد.

القسم الأول عنوانه:الزوج، لكنه يبدأ بالحديث عن الزوجة. إذن لا انفصال بين الأقسام الثلاثة. واسم الزوج زغلول، والزغلول من الحمام الذي سيربيه شرطي السجون والمعتقلات في “أسوار”.

هذا الزوج غالبا لا يعمل. “لا يهش ولا ينش”. يخرج ولا يعود إلا “على وش الفجر بعد أن تخلو المقاهي” ، ولأن البساطي أستاذ في فن القصة القصيرة فإنه يتحفنا في رواياته بالعديد منها، فنقرأ هنا حكاية دولاب أفضى تحطيمه بالعروس إلى طلاق محقق ثم إلى موت فاجع.

وتدور الأيام وزفة فرشٍ أخرى” ، لكن الدولاب هذه المرة لن يتحطم لأن زغلول هو الذي سيتطوع ويحمله بجهد خارق.

الدولاب كان كأنما يتحرك وحده، زغلول كان مختفياً تحته لا يظهر منه شيء، وفي لحظة لمحت سكينة قدميه تدبان في بطء، ثم رأت ساقيه، عروقهما النافرة تكاد تخرج من جلده، توقف مرة واحدة، والكل حبسوا أنفاسهم، ظنوا أن اللحظة جاءت. الأربعة عدلوا من وضع الدولاب وكان قد مال خفيفا جانبا. وصل أخيرا، ودخل الدولاب البيت، وضجت الحارة بالزغاريد، ولا أثر لزغلول

لم ينتظر منهم جزاء ولا شكورا. يفسر ذلك لزوجته: “أستغفر الله. ثواب يا ولية. ثواب

وأحيانا يعمل زغلول في المقاهي، لكنه سريعا ما يهجر هذا العمل لأنهم يشتمونه بأمه “ماحبش حد يشتمني بأمي”.

وامرأته تخفي له “رغيفين في هدومه بجوار الفرشة. تسمع قرقشة العيش حين يصحو ليأكل ثم يعاود النوم. أحياناً يسألها إن كان هناك غموس؟ وتقول: منين؟ طيب بصلة؟ -منين. -ولا حبة ملح؟. تعطيه الملح ويتجرع الماء وينام”.

إلى أن كان يوم ويسمع طلبة الجامعة يتحاورون ويتجادلون وهم على المقهى فكان يتسمع لأحاديثهم ويتمنى لو كان مثلهم أو حتى يفهم كل ما يقولون. سمعهم يذكرون ثورات ويدلون بأفكار تتصارع، وسمع ما قالوا عن أم كلثوم وعبد الوهاب وفيروز ، وأيضا يتناولون النساء بألسنتهم ويحكون عن مغامرات. وهكذا تنهمر أقاصيص البساطي القصيرة الساحرة.

فعندما يسافرون إلى جامعاتهم يعود هو إلى تسكعه في شارع السوق حتى كان لقاؤه مع الشيخ رضوان. كان أستاذا للفقه والشريعة بالجامعة، ويأتي في الإجازات إلى البلدة، يرى أطيانه ومصالحه الأخرى التي لا يفصح عنها، الأهالي يكتشفونها بالصدفة”.

ما يهمنا هنا هو أن هذا الزغلول الوادع الذي كان حريصاً أن يتعلم من الطلبة ولا يجرؤ أن يتمنى لو كان يوماً مثلهم، كان ذا جوع للمعرفة لا يحس بهِ كما كان ذا جوع للطعام لا يبوح بهِ ، كان يحمل في طيات ضميره قلب مفكر حساس متأمل حيث اقترب من الشيخ رضوان وهو في مجلسه بدكان القماش المهول الذي يمتلكه، والذي كان قد انتهى لتوه من التحديق في ظهر امرأة فياضة الأنوثة دخلت المحل لتوها.

وفي هذه اللحظات اجتثه زغلول من تأملاته وألقى عليه سؤاله البسيط الذي قد يبدو ساذجاً لأول وهلة ولكنه يدق ناقوس البحث عن حل لحروب ومعضلات هذا الزمان: “الله سبحانه خلق الدنيا، والناس، وكل حاجة، وأمرهم أن يعبدوه، أقول لنفسي إذا كان خلق ده كله عايز عبادتهم في إيه؟(..) آه. خدني على قد عقلي وفهمني. إن كان سبحانه عايزهم يعبدوه. طيب، يبان بالشكل اللي عايزه ويقول أنا خلقتكم اعبدوني. وساعتها ما حدش حايقول لأ.(..) طيب أنا فهمي شوية، إنما برضه بفكر. أقول لنفسي هو سبحانه أرسل أنبياء كتير، كل كام سنة واحد. أعرف منهم ثلاثة: موسى وعيسى ومحمد. عليهم الصلاة والسلام. الثلاثة بيدعوا لعبادة الله. وكل دعوة ولها طريقتها، واللي معاه يقولوا إنهم الأفضل عند ربنا، ويكدبوا غيرهم. وييجي الزمن ونشوف الثلاث دعوات في وقت واحد ونازلين في بعض ضرب وقتل، وأقول لنفسي طب ليه؟ إذا كان ولا بد، نبي واحد كفاية. يتكلم ساهيا عما حوله….”.

فماذا كاد رد الفعل؟

انظر إلى هذه الجملة الرائعة: “أدهشته الرفسة قبل أن توجعه

تخيلوا معي زغلول مندهشا وقد سددت إليه رفسة مباغتة، ألم تكن قوية لتوجعه قبل أن تدهشه؟

بلى. لقد “أطاحت به خطوات للوراء، وقلبته على ظهره”.

اندهاشته كانت أكبر من ألمه. كان يظن أنه حمل مفتاح الحل السحري للبلاء. هو، الذي يفعل الخير لأجل الخير وحبا في الواجب ولوجه الله تعالى، في مقابل الشيخ المتخصص في علوم الدين والذي يزداد ثراؤه جراء علمه وأستاذيته للفقه والشريعة. “صيحة الشيخ أوقفت الحركة في الشارع، ودفعت الزبائن بما فيهم النسوان إلى خارج المحل: بتعدل على ربنا يا ابن الكلب؟(..) يا كافر يا ابن الجزمة

ويلمع الخاتم عيار 24 في القبضة التي تهوي على أي مكان تطاله من جسد الكافر. “كف الآخرون عن ضربه. أنفه ينزف، ورأسه به ورم في حجم البلحة، وشفتاه منتفختان، وحول عينه كدمة حمراء: قطعت الجلابية.”

ويظن الشيخ أنه يتفضل عليه حين يطلب من العامل في المحل أن يقطع خمسة أمتار ويرميها في وجه زغلول الذي كان “عبر الشارع واختفى في الحارة المواجهة” .

الوجه ينزف، والثوب اليتيم ممزق لإرباً إرباً لكن الكرامة لا تجزأ، وعفة النفس معدنها أصيل.

إلى أن التقى زغلول بالحاج عبد الرحيم الذي “كان رجع من بلاد برة، فوجئ من رآه بحجمه الذي زاد خمسة أضعاف، ورقبته التي اختفت، وحشرجة صوته، وقيل إنه المرض. قدماه لم تعودا تتحملان كل هذا الثقل(..) زغلول كان يعبر شارع السوق، ورأى البغل قادما على بعد خطوة، توقف حتى يمر، هو لا يعرف الحاج ولا سمع باسمه، ولاحظ أن قعدته على البغل منحرفة، وربما سقط في لحظة، أوقف البغل في هدوء، واستدار إلى الحاج الذي كان فزعا ويمسك البردعة بيديه الاثنتين، قال زغلول: اسند على كتفي وارجع بفخدك الشمال”.

(تذكروا معي السيدة الضخمة التي لا تكاد تبرح سريرها في دق الطبول، بل وتحتاج إلى من يدير جسدها وهي مستلقية لتعتدل على أحد جانبيها. وهذا ما كانت تفعله خادمتها المصرية)

وهكذا كتب على زغلول أن يعمل عنده. “في الصباح الباكر يسحب زغلول البغل إلى الترعة، يحممه ويضع له العلف، وينفض البردعة، ويعده للركوب، ويقعد قرب حجرة الحاج ينتظر(..) أعد لنفسه فرشة في حجرته. صوت غطيطه مرتفع وشخيره أيضا، لم يمنعه ذلك من النوم. في نفس الليلة أيقظه، أعطاه كتفه ليستند إليه وسار به حذرا إلى الكنيف، ثم خرج إلى الحوش وصفق قرب باب امرأته(..) صاحت العجوز من الحجرة: وانت يا عقلة الصباع ما تدخل معاه

ويدخل زغلول. تمكن من أن يثق به الحاج ويغدق عليه فيعود لأبنائه بما يلذ لهم ويطيب. تفانى في خدمة الحاج عبد الرحيم إلى أن كان ما كان عندما مات في اليوم التالي، وكان قد أرسل زغلول في مشوار إلى معمل الجبن، ولدى عودته وجد زحاما من الجيران في حوش البيت، ولمح عطوة مقرفصا في ركنه ينهنه ويداه حول رأسه، مشى متجها إلى حجرة الحاج، وشعر بيد تمسك ذراعه. العجوز. همست: على فين؟ – أشوفه. – شافتك العافية. تعال. وسحبته باتجاه الباب، وربتت خفيفا على ظهره: – مع السلامة. وخرج.

وهكذا ينتهي هذا الفصل من الرواية على مشهد زغلول المفاجأ والمطرود من الجنة البائسة، لندخل في العنوان الثاني: الزوجة.

وكانت “في قعدتها على المصطبة (..) مغص الجوع خفت وطأته، يشتد في البداية…..” ، وعيناها على البيت الكبير البيت بلون وردي، اللون الذي تستريح له سكينة عن أي لون آخر، وتمنت أن يكون لها لباس منه (..) ما عرفته عن البيت عرفته بالسمع(..) من دخلن البيت يحكين ما رأينه من فرش ومقاعد ودواليب وسراير من النحاس ولا يحكين عن أهله(..) ودت سكينة أن تدخل البيت وترى بعينيها

وها هي ترسل ابنها ليفتش في الكراكيب التي يتم رميها من مخلفات البيت، وتحاول التودد إلى من فيه دون جدوى، وباب البيت دائما مغلق، وفجأة استطاعت الدخول. كانت الخادمتان “البنتان تزيحان البوفيه الثقيل من مكانه، تحاولان نقله إلى ركن الحوش، والست الكبيرة واقفة ملتفة بروبها، وشعرها الرمادي عقدته من الخلف بشريط أسود، وجهها هزيل تشوبه صفرة خفيفة

والذي حدث أن بنورة مصباح تهشمت فراحت سكينة “بكفها تكنس الزجاج المتناثر وتكومه، القطع المدببة جرحت يدها وسالت منها قطرة دم، رمقتها خطفا واستمرت تلم الزجاج فم جرفته إلى حجرها، رفعت ذيل جلبابها وقالت: دقيقة أرميه. خرجت. أفرغت حجرها بجوار الحائط، وكانت تنفضه حين سمعت صوت الباب يغلق، استدارت ونظرت نحو الباب غير فاهمة: مفيش وراهم غير قفل الباب”.

البساطي هنا بذكائه اللماح يريد أن يدافع عن هذه الزوجة الجوعى؛ فهي ليست متكاسلة ولا متواكلة، بل إنها تسعى جاهدة للحصول على لقمة العيش بكل السبل المتاحة، وها هي أخيرا تستطيع في غفلة من الزمن أن تغدو وسط البيت الكبير، وتشتعل همتها وتريهم شطارتها حتى إذا ما تناثر هشيم الزجاج جمعته براحة يدها فأدماها فلم تجزع ولم تتوقف عن العمل بل “رمقتها خطفاً” وظلت تعمل ثم استأذنت لترميه وتعود لكن صوت الباب باغتها في انصفاقه قاضيا على آمالها في العودة.

إلى أن “ماتت الست الكبيرة ذات صباح، وتصاعد الصراخ من هناك، وفي لحظات تزاحم الكثيرون في البيت وخارجه” وكل ذلك لا يهم فالمهم الوحيد أن الباب مفتوح على سعته

ولأن هواية زغلول أن يحضر جميع المعازي فقد حضر وجعل يرص الكراسي، وعندما لم يعد ثمة مكان طلبوا منه أن يحمل كراسي السفرة ويخرج بها للواقفين، وظل يقدم خدماته وكان أن حصل منهم على علبة سجائر طلبت منه امرأته أن يبيعها. وكانت ما تزال تبحث عن خرم إبرة تعبر منه إلى البيت الكبير حتى كان لها ما أرادت. وها هي تصل إلى نقطة البدء، والخادمتان تأكلان فأشارتا إليها لتمد يدها ففعلت وطلبتا منها أن تولع على الشاي، بعد ذلك عليها أن تبدأ بالحجرات، “هي نظيفة. امسحي بس التراب من على الكراسي والدواليب، واللي تلاقيه(..) انتهت من الحجرات سريعا(..) ودلوقتي. الحوش. تكنسيه وتنفضي الفرشة. (..) انتهى الكنس، وينتظرها غسيل المواعين، كانت مكومة تحت الحوض، لها أيام كما يبدو بوساختها، والماء لمنتصفها كي لا تنشف بقايا الأكل بها. شمرت كميها، ولفت ذيل الجلباب حول وسطها، وقعدت على كرسي واطئ، وجذبت المواعين إليها

ماذا تفعل الخادمتان إذن؟

رأتهما تقعدان بالفرشة وسيقانهما ممدودة، وقدما كل منهما المتعانقة تهتزان مع إيقاع الأغاني التي تسمعانها من راديو بجوارهما”.

وهكذا أسست سكينة لنفسها مشروعية بقاء في البيت الكبير، بل جاءت بزوجها وأولادهما، لكن زوجها يفضل حريته على “اللقمة الكويسة”. ومع ذلك نزل على رغبتها وفرحة الأولاد الذين تساءلوا غير مصدقين: “حاناكل من ده كل يوم؟

أحيانا يخرج الحاج بعد تناول العشاء، وتخبر زبيدة سكينة لتظل صاحية لحين عودته. تخرج وزوجها والولدان ويقعدون في الحوش، تعلو أصواتهم قليلا، وتعمل لهم الحلبة المطحونة، التي شربوها مرة، ويلحون كل يوم في طلبها، يتناولون وجبة عشاء ثانية خفيفة، عيش وجبن وعسل أبيض، وينطلق الولدان إلى الخارج، ويترامى صياحهم من بين الأشجار، وتصحب سكينة زغلول إلى الدور الثاني ليلقيا نظرة على الحجرات هناك، ويجدانها كلها مغلقة بالمفتاح، فيقعدان في الصالة الواسعة، يحسان ببرودة بلاط الأرض، وينظران من خلال الزجاج المغلق إلى الفضاء (.ز) لو كان الأمر بيدها لبقيت طول حياتها هنا. تجد كل ما تريده. لكن زغلول…”.

إلى أن أسلم الحاج روحه مع الليل وحانت المغادرة المحتمة. أرادت سكينة أن تتزود قبل قدوم البؤس: “كنا أكلنا لقمة قبل ما نخرج”.

نفس المناخ الذي ساد طقسه الجاف في دق الطبول عندما غادر الأسياد بالطائرات لتشجيع فريق دولتهم في كأس العالم فأخذ “الخدم” يتنسمون الحياة التي حرموا منها لكن الدائرة ستكتمل ويعود الأمر إلى ما كان عليه.

ونصل إلى العنوان الثالث:الابن.

ومازالت ذكريات البيت الكبير حاضرة: “وما لك زعلانة؟ كفاية شفنا يومين كويسين هناك. يمكن ييجي بيت غيره”.

هذه المرة طال بقاء زغلول في البيت، استلفت فيها العيش ثلاث مرات من كل من تعرفهن بالحارة، ولم ترد الدين بعد، وتخشى لو ذهبت إليهن مرة رابعة يجدن الدين يصبح كبيرا لا تستطيع سداده فيختلقن أعذارا يوجعها سماعها”.

لكن ابنها اكتشف فرن عباس حيث بعد انتهاء العمل تتبقى أرغفة احترق جانب منها أو اهترأت فتفتتت. “وجاء صوت من الداخل المعتم: خذ لو عايز

هذا صوت العامل أما صاحب الفرن لو تصادف وجوده فكان يتبرم: “كتير في البلد عايزينه. عليه طلب. وله ثمنه”.

ويحدب عليه صديقه : “اسمع. عندي فكرة. تستناني ورا البيت وأدلي لك حاجة من فوق السطح. (.ز) ويرى عبد الله منبطحا فوق السطح يمد رأسه وينظر إلى الناحيتين، وتتدلى الدوبارة وطرفها يلتف حول رغيف عيش، رغيف كبير وناشف، يتأرجح في هبوطه، زاهر يحدق ويداه متأهبتان لالتقاطه لو سقط، يفك الدوبارة وينظر إلى عبد الله، وكان يشير له بيده أن يسرع بالابتعاد، وهرول زاهر بالرغيف(..) ومرة بعد مرة وجد نفسه ينتظر رغيف عبد الله(.ز) ويوما فاجأه برغيف دلاه به كسر من الجانب، وحين استقر في قعدته وجد بداخله عددا من أصابع محشي الكرنب تأملها مغتبطا(..) ومرات يفاجئه عبد الله أثناء تسكعهما في المساء بورقة ملفوفة داخلها كبدة أو قونصة فرخة، ومرة رأس أرنب بجزء من رقبته، يحتفظ باللفة في جيبه

الله عليك يا بساطي!!

براءة الفطرة وروعة ما قبل التلوث!

أما والد عبد الله فكان له شكل آخر: ضرب ابنه بالكف على وجهه لأنه يصادق هذا البائس. ولأن النقاء الطفولي لا ينقاد إلى الشر غير المبرر فإنه لم يمتنع إلى أن ضبطهما الأب متلبسين بالصداقة. قال لزاهر: “أنا مش عارف ربنا ابتلانا بكم ليه. مافيش إلا ابني؟ عندك عيال الدنيا. وجاي لغاية بيته. أعمل فيك إيه؟ رد. يهزه في عنف، وزاهر يحدق في وجهه ولا يتكلم، الوجه نحيل وعظامه بارزة، تشوبه صفرة، ورعشة خفيفة بفمه(..) بص لي. الحارة دي. من أولها. والحارة اللي جنبها. واللي بعدها. أشوفك في واحدة منهم حا أقطم رقبتك”.

وما حدث لزغلول يحدث لابنه: يتمزق الجلباب، يأمر المعتدي أن يؤتى بغيره في من ظاهر “خذ. بدل الخرقة اللي كنت لابسها

الولد يفعل مثلما فعل أبوه: يبتعد دون أن يلقي بالاً لهذا الكرمالزائف.

تنتهي الرواية بسكينة على المصطبة “تنتظر طلعة النهار التي اقتربت. الشمس بانت في الأفق

البساطي يرش أنوار الأمل في الطرقات المقفرة بينما الواقع مرير قدام الطفل لأن عبده الفران رحل هو الآخر ولم يتبق هنالك سوى وجه عباس العابس دائماً، “وزاهر لا يتكلم. وعبده الفران سكت”.

ولي بعض الملاحظات المتواضعة على هذه الرواية:

1- عنوانها (جوع) وهو محورها ومدارها، وقد أبدع المؤلف أيما إبداع في عرض الأحداث وتصويرها.

2- الجائعون هنا ليسوا حقودين ولا أشراراً وإنما يتمتعون بالنقاء الداخلي والسلام مع النفس والعالم، هذه الصفات تغيب عن الميسورين.

3- رغم الفقر المدقع فإن الحياء هو الخلق الغالب على طبع أبطال القصة وخصوصا المرأة التي كانت تتضور جوعا وتستحي أن تعيد الكرة وتقترض ممن قد يتهربون منها، وكان أفضل أيامها يوم السداد، والزوج الذي كان تواقا للتعلم كان يفعل ذلك عن بعد ولا يقترب من الطلبة حياء منهم، والابن الذي كان صديقه ينعم عليه بقونصة الدجاجة فيستحي أن يتذوقها أمامه.

4- ورغم كل هذا البؤس فإن بطلة قصتنا لم تتبرم من زوجها الذي كان يجلس أياما على المصطبة يسلك أسنانه بأعواد القش، بل لا تنسى له أنه يكون في أحيان كثيرة أفضل ممن يأكلون طيور السمان.

5- الرواية في تركيزها الذي صار سمة لكاتبها لا يشوبها خلل ولا تقصير. لغة الحياة اليومية تنسجم مع الحوار الذكي النابض الموحي في بوتقة رائعة من الجمال الأخاذ.

6- لا الأب ولا الأم ولا الأبناء، لا أحد منهم تطرق إلى ذهنه ولو للحظة أن يسلك السبيل الخاطئ للتكسب والعيش فلم ينحرف منهم أحد ولم ينجرف إلى ضلال.

7- الذين أعطتهم الحياة وأغدقت عليهم لم يكونوا على قدر المسئولية، والذين منهم جنحوا للعطاء ما إن ذهبوا حتى يخلفهم من يغلقون الأبواب بالضبة والمفتاح.

8- لا يمكنك وأنت تقرأ هذه الرواية إلا أن تتعاطف مع أبطالها ويبتسم داخلك للمحات الذكية لمؤلفها الرائع.

9- القصص القصيرة التي تتناثر في أرجاء الرواية والتي تزيدها ثراءً تؤكد أن في مصر تشيكوف قامته عالية.

10- سواء في “دق الطبول” الخليجية، أو في “جوع” مصر فإن الحال هو الحال وانتظار بزوغ الشمس وحده لا يكفي.

11- وأخيراً أيها المبدع المتوهج، وقصتك مرشحة للبوكر، فإنني أتمنى أن يكون الفوز بالجائزة للعمل المرشح وليس لتاريخ الكاتب ومكانته حتى تكون الجائزة متميزة عن جوائز عربية كثيرة تموج بالمحاباة الكريهة المضللة، وحين تتاح لي القصص المرشحة الأخرى سأكتب عنها وأقارن بينها والله الموفق والمستعان.

ولتنطلق بنا الروايات في عوالمها الرائعة.