رمزيّة الجوع في الرواية

من هامسون الى البساطي

محمد الحجيري

يعرف «مختار الصحاح» و«المعجم الوجيز» يعرٌفان الجوع على أنه: خلو المعدة من الطعام. كأنما هو أي الجوع محض تغير بيولوجي في صيرورة الكائن. إلا أن مقاربة «الجوع» في الروايات المختلفة تدلل على حقيقة أنه حتى الجوع ليس إلا موقفا أيديولوجيا! ويبدو أيضا أنه حتى البيولوجي ليس إلا في الحفريات البعيدة أيديولوجيا.

هذا ما نلاحظه في الروايات التي تناولت موضوع الجوع وان بطرق مختلفة، فقد صدر اخيراً عدد من الروايات العربية والمترجمة التي تحمل عنوان «الجوع»، منها رواية «بيوغرافيا الجوع» للروائية البلجيكية إميلي نوثومب التي ترجمت عن «المركز الثقافي العربي». ورواية «جوع» للمصري محمد البساطي الذي آثر اسقاط ال التعريف من العنوان حتى لا يكون طبق الأصل مع عنوان رواية «الجوع» للكاتب النروجي كنوت هامسون التي ترجمت لدى دار المدى. وفي السياق نفسه هناك رواية «دروب الجوع» للبرازيلي خورخي امادو والكثير من الروايات والمجموعات الشعرية.

النازية
تتسم هذه الروايات بالمعاني ولها مدلولاتها تبعاً لانتماء اصحابها وطريقة كتابتها، فكنوت هامسون يصف في روايته صحافياً يتضور جوعا بالفعل، حتى يصل به الأمر في إحدى نوبات الجوع أن يمتص الخشب، ليسكت معدته الخاوية! مستسلما لقدره غالباً، واعتراضه الوحيد يوجهه الى بارئه، وعندما يتمكّن من نشر بضعة مقالات كان يكتبها في الحدائق العامة يستعيد بعضاً من الأمل ثم يعود الى بؤسه، ويأسه المطلق، ولا يضيره أن يصبح بحاراً قالباً حياته رأساً على عقب. ولا تخلو رواية هامسون من البعد السيكولوجي المتجلي عبر التحليل الدقيق للتجربة القاسية التي يكابدها «البطل»، هذا الشاب الذي يفتقر الى أي طريقة يواجه بها الحياة. الى ذلك لا يزال هامسون يشغل الاوساط الثقافية والامر لا يتعلق بمكنون روايته «الجوع» بل بموقف اشكالي وغريب اتخذه خلال الاحتلال النازي للنرويج، حين وقف موقفا غريبا وذلك بتأييد النازية والدفاع عن الاحتلال بل انه قابل هتلر، وهو موقف استعصى على كثيرين رغم ان التفسيرات كثيرة حتى انه كتب مقالا عن موت هتلر «موت اخر العمالقة». وبعد هزيمة النازية وانسحابها من النرويج حاكمت المقاومة النرويجية الذين دعموا الاحتلال ولم يفلت هامسون من المحاكمة، وكان على مقربة من حائط الموت وفي المحكمة لم يتراجع عن موقفه ولم يعتذر حتى حين حاول محاميه ان يعلن في المحكمة ان هامسون يعاني من حالة خرف، الامر الذي اثار غضب هامسون حتى الف كتاباً كي يثبت ان موقفه كان في كامل قواه العقلية يومها قامت حملة تضامن عالمية شارك فيها سارتر وهمنغواي وفوكنر الذي يقول بعض النقاد ان كنوت هو معلمه الاول وغيرهم وطالبوا السلطات مراعاة وضع هامسون الخاص وقد اكتفت المحكمة بالحكم بغرامة باهظة على الروائي.

وتركت رواية «الجوع» تأثيرها الكبير على الكثير من الشعراء والروائيين، كانت تعبيراً حقيقياً عن الشاعر بوكوفسكي، وقصيدته «ملاحظة عن الجوع» هي صورة عن نفسه وعن بطل هامسون الذي كان يصارع الجوع والطموح، وفي هذه القصيدة يقول: في اليوم الرابع، تعيش حالة من السكر، الذعر يتلاشي، ينام الواحد جيدا، في الساعة الثانية عشرة او الرابعة عشرة، حالة غير عادية، عندما يواصل الواحد التغوط، تصبح الصور اكثر حدة، وتظهر الاشياء علي وضوحها. في البيان السوريالي الأول كتب أندره بروتون عام 1924 مشيراً إلى رواية «الجوع» لكنوت هامسون، وخصوصاً إلى مقطع يمدح الجوع باعتباره محفزاً لحالة من الصفاء النادر.

دروب الجوع
لما كانت «الجوع» لهامسون قد حظيت باهتمام بابا السوريالية بروتون، وبابا الاندرغراوند بوكوفسكي، فرواية «دروب الجوع» للبرازيلي خورخي امادو لم تحظ في العالم الغربي بما تستحقه من اهتمام أسوة بأعماله الأخرى، وربما لكون موضوعها ينحصر في إطار عنوانها. وتلك الرواية تعتبر من اعمال امادو القيمة وترصد حياة المزارعين البسطاء ومعاناتهم من خلال حبكة بسيطة تتمثل في الرحلة التي يجتازها سكان إحدى المزارع باتجاه حلم غير مضمون. ومن خلال هذه الحبكة تتوالى أحداث الرواية لتصور تفاصيل وقائع وهموم الحياة اليومية لهؤلاء المزارعين البسطاء وذلك من خلال التحول الذي يطرأ على الشخصيات، فمن يسكنه حلم امتلاك أرض يعود نتاجها لعائلته يتحول إلى قاتل، والمرأة الكريمة الحكيمة تتحول إلى إنسانة أنانية، والفتاة البريئة إلى غانية وهكذا.

كل هذا نتيجة تحكم فرد واحد بسكان مزرعة أو قرية، إذ بقرار واحد من المالك يؤول مصير عدد كبير من البؤساء إلى التشرد والتيه إن لم يكن الموت. ولا يغفل أمادو عن تصوير تلك الفئة من البشر التي ينحصر دورها كوسيط بين الفرد والأتباع، كما يبين دورها في تحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب لمصلحتها الشخصية مستفيدة من الطرفين. اما الجوع الذي تتكلم عنه رواية محمد البساطي فهو ليس الجوع بمعناه المعجمي، وإنما الجوع الذي يؤرق الشخصيات هو جوع اجتماعي في أساسه، هو جوع إلى السلام والأمن، وما الجوع إلى الخبز والحب والمعرفة إلا تمظهرات لهذا الجوع إلى السلام الاجتماعي. وتتوزع فصول الرواية بعدها ما بين الزوجة سكينة والزوج زغلول والابن زاهر، وهذا لا يعني أن لكل منهم حكاية قدر ما يعني أن حكايتهم (حكاية البيت الصغير) لها عدة أوجه، وما مسار الحكايات في الفصول إلا تعبيرا عن استراتيجية كل منهم في مواجهة الجوع، ومساهمة كل منهم في التساند لحماية البيت والأسرة.

أعواد القش
وزغلول (الذي يمص أعواد القش) لا يشعر بخلو معدته من الطعام فحسب، ولكنه أيضا يشعر بخلو رأسه من المعرفة، وبخلو حياته من الأصدقاء، إن فترات كسله وتسكعه فيما بين عملين ليست إلا محاولة لإشباع جوعه المعرفي والإنساني. أما الجوع إلى الجنس فيبدو كأنه جوع كالرفاهية في عالم سكينة وزغلول، ورغم كم الذكريات التي تنهال على رأسيهما فإن إشباع الجوع الجنسي لا يأتي خبره غير مرة واحدة، ورغم المرات القليلة التي دعت سكينة زوجها فإنهما لا يتساندا لدخول البيت غير مرة، وهي المرة التي كانا يراقبان فيها العربات المحملة بالخير الوفير في طريقها لأبناء البندر، فيتجاوزان جوع البطن بامتصاص رحيق الحياة الرطيب. وينعكس الموقف في مشهد تال حين يبيتان في البيت الكبير فحين تقول سكينة لزغلول «ولا حتى الواحدة ييجي لها مزاج تعمل حاجة معاك فإنها تستدرك بسرعة «أدينا بنلاقي لقمة كويسة يا زغلول». 

«بيوغرافيا الجوع»
والكتابة عن الجوع شكل آخر ومختلف في رواية «بيوغرافيا الجوع» لإميلي نوتومب تعرّف الساردة من عمرها المبكر: «أنا الجوع». إنه أكثر قوة منها:» رغبة أكبر من الرغبة نفسها» وهدفها الأسمى هو الانغماس فيها. إنها ليست مجرد شهية الطعام. ثمة أشياء محددة كانت تشتيهيها. السكر مثلاً لكن أيضاً الماء، الذي تعب منه كميات غير معقولة. من بين أفضل المشاهد وأشدها تعبيراً هو حين تحصل على بعض الحلوى في بكين (إذ من الصعب الحصول عليها) وتجلس أمام المرآة لتراقب نفسها وهي تأكل وتنغمس على نحو متزايد في متعتها ونشوتها (نعم، إنها فتاة صغيرة غريبة).

تنقلنا نوثومب، في روايتها، الى تلك المأساة في أرخبيل «فانواتو». الذي، بحسب الراوية، لم يعرف الجوع يوماً، لتميزه بالوفرة التي منحته إياها الطبيعة، وظل معزولاً بين أشجار نخيله، ويسر حياته، كما إنه لم يثر اهتمام أحد كي يقصده. فالناس في هذا الأرخبيل يفتقدون شهية الطعام، لا يأكلون إلا من قبيل المراعاة واللياقة «كي لا تشعر الطبيعة بالاهانة» أي اننا في منطقة انتفى منها الجوع، إن الراوية تجد في هذا الأرخبيل التمثيل الجغرافي لنقيضها «الجوع هو أنا». بالرغم من أن لجوعها خصوصية فردية لا يمكن لها أن تفسره اجتماعياً. فهي تنتمي الى بيئة موسرة، وعائلة لم تعان من الجوع يوماً. وكان الجوع، بالنسبة لها، وتوقاً الى «الامتلاء الطوباوي».

فالجوع يدفعنا الى التطلع لأن يكون هناك شيء ما يستدعي السعي والرغبة، حتى إن كان هذا الشيء مجرد «سكاكر» شرط أن لا يتحول المرء، في السعي إليها، الى «شهيد غذائي» يحقنه الآخرون بالجوع عنوة، مثلما هو حال أبيها الذي كان خاضعاً لسلطة أمها الغذائية، مما يجعله عاجزاً عن الاستمتاع بنكهة الحصول عليها. في أجواء الحياة اليابانية، وجدت ما يحقق لها نوعاً من الإيمان الذاتي، الذي تمتزج فيه مسيحية الأوائل بـ «ميول شتوية»، ترسخه أرض الطبيعة والورد والأشجار التي عاشت فيها أقصى حالات السعادة والانسجام مع الذات. وحين غادرت بلاد الشمس هذه، شعرت بالضجر والغثيان .وفي بكين وجدت «أسوأ ما قد يبتكره الاسمنت من اسوار الاعتقال»، حيث طغت لغة «عصابة الأربعة» الزاخرة بالصوامت على اللغة الصينية، وفعلت ما يشبه «صلة ألمانيّة هتلر بألمانيّة غوته».

 

بيروت