أما للجوع من نهاية؟

فاطمة البريكي

انتهيتُ لتوي من قراءة رواية «جوع» للكاتب والروائي المصري محمد البساطي، وأنا أشعر بأنني جعت مع جوع شخصيات القصة، وشبعت مع شبعها في المرات القليلة التي عَرَفَتْ فيها معنى الشبع. وليس هذا مجال الحديث عن الرواية من حيث مستواها الفني، إذ لهذا النوع من الحديث منابر أخرى مختلفة، لكن المهم هنا في هذا الموضع هو مضمونها الذي يتناول العدو الأزلي الأول للإنسانية منذ أن وُجدَت.

أذكر أنني كتبتُ عن الجوع عدة مرات، مستندة في ذلك إلى إحصائيات موقع الجوعى على الشبكة العنكبوتية ومواقع عالمية أخرى غيره، لكن أثناء قراءتي لهذه الرواية كانت هناك أسئلة تطل عليّ بين سطر وآخر بإلحاح، وأهمها هو السؤال الأكثر سذاجة في الوقت ذاته، إذ كنت أسأل نفسي طوال الوقت: هل يُعقل أن يوجد أناس يعيشون هذا الجوع كل يوم!

وعلى الرغم من أن شخصيات القصة لم تكن تجوع إلى الحد الذي نراه على شاشات التلفزة للمجاعات المزمنة في عدد من الدول الإفريقية التي تحيل الإنسان إلى جلد وعظم، لكنهم كانوا يجوعون، وينقل الروائي ببراعة إحساسهم بالجوع، وتحايلهم عليه، وخوفهم منه أحيانًا، وعدم استسلامهم له في أحيان أخرى، والكثير الكثير من التفاصيل التي تبين لنا علاقتهم بهذا العدو الحاضر بينهم أبدًا.

وبذات السذاجة أجدني أسأل نفسي وأنا أقرأ في هذه الرواية، وأستحضر موقع الجوعى وموقع برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة، ومع إدراكي ومعرفتي الإجابات مسبقًا، لكن الأسئلة تبقى حاضرة بإلحاح مستفز في مثل هذه اللحظات: ما مدى دقة هذه الإحصائيات؟ وهل تستطيع المواقع المعنية بقضية الجوع أن تحيط علما بكل الأفواه المفتوحة والبطون الخاوية في كل مكان في العالم؟ وإلى أي مدى يستطيع القائمون على مثل هذه المواقع، والمسؤولون في المنظمات الدولية المعنية بهذا الأمر، والمهتمون بهذا الغول الفاتك، أن يقوموا بدور فاعل في مواجهته!

يعرّف «برنامج الأغذية العالمي» للأمم المتحدة، نفسه من خلال موقعه بأنه أكبر منظمة للشئون الإنسانية في العالم، والمنظمة الرئيسية في الأمم المتحدة المعنية بمكافحة الجوع. ويذكر أنه يعتزم هذا العام تقديم مساعدات غذائية إلى نحو تسعين مليون شخص، في حوالي ثمانين بلداً حول العالم. ومع أن هذا الجهد ـ إن نجحوا في القيام به ـ يُعدّ جهدًا جبارًا وعظيمًا، لكن هل سيكفي لمواجهة هذا الشبح المرعب الذي يهدد حياة مئات الملايين من البشر سنويًا!

ومع التبرعات السخية التي تصل هذا البرنامج من أماكن وشخصيات مختلفة في العالم إلا أن عدد الجوعى لا يزال كبيرًا ومخيفًا، بحيث يبدو كأنهم ينقسمون انقسامًا ثنائيًا فلا ينتهون ولا يتناقصون، إذ يبقى العدد كبيرًا على الرغم من الجهود الكبيرة المبذولة في هذا الصدد. ولنا أن نقف عند خبر نُشر في الصحف قبل يومين فقط عن الأزمة الغذائية التي تجتاح زيمبابوي ـ على سبيل المثال ـ بسرعة مفزعة، لدرجة أنها تهدد خمسة ملايين شخص في بلد واحد بالمجاعة!

لا تأتي المجاعة وحدها، إنما تأتي معها الأمراض أيضًا، كالكوليرا التي تنتشر في زيمبابوي وغيرها بشكل مخيف، وتأتي جميع الأمراض المرتبطة بسوء التغذية، كالأنيميا مثلا وهي أكثر أمراض سوء التغذية انتشارًا. وذكر أحد التقارير الصادرة عن الأمم المتحدة في سبتمبر الماضي أن سبعة عشر مليون شخص بحاجة عاجلة إلى الغذاء والمعونات الأخرى بأنحاء القرن الأفريقي، وهي تكلف ما يبلغ حوالي مليار ونصف مليار دولار لتغذيتهم لبقية العام الحالي، إلا أن المساعدات والمنح التي وصلت لم تغط سوى نصف المبلغ فقط.

ومما لا شك فيه أن الأزمة الاقتصادية العالمية ألقت بظلالها الداكنة على ما كان يعانيه أساسًا أبناء مناطق كثيرة لا مصدر دخل لها، ولها في المقابل نصيب من الحروب أو الحصار أو قلة الأمطار أو غير ذلك، وبدلا من أن يتحد العالم لإعطاء من لا يملك شيئًا حتى يمارس حقه في الحياة على الأقل، نجد أن كل بلد انشغل بهمومه الخاصة، ونسي من لا يملك من أمر نفسه شيئًا، وينتظر أن يتحرك الآخرون، وأن يفعلوا شيئًا من أجله، ولكن يبدو أن انتظاره سيطول دون جدوى على المدى القريب على الأقل.

ومع أنني أعرف جيدًا أن التحرك في مثل هذه القضايا المفجعة يجب أن يكون على مستوى الدول والمنظمات العالمية الكبرى، إلا أنني لا أستطيع أن أعفي أي فرد عادي من أفراد المجتمع قادر على المساعدة حتى لو بجزء بسيط مقتطع من قوته اليومي، كي يكون له دور في إيقاف زحف هذا الغول الذي لا يرحم. وأعجب كيف لا يرى كل شخص منا نفسه مسؤولا عما يحدث هنا أو هناك لكائن حي آخر يشاركه صفة الإنسانية؟ وهل يجب علينا أن نقف مكتوفي الأيدي أمام إحساس كل هذه الملايين من البشر بذل الجوع وهوان السؤال، ونحن نأكل ونشبع دون خوف أو قلق؟

إننا ندرك جيدًا مسؤوليتنا تجاه الجوعى على امتداد خريطة العالم، ونعرف أننا نأكل ما لا نريد، كما نأكل في غير الأوقات التي تستدعي أن نأكل فيها، ونعلم أننا لو اقتطعنا جزءًا من المال الذي ننفقه على طعام لا نأكل نصفه أو ربعه وأعطيناه لجائع في أي مكان في العالم ـ مع سهولة وسائل للوصول إليه وكثرتها وتنوعها ـ، لما نقص من صحتنا شيء.

ولما تأثرنا سلبًا نتيجة اقتطاع شيء من طعامنا نحن نعرف جيدا أن مصيره سلة المهملات الكبيرة التي تقع خارج فناء المنزل، وأنه لن يدخل جوفنا أبدا، لكننا على الرغم من كل هذه المعرفة لا نفعل شيئا حقيقيًا، لأننا لا نتخيل أنفسنا مكان هؤلاء الجوعى، وأنا لا أتكلم عن فرد أو عشرة أو ألف، إنما أقصد بكلامي كل إنسان على وجه الأرض يستطيع أن يقتسم مع آخر أو آخرين طعامه أو ماله الذي قد يصرفه على بعض الكماليات التي لا تساوي شيئا بالمقارنة بإنقاذ حياة إنسان، ومع ذلك لا يفعل، ولا يهتم بأن يفعل.

 

جريدة البيان 1 ديسمبر 2008 ،4 محرم 1430هـ، العدد 10423