البساطي خارج الأسوار

سيد محمود

قبل أيام قليلة كنت بصحبة مجموعة من الأصدقاء العاملين في مجال الصحافة الثقافية ولفت نظرنا جميعا أن المناسبة التي شاركنا في حضورها ونظمتها واحدة من كبريات دار النشر المصرية شارك فيها غالبية كتاب مصر ربما باستثناء الكاتب الكبير محمد البساطي. وشدد أحد الأصدقاء علي أن البساطي لم يتلق دعوة للحضور مدللا بذلك علي مجموعة من الوقائع التي تشير إلي أن هذه الدار بادرت بإعادة نشر مؤلفات غالبية كتاب الستينيات واحتكرت نشر أعمالهم الجديدة، بينما لم تفعل الشيء نفسه مع البساطي واستثنته من قائمة مجايليه علي الرغم من قامته الادبية الرفيعة، وقد حاول آخر الدفاع عن الدار، لافتا إلي أن كاتبنا الكبير ينشر أعماله منذ سنوات في طبعتين، واحدة شعبية تصدر إما عن دار الهلال أو عن سلسلة كتاب اليوم والثانية عربية في دار الآداب البيروتية ومن المؤكد أن الدار الكبيرة احترمت خياره في الارتياح مع ناشريه، وعلي الرغم من قوة الحجة إلا أن صديقاً آخر تطرف في وجهة نظره مؤكدا ان تجاهل البساطي في مناسبات من هذا النوع الاحتفالي سواء نظمتها الدولة أو المؤسسات الخاصة القريبة منها ليس إلا محاولة لعقابه جراء المواقف التي اتخذها لمناهضة فاروق حسني وزير الثقافة منذ أن اصطدما في أزمة الروايات الثلاث التي انتهي التكييف الرسمي لأحداثها إلي تحميل البساطي ومعه الشاعر الجميل محمد كشيك مسئولية نشر هذه الروايات التي أعطت مثالا نادرا لحالة من حالات التماهي بين خطاب الدولة وخطاب مناهضيها من المتطرفين والمتأسلمين.
 
وبعد أيام من تلك المناقشة الحامية فاجأني البساطي بنسخة من روايته الجديدة «الأسوار» التي صدرت مؤخرا عن كتاب اليوم ويبدو لي أن البساطي في السنوات الأخيرة وصل بكتابته الي حالة من حالات المتعة الصافية فهو يصبر علي كتاباته صبر الراغب في وضعها أمام قاريء يتذوقها مثل النبيذ المعتق، يكتب كاتبنا بمزاج المستمتع بعزلته، البعيد عن بحور النميمة في وسط المدينة، مزاج يسهل اكتشافه منذ أن تفرغ  للكتابة وانقطع لها مع روايته الفاتنة «صخب البحيرة» مرورا بـ«ليال أخري» و«أصوات الليل» و«فردوس» و«الخالدية» و«أوراق العائلة» و«دق الطبول»  و«جوع» وكلها روايات مكتوبة باختزال لافت وفنية عالية، فضلا عن تنوع وغني في موضوعاتها التي تخلط بين ما هو واقعي وما هو فانتازي، وتحتفل مرة بما هو «حسي» ومرات بما هو «سياسي»، فهي في القراءة الأخيرة كتابة موجعة لا تخلو من الهموم ليس فيها ما يجعلها ثقيلة ومؤذية،  فهي لا تسمح بالحمولات الزائدة التي تثقل لغتها النضرة والمشوقة.   ومن أبلغ ما قرأت حوله ما كتبه الزميل جورج جحا من فريق رويترز «إذ وصف الرواية الجديدة بأنها» مكتوبة -علي طريقة أغنية فيروز والأخوين رحباني «تعا ولا تجي» - تقول الكثير الكثير من خلال ما «لا تقوله» أو تكتفي بالإشارة إليه مداورة في كثير من الخبث الفني «الناجح».
 
وفي تقديري أن الغني الموجود في كتابات البساطي الأخيرة  يعبر عن طريقة نبيلة ومبتكرة في الاحتجاج علي أي محاولة تسعي إلي تغييبه، والاعلاء من شأن كتابات لن تكون قادرة علي الصمود في المستقبل، فلا مستقبل لأي كتابة تحصر غايتها في «التلسين» وإرضاء نزعات شعبوية لدي قارئها المهزوم ولا تنشد من الأدب غير «الوجاهة»