محمد البساطى.. سينمائيـًا

كمال رمزي

كل إبداعاته تصلح للسينما: اختيار موفق، مصرى تماما، لموضوعات تتعانق فيها قضايا وطن منهك بمتاعب بشر يتشبثون بالحياة. يرصد، بعين مفتوحة على آخرها، المشهد العام، بإيحاءاته، تكويناته، ألوانه. نظرة واحدة، شاملة، سريعة، دقيقة، محايدة وموحية فى آن.. ثم، بعد سطور قليلة، تنتقل العين اليقظة إلى قلب الواقع، وتتابع، حركة أبطاله، ليست المادية فحسب، بل الداخلية أيضا، فبينما يرسم، بعباراته القصيرة، شكل نماذجه، بملابسهم، وطريقة مشيتهم، وأسلوب حديثهم، يبنى بجلاء، أحاسيسهم، ذكرياتهم، نواياهم.. يستوى فى هذا شخصياته الأساسية والثانوية، ذات الملامح الخاصة التى لا تختلط مع غيرها.. روايات وقصص محمد البساطى القصيرة، غالبا، تسرد عن طريق الراوى، لا لأنه يعرف كل شىء، ولكن لأنه يعرف كيف يحكى عنها، ويعبر عن أغوارها، ويصوغ حواراتها على نحو مكثف، درامى، مفعم بالمعانى، يكشف مناطق من داخلية المتحدث، وشيئا عن المتحدث إليه، ويتقدم بالقصة خطوة للأمام.. قراءة أعمال كاتبنا الكبير، تبدو كمشاهدة أفلام سينمائية وليس مجرد سيناريوهات محكمة، فالروائى يدرك. كمصور، أفضل زوايا التصوير، وينتقل بسلاسة من لقطة عامة لغرفة واسعة، للقطة كبيرة، قريبة، لذراع تمتد من تحت ساتر خشبى، بحثا عن جسد فتاة نائمة.. وثمة خبرة بفن المونتاج، فلا مشاهد زائدة عن الحاجة، واللقطات سريعة، وعدد صفحات كل فصل لا يتجاوز عدد أصابع الكف الواحدة. وللمؤثرات الصوتية دورها فى تدعيم أجواء الأجواء المتباينة، حتى أن بعض الأعمال تحمل عناوين من نوع «دق الطبول» و«صخب البحيرة».

عملان، قدمتهما السينما المصرية: رواية «بيوت وراء الأشجار» التى حققها محمد شعبان، فى فيلمه الروائى الوحيد، بعنوان «الشرف» عام 2000، والقصة القصيرة «ابن موت» من مجموعة «أحلام رجال» التى أخرجها محمد كامل القليوبى، بعنوان «خريف آدم» 2004، مستفيدا من قصص أخرى، مثل «الجواد العائم» و«منحنى النهر» و«ضوء ضعيف لا يكشف شيئا».. وذكر لى الصديق العزيز، محمد كامل القليوبى، أن البساطى، عاشق السينما، دأب على مراجعة خطوات كتابة السيناريو، وجاءت ملاحظاته، سديدة ودقيقة.

فى الأجواء القاتمة لحرب 1967، تدور أحداث «الشرف» بطلة الفيلم الرقيقة، الجميلة، ابنة بورسعيد، بأداء ناعم، متفهم، من جيهان فاضل، تغادر  مع شقيقها وزوجته، مدينتها الحبيبة، ليلا، عبر البحيرة، مع الآخرين، إلى مدرسة للإيواء يكون نصيبها نصف فصل، تسكنه مع أسرتها. المكان ضيق وخانق، تتزوج مجبرة بمن لا تحب، وحين يخفق قلبها بحب آخر، ينكشف أمرها. تحبس فى حجرة ضيقة، يحاول حبيبها إنقاذها، لكن لمبة الجاز تقع فى الحجرة ليمسك لهيبها بأكوام القش. ينتهى «الشرف» بنيران تزداد اشتعالا. وفيما يبدو أن الجمهور لا يحب مشاهدة هزائمه على الشاشة، وبالتالى لم يحقق الفيلم نجاحا يعتد به.. أما «خريف آدم»، فبرغم ظروفه الإنتاجية المتعثرة، استطاع أن ينتزع كمية كبيرة من جوائز المهرجان القومى، هنا، أجواء الأخذ بالثأر، حيث الضغينة، والانتظار المؤلم للانتقام، بأداء جيد من هشام عبدالحميد، وتعاسة من قتل زوجها فى ليلة العرس، بتألق صامت من جيهان فاضل.. إنه فيلم مهم، يفتح أمام السينما المصرية، أبواب عالم محمد البساطى، المليئ بالدرر واللآلئ.

 

(عن الشروق)