نهايات حقبة من رواية ما بعد محفوظ

رحيل محمد البساطي بعد شلبي وأصلان

عباس بيضون

إنه عام واحد. لم يدُر العام إلا وقد ربّت خسارة الرواية المصرية بل العربية على ثلاثة، لا نخطئ إذا قلنا انهم من أعمدة الرواية المصرية المعاصرة بل الرواية العربية المعاصرة. فقدنا في البداية خيري شلبي فغابت معه رواية نبشت بواطن المجتمع المصري وأخرجت أحشاءه وكتبته بلغته تقريباً ومن لنا بعد خيري شلبي بروائي يجوس في عوالم الطبقات السفلى وأهل الهامش والمجتمعات الرثة، من لنا بعد خيري شلبي بروائي يروي قصة عباءة وقصة طقم صيني بالموهبة التي يروي بها قصص المشردين والباحثين عن مأوى لنومهم، حتى ولو كان هذا المأوى في مرحاض عمومي. لم يدر العام الا ونحن نفتقد ابراهيم أصلان، همنغواي الرواية المصرية ومع ابراهيم اصلان نفتقد الجملة الناعمة والحساسة ونفتقد الفانتازيا الحنون ونفتقد الفكاهة والشاعرية.

حين فهمت من مقالة لمنصورة عز الدين نشرناها في «السفير» ان محمد البساطي مصاب بسرطان الكبد، نقلت هذا الفهم إلى مصريين التقيتهم فكانوا متعجبين من كون محمد البساطي مريضاً بهذا الداء ولا يبدو ذلك على وجهه ولا في ثنايا حديثه، ولا يعلم به الناس جميعا، بل إن واحداً نقلت له خبر منصوره، قال إنه التقى من عهد قريب بمحمد البساطي ولو كان البساطي حقاً يعاني داء كهذا لكان صرّح ولكان علم به من حوله. مضى الوقت ولم نسمع بخبر عن البساطي حتى خلنا ان خبر مرضه قد لا يكون دقيقاً وإنه ربما تعافى أو يتعافى. خبر مرض أديب في وزن البساطي لا بد أن يكون ذائعاً ولا أعلم إلى الآن لماذا لم يذع. لا أرد هذا إلى أن البساطي مغمور، فالرجل ليس مغموراً ولا أرده إلى تجاهل له فمثل البساطي ليس معرضاً للتجاهل أو الإنكار. رددت ذلك إلى حيائه وإلى انفراده وإلى إشفاقه من أن يتلهى بخبر مرضه أو يذيعه بين الناس. حياء يصل إلى حد السكوت على مرضه ومعاناته بصمت. أرد ذلك إلى حياء البساطي وإلى لطفه، وبوسعي أن أرد إلى هذا الحياء أموراً كثيرة قد يكون من بينها أنه لم ينل جائزة الرواية وتقدم عليه فيها من هم دونه موهبة وصيتاً. لكن ابراهيم أصلان لم ينل الجائزة في حياته أيضاً وهم الآن يسعون له بها بعد موته. خبر كهذا لا نعرف إذا كان يثمّن ابراهيم أصلان أم ينتقص منه، وما الذي منع ان ينال روائي في وزن ابراهيم أصلان أو في وزن البساطي في حياته، ومن المعلوم ان روائيين مصريين أو عرباً حصلوا على الجائزة، وهم بدون شك دون البساطي وأصلان قيمة روائية. بل نحن إذا علمنا أن شلبي وأصلان والبساطي قد يكونون، الثلاثة، أهم روائيي زمنهم من العرب والمصريين تعجبنا من أن أياً منهم لم ينل جائزة الرواية في حين أن أياً ممن نالها لا يفوقهم موهبة ولا أثراً ولا حضوراً.

لنعد إلى إبراهيم البساطي، لا أخفي أنني من محبي أدب البساطي، منذ قرأت له المقهى الزجاجي في كتاب حوى روايتين معاً، حتى آخر ما قرأت له، وقد يكون «الخالدية»، وهي رواية فانتازية قلما نجد لها موازياً في أدبنا الروائي. أنا معجب بالبساطي وقد يكون سبب إعجابي ان البساطي يتميز بخاصتين هما السلاسة والبناء. خاصتان قلما نجدهما في أعمالنا الروائية التي نجد فيها خيالاً ونجد فيها مقدرة على السرد ونجد فيها، وخاصة في الرواية المصرية، قدرة على إدارة الحوار وعلى التقاط الحكايات الأخاذة، لكن قدرة البساطي على البناء وعلى تحويل روايته التي هي في العادة قصيرة إلى تحفة. مقدرة تخصّه وحده ونحن طالما افتقدنا في الرواية العربية هذه المقدرة بل نحن نفتقد في الرواية هذه الشاعرية التي جعلت من البساطي شاعر الرواية بحق.

كان البساطي يرفد الرواية العربية بواحدة في كل عام. جوهرة صغيرة في كل عام وعمل مصنوع بدقة جوهري وبمعمار قلّ نظيره في روايتنا، وبشعرية هي نسيج وحدها. لعل من العجيب ان يرحل ثلاثة ساروا على فن روائي أنجب في مرحلة سابقة أمثال نجيب محفوظ، وخرجوا منه وعليه، وأسسوا بحق رواية ما بعده. من العجيب أن يتتابع رحيل الثلاثة في عرض عام واحد. ليس لي الآن ان أقدر خسارتنا بهم، فالأرجح انها خسارة فادحة والأرجح أن الوقت لم يحن بعد لهذا التقدير. الأرجح ان الثلاثة لم يُقرأوا ولم يُقرأ جيلهم كله كما ينبغي. بقي النقد في حديث نجيب محفوظ وما يزال. وأظن ان رحيلهم سينبه إلى هذا النقص، ورحيلهم سيــؤدي إلى إنارة لمرحلة ما بعد محفوظ وسنجد أننا هكذا سنــقع على رواية فيها ما يستحق الالتفات، بل سنقع على مرحلة كاملة لها ما يبررها وفيها ما يبررها. لا نتجاوز إذا قلنا إن الأوان حان لمثل هذا البحث. لا نتجاوز إذا قلنا إن الرواية المصرية، بل العربية لم تتوقف عند نجيب محـفوظ وإن في أدب روائي كمحمد البساطي قوة بناء محفوظ، بالإضافة إلى طرافة لم نعرفها في أدب محفوظ الذي اتجه اتجاهاً آخر قدّم التحليل الاجتماعي على ما عداه، لا نتجاوز إذا قلنا إننا ودعنا روائياً كبيراً وإن براعته ستتضح لنا مع الوقت.

 

(عن السفير)