البساطي: أثر الفراشة

هشـام أصـلان

بعيدا عن النحيب، والميل إلى الشجن، جاء خبر رحيل الكاتب المصري الكبير محمد البساطي، ليجدد الأحزان على الجماعة الثقافية في مصر، ذلك أن السنوات الثلاث الأخيرة، شهدت رحيل عدد كبير من رموز الثقافة المصرية، كتابا وتشكيليين، من المنتمين لنفس جيل محمد البساطي، الذي فضل الابتعاد عن الأنظار طيلة فترة المرض، والتي استمرت نحو عام، أو أكثر قليلا.
وبطبيعة الحال، كان الشيء الذي يحمل بعض الكوميديا السوداء، وكان مثارا للسخرية المريرة، هو فوز الرجل بجائزة الدولة التقديرية في الآداب، قبل رحيله بأيام قليلة، حتى أن بعض السعادة لم تلحقه، حيث كان اشتد عليه المرض، ودخل في غيبوبة بعد يوم أو اثنين من إعلان خبر حصوله على الجائزة
.
قبل رحيله بفترة قليلة، كنت أقرأ روايته
"صخب البحيرة" بانبهار. ويوم مجيء الخبر، رحت أتصفحها. لفتتني كلمات البداية كأنني أقرأها للمرة الأولى، يقول:

"تتلاحق أمواج البحيرة في فتور، صغيرة متناسقة مثل أرض محروثة، يجذبها هدير البحر عند المضيق، تنساب إليه وقد ضاقت بها الضفتان."

هذه صورة لا يقدر عليها إلا كاتب من قبيل محمد البساطي، تليق به، وتصلح مدخلا لرواية فاتنة، من تلك الروايات الخالدة. كتبها البساطي بلغته المعهودة. ذلك السرد الذي يحيلك إلى الحالة الشعرية دون الوقوع في فخ شعرية اللغة الموسيقية.
يعتبرها كثيرون قلبا لأعماله الأدبية. ولم لا؟ فالروايات العظيمة هي التي تحول بشرا عاديين، إلى حواديت ونماذج إنسانية متفردة، تمتعك وتغني تجربتك الحياتية، وتخلد أماكنها، ويتجلى تحقق الكاتب، إذا ما استطاع الوصول إلى هؤلاء الذين جسدهم، وخلق منهم أيقونات
. رواية لا تخاطب ترجمة، أو جوائز، هي فقط شيء من البوح والفن، وهي أحدى نماذج الروايات الكبرى بامتياز، أو بلغة السينمائيين، هي "ماستر سين" محمد البساطي. واحدة من تلك الروايات التي تعرف، بقراءتها، الفرق بين كاتب استغرق في عالمه إلى حد التماهي معه وتخليده باقتدار، وبين كاتب اصطنع عالما، أو حتى تعامل مع عالمه الخاص، ولكن من فوق السطح.

"صخب البحيرة" .. سيرة حياة
فهذه الرواية، ربما تكون الأقرب إلى الواقع الحياتي للبساطي، ورغم أن معظم أعماله تدور داخل أجواء الريف وتفاصيله وناسه الذين لا تشغلهم القضايا الكبرى، إلا أن "صخب البحيرة" تحديدا هي الأقرب، بحيث أنه عاش مع أبطالها حول بحيرة "المنزلة" في محافظة الدقهلية، مكان مولده في 1937، قبل أن يحصل على بكالوريوس التجارة، ويعمل بالجهاز المركزي للمحاسبات، ما وفر له حياة مادية "مستورة" عفّته، بقدر ولو قليل، عن إهدار جزء من طاقته الأدبية في العمل الصحفي، مثل كثيرين.
لذا، لم أصدق الذين قالوا إن البساطي كان مظلوما أومهمشا، مستندين على بعض الأمور، مثل حصوله على جائزة الدولة التقديرية قبل رحيله بأيام، رغم إنجازه الأدبي. فليذهب تكريم الدولة إلى الجحيم. فمثله تكبر به الجوائز ولا يكبر بها
.

عندما جاء خبر رحيل محمد البساطي عن 75 عاما. قال الأصدقاء إنه استراح. ذلك أن معاناته مع سرطان الكبد كانت قد طالت، وازدادت الآلام حتى دخوله الغيبوبة، وكان رافضا لتدخل الدولة في نفقات العلاج. يفعل ذلك دون صراخ ضد هذه الدولة التي رفضها، لأن المبدع، كلما زاد إبداعا، يخفت صراخه السياسي، وتصبح مواقفه أكثر تأثيرا.

فهو، على سبيل المثال، عندما كان يشرف على سلسلة أصوات أدبية، التابعة لهيئة قصور الثقافة المصرية في وقت ما، وحدثت أزمة الروايات الثلاث، وجد، واتفق معه أغلب المثقفين المصريين، أن موقف وزير الثقافة جاء صادما.

وقتها أصدرت السلسلة برئاسة تحرير البساطي ثلاث روايات هي: "أحلام محرمة" لمحمود حامد، "أبناء الخطأ الرومانسي" لياسر شعبان، "قبل وبعد" لتوفيق عبد الرحمن. هذه الروايات أثارت حفيظة أحد أعضاء البرلمان عن جماعة الإخوان المسلمين، وقدم استجوابا لوزير الثقافة فاروق حسني، الذي أخذ موقفا غريبا، وصادر الروايات التي أثارت الجدل، رغم أنه كان منحازا لحرية الإبداع في مواقف أخرى معروفة.

ولم يصرخ البساطي أو يولول، لكنه قاطع وزارة الثقافة تماما، وباتت الدولة هي المهمشة من جانبه وليس العكس.

الكتابة .. فن الايجاز
والبساطي، كان واحدا من أعمدة فن القصة القصيرة في جيل الستينيات، ذلك الجيل الثقافي الذي يلملم أوراقه ويتوارى واحدا بعد الآخر خلال فترات متقاربة، بعدما ترك أثرا  خالدا في الثقافة العربية، ونثر في هوائها أدبا حلوا.
ومثل أبناء جيله من القصاصين، دخل محمد البساطي عالم الكتابة الروائية، لكنه تعامل معها بأنامل القاص، الذي يعرف قيمة الحذف والاختصار والتكثيف، ذلك أنه لم يكتب الرواية بقرار، لكنها المصادفة، ونداء العوالم الإنسانية العادية، المحتاجة إلى تجسيد لتصير غير عادية، فبالعودة لرواية "صخب البحيرة"، مثلا، أراد الرجل الكتابة، كما يقول في أحد الحوارات الصحفية: "عن صياد عجوز تائه، فانتهيت منه، لكني وجدت عالماً موازياً يتنامى ويتصاعد في رأسي، فصولاً متتالية حتى اكتملت في صورة رواية
".
تلك العوالم الموازية التي تحدث عنها، جاءت بشخصيات لا تقل أسطورية عن ذلك الصياد العجوز، فتجد "امرأة جمعة"، التي تذهب للبحر عند النوة لتجمع الأشياء التي فقدها آخرون، من حلي وملابس، يحسدها عليها نساء القرية، وتجد رجال البحيرة الذين يأتون ويذهبون في ظروف غامضة، وتجد صندوقا سحريا، تخرج منه كلمات بلغة غير معروفة. حكايات تحتار فيها، ولا تعرف إن كانت هي المحظوظة بكاتبها، أم أنه هو المحظوظ بها. تلك الحكايات التي تقرأها، وربما تنسى تفاصيلها، لكنها تكون قد أحدثت شيئا في وجدانك
.

لم يكن البساطي يتحمل فكرة أن يكتب رواية ضخمة، معللا ذلك بأنه يشعر أن باستطاعته: "نقل هذه الضخامة في رواية متوسطة الحجم، ودائماً أجد أن أجمل الروايات التي قرأتها، ذات حجم صغير، فالإيجاز مهم جداً، والكلام الزائد من شأنه أن يقلب كيان الكتابة، ويحدث نتوءات تشوهه".
أذكر في بداية عملي بالصحافة الثقافية، عندما هاتفته لأخذ رأيه في تحقيق ثقافي، حيث أن هناك علاقة إنسانية، اعتقدت وقتها أنها تكسر رهبة بدايات العمل، قال: "إذا كنت تريد أخذ رأيي في الفكرة فليست هناك مشكلة، لكن إذا أردت أن تأخذ كلامي لكتابته ضمن تحقيقك فأعذرني، لست جاهزا إلى ذلك الآن".. كان، بالفعل، عفيفا، غير متهافت، مقارنة بآخرين، وهذا لم يكن يمنعه من طلب أحد الصحفيين القريبين منه، ليدلي بتصريح ما، لم يخجله هذا لأنه يصدق نفسه، وبالتالي يصدقه الآخرون
.

وفي السنوات الأخيرة، خصوصا بعد إصابته بالمرض، كان منطويا، تسمع أن معنوياته مرتفعة، لكنك لا تراه إلا نادرا، كان عزيزا، يأبى أن يحمّل الآخرين أعباءً، ولو تمثلت في التعاطف معه، حتى أن الذين استطاعوا تهنئته بجائزة الدولة التقديرية، كانوا قليلين جدا.
يرحل البساطي هادئا، كما عاش، ويأتي العزاء، في الحقيقة، هزيلا، لا يليق بمن في مثل قيمته، عدد قليل من الكتاب والأصدقاء، وكراس كثيرة خالية .. قد يكون عدم وجود مفاجأة في الرحيل، كان له دور في ذلك التخاذل، وقد تكون طبيعة محمد البساطي، التي مالت إلى عدم الضجيج في كل شيء، في الحياة، والمواقف، والرحيل
.

لكن مثله، بطبيعة الحال مثل الإناء المليان عن حق، لا يصدر صوتا عاليا، لكن الأثر يكون قويا. حالة ربما أبلغ ما يعبر عنها بيت محمود درويش: أثر الفراشة لا يرى .. أثر الفراشة لا يزول.