الرياح البنية: الشعري والبصري

عبدالعزيز بومسهولي

يتألق الشعر والتشكيل في كتاب «الرياح البنية» للفنان التشكيلي محمد قاسمي والشاعر المبدع حسن نجمي؛ فالأول أنجز مجموعة كبيرة من التخطيطات والرسوم بالأبيض والأسود والرمادي تخترقها أحيانا تخطيطات كتابية كما هي عادة القاسمي في أعماله السابقة. أما الثاني فقد أبدع نصوصا شعرية مصاحبة للعملية الفنية التشكيلية خالقة وحدة إبداعية متفردة في تألقها وتعبيراتها، لذلك فإن تجربة القاسمي - نجمي تعد أول عمل تشكيلي شعري متكامل يضحى فيه كل عنصر من العناصر الفنية الإبداعية أساسيا لا يقبل الانفصام أو الخضوع فهناك علاقة حميمية تجمع بين الشعري والتشكيلي، وتولد تلك العلاقة حساسية بصرية شعورية ممتدة بين العين كأداة للملاحظة واكتشاف أبعاد المكان، وبين الذاكرة كأداة حاملة لصيغ الكتابة المختزنة في البنية الشعورية واللاشعورية أيضا. معنى ذلك أن هناك تواصلا أجناسيا بين الشعر والرسم، استطاع أن يخلق عملا إبداعيا متكاملا ذا أبعاد تناصية. لا يعني التناص هنا التضمين، تضمن الشعر للرسم أو العكس وإنما تداخلا أجناسيا مكثفا يحمل أبعاد لا تهم البنية المكانية فقط وإنما تمتد إلى البنية الزمانية والشعورية واللاشعورية. والتأويلية أيضا، ومن هنا تتجاوز هذه التجربة بقية التجارب الشعرية السابقة التي تستعين لتساعد القارئ وفق كيفيتها الخاصة على التقاط التعبير الشعري واكتناه مضامينه. فهي مدخل صغير، ولكنه موجود، للوصول إلى القصيدة، ويحضر الرسم كعلامة خارجية غير لغوية تمتلك قيمة إشارية لا عضوية، وقد تحضر العلامات غير اللغوية بشكل اندماجي أو عضوي في بعض التجارب القليلة جدا، والتي تقتصر فقط علي بعض المجلات كـ «مواقف» وغيرها[1]، كما يتجاوز هذا العمل المشترك بقية الأعمال السالفة الأخرى التي حاولت إخضاع الرسوم للقالب الشعري، وأخص بالذكر تجربة الشاعر محمد بنيس في ديوانه «في اتجاه صوتك العمودي»، وهي تجربة استفادت من التركيب البصري للأشياء والخط والرموز، والدلالات الكرافيكية، لإيجاد كتابة متحركة ذات علاقة حميمية بالمكان[2]. لكن الهدف الذي تتوخاه التجربة المذكورة يتحدد في اقتصارها على الجانب البصري الإيقاعي (خطيا) للعمل الشعري؛ إنها لعبة قراءة أو على حد تعبير بنيس نفسه «إعادة كتابة النص حتى يكشف عن فعاليته أثناء التفكيك - التركيب»[3]، فالنص الشعري هنا هو النواة الأساسية للعملية الإبداعية ويأتي التشكيل ليؤدي وظيفة تجسيد النص الشعري وهيكلته داخل فضاء مكاني تؤثثه مضامين القصيدة وحركاتها اللغوية. وليست تجربة «الرياح البينة»، كما جاء في كلمة الغلاف، «مجرد مجاورة بين تخطيطات القاسمي الحبرية - النصية ومتون نجمي الشعرية بل هي لقاء متشابك ومتواطئ بين حساسيتين جمعت بينهما رجة الهول المنفجر من حرب الخليج، وحماقة الظروف المرحلية، وحب الحياة. يتجسد الكلام أحجاما حفرية تنمو نمو الخط الأساسي في الرسم المحمل بانفعالاته الأساسية ولذته، المنكسر والمنحي والإيقاعي، المسافر بين ثنايا الرمل والموت وهول الرؤيا والجنون، هو سفر يتوحد فيه التخطيط بالقصيدة، ويتآزر الحبري والشعري ليؤسسا نصا واحدا يترواح بين العين وذاكرة نور والذاكرة، عين لم تكن حبة عنب وذاكرة مضيئة». إن جوهر «الإبداعية» في هذه التجربة المشتركة يقوم بالأساس على وحدة التناص الأجناسي؛ فالخطاب الشعري يستمد شرعيته الأنطولوجية من تبنينه داخل فضاء مكاني مجاور ومواز في الآن نفسه في الرسوم التشكيلية، إنها عملية أشبه ما تكون بعملية التقابل المرآوي، حين يكتشف الجسد سماته في المرآة - وأقصد هنا أيضا أن كلا المادتين «الشعرية والتشكيلية» مرآتان تعكس إحداهما الأخرى، وبذلك يتحقق التواصل التعبيري - البصري داخل وحدة «التناص الأجناسي» إذا صح هذا الاصطلاح. إذن هناك رابطة تخلق ما يسميه القاسمي «علاقة توازن» بين الامتلاء (الكائن، الشيء، الكتابة) وبين ما هو فضاء: الفضاء كوجود وككائن يستحيل بدونه أن نلمس بصريا أو تحسسيا وجود الأشياء وحضورها. ومن ثم يمارس كل من الرسام والشاعر تخيلاته داخل الفضاء. فلا يوجد بينهما وبين الشكل حاجز، فشكل القصيدة وشكل الرسم مرتبطان بالفضاء، وهو ما يؤسس بنية التكامل التي تعد سمة أساسية لجوهر «الإبداعية التناصية» كما هو الشأن في «الرياح البنية» للقاسمي ونجمي.

الكتابة والتشكيل:
بما أننا لمسنا نوعا من الترابط الحميمي بين الكتابة والتشكيل في «الرياح البنية» فلا بد من الكشف عن سر هذه العلاقة انطلاقا من ذات المبدع التشكيلي، وأعني البحث عن حالة الهوس بالكتابة إلى حد أسكنها في اللوحة التشكيلية، لتكون قولا يضيف أبعادا نصية إلى الأشكال البصرية، ولعل جل لوحات محمد القاسمي - وهو بالمناسبة شاعر أيضا، سبق وأن أصدر ديوانا باللغة الفرنسية أسماه «الصيف الأبيض»- تتسم بهذه الميزة منذ انطلاقته الفنية الناضجة وبالتحديد منذ سنة 1980، حيث بدأنا نلاحظ قفزة نوعية في أعمال القاسمي التشكيلية. فقد تميزت برؤية مختلفة للأشياء والعناصر المحيطة بها، حيث يتولد مشروع علاقة تحليلية استنطاقية تتطور إلى رغبة في التعبير. عن هذه التجربة يقول محمد قاسمي: «أسكن الكتابة في الوحدات التشكيلية لأن الكتابة تستكنني في حالتها المتنوعة، المتحركة، خط، نص، معنى، بصري وذهني، جسم، فلا يعود هناك فرق بين تلك الوحدات، وبين الكتابة، أدخل في اعتباري المسافة التي تفصل بيني وبين السند (أثناء الإنجاز وبعده) مواجهة جسدين، كما أدخل في اعتباري مشاهدة المشاهد، الجدار الذي أثبت عليه العمل لما يكون لدى اختيار التثبت ومنح الشهادة[4]. وبالفعل فقد أخلص القاسمي لهذا الاختيار الذي يطمح إلى معانقة سعة الواقع المتجول باستمرار، والانغمار في خضم العناصر والعلامات المتناقضة، المتناقلة، المتصارعة، المفتوحة على كل الاحتمالات على حد تعبير القاسمي نفسه، وهكذا فإن أغلب رسوم «الرياح المتحركة» تسكنها كتابات تخترق فضاء اللوحة بحرقتها الشعرية، وتمارس على الرسم سلطة الكلام. حتى إن الشاعر حسن نجمي تأثر معجبا بما يكتبه القاسمي في لوحات ذاكرة النور «شهرزاد والحرب»؛ فهو يخاطبه قائلا: «كنت عميقا حتى وأنت تطرق باب الكتابة الأخرى دون أن تستشعر غرابة أو اغترابا ما، ودون أن تجعل كلامك خجولا، أو مجرد ملء لثقوب في مساحات اللون - رائع أن ترسم وأن تكتب ... يهمني أن أعرف كيف تتوزع اليد علي جنسين في تجربتك وكيف تعود الخطوط نحو الجسد، «خطوط اللون وخطوط الكتابة» خصوصا في سياقات يتفاعل فيها داخل الذات مع خارجها، ويستسلم الجسد لجراح الروح، ونداءات الذاكرة القريبة والبعيدة» (ص 10). هذا التلازم الكتابي - التشكيلي، أو ما يمكن أن نسميه «المجانسة الشعرية - الرسمية تتمثل في أبهى تناسقها في «اللوحة» التشكيلية الأولى التي تحتل صفحتين كاملتين «الثانية والثالثة» من «الرياح البينة» على يسار اللوحة هناك قتامة طاغية للون الأسود، يتخللها بياض ترتسم حوله ملامح وجه وجسد، في أقصي اليسار غيوم سوداء ورمادية بارزة أشبه ما تكون بالسديم، وعلى يمين اللوحة يرتسم جسد أنثوي عار، وهو جسد شهرزاد، وفوقه خطوط طائشة يمينا ويسارا، ودائرة أيضا (خربشات). في أقصى اليمين تحتل الكتابة موقعها لتجعل اللوحة تنطق بما يلي: « ذاكرة نور:

في الليلة الخارجية عن الواحد والألف/ استوت شهرزاد في وضع إغرائي / جلست على عري غيمة / أينعت مفاتن جسمها (شطب القاسمي على هذه المفردة وعوضها بكلمة «جسدها») / فتحت فمها الشهي / جزر حب سرية / قالت (هناك تشطيب على عبارة «في تلك الليلة») شهرزاد متألقة فضاء الحكي/ والكلام في تلك الليلة المبهمة / تحول سديميا / القمر إلى فتائل دخان / سالت زرقة السماء / محلولا / سديميا / يسمع الناس/ صوت نور / الساكن في تجاعيد / الأرض / والماء / نور يركز على صمته / في زمن / موت الورد / موت الكلام / زمن الحرب / بين الموت والموت» (ص. 2)

يفتح القاسمي ذاكرة النور ليربط الماضي بالحاضر، ويجعل من تراث الأمة المضيء متمثلا في شهرزاد شاهدا على الدمار الجديد الذي تحركه نزعة انتقامية هدفها تفتيت الجذور التاريخية للحضارة العربية العريقة في أماكن تاريخية عريقة محددة كبغداد، الموصل، النجف، البصرة… الخ. إذن في هذا الترابط بين الجسد الأنثوي الأسطوري، وبين مأساة الحاضر أو تراجيديا الدمار، قوة صمود تحيل الحدث المتجلي بعنف إلي ذاكرة الحكي / ذاكرة نور، وبذلك استطاع القاسمي في تجربته التشكيلية أن يؤسس مشروعا للمغامرة، «هذه المغامرة تفترض نكوصا نحو الذات الحميمية، واحتشادا لبياض المعرفة والمجهول وتفترض أيضا تزاوجا بين جدارين، «جدار اللغة - الشكل، وجدار الموت» على حد تعبير جان بيار ريشار[5] يستوقفنا تخطيطا للصفحة (55) يمثل حضور الحياة والخصب في مواجهة الموت المتربص، حيث انتصب فوق الذات الإنسانية / الجسد النابض نخلة باسقة، وانتظمت الكتابة تحت التخطيط لتؤكد عمق التواصل بين الذات والتاريخ بين الكائن والوطن. يقول القاسمي:

«جسد النخلة / مشدود إلى جدعي (سهم) تمتد عروقك في جسمي أو عروقي في جدعك».

يخلق الفنان حالة تماه بين الذات والنخلة سواء على مستوى الرسم أو التصوير البلاغي الكتابة، فهو يعمد إلى تقنية الاستبدال اللغوي، أعني نقل السمات المناسبة للذات إلى النخلة، أو العكس، وبذلك فهو يبعدنا عن لغة الكلام اليومية، أو لغة الحقيقة العارية، لذلك أقصي الجملة التالية: جدع النخلة مشدود إلى جسدي، واستبدالها بالجملة البلاغية: «جسد النخلة مشدود إلى جدعي». والذات ترى في النخلة، رمز الخصب، استمرارا بالأحرى امتدادا للجسد، جسد الكائن، وتبقى العروق سمة مشتركة بين الكائن والنخلة، وفي ذلك إشارة إلى أنطولوجيا الكائن الموغلة في التاريخ والأشياء.

التشكيل والحرب:
لا شك أن السؤال الذي فاجأ الشاعر حسن نجمي، سؤال مشروع وجوهري، لذلك لم يتوان الشاعر في توجيهه إلى الفنان محمد القاسمي في نص الرسالة - التقديم قائلا: كيف أمكنك التغلب على أصابعك في ظل حدث ثقيل (الحرب) كي ترسم ما رسمت، وتفتح معرضا تشكيليا انتبهت فيه إلى صمت النهر والحجر واختراق النخلة والمعمار والأثر… والإنسان ؟ {ص. 4}.

في 1980 كتب محمد القاسمي نصا جميلا يتمحور حول تجربته الفنية نقتبس منه ما يلي: "بالنسبة لي، من رؤية الأشياء والعناصر المحيطة بي، يتولد مشروع علاقة تحليلية، استنطاقية تتطور إلى رغبة في التعبير. إن الحدث سواء كان ذاتيا أو خارجيا، هو الرصيد الذي يمدني بعناصر لتكوين ملامح لوحاتي، حتى عندما يختفي وراء إيقاعات كرافيكية خطية لها إيحاءات مختلفة فمهما اتخذ أشكال تباعد بينه وبين مرجعيته «الواقعية» فإن الحدث يظل هو المنطق "[6] {التشديد مني}.

إن استجابة الفنان للحدث تأتي من منطلق الإحساس بدور الفنان في مواجهة الجنون الإنساني، والخروج عن منطق الحياد الزائف، ومن ثم فإن مهمته مزدوجة: الأولى وظيفة فنية جمالية تهتم بصياغة الأشكال والألوان والخطوط، والثانية وظيفة بلاغية اتصالية تهتم أساسا بفتح الأبصار، وتحسيسها بالمشهد العام المنفجر (الحرب) وهول الكارثة. فموضوع الحرب كما يرى القاسمي: «يفتح أمامك أبواب سراديب المجهول وركوب أساطيل المغامرة لمواجهة الهزة، وقوة الريح، ووسيلتك الوحيدة للقول وفتح الأبصار. ورفض العنف والموت هو الفن» (ص. 16). تتجسد ثورة الفنان التشكيلي على واقع ينزع نحو إلغاء الذاكرة، والتاريخ، والتراث، والأحياء في استيعابه للحدث، ودخول مغامرة إبداعية تتحول عبرها الألوان والأشكال والخطوط إلى كائنات احتجاجية، تقوم العنف، وتمارس حقها الطبيعي في الحياة، تقاوم الموت وتنزع نحو الاستمرار؛ ففي أغلب تخطيطات ورسوم الكتاب يستمر الجسد في شموخه، ويهتز جدع النخلة باسقا، وترفع المآذن والأبراج سامقة، ويبزغ الهلال مؤكدا حضوره، رغم القتامة الطاغية لسواد مخيم بأشكاله المخيفة التي تحفز التربة، وتحيل الأشياء إلى دخان (انظر الرسوم في الصفحات: 57 – 61 – 63 – 65 – 73 – 21 – 25}.

يرتبط الفنان بالحدث ليكون تلك العين التي تلتصق بالعالم، وتحيل المأساة بمشاهدها المؤلمة المرعبة إلى ذاكرة النور حيث إضاءة الحكي والرسم:

"أنا عين/ جسد ملتصق بالأشياء والحوادث والماء / الماء سائل نسيج أسطوري / يحكي عبور أصوات التاريخ والليل ودمع الغرباء / وتلك التي غابت عن مفاهيمها في النسيان / غاب عنا معناها الأصلي وواقعها المتداخل / وأنا اليوم أسبح في نهري دجلة والفرات / وتبقي شهرزاد تحكي كي لا تموت / ونور يتحول في ثقوب التاريخ وحفرياته الممسوحة / نور باحث لا يكل» (ص. 20}.

استطاع الفنان محمد القاسمي في «ذاكرة النور» توظيف العلامات التراثية - الحضارية والفلسفية، فخلق بذلك موقفا منسجما. والقيم الفنية الجمالية ترتقي بالإنسان إلى نقاء الروح، حيث يحتل النور ردهات الضمير الحي المتيقظ.

3ـ الشعر والتشكيل:
لا نود في هذه النقطة إعادة ما سبق طرحه في مقدمة هذه القراءة / حول تجاور التشكيل والشعر وتكوينها لوحدة نصية في تجربة الرياح البنية. ولكننا هنا نتوخى الكشف عن استفادة الشاعر من التقنيات التي أتاحها الفن التشكيلي لمبدع المتن الشعري. إن الشاعر في هذه الحالة يبدع قصائد تشكيلية، تتجاوز مفهوم الصورة الشعرية الكلاسيكية التي ترتكز في أساسها علي بنية التشابه، التي تنطلق من تقنية القياس لتأسيس صورة قاعدتها التناظر الصوري. أما في نسميه بالقصائد الشعرية، فهي بحساسيتها الجديدة تلج عتبة القطيعة الإبستيمية، لأنها تؤسس مفهومها للصورة من بنية الاختلاف، حيث تقصي المشابهة والقياس. ومن ثم لا يوجد مبرر للحديث عن الصورة الشعرية المعيارية، إن تقنية التشكيل تتيح قراءة أبعاد القصيدة: الزمانية، المكانية، اللغوية والميتالغوية، واكتشاف البعد الرابع حيث تتشابك العلامات القولية - البلاغية، وتشكل تشكيلا دلاليا عميقا.

يرسم الشاعر حسن نجمي لوحات شعرية موظفا الإمكانيات التشكيلية، مستفيدا من اقتصادية اللغة، وإبلاغيتها؛ فهو ينتقل من موضوعة معينة (تيمة) ليوغل في تحديد سماتها وجذورها المتشابكة. فإذا كانت «علامة الحرب» «تيمة» أساسية في قصائد المجموعة، فإن جذورها تنكشف في شكل علامات متشابكة تكون صورا شعرية متوالية، متتابعة دون أن تعتمد على أدوات لغوية رابطة، ولتوضيح ذلك نتأمل الصور الشعرية التالية:

1 - النخل المغسول/ وهذا المدى قاحل في عينيك/ ها كل الواحات موحلة باتساخ الرايات {ص. 22}

2 - الورد الأكثر حظا / أفلتها ظل القصف في الليل (ص. 24}

3 - العشب الذي كان يبحث عن شمس / الحجر الذي ينتظره ليله / يستدعيان البكاء.(ص. 26)

4 - التلال التي بلا اسم / تظلل موتا ضليلا / تحت رمل الوقت (ص. 28}

- لدينا ما يكفي من حداد / لنتزاحم علي الأحجار القتيلة (ص. 30}

- على وسادة الريح شممنا رائحة الحرب مندسة في العشب / خشخشات السديم/ تعلن يقظة الدم الباقي (ص. 32}

5 - النهر الذي ترك الجسور أشلاء / كان يتقدم صافيا نحو سرير نومه (ص. 34}

- تسقط الجسور في النهر/ ولا تسقط جسور الكلمات/ وناهضا يمضي الماء إلى سريره {ص. 36}

6 - دع نهر الدم الآن/ ثمة ندى لن يجف في العي/ أنت تراه/ وتغار العين من دمعتها.(ص. 38)

7 - ياه! رأيت النافدة المفتوحة على نهر عزلاء / تنزف دما ----- / في آخر الليل.(ص. 40}.

- والجسر محظوظ بما يكفي / سقط نصفه في الماء / الجسر/ هل زرت الجسر المكسور؟ الجسر / كم يصون للأيام أبهى الأيام! / كم يصون للدم من دم! (ص. 42-44}.

هناك إذن سبع وحدات شعرية، وقد تتضمن الوحدة الشعرية أكثر من صورة شعرية واحدة، والملاحظ أن هذه الوحدات التشكيلية تتصدرها علامات اسمية. فهي تحتل موقع الابتداء كما هو الشأن في 1-2-3-4-5 أو موقع المفعولية كما هو الحال في الوحدتين (6-7) وهي تنتمي إلى الحقل الطبيعي، «علامة» الوحدة (7) أعني النافذة»

وهي أيضا تحمل خاصية التعريف بـ «ال» إلا علامة الوحدة (6) المعرفة بالإضافة «نهر الدم».

كما لا يربط الشاعر بين هذه الوحدات بأية صلة قولية أو نحوية، كاستعمال أدوات العطف أو الاستئناف وغيرها، وهو ما يعني أن كل وحدة تكون مشهدا تشكيليا يختص باستقلاليته. إنه يقع في بنية مفككة دون أن يعني ذلك الوقوع في شرك انفصام المضامين، فالتفكك هنا تشكيلي أشبه ما يكون بتقنية اللقطات السينمائية الساكنة والمتوالية في الآن نفسه، لكن دلالته توحي بالقيمة الأساسية «الحرب» التي تسكن ثنايا النص. إن الشاعر ينطلق من الجذور للوصول إلى الموضوعة الأساسية. أي من العلامات اللغوية المتعددة التالية: «النخل - الورد - العشب- الحجر - التلال - موت- النهر - نهر الدمالجسر» ليصل إلى التيمة الأساس «الحرب» (على وسادة الريح / شممنا رائحة الحرب مندسة في العشب).

إن التفرعات الموضوعاتية تنبثق من الموضوعة الأساسية بطريقة توالدية أو وفقا لنسق تصادمي تجاوزي، وهو ما يعني حادثا أو موقفا يظهر بصورة شعورية أو لا شعورية في نص أو في مجموعة من النصوص الأدبية، كما في اللوحات التشكيلية والروائع النحتية.

كما نستكنه من هذه المنهجية التوالدية دلالات نفسية تكشف عن موقف شعوري - نفسي مما يجري في العالم الخارجي، ومن هذه الدلالات دلالة الانتظار والترقب المشوبة بالفزع «على وسادة الريح شممنا رائحة الحرب مندسة في العشب». إن الحرب كحادث مأساوي تشكل مثيرا أساسيا للضغط النفسي، والاضطراب السلوكي على نحو ما نجده في هذه الصور:

- دع نهر الدم الآن/ ثمة ندى لن يجف في العين / أنت تراه

- ياه! رأيت النافذة المفتوحة على نهر عزلاء / تنزف دما / في آخر الليل.

يزاوج الشاعر هنا بين فعل الرؤيا وبين المأساة بين العين والدم/ وهو ما يوحي بمستوى دلالي- نفسي آخر يثوي في البنية الذهنية للشاعر وأعني به الإحساس بالعجز النفسي نتيجة عدم القدرة على وقف المأساة / الحرب. وهو ما أيضا إدانة الضمير السياسي.

يخلق الانفعال النفسي انفعالا لا يكشف على المستوى الإبداعي سواء عند الشاعر أو الفنان التشكيلي، وثم نلاحظ ما يمكن أن نسميه بالاضطراب الدلالي العميق للجملة الشعرية، وهو ما يخلق أحيانا انزياح الدلالة، وفجوة التوتر الحادة، كما يقول الشاعر:

«الورد الأكثر حظا»

«أفلتها ظل القصف في الليل »

يتجلى الاضطراب الدلالي هنا في احتلال إحدى المرادفات الاستبدالية لليل «وردت هان في صيغة ظل» لموقع فاعل «أفلت»، بدل الفاعل الحقيقي «القصف» الذي احتل موقع المضاف إليه، ولعل الترتيب العادي لهذه الجملة هو كالتالي: «أفلتها القصف في ظلام الليل».

وبذلك تكشف الدلالة عن نفسها بوضوح معبرة مستوى الحقيقة أو ما يمكن تسميته بمستوى الإضاءة، لكن الشاعر بإحداثه التغيير على مستوى المحورين الاستبدالي والنسقي إنما ينقلنا من حالة الإضاءة إلى حالة العتمة، حيث تغطي حركة القصف - العنف بظلها علي عتمة الليل.

4ـ الشعر والحرب:
يرى «ث.ڤ. أدورنو» أن العمل الفني تسجيل للعلاقة التاريخية التي تربط الفرد بالمجتمع من العقل الذاتي، والشاعر وهو يكتب ممتلئ بالواقع التاريخي، يتحسس الصوت الذي يتزاوج فيه العذاب الذي يعانيه والحلم الذي يضعه نصب عينيه، ولا بد أن يغوص في ذاتيته الفردية لكي يتمكن من تجاوز هذه الذاتية، ويشارك مشاركة موضوعية في لغة المجموع وفي ما هو إنساني لم يتشوه بعد ----- إن عليه أن يقرأ الساعة التاريخية التي تدق في القصيدة.[7]

وحين اشتعلت حرب الخليج، كان الأمر يتطلب استجابة شعرية من نوع جديد، استجابة ليست سياسية بل مضادة لما هو سياسي (وما يتضمنه من إعلام دعائي رسمي وصحفي وإذاعي وتلفزيوني»، ولذلك بدت القصيدة مضادة لا للحرب، وبالطريقة المباشرة المعهودة بل مضادة لحضارة تشوه ملامحها المجهدة الآلة الإعلامية بالغة الضخامة». (اللحظة الشعرية)[8].

يطرح حسن نجمي تصوره لاستجابته كشاعر زامن صدمة الحرب فيقول:

«كيف أستجيب إبداعيا لقوة الحدث؟ وهل على الكتابة دائما أن تختمر طويلا كي يتحول التاريخ من الصالون إلى المطبخ الشعبي؟ وبالقدر الذي كنت أعرف فيه ثمة خصوصيات لتفاعل وإحساس كل مبدع على حدة، كنت أدرك في نفس الآن أن يدنا المثقلة بوحدتها، لم يكن سهلا عليها أن تقاوم كل تحولات المشاهد في فضاء «طبيعة ميتة»، الفضاء الذي أصبح دفعة واحدة متعسكرا، ثم إقناع نفسي في النهاية بأن الأمر ليس بهذا المستوى من التبسيط، وأن علاقة الإبداع بالحدث، أي حدث أعمق من أن نحصره في تحديدات تفتقد إلى كثير من لعاب الرغبة[9]. وبما أن الحدث هذه المرة فاجأ القصيدة، فإن الشعر يستأنف الحرب. فلا وقت للمراثي على حد تعبير حسن نجمي، فوظيفة الشعر في هذه الظرف تسير في الاتجاه المضاد لوظيفة للحرب؛ فإذا كان العنف مدمرا، فالشعر يقاوم الهزيمة والتدمير، ويستأنف التأسيس:

- تسقط الجسور في النهر

- ولا تسقط جسور الكلمات

- وناهضا يمضي الماء على سريره (ص. 36)

وحيث الحرب تؤسس لخطابها الدموي، وتستمر في نهجها اللاعقلاني المتطرف، فإن الكتابة الشعرية تحفر في المسكوت عنه وتندمج في حمأة الحدث، ففي رعب القصيدة مقاومة لرعب الحرب:

«تراب/ لليتيم. سماء الكتابة معشوشبة بأشلاء الحديد/ ركامات! / أكل هذا الورق مريب ؟ / طائرات بين السطور …… وحرف مدرعات الحرب!؟» (ص. 68)

وإذا كانت الحرب سلطة من سلطات الموت المتعددة، فإن ذاكرة النور تخترق فضاء الموت، ويتواصل إشعاعها مضيئا في تاريخ الإنسانية مؤكدا حضوره الفعال:

«برد الكأس/ برد الجندي المداوم تحت سماء الكآبة / وحدها أزرار الموت ساخنة. والشمس / وذاكرة النور[10] مشتعلة بلونها» (ص. 74) في معادلة الكون هناك صراع بين الموت وما يتضمنه من نسيان وظلمة وانتهاء، وبين ذاكرة النور وما يتضمنه من حياة مضيئة واستمرارية لجوهر الفعل الإنساني، ولا يقصد الشاعر من هذه المقابلة إبراز تضاد وجودي يشكل جدلية الفناء والبقاء، أو الموت والحضور، إنها محاولة استكناه الكون، والتساؤل عن مصيره، وتلك هي الإشكالية الجوهرية التي تتمحور حولها قصائد المجوعة الشعرية لحسن نجمي.

وحتى يتمكن الشاعر من رسم صورة الحرب، فإنه يخلق شحنات نفسية تمتح من التشكيل البلاغي خالقة الانزياح، وهو يشكل بذلك صورا نفسية يتماهى فيها الشعور الذاتي بأشياء الحرب وعلاماتها على نحو ما نجده في هذه الصور (انظر القصيدة 2 في «الرياح البنية» من ص 46 إلى 58): «دعي النوافذ مفتوحة/ لن تتأتي الطائرات الخفية الليلة/ ستقصفنا جراحنا القديمة» (ص. 46)

فالشاعر ينفي حضور طائرات الحرب الخفية، ويؤكد بالمقابل حضور الجراح القديمة، وبين الغياب المادي والحضور النفسي تأسيس لصورة الحرب، فإسناد الفعل المضارع الذي حولته دلالته إلى الزمن المستقبل بدخول السين عليه «ستقصفنا» إلى الدال «جراح» يؤكد إحدى وظائف الحرب المتمثلة في القصف، بمعنى التدمير، وتحول الدلالة الوظيفية من طائرات إلى جراح، خلف ما نسميه بالاستعداد النفسي للمأساة، ويستغل الشاعر عنصر الزمن لشحن الصورة البلاغية بالأثر النفسي كما هو الشأن في ما يلي:

«لم تجد ليلة الحرب سريرا / فسهرت معنا مفزوعة في غرفة الأطفال. إني هنا بانتظار الموتى / كي نلمع حشود النعاس على/ الجدارية». يتداخل الزمن المادي بالزمن النفسي في هذه الصورة، فإذا كان الليل فترة للهدوء والنوم، فقد أضحت هنا مؤنسنة، تحمل سمات إنسانية ذات دلالات نفسية «سهر + فزع» بالإضافة إلى سمة الهروب التي يمكن استيحاؤها من الجملة الشعرية الأولى: لم تجد… سريرا» ينتفي الفارق بين زمن متسارع نحو لحظة الفزع، وبين الذوات الإنسانية الملتجئة بغرفة الأطفال في انتظار الموتى. إن الشاعر بذلك يخلق حالة التدرج النفسي، باتجاه حدوث الصدمة، فإذا كان غياب الطائرات دلالة على الاحتماء من الموت، فإن حضورها يشكل حركة مضادة في اتجاه الاغتيال والشهادة:

«وتصل غيمة أخرى مسلحة / بالطائرات / تأتي الطائرات لتصطاد القمر/ وتسقط نيازك الموت على عراء / السطوح / ولا نافذة في هذا الليل / كي يطل عربي على عربي/ كنا قد أطفأنا ضوء الغرفة / وفتحنا الشفاه لنتفرغ لكأس القبلات / فجاءت الطائرات المغيرة / ولم أجد فما قرب فمي / استشهدت القبلات وحجزت السماء للقصف. (ص. 58).

ولتأكيد حضور الطائرات كدال لغوي « في صيغة جمع المؤنث السالم»، فإن الشاعر يوظف تقنية التكرار اللفظي، الذي يكتسي سمة إلحاحية:

ج1- وتصل غيمة مسلحة بالطائرات

ج2- تأتي الطائرات لتصطاد القمر

ج3- فجاءت الطائرات المغيرة

ولتكرار وظائفه الشعرية - النفسية، فالصورة في الجملة الأولى توحي بالكثافة المبالغ فيها لحركة الطائرات التي شكلت ما يشبه غيمة وهي صورة كنائية،

وفي الجملة 2: يسند الشاعر للطائرات وظيفة إنجازية «اصطياد القمر» وفعل تصطاد مرتبط بلام التعليل، وفي الصورة حضور للاستعارة ذات العمق التشبيهي، (تشبيه الطائرات بالصياد).

أما الجملة3: ففيها تأكيد لحضور الطائرات الفعلي، ونفي للجملة التي جاءت في مقدمة القصيدة «لن تأتي الطائرات» وفي قوة الحضور غياب للحياة وسيطرة للموت. «وتسقط نيازك الموت على السطوح»

يستغل الشاعر هنا الدال الجزئي للدلالة على الدال الكلي

«لم أجد فما يقرب فمي / استشهدت القبلات"

فالفم دال جزئي له دلالة قصيدة كلية، وأعني بها الجسد (الدال الكلي)، واستشهاد القبلات كناية عن غياب الأنثى، وحرمان أنا الشعر من لذة الاتصال الجسدي. إنها بداية الحرب.

لقد تظافرت النصوص الشعرية، والرسوم التشكيلية في «الرياح البنية» - في تشكيل عملية القراءة المتكاملة. فأتاحت رسوم القاسمي قراءة متون نجمي من منظور تشكيلي، كما أتاحت أشعار نجمي إضاءة ردهات الرسومات التشكيلية السوداوية، وإمكانية تأويلها، وبين الرسم والشعر تشتغل العين والذاكرة، ذاكرة النور[11].

 

هوامش:

[1] شربل داغر: الشعرية العربية دار توبقال 1988 ص6

[2] محمد قاسمي: خلخلة المعروف والجاهز في «الثقافة الجديدة» ع19/1981 ص72

[3] محمد بنيس: بيان الكتابة «الثقافة الجديدة» ع 19/81 (14}.

[4] محمد القاسمي: الشكل الكتابة كفعل جسدي. العدد السابق من الثقافة الجديدة، ص 76

[5] جان بيير ريشار: «الزمن النفسي والزمن الألسني»، مجلة مواقف، ع. 40/41، ص 78.

[6] جان بيار ريشار: الزمن النفسي والزمن الألسني «مواقف»، ع40/41-1981 ص135

[7] جان بيار ريشار: المرجع السابق ص 131

[8] عبد الغفار مكاوي «المدرسة النقدية فرانكفورت» حوليات كلية آداب الكويت.ع13/1993 ص38 .

[9] اللحظة الشعرية (ملف حرب الخليج في الشعر الإنجليزي). ع2/1993ص28 .

[10] حسن نجمي: «الرياح البنية » مطبعة المعارف الجديدة الرباط 1993 (ص6}.

[11] كلمة «النور» مضاف إليه، ترد عن نجمي مقترنة بأل التعريف، في حين تردد عند القاسمي مجردة عنها.