مواجهات العزلة : قصيدة النثر وسطوة المألوف

سعد البازعي

العزلة جزء من تاريخ الشعر، حضور ممتد وعميق الجذور، من ليل امرئ القيس الذي يهطل كموج البحر، وتفرد طرفة كالبعير المعبَّد، حتى مستقبل الماغوط الذي «يغص بآلاف الليالي المُوحشة». وأحد أسباب ذلك أن الشاعر، بالمعنى الذي أوظفه هنا، مثقف، والعزلة قدر ينتظر المثقف شاعراً كان أم غير ذلك. ثمة قوة تأتي بالعزلة: إنها الاضطرار للاختلاف والخروج عن رأي الجماعة ومطالب السائد والمتعارف عليه. إنها الغربة أو التوحد أو التفرد، أو النفي، سمها ما شئت، وقد شئت هنا أن أسميها العزلة، كما سماها كثيرون.

العزلة التي أشير إليها قدر ينتظر الاختلاف وكسر حدود المألوف، وبالتالي فهي بانتظار كل الأعمال المختلفة، ليس الشعر وحده أو شكلاً من أشكال الشعر، ثم إنها تزداد طردياً مع تزايد الاختلاف ومغايرة السائد، لذا هي نسبية تخفت حيناً وتسطع آخر. ومن هنا كانت العزلة تعني المواجهة، مواجهة الذات ومواجهة الآخرين، تعني الرؤية الخاصة في مواجهة الرؤية العامة، السعي للتفرد في مواجهة ضغوط الموروث، النص المغاير والتراث المتشابه. ولم يكن من باب الصدفة أن تتكاثر العزلة ليس في دواوين الشعر، وإنما على أغلفة الدواوين فينشر قاسم حداد «عزلة الملكات» وأمجد ناصر «رعاة العزلة» ومحمد إبراهيم يعقوب «تراتيل العزلة»، وهذا الأخير شاعر سعودي برز اسمه في السنوات الأخيرة ليذكرنا بامتدادات الانشغال الشعري بقضية لا تحتاج في حقيقة الأمر إلى عناوين على الدواوين أو حتى على القصائد لتقول إنها حاضرة وبقوة في المخيلة وفي ثنايا النصوص وواقع المشهد الثقافي والإبداعي.

قلق بوحيمد يؤسس لقصيدة النثر السعودية في خمسينيات القرن الماضي
في مستهل الحداثة الشعرية العربية واجهت قصيدة التفعيلة عزلتها الشكلية فرجم إيقاعها المتفلت بتهم اغتيال التراث، لكنها ظلت محتمية ببعض صلة تربطها بذلك التراث نفسه فمضت في وجود قلق يقبل حيناً ويرفض حيناً. أما قصيدة النثر فكان قدرها أكثر اكتظاظاً بالشجب والرفض والاستهزاء، فجاءت مواجهتها ممضة أكثر وعزلتها مؤلمة أشد. ولم يقتصر الوضع على قطر بعينه، لكنه كان في بعض الأقطار العربية أكثر إمعاناً في الوحشة والاغتراب.

قصيدة النثر، حين جاءت الجزيرة العربية، وجدت نفسها في عرين الأسد، تحارب ملك الوزن والقافية في واحد من آخر معاقل تسيده، في المكان الذي مازال في طور الخروج من الشفاهية إلى الكتابة فهو بالكاد يحتفي بالقصيدة الفصيحة العروضية ليطالب بتقبل نص يرمي بكل موروث العرب في هباء التحرر والفردية.
في خمسينيات القرن الماضي، وقبل أن تغرس الحداثة الشعرية محمولة على قصيدة التفعيلة جذوراً لها في تربة السعودية، كتب ناصر بوحيمد عدداً من القصائد النثرية ضمها فيما بعد في مجموعة شعرية صغيرة تحت عنوان «قلق» تكمن قيمتها في أسبقيتها التاريخية أكثر مما تكمن في قيمتها الجمالية أو الدلالية. غير أن القيمة الدلالية مهمة أيضاً في أنها حملت مع مجيء النثر إلى رحاب القصيدة قلق العزلة أيضاً:
من الذي يطرق نافذة بيتي/ الظلام الرهيب يكفنني بجلبابه/ منزلي على قارعة الطريق/ يرصد العابرين في قلق/ والمدلجين في ذعر.

إلى أن يحذر ذلك القادم:

اذهب / لن تجد أحداً هنا/ لن تجد إلا القلق/ إلا اليأس.

وبالتأكيد لم يكن الشعور بالقلق أو العزلة حكراً على قصيدة النثر في إرهاصاتها الأولى، ففي وقت مقارب لقصائد بوحيمد ظهر شاعر مؤسس آخر من مؤسسي الحداثة الشعرية وهو حسن القرشي ليكتب كثيراً عن القلق والعزلة، ولم يكن الشاعران وحدهما في ذلك المأزق الوجودي وإنما اشترك فيه آخرون ممن تفتحوا في وقت مبكر على مناهل جديدة للمعرفة. فنحن إزاء إشكالية ثقافية ومعرفية بقدر ما هي حساسية شعرية إبداعية.
تلك الحساسية لها تاريخها الذي لست معنياً برصده وتحليله هنا، لذا سأقفز إلى نصوص أقرب زمنياً من تلك التي تواجه العزلة وتصبح هي مسرحاً لمواجهة العزلة. فالعزلة ليست مجرد إشكالية موضوعية، ليست ثيمة فقط في النص، وإنما هي إشكالية النص نفسه إذ يواجه متلقيه. إن من التطورات الملحوظة التي صاحبت ظهور قصيدة النثر بشكل عام وبين شعراء منطقتنا بشكل خاص ربما تحول الكتابة نفسها إلى ثيمة رئيسة للنصوص. هذه الثيمة ليست جديدة بطبيعة الحال وإنما اكتسبت فيما يبدو حضوراً وكثافة ترتبط في تقديري بإشكالية العزلة نفسها. الشاعر المعتكف، سجين وحدته وغربته، الشاعر الباحث عن التواصل مع الآخرين دون جدوى غالباً، يتحول إلى نصه نفسه ليجد المتلقي النادر لذلك النص أنه يقرأ نصاً منكفئاً على ذاته في عزلة أخرى تضاف إلى عزلة الشاعر الوجودية وعزلة النص أمام الموروث. هذا التحول يحدث نتيجة لاشتغال قوتين: غربة التلقي وابتكار الجماليات. الأولى، غربة التلقي، قدر طبيعي لنص يبحث عن شرعيته الأدبية في موروث يقاوم قصيدة النثر ابتداء من تصنيفها وانتهاء بلغتها وأطروحاتها. فهي غربة حتمية عبّر عنها أحد رواد قصيدة النثر في الجزيرة العربية، قاسم حداد، حين قال: «في مجتمع مأسور، كالذي يعتقلني، لا أجد ثمة علاقة منطقية بينه وبين ما أكتب» (ليس بهذا الشكل ولا بشكل آخر، 34). أما ابتكار الجماليات فحاجة أساسية لنص يريد إثبات شرعيته لنفسه أولاً ثم لآخر يتربص إما بالشك أو بالعداء.

إبراهيم الحسين وجماليات العزلة في «خشب يتمسح بالمارة»
في مكان آخر تناولت ما أسميته «جماليات العزلة» في نصوص متفاوتة زمنياً، وأود هنا أن أقول إن تلك الجماليات التي بدت ترفاً إبداعياً في نصوص لا تزال تتوسل بعض عناصر الشعرية التقليدية، كالإيقاع المرتبط بالوزن، تبدو هنا عنصراً حيوياً ومؤسساً لنص يواجه تهمة اللاشرعية وينفى على أساس شكله وافتقاره لما ألف المتلقي العام. فكيف يمكن للجدول أن يثبت أنه يملك ما لا يملكه النهر وهو متفرع عنه، أي عن اللغة وموروث الصور والمجازات والمفردات؟ كيف للجدول أن يثبت أنه يملك طزاجة لا يملكها النهر أو جداوله الأخرى؟ إحدى الوسائل أن يتأمل الجدول ذاته فيصبح الماء هم الماء. يفتتح إبراهيم الحسين سلسلة من النصوص ضمن مجموعته المبكرة «خرجت من الأرض الضيقة» (1992) قائلاً:
يا كلمات الله../ نقتلك كل يوم/ ترى / من وضع الأقفال/ على هذه الحجارة؟
لقد قتلت الكلمات بالاستهلاك حتى صارت حجارة، ثم لم يتوقف الأمر عند ذلك فوضعت أقفال على الحجارة نفسها. هنا على الشاعر أن يحاول ما يشبه المستحيل فيأتي النص الأول ليؤكد ذلك في تحدٍ أولي بأن الشاعر محتاج أن يعيش بمعزل لا عن الناس فحسب وإنما عن نفسه هو أيضاً، أي عما يحمله من موروث تلك الكلمات المتحجرة والمقفلة:

وأعتزل نفسي كي أفتح الكلمة/ وأستدرجها/ أبني لي كفناً في العراء/ لعلي أبلغ النهاية/ فمرة أكلم الموتى/ ومرة أسرج الأصابع كي ترحل/ وأشهدها على الذي في القلب/ أشهدها/ أني لزمت ما يلزم.
حين لزم أبو العلاء لزوم ما لا يلزم كان يروم التميز من خلال التحدي اللغوي والعروضي. الآن على الشاعر أن يلزم اللازم نفسه، المألوف والعادي، الملوك من اللفظ والمقتول من الكلام، ليستدرج الكلمة إلى طازجية الشعر.

بعد حوالي ثلاثة أعوام من نشر مجموعته «خرجت من الأرض الضيقة» نشر الحسين مجموعته الثانية «خشب يتمسح بالمارة» فكان الهم هو هو. ففي نص بعنوان «لابد» نقرأ:

سودت أوراقي/ سودتها بالحنين وأحرقتها بالصبر./ هل كان لابد من ذلك/ لأصل بريئاً إلى شفَتَيّ.
هذه الإشكالية الكبرى يواجهها الشاعر بنصوصه وبنصوص غيره أيضاً. ففي «حديث الردهة» يقول الحسين، الذي يعمل معلماً، إنه وضع نصاً لـ «شوقي عبدالأمير» في ردهة المدرسة وكما هو متوقع لم يستطع كثيرون استيعاب النص فسألوه «من سيقرأ هذا؟» فقال لهم: «رأيت الأطفال يتعثرون بأخيلتهم الجميلة/ رأيت الهواء فاسداً/ فأردت أن أشق نافذة.»

نوافذ علي العمري وسريالية أحمد الملا
شق النافذة هو التحدي الذي تواجهه قصيدة النثر على نحو حاد، لأن النوافذ هي ما يتوقع من الفن أو الإبداع عموماً. لكن النافذة هنا عصية أكثر، فهي تناضل لكي تنفتح في غرفة تحتشد بالجدران وبالظلمة. في تلك الغرفة لا يبدو أن أحداً يكترث للأحرف الساقطة في ألفة الموت. يقول علي العمري:

لماذا، عندما تغور الأحرف في الهوة،/ لا يسمع ارتطام أضلعها باللحظة الحديد،/ ولا يتبدل في هذه الأشياء شيء،/ ولا أموت ولا أحيا؟

حتى ما يحدث للمجرمين في جهنم، حين لا يموتون ولا يحيون، لا يحدث هنا. حالة استثنائية يسود فيها العادي والمكرر. بيد أن هذا العالم الكابوسي الذي يجيد العمري رسمه لا يخلو من بارقة، من نافذة، من احتمال. ففي قصيدة أخرى ضمن مجموعته «فأس على الرف» (1996) يقول:

ما بقي، فضيلة رأسي الوحيدة/ مجدي الذي يذود الأشباح المدلاة من سقوف أيامي/ حين أغرس أصابعي في ظهور الكوابيس

لم يبق سوى المخيلة التي يمتلك الشاعر ورآها إبراهيم الحسين عند الأطفال فأراد إنقاذها بنصوص مغايرة.
على الرغم من عزلتها، تواجه قصيدة النثر العالم وهو يقتحم تلك الخلوة بمألوفه من الاحتمالات، عالماً يقترح نفسه كما عرف وألِف. في قصيدة لأحمد الملا ضمن مجموعته «خفيف ومائل كنسيان» (1996)، وضمن سلسلة ضمن تلك المجموعة عنوانها «مرآة خالية مني»، وهو عنوان يذكرنا باعتزال إبراهيم الحسين لنفسه، يخاطب الشاعر امرأة، فيقترح أن يحلما معاً عبر المخيلة، عبر عالم افتراضي، ليل منصوب في النافذة كما في لوحة، لكنه يتوقع أن تقترح المرأة ما هو مألوف:

أنصب الليل في النوافذ،/ اقترحي، لنحلم معاً،/ وليكن غير ذلك،/ غير رحلة في محيط،/ وعازفين

إسبان./ غير مسكن من الطين،/ وأواني فضة.

ثم يقترح بديله السريالي، بديله الجنوني الذي سيدمر تلك الصور الأليفة بعنفه وغرابته:

ماذا لو أن يدي صخرة/ والنهر يجرفك/ ماذا لو اقتحمت مرآة خزانتك/ بدراجة نارية/ لا تفزعي،/الصخر خفيف،/ في الحلم،/ ولن تُشقق فساتينك/ الشظايا.

في مجموعته الأخيرة «تمارين الوحش» (2010)، وفي قصيدة بعنوان «فيلم بطيء لحياة مستعملة» يتبنى أحمد الملا صيغة شعرية تذكرنا بمحمد الماغوط نرى فيها الممثل ثائراً على النص المطلوب منه تمثيله، وعلى المخرج أيضاً، فهو منذ البدء محاصر بمرضه «التنفس الخشن»، وبالشيب، لتحاصره بعد ذلك صور تؤلف عالماً من الكآبة والتكرار والنتانة. لكنه يثور على ذلك ليقترح مشهداً يشبه ما اقترحه على تلك المرأة ليحلما معاً. يقول الممثل:

ألم نتفق على أن المشهد الأجمل/ سريع وخاطف./ أين دوري الأخير، خاتم الرواية:/ خنجر مسموم في زقاق معتم،/ أو عثرة قدم على هاوية/ وعلى الأرجح / رصاصة طائشة في بار مزدحم.
النتيجة التي يتوقعها لا تختلف جذرياً عن تلك التي يتوقع إبراهيم الحسين أن تشتعل في مخيلة الأطفال حين يقرؤون نصاً لشوقي عبدالأمير:

حينها فقط،/ لتشتعل أنوار الصالة،/ ويخرج الناس، تدفعهم الإثارة/ لمشاهدة حياتي أكثر من مرة.
ثم ينتهي بخاتمة تضع كل النقاط على كل الحروف: «لا أشتهي صورة ذابلة/ لحياة اهترأت/ من شدة الاستعمال».

الدميني والحربي فتحا نافذة قصيدة النثر في الثمانينيات
الشاعر بطبيعة الحال لا يريد صورة ذابلة لقصيدة اهترأت من شدة الاستعمال، أو قصيدة ذابلة لحياة اهترأت من شدة الاستعمال. في كل الحالات ثمة نضال متصل ضد الذبول، النضال الذي يحمله الفن جذوة والشعر نبع حياة. لكن لأن الشاعر ملزم بما يلزم، كما يقول الحسين، فإنه حين يخلو إلى عزلته سيجد نفسه محاصراً بهموم العالم، الذابل منها وغير الذابل، على النحو الذي عبر عنه محمد الدميني، أحد أهم الذين بكروا إلى قصيدة النثر مع محمد عبيد الحربي في أواسط ثمانينيات القرن الماضي. يقول الدميني بلغة تذكرنا مرة أخرى بأحد رواد قصيدة النثر، بالماغوط، ضمن نص طويل نسبياً من مجموعته الثانية «سنابل في منحدر» (1994):

سأطلب هذه الليلة/ كفناً لآخر شهيد/ ومنفى لأصدقائي الموتى/ ومراثٍ لمائدتي/ التي مزقها أنينهم../ وحين توصدون الأبواب/ لا تتركوا شجرة تعربد في محبرتي/ وثعباناً في سريري/ ودناناً في شراييني/ ولماذا تنسون/ نهاركم في نهري/ ودويكم في عظامي/ وحروفكم في قصيدتي/ وأزرق ضوئكم/ فوق رمادي؟/ ولماذا؟/ لماذا؟/ لماذا؟

لكن هذا الاحتجاج لن يعفي الشاعر ونصه من النهوض بعبء الآخرين، كما بعبء نفسه، وعبء العالم. فكما يقول الشاعر في مقطع آخر من القصيدة نفسها، ليس سوى المدينة مصدر لجرحه السري ولا مأمن له من مخاطر الليل والذئاب، فهو صنو الصعاليك الذين عرفوا منذ القدم كيف تموت الأحلام وتتحول إلى عظام:
المدينة أثثت جرحك السري. فلا مطر هنا يقيك هواجس الليل والذئاب./ وستوصد الشرطة هذه المكتبة لأن الصعاليك – منذ القدم يحيكون أنخابهم/ المرة، ويتأملون عظام أحلامنا.
على الرغم من اللبس في دلالة الصعاليك هنا، هل هم الشعراء المتمردون بصورتهم المعهودة والمؤازرة للشاعر الحديث؟ أم هم الأعداء، فإني أرجح الدلالة الأولى لما للاسم من ثقل دلالي يرجح بها تجاه التماهي مع صوت الشاعر في نصه النثري. على أن من المهم أن نقرن هذا بالقول إن كثيراً من الرموز التي شاعت في شعر التفعيلة إبان سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، أي في فترة صعود تلك القصيدة، توارت كثيراً في قصيدة النثر، ولم يعد للشنفرى، أو عنترة، أو غيرهما، حضور يذكر في قصيدة تستمد من المدينة وتفاصيلها الكثير من معجمها الشعري.

فوزية بو خالد توائم بين المدينة والصحراء في «ماء السراب»
 قصيدة النثر، كما سبق لي ولغيري أن قال، ابنة المدينة، تماماً كما هي الرواية إلى حد بعيد، وعزلتها هي عزلة الفرد الذي يعاني وحشة التمدن من ناحية، ويتصالح معه من ناحية أخرى، لأنه مسرحه المحتوم. تجربة الشاعرة فوزية أبو خالد، وهي تجربة مبكرة في كتابة قصيدة النثر، تحمل كثيراً من ذلك التوتر بين انتماء المدينة وانتماء الصحراء القابعة خارج أسوار المدن ومحاولة المواءمة بين الانتماءين على نحو يعمق العزلة التي يجدها الشاعر الخارج عن طوق المتعارف عليه. في «ماء السراب» (1996)، وهو أول دواوينها بعد ديوانين جمعا تجربتها المبكرة في سبعينيات القرن الماضي، تقول فوزية:
سلَّت أمي من الصحراء/ خيط رمل/ وربطته بطرف سرتي/ صرت مهما ابتعدت/ كدلو/ عبثاً يحاول/ اغتراف/ القمر المنعكس على مرآة الماء من البئر السحيقة.

هذا الارتباط الواهي والحالم بالصحراء لم يكن بنفس القدر من الهشاشة حين كتب محمد الثبيتي، أو عبدالله الصيخان، قصائد الحنين للصحراء في ثمانينيات القرن الماضي، لكن فوزية التي انتمت للمدينة مبكراً، مثل بقية شعراء النثر، ظلت تنظر من بعيد لعالم محيط، ولكنه يقيم في الموروث أكثر مما يقيم في مخيلة اللغة، أو مفرداتها.

مجموعتا فوزية التاليتين: «شجن الجماد» (2006)، و»تمرد عذري» (2008)، تستمدان ما فيهما من شعرية من تفاصيل الحياة اليومية في المدينة مع ما يظلل ذلك من قلق الاغتراب اليومي. فهذه «إشارة المرور» في «شجن الجماد» تقف «وحيدة في الزحام»، و»على قدم واحدة» تنظر إلى «مارة جادين/ في ألا يجدوا جادة». ثم تنهلّ التفاصيل في نصوص ترسم أشياءً من الحياة اليومية: لوحة مفاتيح الحاسب تارة، والدباسة تارة أخرى، والمكتبة تارة ثالثة، وهكذا. ومع أن بعض هذه الصور تتكئ على مفارقات طريفة، فإن في الطرافة ما يؤلم أحياناً، كما هو الوضع في «الدباسة»:
كأنني مأذون شرعي/ أجمع الرؤوس في الحلال/ ولا أعلم بعدها/ مصير الوخز في العروق أو الورق.
تجربة نثرية وأنثوية أخرى، أحدث زمنياً، ولكنها تبدو وكأنها امتداد لتجربة فوزية أبو خالد، هي تجربة هدى الدغفق في معانقة اليومي والمستهلك، واستنقاذ ما يمكن استنقاذه من ألفته ومجانيته. قصيدة «سبورتي البعيدة» في مجموعة هدى «لهفة جديدة» (2002) تذكر بمحاولة إبراهيم الحسين وضع نصوص مغايرة في ردهة المدرسة:

لم أعد التلميذة الساكنة في كرسيها/ وما زلت أفر/ من كل دفتر يشبه المدرسة.

قبل أن ألبس العباءة.

إلى أن تأتي القصيدة:

قصيدتي/ تشرد بعيني/ في حضرة الدرس/ تتسلق صوت المعلمة/ والجدران/ والسقف/ إلى سبورتها البعيدة عن سبورتنا./ عيناي/ تشرقان في خيمة صفنا/ مصابيحها قصيدتي.
الخيمة منعتق من مبنى المدرسة، ومن عزلة التعليم المرفوض، غير أن السبورة الحاضرة في الخيمة تبقيها ضمن إطار حياة التمدن والتعليم.

الضبع يجدد قصيدة النثر في «صياد الظل»
جيل أحدث سناً من شعراء قصيدة النثر لم يبتعدوا كثيراً عن هموم من سبقهم ممن واجهوا العزلة بمختلف أشكالها. أحد أولئك هو محمد الضبع في مجموعته «صياد الظل» (2012) التي تكتظ بمحاولات جادة للتجديد والخروج من عباءة السابقين، حتى ضمن قصيدة النثر نفسها. فبدلاً من الأبواب، تتألف المجموعة من «غابات»، وما يسميه «رائي»، و»ما تبقى من ألواح الرائي»، وهذا الأخير مقاطع شعرية قصيرة تتكئ على التشكيل البصري للنص على الصفحة. ضمن هذه تأتي نصوص المجموعة تطرح رؤى حول قضايا كبرى، مثل عملية الخلق، وطبيعة الفن، وإشكالية التعبير، مستدعية شعراء عالميين مثل ريلكه، وبودلير. هي بالتأكيد تجربة طموحة تأتي إلى سياق هذه الملاحظات ضمن إشكالية العزلة التي تبين عن وجهها في أكثر من مكان. ففي النص الأول من «غابة الأوتار»، وعنوانه «البوابة الأولى»، يتأمل الشاعر لحظة التشكل الأولى للكون، لحظة التخلق حين يبزغ العالم جديداً.

تعقب ذلك في «غابة المرايا» قصيدة بعنوان «يوميات العزلة»، حيث الابتكار ممارسة مستمرة:

في مدن العزلة/ أختار هواءً مرئياً كي يصحبني/ أبتكر له ظلاً/ وأدرب قدميه على موسيقى الخطوات/ نتحدث كغريبين عن الطقس المعتم/ ونفكر في فصل لا يأتي.

نحن بالفعل أمام تجربة تتشكل وتضيف ضمن عزلتها ومواجهاتها إلى ما أصبح بالفعل مشهداً شعرياً مميزاً. محمد الضبع الذي لايزال في المرحلة الجامعية الأولى يعد بالوقوف في مدن عزلته المبدعة إلى جانب أسماء صنعت حضوراً شامخاً لقصيدة النثر في الجزيرة العربية، وما عزلة تلك القصيدة التي حاولت رسم بعض معالمها إلا انغمار في الإبداع من ناحية، وفي لزوم ما يلزم، من ناحية أخرى.

 

الشرق العدد رقم (447) صفحة (30) بتاريخ 23-02-2013

 

ناقد وباحث من السعودية