القصيدة الحديثة وتقويض الغرض الشعري

قراءة فـــي " رصيف القيامة"

محمد أيت لعميم

في المحاضرة المذكورة آنفا، تناول جاكبسون قضية الغرض الشعري، مبينا أن هذه القضية عرفت تطورا قوض مفهوم الغرض، يقول :"في العصر الكلاسيكي أو الرومانسي كانت قائمة الأغراض الشعرية محصورة للغاية، ولنتذكر المتطلبات التقليدية : القمر والبحيرة والبلبل والصخور والوردة والقصر إلخ. ولم يكن على الأحلام الرومانسية نفسها أن تبتعد عن هذا المحيط. كتب "ماشا" : " لقد حلمت اليوم أنني كنت وسط أنقاض تتهاوى أمامي وخلفي، وتحت هذه الأنقاض، كانت الأرواح الأنثوية تستحم في بحيرة مثل عاشق يبحث عن معشوقته في قبر، ثم انطلقت عظام متراكمة في بناية قوطية خربة طائرة من خلل النوافذ "، وبصدد النوافذ فقد كان القوط يؤثرونها بتقدير خاص، وقد كان القمر يضيء بالضرورة خلفها. واليوم فإن كل نافذة هي أيضا شعرية في نظر الشاعر بدءا من المنافذ الزجاجية الفسيحة لمتجر كبير إلى كوة مقهى صغير في القرية وسخها الذباب, وقد سمحت نوافذ الشعراء إلى اليوم برؤية كل أنواع الأشياء.
فالشاعر المعاصر - في نظر جاكوسبون - يعتقد شأنه شأن العجوز كرامازوف "ألا وجود لنساء ذميمات، وألا وجود لطبيعة ميتة أو فعل، وألا وجود لمنظر طبيعي أو لفكرة خارج مجال الشعر اليوم. ليخلص في الأخير من خلال هذا التحول إلى أن مسألة الغرض الشعري أصبحت اليوم بدون موضوع.
لقد كان تغريض الشعر في النقد العربي نابعا من هاجس التعقيد ووضع الحدود. فمن الناحية التاريخية لم يعرف النقد العربي القديم وضع قوائم لأغراض الشعر إلا ابتداء مع "ثعلب" فهو " أول ناقد عربي قديم أثار هذه المسألة فوضع معالم مبدئية لأغراض الشعر وحاول إحصائها ....وتتحدد أغراض الشعر عنده في سبعة أنواع هي المديح والهجاء والرثاء والتغزل والاعتذار والتشبيه، ثم اقتصاص الأخبار. إن غرض التشبيه ليس المراد به الوجه البلاغي المعروف، وإنما يقصد به المحاكاة. يعلق أمجد الطرابلسي على هذا الجرد لأغراض الشعر التي أوردها ثعلب دونما تعريف مفصل لها أو شرح دقيق لسماتها :فإذا كان من الممكن أن نعتبر الأغراض الأربعة الأولى التي ذكرها هذا اللغوي أنواعا شعرية مستقلة بذاتها، فإن ذلك يصعب بالنسبة للثلاثة الآخر، إذ لا نستطيع أن نعد التشبيه غرضا شعريا قائما بذاته، إذ أنه أداة تعبيرية تتخلل كل شعر أو قول فني وقس على ذلك فيما يخص اقتصاص الأخبار إن القائمة التي اقترحها ثعلب للأغراض الشعرية في عصره تم التعامل معها فيما بعد بنوع من التصرف إما بالإضافة أو التقليص أو التشقيق، لكن على العموم ما يشد الانتباه في القوائم التي حاول من خلالها النقاد أن يصفوا أغراض الشعر هو اختلاف النقاد حول عدد الأغراض. " ولعل مرد ذلك إلى تنوع أغراض الشعر هو اختلاف النقاد حول عدد الأغراض وتداخلها، خاصة إذا أدخلنا في الاعتبار بعض ما تنامى منها أو تكاثر طيلة المرحلة الإبداعية التي اهتم بها نقاد الأدب العربي القديم. ومعنى هذا أن شمولية الجرد لم تكن مسألة هينة بالنسبة لهم.
ولعبت فيها المثاقفة والانفتاح على الموروث العالمي والثقافات المتنوعة دورا كبيرا، ناهيك عن التحول الذي شمل وظيفة الشاعر وتمثل العملية الشعرية، والأجناس الأدبية. إن هذه الأخيرة ظلت حبيسة التقعيد الأرسطي الجدي مما جعل جمالية نقاء الجنس الأدبي تهيمن على النظرية الأدبية لقرون عديدة. لقد أصبح الجنس الأدبي موجها من موجهات القراءة، بمعنى أنه يمنح للقارئ مفتاحا لقراءة النص من خلال أعراف الجنس الذي ينضوي النص تحته، ولذا فإن تكريس أعراف جديدة في قراءة النصوص تستلزم بالضرورة تخطي الموجه الجنسي للنص، بحثا عن شعرية خاصة به، "إذ الحدود بين الأجناس تعبر باستمرار والأنواع تخلط أو تمزج كما أن القديم منها يحور، وتختلق أنواعا جديدة مما يجعل مفهوم النوع الأدبي نفسه موضع شك. إن الدعوة إلى تحطيم الحواجز بين الأجناس نشأت مع الرومانسيين الألمان، وخصوصا مع شليغل الذي يرى "أن تقسيم الأدب إلى أجناس، نوع من التحكم، لا يمكن قط أن يخضع له التأليف الأدبي.

وتنتسب هذه القصيدة الراهنة جماليا لحساسية جديدة تسعى إلى الاستفادة مما حققته قصيدة النثر في العالم الغربي على مستوى اللغة والشكل والدلالة والبحث عن اللغة الشخصية حيث أن قصيدة النثر " ولدت من التمرد ضد كافة أنواع الطغيان الشكلي التي تمنع الشاعر من أن يخلق لنفسه لغة شخصية؛ ويبدو أن بعض التجارب في المشهد الشعري المغربي المعاصر عملت بوصية الشاعر ماريا ريكله ولم تعمل بوصية ابن تمام، يقول ريكله في وصيته للشاعر الناشئ :"اقترب من الطبيعة، حاول أن تقول، كما لو كنت الإنسان الأول، ما تراه، وما تعيشه وما تحب وما تفقد. لا تكتب قصائد حب، تجنب أولا المواضيع السائرة، إنها الأكثر صعوبة، تجنب المواضيع الكبرى لصالح ما تقدمه الحياة اليومية. قل أحزانك ورغباتك. أفصح عن الأفكار التي ترد على خاطرك عن إيمانك في جمال. قل هذا كله بصراحة حميمة، هادئة ومفعمة. واستعمل للتعبير الأشياء التي تحيط بك والصور التي تتخايل، والمواد المشكلة من ذكرياتك. وإذا ما تبين لك أن يومك فقير لا تتهمه، اتهم نفسك بأنك لست بعد شاعرا لتستدعي إليك ثراء اليومي، لاشيء فقير أمام المبدع كما ليس ثمة أماكن فقيرة لا دلالة لها. فحتى لو كنت في سجن تخنق جدرانه كل ضجيج العالم أفلا تبقي لك دائما طفولتك، هذه الثمينة هذا الكنز من الذكريات أدر إليها تفكيرك، حاول أن تستعيد مجرى الذكريات والانطباعات التي سالت على حوافيها ...وإذا ما واتتك في هذه العودة إلى النفس في هذا الغوص نحو الداخل أبيات من الشعر فلا تسأل إن كانت جيدة...إن العمل الفني يكن جيدا حين تلده الضرورة.

رصيف القيامة بين موضوعة السأم واستلهام تقاليد الأدب القيامي:
"رصيف القيامة" هو عنوان للمجموعة الثانية للشاعر المغربي ياسين عدنان، وعنوان المجموعة مستمد من قصيدة / بؤرة في نهاية المجموعة؛ وفي ذلك دلالة واضحة على أن ما سبقها من نصوص هو بمثابة مقدمات وتوطئات وهوامش على النص المركز؛ وقد اتسمت هذه القصيدة أو هذا النص التركيبي بالطول والتنامي الدرامي للحدث؛ وهيمن فيها السرد والمشهدية وصور الموت والدمار؛ وخيمت عليها مسحة سوريالية استمدها الشاعر من لوحات سلفادور دالي. ويمكننا أن نؤطر هذا النص ضمن تقاليد الأدب القيامي، هذا الأدب يمتح من النصوص الدينية ومن مشاهد القيامة، وحكايات المعراج، ومن النصوص الأدبية الكلاسيكية مثل رسالة الغفران، والتوابع والزوابع، وكتاب التوهم للمحاسبي والمنامات (الوهراني) والكوميديا الإلهية لدانتيني، وبونتاغرويال لرابلي، ومن لوحات الفن التشكيلي مثل جنان اللذة والجحيم الموسيقي لجيروم بوش. يمكن أيضا أن نعتبر القرن العشرين وبداية الألفية الثالثة هو قرن الموت بامتياز واستعجال القيامة؛ لا غرو إذن أن يشتبك الشعر مع هذه الظاهرة إذ الأدب القيامي هو محاولة للإجابة على قلق الذات أمام مواجهة العدم وشبح الموت، والخوف من المجهول الذي يتربص بنا.
في سياق الحديث عن قصيدة "رصيف القيامة" يمكننا أن ننطلق من فرضية هل كان الشاعر يعمل على محاكاة أدبيات الكتابة القيامية أم أن نصه هو جواب عن سؤال اللحظة الراهنة خصوصا وأن النص كتب زمنيا في مرحلة عرفت انتقالا من ألفية إلى ألفية أخرى وما صاحب هذا الانتقال من نبوءات وتخيلات حول نهاية العالم، ناهيك عن شلال الصور التي استهلكنا فكلها تدور حول الموت والدمار والخراب في زمن قياسي؟ نستطيع تأطير المجموعة برمتها ضمن موضوعة السأم وما تفضي إليه من موتيفات كالخيبة واللاجدوى والألم والقلق والملل واليأس، إن عوالم نصوص "رصيف القيامة" تعيد إنتاج الموضوعة المركزية لدى الشاعر الكبير بودلير في أزهار الألم خصوصا نص سأم باريس Spleen de Paris. فالشاعر في رصيف القيامة قطع براري العمر لاهثا في الطريق إلى عام ألفين ولكنه بعد كل الأخاديد التي حفرتها الأيام بداخله لم يحدث شيء وأصيب بخيبة أفق الانتظار، فالشاعر في قصيدته "زهرة عباد اليأس" يرى أنه مجرد خطأ في كتاب الوجود، وأن سماءه مسقوفة بهشيم الخسارات، وأنه سئم المشيء في هذه الجنازة الفادحة التي تسمى عزاء الحياة على غرار زهير ابن أبي سلمى الذي سئم تكاليف الحياة. وهاهو الشاعر يتخذ لنفسه قناع طرفة المنبوذ والمفرود كالبعير الأجرب مخافة العدوى :
إنني عطشان ومنبوذ
وشبه طاو
بعيد عن مقهى الأصدقاء بمراكش
قريب من بيت طرفة
أم تجد لي أيها القدر المر
سكنا غير هذا البيت؟ ص 31
فهذه المرارة وهذا السأم واللاجدوى وانتظار غودو، سيجد تجليه الأقصى في قصيدة "رصيف القيامة". في هذه القصيدة التي أعتبرها أفضل نصوص الشاعر حتى الآن - تنعكس تجربة الكتابة بدل كتابة التجربة؛ وهذا مطلب ينبغي للشعرية الحديثة أن تعكف عليه إذ ما يلاحظ عموما هو فقر المرجعيات في التجارب الشعرية الجديدة - ذلك أن عمل الشاعر تركز على عملية الكتابة فوق الكتابة مستفيدا من روح قصائد معاصرة قاربت هذه الموضوعة؛ عامدا إلى الاغتراف من تقنيات الكتابة المشهدية والمقطعية (السينما) ومجليا لروح الأدب القيامي هذا الأدب الذي يهدف إلى استشراف الضفة الأخرى لنهر الحياة. وتتحول فيه الكتابة إلى نقد وإدانة الممارسات الشاذة بطريقة ضمنية وبلاغية متكتمة؛ ففي قصيدة رصيف القيامة يتخيل الشاعر هذا العالم كناد للأدباء والسياسيين والشخصيات التاريخية وبعض الشخصيات العادية؛ وقد عمد الشاعر إلى خلط العالم والأزمنة بغية إحداث المفارقة المبطنة بالسخرية، فالشاعر كان يصفي حساباته الشخصية مع شخصيات لا ترغب فيه؛ وأغلب الصور الشعرية تداعت من خلال مقروئة الطفولي ففي هذا المقطع بنى الشاعر عالمه من خلال نص مشهور قرأناه في الطفولة هو نص "أكلة البطاطس" يقول الشاعر :
فقالت المرأة التي شهقت لابنتها
اشربي من عين الزهرة
قالت البنت
أنا لاأشرب من عين الملعقة في السماء
قال الأم للهواء
كن هدنة النار ودع ماءك يجري ص 53.
لم نعد قادرين على الفرح ولا على التعب من الوقوف
لأن أرجلنا تقلصت بالتدريج
ذابت الأصابع ... ثم انمحت الأقدام
لم تعد هناك في العربية
كلمة اسمها الخطى ...
هذا التحول الجسدي الذي أسفر عن تغيرات في اللغة والقيم والأحاسيس أفضى إلى تحول في الإدراك وتمييز الأشياء وأضحى النسيان هو البديل وامتزجت الرؤى كما امتزجت سجلات القول المختلفة في القصيدة نفسها.
صرنا ننظر إلى بعضنا دون أن نشعر بأي شيء
ودون أن نتذكر أسماءنا ولون عيوننا
فظننت مثلا أن المعري الذي كان ينفخ بجواري
على النار لتصير بردا
هو الذي كتب "أنا باز"
وأن عبد الرحمان بن ملجم من اغتال السادات
تنتهي القصيدة بمشهد التلاشي وسيادة الظلام والسقوط في العدم واستدعاء
الأسطورة التوراثية حول برج بابل وتبلبل اللغات
تدفق المزيد من اللزج اللاهب
والمزيد من عشب القيامة الضاري
فإذا جرار اللغة تتهشم
على صخرة العدم
وأظلم صوتي بعد أن زلزلت تحت سقيفته
اللغات
فلم أعد أعرف الفرق بين الشاهق وسيارة نقل اللحوم
ولأبين عواء الذئبة والحب
لم أعد أعرف هل هي بابل أم نيويورك ؟