ياسين عطية

باقر صاحب

أن ترحل عن بلدك لمدة خمسة عشر عاما، هاربا من نظام قمعي دكتاتوري، رماك أزلامه في السجن خمسة أعوام بسبب رفضك المشاركة في حروبه الخاسرة، تعود من الغربة متلهفا إلى وطنك، كي تسهم في بنائه وتطويره، تعود ولما يمضي على عودتك شهر واحد، لم يمهلك الأشرار كثيرا فيقتلوك بمفخخة. تلك إحدى غرائبيات واقعنا، التي رحل بسببها أحد مبدعينا.

ذلك هو الفنان التشكيلي ياسين عطية، عاش في الدنمارك منذ العام 1998، وعاد إلى بغداد  في الأول من شهر آيار الماضي ليموت مع أربعة وثلاثين شهيدا في مفخخة حي البنوك ـ بغداد في صباح الثلاثين من الشهر ذاته، كان يتناول فطوره في مطعم ركنت بجانبه سيارة مفخخة، انفجرت في توقيت لئيم  يحصد أكثر عدد من الأبرياء.

خسرناهم جميعا، خسرهم وطنهم ونكبت بهم عوائلهم، خرجوا في الصباح من بيوتهم، كل إلى مشواره وعمله ودراسته وهمه اليومي، كل يتحسب أنه قد يكون طعم مفخخة أو عبوة ناسفة أو لاصقة أومسدس كاتم الصوت، وكل يرجئ ذلك التحسب في الوقت ذاته، المسافة بين التحسب وإرجائه معقودة على الأمل في البقاء على قيد الحياة وتحقيق ما يمكن من الأهداف.

ياسين عطية الذي يعد إحدى قامات الفن التشكيلي العراقي المعاصر، كانت له أحلامه ومشاريعه الفنية غير المكتملة، قيل انه عاد ليستقر نهائيا ويبني بيته، ويكمل مشروعه التشكيلي على أرض بغداد، وقيل أن تلك كانت عودة أولى، يرتب بها أوضاعه هنا منها مطالبته بحقوقه كسجين سياسي، وكان يروم مغادرة العراق في الثاني من حزيران الجاري،  هي غرائبية أخرى أن تكون المدة بين رحيله عن الحياة ورحيله إلى خارج الوطن يومين فقط. 

 استشهد ياسين عطية وهو لما يتجاوز الخمسين سنة، هو في أوج عطائه، الذي يتواضع عن التفاخر به ، لدرجة أنه يعتقد أن قرينه الآخر هو من أنجز لوحاته،عن ذلك الشعور الغريب، كتب فاروق يوسف الشاعر والناقد التشكيلي المغترب في رثاء صديقه عطية:

" كان يشعر بمتعة لأن الآخر الذي كان يرسم بيديه كان ينسب تلك الرسوم إليه. «لا أستحق تلك النعمة» قال لي وهو يحثني على رؤية رسومه. كانت عيناه تدمعان كما لو أنه كان يرى عواطفه مجسدة لأول مرة".

من يقرأ ما كتب عنه بتأن يستنتج أن الفنان الراحل وقرينه الافتراضي هما نتاج غربته، التي لم يطقها، فأنا الواقع تمثل عطية العراقي، وأنا الإبداع تمثل عطية المغترب في المنفى الاختياري.

إذن توصيف لوحاته بالمبهجة نابع من الـتأثر بالحياة الأوروبية وليس بالواقع المحلي،  يدلل على ذلك أيضا قول فاروق يوسف:"  قال لي ذات مرة من أجل تبرير حنينه إلى العراق «صدقني. هذا الرخاء يعذبني. كان الفقر رحيماً. حياتي هناك وليست هنا".

في الأيام الماضية أيضا رحل المسرحي العراقي صالح كاظم،  المقيم في ألمانيا، منذ أكثر من أربعة عقود، رحل وحيدا في شقته، بعد نوبة ارتفاع ضغط الدم لدرجة أماتته، لم يسمع برحيله احد سوى خبر هنا أو هناك، كان الراحل عطية راصدا بقلق لهذه الحالة" أن المبدعين العراقيين أدباء وفنانين يموتون وحيدين في المنافي".

عاد متجاهلا أن الموت المجاني هنا لا يحصد الوحيدين حسب،  بل جماعات، جماعات من الأبرياء والمساكين.

 

10/6/2013