عاش «محمد ناجى» حياته غريبا، رغم وجوده فى صخب الحياة ورواياته الفريدة فى عوالمها. كل الذى جرى في مصر على مدى أربعة عقود تلت حرب أكتوبر لا ينتمى إليه. شيء من القطيعة الكاملة استقر فى روحه وأدبه.

الغريب والغفران

عبدالله السناوي

كأن المفكر الفلسطيني الراحل «إدوارد سعيد» يقصده هو في تعريفه للمثقف.

عاش «محمد ناجى» حياته غريبا، رغم وجوده فى صخب الحياة ورواياته الفريدة فى عوالمها. كل الذى جرى في مصر على مدى أربعة عقود تلت حرب أكتوبر لا ينتمى إليه. شيء من القطيعة الكاملة استقر فى روحه وأدبه.

خاض تجربة الحرب على جبهات القتال وقبع فى خنادقها الأمامية لخمس سنوات متصلة بين عامى (١٩٦٩) و(١٩٧٤) لكنه كجيله لم يحصد شيئا عندما توقفت المدافع.

التزم القيم الإنسانية والسياسية التي اعتقدها لكنه تمرد مبكرا على أية قيود تنظيمية كأي مبدع حقيقي آخر تشغله الأسئلة الكبرى في الحياة والوجود

لم يكن في أي وقت داخل سياق أية سلطة أو مؤسسة، ولا ساعيا إلى شهرة يستحقها رغم أن الصحافة مهنته والصحفيين أصدقاؤه.

كأي مثقف حقيقي فإن «إحياء الذاكرة المفقودة» طغى على أعماله الأدبية لكن على طريقته هو لا على مسار غيره من الأدباء الذين سبقوه.

لم يكن ذلك نبتا عشوائيا باغت الناس في التسعينيات عندما بدأ نشر أولى رواياته.

البدايات حكمته في سيرته الإبداعية في تزاوج «الأسطوري مع الواقعي» و«المتخيل مع الحقيقي»

هو روائي يؤرخ لشخصياته من داخل الواقع المصري بكل ما فيه من أسرار وخرافات.

ولغته الشعرية تعود إلى أنه في الأصل شاعر وناثر.

أي مطلع على تجاربه في الشعر يدرك بسهولة متناهية أن عالمه واحد وأنه رجل مسكون بالتراث من «ألف ليلة وليلة» إلى «الحوليات» ووقائعها في رواية التاريخ المصري وأسرار مجتمعه.

لم يشارك جيله من شعراء السبعينيات الاعتقادات ذاتها، فقد كانت الغلبة لمدرسة «أدونيس» وذائقته الشعرية والنقدية التي بدت تحولا عن كل ما هو ثابت.

في تجاربه الأولى اكتسب بالتدريج حاسة الروائي في التقاط التفاصيل الإنسانية الصغيرة والدراما الكامنة في حركة الحياة، وأخذ يضمنها قصائده غير أنها لم تكن كافية للوصول إلى ما يريد من معان ورؤى.

فبدأ يكتب نصوصا مطولة تمازج بين لغة الشعر وروحه وشيء من البناء الروائي.

مازالت صورته ماثلة في الذاكرة وهو يقرأ نصوصه التجريبية جالسا على الأرض بصوت متوحد مع ما يتلو في شقته الصغيرة بحي شعبي ناء.

كل ما كتبه وذاع صيته وترجم إلى اللغتين الفرنسية والإسبانية يعود إلى تجاربه الأولى وطبيعة شخصيته المتأملة.

أعماله تقارب بصورة مدهشة شخصيته.

في ظلال رواياته تكتشف بعض ما عاين وعانى، وهو نفسه شخصية تراجيدية.

هادئ وحنون، في صوته دفء، لكنه عندما يغضب فهو رجل آخر.

صدمته الحياة مرة بعد أخرى، وبعض الصدامات كانت قاسية بأكثر ربما من المرض العضال الذى أكل عافيته وجسده النحيل.

هو رجل عانى الغربة مرة تلو الأخرى لكن الأخيرة لم تكن اختيارية.

كانت تجربة الغربة الأولى في منتصف الستينيات حيث قدم من مدينته الريفية «سمنود» إلى القاهرة لدراسة الصحافة في جامعتها، تابع المجلات الثقافية بقدر طاقته وأطل على المسرح في لحظة زخمه وتأثر بحركة النقد الأدبي فيما يقرأ أو لا يقرأ من دواوين وروايات واستقرت في ذاكرته القاهرة الستينية كمنارة تلهم عند النظر إلى مدى التدهور الذى وصلت إليه الفنون والثقافة وكل شيء له صلة بالجمال والرقى بدءا من الشوارع العامة إلى البنايات حتى الأخلاقيات.

كانت تجربة الغربة الثانية في «أبوظبي» حيث ذهب ليعمل هناك في صحافتها وتليفزيونها لسنوات طويلة.

هذه الرحلة لا أستطيع أن أشهد عليها، لكنى أعتقد واثقا أن جراحها الشخصية غلبت عوائدها المالية.

لم تكن الأزمة فى المكان ولا فى التجربة المهنية بقدر ما كانت انكسارا في الروح عانى من وطأته طويلا.

انكسارات الروح كما تدفع للتألق الأدبي واقتحام عوالم جديدة فإنها تفضى إلى شيء من العزوف بقدر ما هو ممكن عن الحياة الاجتماعية العامة.

لا يمكن التأريخ لكتاباته الروائية التي بدأت متأخرة نسبيا في التسعينيات إلا بالنظر إلى تجربة غربته الثانية وما تبعتها من جروح غائرة.

ما هو شخصي ملكه وحده وما هو أدبى حق عام.

بتلخيص ما فإن أعماله «خافية قمر» و«العايقة بنت الزين» و«رجل آبلة وامرأة تافهة» و«لحن الصباح» و«ليلة سفر» و«مقامات عربية» فيها شيء من تجاربه الأولى فى المزج الشعرى بين الواقعى والمتخيل، وشيء آخر من تجربة «أبوظبي» فى انكسارات الروح.

وكانت تجربة الغربة الثالثة فى باريس، حيث ذهب للعلاج من مرضه العضال لأربع سنوات متصلة قبل أن يرحل فيها.

من ناحية إنسانية فقد كانت قاسية ومن ناحية أدبية فقد كتب خلالها واحدة من أفضل أعماله «تسابيح الغفران».

فى إحياء الذاكرة كتب أغلب أعماله وفى طلب الغفران أنشد تسابيحه الأخيرة.

«من ذا الذى يجرؤ أن يقرع بوابات تلك الأعماق ليطلب الغفران».

باستيحاء عنوان روايته الأخيرة فإننا نحن لا هو من يستحقون أن يطلبوا الغفران.

بصعوبة بالغة تمكن من السفر للعلاج المرهق وسددت الدولة بتدخل من أصدقائه جانبا يسيرا من التكاليف الباهظة لمثل هذا النوع من العمليات في زرع الكبد.

وهذه مأساة متكررة عاناها عدد كبير من كبار المثقفين واحدا إثر آخر والذين تعرضوا للظروف ذاتها.

كرامتهم تعز عليهم أن يطلبوا علاجا من الدولة أو غيرها والآلام المبرحة تضغط عليهم في طلب تخفيفها.

في كل مرة نستمع إلى العبارة الموجعة نفسها: «أريد أن أموت في هدوء ولا أطرق باب أحد».

أحاديث الرثاء لا أثر لها بعد مواسمها، وما يبقى هو القيمة.

فمن ذا الذى يطلب الغفران الآن؟

عند كل فقد لمفكر لم نقدر إسهامه، أو خسارة لعالم لم نعترف بفضله، أو رحيل لأديب أنكره مجتمعه، نعاود العادة ذاتها في جلد الذات دون أن نتعلم شيئا أو نصحح وضعا.

فمن ذا الذى يطلب الغفران الآن؟