فرض الروائي المصري المجيد محمد ناجي اسمه بجدارة على الواقع الثقافي منذ روايته الأولى (خافية قمر) عام 1994. ثم واصل الإبداع الروائي بعدها، وتأكيد صوته الأدبي المتميز عبر روايات تتسم باختلاف أجوائها وعوالمها وبناها السردية. ...

«رجل أبله.. أمرأة تافهة» ونوعية علاقات الزمن الرديء

صبري حافظ

فرض الروائي المصري المجيد محمد ناجي اسمه بجدارة على الواقع الثقافي منذ روايته الأولى (خافية قمر) عام 1994. ثم واصل الإبداع الروائي بعدها، وتأكيد صوته الأدبي المتميز عبر ثلاث روايات تتسم باختلاف أجوائها وعوالمها وبناها السردية هي (لحن الصباح) عام 1996، و(مقامات عربية) عام 1999، و(العايقة بنت الزين) 2001. وها هو يطلع علينا بروايته الجديدة (رجل أبله .. أمرأة تافهة) التي يؤكد فيها تفرد موهبته الروائية، وتميز تجربته السردية من حيث اللغة والبنية والموضوع علي السواء. فهي رواية ذات إيقاع طلي وسرد شيق يستحوذ على القارئ منذ البداية وحتى النهاية، بالرغم من أنها تقدم لنا قصة بالغة الغرابة، وإن كانت مغرقة في عاديتها، هي قصة حب عصرية، تناسب هذا الزمن العربي الرديء الذي تخثرت فيه الأحلام، وتميعت العواطف، وتحكمت المادة وانسداد الأفق في البشر، واستحكمت حلقات الضجر من حولهم في عالم لم يعد فيه ما يبهج أو يدعو للتفاؤل. لكنها تتسم رغم ذلك بهذا السرد الطلي الشيق الذي يخفي تحت إهاب أحداثه الظاهرية التي لاتستحق الحكي استقصاءا ذكيا لكيفية تسلل البلادة والفجاجة والتفاهة إلى حياة كانت مؤتلقة ومترعة بالأمل وواعدة بالعطاء، وسيطرتها على كل تفاصيلها، واغرقتها في تفاهاتها الساذجة دون مواجهة حاسمة أو معركة أريقت فيها الدماء أو مزقت فيها الأعصاب، وإنما بطريقة تسلل السم البطيء في البدن، واستنزافه الروح قطرة بعد قطرة، حتى بات بطل الرواية في نهاية المطاف جثة هامدة تنتظر الموت، أم تراها جثة فقدت الروح منذ زمن وتنتظر الدفن؟

وإذا كانت قصص الحب هي مدار السرد منذ فجر القصة المصرية، ومنذ أسس مصطفى لطفي المنفلوطي بلغته البليغة مفردات الحب والهوى، وسفح دموع القراء على ضحايا الغرام وكتب «كتاب الأحزان» المصرية الأول في العصر الحديث حسب تحليل الصديق الراحل ناجي نجيب. فقد ازدهرت «روايات» الغرام في الكتابة المصرية، واتسع تأثيرها في الثلاثينات مع قصص محمود كامل المحامي ورواياته ذات النزعة العاطفية الزاعقة. وواصل يوسف السباعي مسيرة محمود كامل، هو وإحسان عبدالقدوس الذي اكسب هذه النزعة العاطفية بعدا اجتماعيا أو سياسيا طفيفا. ثم خبرت كتابة قصص الحب تحولا أساسيا في كتابات نجيب محفوظ وما تلاه من كتاب الواقعية السردية التي جعلت علاقات الحب فيها تعبيرا عن شبكة العلاقات الاجتماعية المعقدة كما في (الثلاثية)، أو وعن التغيرات المفصلية في الواقع المصري، كما في (زقاق المدق)؛ أو تجسيدا للنزعات الاجتماعية والتوجهات الموروثة التي تشكل بنى هذه العلاقات وموقفها من «العيب» و«الحرام» كما فعل يوسف إدريس؛ أو مرآة لما يدور في الواقع من أحداث ومعارك وتواريخ عند عبدالرحمن الشرقاوي. ثم أعقبتها كتابات جيل الستينات التي طهرت السرد القصصي والروائي معا من أي أثر للنهنهات العاطفية الزاعقة كما كان يدعوها أستاذنا الراحل الكبير يحيى حقي، وأغرقت قصص الحب في قاع السرد بينما طفت على سطحه الهموم الاجتماعية والسياسية وحتى الميتافيزيقية كما في روايات بهاء طاهر.

أما رواية محمد ناجي الجديدة (رجل أبله..أمرأة تافهة) فإنها تخطو بقصص الحب خطوة أبعد من تلك التي حققتها كتابات جيل الستينات وتبلغ بالنزعة المضادة للرومانسية، والتي استأصلت شأفة النهنهات العاطفية كلية من السرد أقصاها، واصلة بالسرد المصري في هذا المجال إلى ما يمكن تسميته بـ«الباروديا» المتقشفة. والباروديا Parody هي المحاكاة التهكمية الساخرة التي وضع أسسها الكاتب الأسباني الأكبر سيرفانتس في (دون كيخوتة). ومنذ ذلك التاريخ البعيد أصبحت المحاكاة التهكمية لبنية سردية معينة من أبرع الأساليب الأدبية وأعمقها تأثيرا. لكن الباروديا عند محمد ناجي ليست باروديا عادية، وإنما هي باروديا متقشفة، لا تبالغ في عنصر المحاكاة في البنية البارودية، وإنما تتعمد استخدام المفارقة الساخرة، واستراتيجيات القلب والإبدال. ولا تبالغ في الجانب التهكمي، وإن لم تخل من حس تهكمي شفيف، وسخرية مرة من شخصياتها دون أن تتم السخرية على حساب إنسانية الشخصية أو الوعي بدوافعها. وتتعمد تجريد العلاقات الإنسانية إلى هيكلها العظمي العاري من الزخارف والعواطف. وتقدم لنا علاقة الحب بعد أن اعتصرت منها آخر قطرة حب. وأصبحت خالية كلية من أي أثر لتلك العاطفة القديمة التي كانت تحمل لها اللغة العربية مكانة خاصة تتجلى في ثرائها بمفرداتها من الحب والود والوله والعشق والغرام والولع والهوى والصبابة والهيام والجوى والتدله والتتيم وغيرها من المفردات التي تصف الفوارق الدقيقة بين درجات الغرام والشغف وصولا إلى الهيام في الأمصار بعد ضربة الحب المصمية.

كل هذه العواطف التي يبدو أنها  تنتمي إلى زمن قديم غابر، لا أثر لها في هذه الرواية التي تكتب قصة الحب العصرية، وتجردها من أي رداء عاطفي وصولا إلى جوهرها الدفين باعتبارها لعبة في عالم فقد كل شيء فيه المعنى والدلالة. حتى القص نفسه، برغم أنه شيق طلي، فإنه هو الآخر يقلب قواعد السرد التقليدية باستخدام بنية استباق الأحداث وإجهاض التوقعات التي كانت تعلق القارئ في حبالها في السرد القديم، منذ أن سكتت شهرزاد عن الكلام المباح مع مطلع كل فجر، وربطت الملك بحبال السرد وظنون التوقعات حتى الليلة القادمة. وكلما قيدت الملك ليلة في هذه الحبال أنقذت امرأة، حتي بلغ عدد من أنقذتهن من النساء عدد الليالي الألف نفسها. وقلب قواعد اللعبة السردية هو البنية الملائمة لقلب قواعد اللعبة الاجتماعية التي تنهض عليها دعامات أهم مؤسسات المجتمع قاطبة وهي مؤسسة الزواج والأسرة. كما أنه يحرر القارئ من التماهي مع السرد، ويوقظ ذهنه لتأمل ما ينطوي عليه من دلالات مضمرة.

لكن دعنا نتعرف على ما يدور في هذه الرواية التي تعتمد منهج استبقاق الأحداث، وإجهاض التوقعات فتواجهنا منذ العنوان بحكمها القيمي، وسنعرف فيما بعد أنه ليس إلا حكما وصفيا تقريريا خالصا، عن بطلها «رجل أبله» وبطلتها «امرأة تافهة». وتتعمد ألا تمنح الرجل أو المرأة أي اسم، وكأن هذا الوصف الدامغ ينوب عن أي اسم، أو كأن «رجل أبله .. امرأة تافهة» هو المعادل العصري لـ«عنتر وعبلة» أو «قيس وليلى» أو «حسن ونعيمة». فمن هو عنتر الزمن الجديد، عنتر بدايات القرن الحادي والعشرين. هو شخص لا اسم له، أحد أبناء الشريحة الدنيا للطبقة الوسطى، فقد كان والده ناظرا لمحطة سكة حديد «أبي حماد». ينحدر من سلالة صعيدية تفرق أبناؤها في أرياف الدلتا. «كلهم أزهرية بعمائم ولحى. أول ظهور للبدلة والشوارب كان في صورة للأب: شكري أفندي ناظر محطة السكة الحديد»(ص 38). وفي بيت هذا الأفندي نشأ صاحبنا، فهو ابنه الوحيد بعد أن ماتت أمه «بهية» عقب ولادته بشهرين. وكان شكري أفندي وطنيا بالسليقة. صحب أبنه معه «في جنازة المردنلي. جنازة رمزية للشهيد الذي زرع طريق الانجليز بالألغام، وقاومهم من فوق شواشي النخيل في القرين»(ص 122). و«بعد جنازة المردنلي بشهور قامت الثورة. كنت وقتها في المرحلة الابتدائية، النظام القديم. شاركت في تمثيلية وطنية مثلت دور مصر»(ص124) ألا يزال يمثل هذا الدور بعدما تدهورت الأحوال، وتبدلت المواقع؟ هذا أحد أسئلة الرواية المضمرة!

لذلك ما أن شب صاحبنا عن الطوق قليلا حتى كان قد تغذى على تلك المشاعر الوطنية. و«أقترب بحذر من رفوف مكتبة الأب. بدأ يفهم الأمور التي يناقشها الكبار، وخمن طبيعة الأوراق التي يقرأها الأصدقاء في حذر. عرف أيضا سر الزجاجة التي يداريها الأب وسط كتبه ويشرب منها وحده خلسة، أو يداريها تحت الطاولة المعدنية في حوش البيت ويشرب مع معاون البوليس. سر خاص ينفردان به عن بقية الصحاب»(ص39). وذات مرة «حذر معاون البوليس شكري أفندي، ونقل الأب التحذير لولده الوحيد. تكلم بيننا كما تريد، لكن في المدرسة لا. المظاهرات أيضا لا. بعد سنوات قليلة أصبحت هذه التحذيرات لاتجدي مع طالب كلية الحقوق البعيد عن رقابة العائلة. أعتقل قبل أن يحصل على الليسانس. وعندما خرج كان الأب قد مات»(ص40) ولما خرج ساعده مسؤوله في التنظيم «زغلول الدسوقي» الذي كان يعامله بأبوة، ومهد له «بصلاته القوية المستورة طريق العمل في الصحافة»(ص13). وعمل صاحبنا بالصحافة كل حياته، حتى خرج شبه مطرود من المجلة التي عمل فيها طوال حياته الصحفية، فور أن بلغ سن المعاش. و«كان يطمع أن يمدوا خدمته لخبرته الطويلة في شئون العالم الثالث»(ص8). ولكنهم لم يفعلوا. فقد تغير الزمن وتغيرت اهتماماته وتبدلت لغته ومفرداته.

لذلك لم يمدوا خدمته. ربما لأن «العالم الثالث» برمته لم يعد يستحق الاهتمام. وربما لأن الزمان اختلف، فقد كان هذا الكاتب الصحفي نتاج فورة هذا العالم الثالث أيام حركات التحرير والثورات والاستقلال الوطني. ولم يعد في هذا العالم الثالث شيئا من بقايا هذا الحلم القديم، بعد أن دهمته قاطرة العولمة الهمجية، اللهم إلا «صورتان كانتا تتقاسمان زجاج مكتبه، واحدة وهو يشرئب خلف كاسترو بالسيجار الكوبي وسط مزارع القصب، والأخرى في جلسة هادئة مع أنديرا غاندي»(ص10) فأين هذان الزعيمان الآن، اغتيلت الثانية ولايزال الأول يعاني من الحصار كصاحبنا أو بطلنا/ الراوي العاري من البطولة. وراحت معهما قضايا الوطنية والتحرر والاستقلال. وأخذ هو يدافع عن هذه القضايا القديمة في مقاله، و«يخوض معارك كلامية ضارية دفاعا عن استمرار مقاله. وتوصل إلى حل وسط مع رئيس التحرير: إذا احتجت المساحة لإعلان خذها. أما لمادة أخرى فلا. هذه إهانة»(ص40) واستمر الوضع قليلا، لكن مدير التحرير بدأ يدس قلمه في مقالاته، ويسخر منه «أنت لاتشرح للقارئ مشاكل دول العالم الثالث. ولكن تقترح على هذه الدول ما تفعله، تقترح عليها حلولا خارج كل الخيارات التي تطرحها هي على نفسها»(ص 58) فقد كان رأي مدير التحرير أن يركن قطار العالم الثالث خارج رصيف التاريخ. فقد أصبح من الضروري «أن يفسح العالم الثالث الطريق لإكسبريس العولمة، وإلا تعرض للدهس» (ص59).

وقد تعرض صاحبنا للدهس كعالمه الثالث تماما، بعدما أُنهك بالمفاوضات والتنازلات مثله. بدأ هذا الدهس باعتراض مدير التحرير على مقالاته، وحذفه لمقاطع منها، ثم حذفه للمقال برمته. فمدير التحرير من أبناء هذه الأيام. «هو مجرد كيس معلومات لا رأي له في أي شيء. ثقافة أخطر من الجهل. يناقشك، يخالفك أو يوافقك لأسباب لاعلاقة لها بالرأي أسباب شخصية. وإذا تعقد النقاش يخرج الحيات من الكيس ويلقيها في وجهك: ناصري  شيوعي  إسلامي»(ص74) لذلك كان طبيعيا أن يسخر من مقالاته المبدأية، ومن دوافعه للكتابة التي يتصور أنها تذكر من تنفعه الذكرى، ويربطها بقضايا زمن السيتنات الغابر التي يعتبرها مدير التحرير من «حديث الذكريات». وينبهه ساخرا «لسنا مهمين لهذه الدرجة. لن يهرع حكام العالم الثالث إلى القاهرة باحثين عن صحفي يكتب بالعربية في مجلة لاتوزع عشرة آلاف نسخة، لن يبحثوا عنك ليقرأوا حلولك السحرية لمشكلاتهم» (ص59) ولم تفد احتجاجاته على سخرية مدير التحرير. فبدأت المساومات «نتفق على أن يكون مقالك تلخيصا لحدث مهم جرى خلال الأسبوع، مع تحليل مبسط يفيد القارئ  ونتشاور في موضوع المقال مع كل عدد» (ص64) ولما واصل تسريب المعاني الملغومة في مقالاته المتفق على موضوعاتها سلفا، بدأت عمليات الإنهاك بمنع المقالات وحرمانه من أجره عليها. «يعرف أني اتقاضى مكافأة عن مقالاتي لتعويض قلة المرتب. المؤهل المتوسط، والتعيين جاء بعد العمل بفترة طويلة، أجر المقالات تعويض سخي، ستمائة جنيه إضافية، نصف دخلي تقريبا. يلاعبني بقسوة. تسبب في رفع مقالاتي من سبعة أعداد حتى الآن»(ص74).

لذلك اضطر صاحبنا المنهك الذي دهسه قطار العولمة في نهاية المطاف وبدأت تظهر في ساقه «علامات غائرة يتركها أستك الجورب في اللحم، وبقع سوداء صغيرة متناثرة في الساق، ورم خفيف وانفجارات دموية تحت الجلد» (ص78) «الاعتقال الطويل والعمل المرهق والعلاقات الخشنة هدت كيانه»(ص104) وتركته يعاني من «تليف كبدي نشط، وتمدد في الوريد البابي»(ص110). ولذلك أضطر بعد أن تهاوت دفاعاته للوقوع في شراك المرأة التافهة. وهي أخصائية اجتماعية في جمعية لرعاية المسنين. «عانس تخطت الأربعين. وكان عمره يقترب من حافة أكثر حرجا. اعتبرها نزوة متأخرة، لكنها كانت نوعا لم يعرفه من قبل من النساء. نوعا يرمي نفسه ويموت تحت أقدامك.  واضح أن جمالها كان سبب عنوستها. وعدت نفسها بعريس من أهل المهن المرموقة وطال انتظارها. أو ربما خاب أملها أكتر من مرة. عندما التقته كانت قد استوعبت كل الدروس»(ص13). تعرف عليها عندما تردد على الجمعية لزيارة صديقه / أستاذه القديم «زغلول الدسوقي» وهو سياسي قديم اختزنت سمانة رجله رصاصة منذ معارك القناة ضد الانجليز. وكان يتحدث معها عن حياته الماضية وهي حياة «كلها عطاء للناس والبلد»(ص14). واهتمت هي بصديقه من أجله.

ويوم موت أستاذه بكت بحرقة لم يكن يتوقعها. وحكت له كيف أنه «مات وأنا أكلمه. حممته بنفسي، ولم أترك ذلك للموظفات الصغيرات. نشفته وقبلت جبينه وكلمته. هو لم يهتم. لم يفعل سوى أنه غطى عورته بيده» (ص15). وحينما حكى لها عن «صاحبه المرحوم. تخير المواقف التي تظهر فيها معادن الرجال. مصمصت شفتاها الكلام: بماذا أفاده كل ذلك؟ كانت هذه أول مرة يلتقط فيها الإشارة. أدرك أنها امرأة تافهة»(ص16). وحينما حكى لجرسون فندق الكوزموبوليتان النوبي ــــ وكان معهما في التنظيم ـــ عن واقعة موت «زغلول الدسوقي» العجوز عاريا يستر عورته، بينما تحممه امرأة جميلة، كان تعليق الجرسون «طريقة غريبة في تعذيب رجل مسن»(ص20). وهو تعليق ينطوي على مرارة الحس التهكمي الذي تتمتع به الرواية. لأن هذا الرجل الذي أفنى حياته في خدمة بلده، ينتهي به الأمر إلى «مشرحة كلية الطب» (ص77) ليعبث بجثته الطلاب. هذه النهاية الدالة لمناضل قديم تستشرف نهاية البطل من ناحية، وترهف وعي النص بذاكرته التاريخية من ناحية أخري، كاشفة عن بعض أسباب التردي والهوان في هذا الزمن الرديء.

واستمرت المرأة في إحكام شراكها حوله. فنحن هنا بإزاء استماتة امرأة فاتها القطار، تقدم لنا الرواية عبرها دراسة شيقة في لماذا نقبل الهوان، بل ولماذا نسعى إليه بأرجلنا؟ بدأت تسبغ عليه اهتمامها المبالغ فيه. وتوثّق علاقتها به من خلال هذا الاهتمام، والحديث اليومي في التليفون. وبدأ الوصال ولكنه وصال من نوع غريب. فالوصال «ثلاثة أنواع: وصال جسدي، ووصال روحاني، النوع الثالث عصري جدا. عولمي؛ وصال هاتفي هي متخصصة في هذا النوع، لهلوبة»(ص60). وضاق صاحبنا بهذا الوصال، وقرر أكثر من مرة أن يقطع علاقته بها، ولكنها كانت تطارده باستماتة من يتشبث بآخر قشة. وحاول مرة أن يجهز على أي أمل لها في الزواج منه. فصارحها بفظاظة «رجل مثلي يحتاج خادمة لازوجة. تخدمه وتتواري في البيت في صمت. لاتزعجه بأحاديث تافهة. ولا تتوهم لنفسها أي حقوق فيه. لافي وقته، ولا في جسده، ولا في مزاجه، ولا في أفكاره.  خادمة متفرغة»(ص90) ولما ردت عليه «وشغلها، رد: هذا شغلها، ولو عندها عمل آخر تتركه، وتحداها. دليني على واحدة ترضى بذلك.»(ص 90)

وفاجأته بعد أيام باستقالتها «قبلوا الاستقالة، ولماذا استقلت؟ أنت طلبت ذلك»(ص91). ووقع في الشرك، وعرض عليها العمل لديه كخادمة بالشروط التي حددها. وقبلت بشرط أن يكون الزواج بعقد عرفي حتى لا تخسر معاشها الكبير من والدها، حيث يحتاج أخوها «مدرس الموسيقى» إلى نصف المعاش لضعف دخله وكثرة طلبات عياله. وتزوجها بشروطها، والتزمت هي بشروطه، وليلة العرس كان «في نظرات المرأة حزن كبير، حزن لم يره الرجل الأبله في عينيها من قبل»(ص95) بهذه اللمسات العابرة يكشف لنا محمد ناجي بريشة روائي قدير، ورسام متمكن من ضربات فرشاته عن مدى حبه لشخصياته وفهمه العميق لها، وقدرته على تجسيد ما يمور به داخلها من حزن وقهر شفيفين. كما يكشف لنا عن آليات العمى التي تتحكم في حركية الهوان بقسوة، لا تتيح له أن يرى وقع ما يفعله بها عليها، بقدر ما لم تستطع هي الأخرى أن تدرك ما كان يحتاج إليه بحق منذ بدايات علاقاتهما.

ولما انتقلت لمنزله، للشقة القديمة الواسعة التي أجرها له «المعلم كساب» في الزمن القديم دون خلو ـــــ و«المعلم كساب» وابنه صديق عمره الطبيب، من حبكات هذا النص الثانوية التي تثري حبكته الأساسية، وتوسع أفق دلالات التحولات التي عصفت بعالم الرجل الأبله القديم ــــ أعجبتها الشقة، وانهمكت في تنظيفها وترتيبها. وحاولت أن تتخلص من كتبه لأنها «زبالة تجمع التراب والحشرات»(ص99). نهرها وطالبها ألا تمس الكتب أو الأقنعة الأفريقية التي جمعها في رحلاته القديمة للقارة السوداء أيام حركات التحرير، وأحلام الاستقلال المؤتلقة القديمة. وحينما أرادها في الفراش كانت «تفلت من يده بفتور، وتعاتبه في انكسار، تؤنبه : خدامة، أنت اشترطت» (ص100) بل عذبته بهذا الشرط بقية أيام حياته التي تتابعت فيها الانهيارات الشخصية والاجتماعية على السواء. وأخذ يعاني من «حضارة انتهت. الآن نرى التصدع المخيف. كل حجر معلق وحده في العراء دون سند. بعد قليل نسمع دوي السقوط العظيم»(ص128) والرواية كلها هي تسجيل لقعقعات هذا السقوط الذي تحولت فيه قصة الحب إلي قصة انهيار كامل لعالم تنهشه التفاهة باستمرار. وحينما يشكو لها من أنها تهتم دائما بالتفاصيل التافهة ترد عليه « يا أبله هذه هي الحياة»(ص241) فهل اصبحت الحياة هوان وتفاهة في هذا الزمن العربي الرديء؟ هذا ما تكشف لنا عنه هذه الرواية الجميلة وهي تقدم دراستها الشيقة في تسلل الهوان والتفاهة إلى كل التفاصيل اليومية الصغيرة لحياتنا. وتقدم لنا باروديا رائعة لواحدة من قصص الحب في هذا العصر التي أصبح القهر والإحباط وانسداد الأفق لحمتها وسداتها في آن.